فضائل السريالية في مصر وفواجعها مراجعة صريحة لـ35 عامًا تضمنت ما لم أنشره من قبل، نصًّا وصورًا

فضائل السريالية في مصر وفواجعها

مراجعة صريحة لـ35 عامًا تضمنت ما لم أنشره من قبل، نصًّا وصورًا

ملحوظة: قد يلحظ القراء أنني لا أستخدم فيما يأتي تعبير: «السريالية المصرية»، وإنما أكرر جملة: «السريالية في مصر». الفارق واضح بالطبع بينهما.

في نوفمبر 2015م نُظِّم لأول مرة مؤتمر عن السريالية في مصر. عُقد المؤتمر في القاهرة بالطبع بمبادرة من مؤسسة الشارقة للفنون وبمشاركة من الجامعة الأميركية بالقاهرة. كتبت في كلمتي في افتتاح هذا المؤتمر أنني لا أنكر تخوفي من أن يكون جنازة فاخرة وتأبينًا فخمًا لموضوعه، مثلما آمل أن يكون إحياءً جديدًا وافتتاحًا رائعًا لمرحلة أخرى في تاريخ السريالية في مصر والعالم العربي. فما الذي حدث؟

تواريخ ذات دلالة

بعد دوران حول موضوعات ذات صلة بالسريالية، ذكر مؤسس السريالية في مصر، جورج حنين، صراحة كلمة سريالية لأول مرة باللغة العربية في مقاله عن انتحار الكاتب والشاعر الفرنسي رينيه كريفيل ولم يتجاوز الخامسة والثلاثين عامًا، في عدد أكتوبر 1935م من مجلة «آن إيفور un effort» التي أصدرتها جماعة «المحاولين» باللغة الفرنسية في القاهرة. قال جورج: «لو أننا نظرنا عن قرب لوجدنا أن السريالية تمثل التجربة الأكثر طموحًا في عصرنا الموجهة ضد الظلامية. أدرَكت وعرضت أصواتًا جديدة وأصيلة. أصوات من وراء الذاكرة، من وراء الوعي. السرياليون غير راضين عن إعلان حرية الفكر فقط وإنما يحرضون عليها». ثم أخذ بعدها ينشر في القاهرة المقالات ويلقي المحاضرات باللغة الفرنسية عن السريالية.

في 1937م بدأ جورج حنين في تجميع أصدقائه من مصريين ومتمصرين وأجانب لتكوين الجماعة السريالية الوحيدة في العالم العربي. ظهر تعاونهم في مطبوعات بدأت في الصدور عام 1938م. اختتموا هذا العام بتوقيعهم على بيان «يحيا الفن المنحط»، وتحرير جريدة «دون كيشوت» الأسبوعية بالفرنسية، لتناضل «ضد الفوارق الطبقية والمغالطة التاريخية… ضد كل التلفيقات وكل التوريات». حتى تكونت في 9 يناير 1939م رسميًّا جماعة «الفن والحرية» السريالية.

أصدرت الجماعة في يناير 1940م العدد الأول من مجلة «التطور» الشهرية، أول مطبوعة باللغة العربية عن السريالية، من مقرها في 28 شارع المدابغ، شريف حاليًّا، وسط القاهرة. توقفت «التطور» عن الصدور بعد العدد السابع؛ «لأنها تحارب الرجعية، وتثور على الاستغلال»، كما أطلقت في صيحتها الأخيرة.

بعد إطلاق المجلة بشهرين، بدأت الجماعة في تنظيم معارض للفن التشكيلي أطلقوا عليها «الفن المستقل». في 18 مارس 1940م افتتح المعرض الأول.

بعد توقف مجلة «التطور» دخل السرياليون في 14 يونيو 1942م في تحرير ثم إدارة مجلة «المجلة الجديدة» التي أسسها وأصدرها سلامة موسى منذ 1928م.

أقيم المعرض الجماعي الخامس والأخير للفن المستقل عام 1945م في مدرسة الليسيه الفرنسية في باب اللوق بالقاهرة. كان كتالوج المعرض على شكل مجلة بالفرنسية بعنوان: «العرض مستمر». بعد ذلك بعامين وفي 15 فبراير 1947م أصدرت الجماعة مطبوعة أطلقت عليها «كراس» بعنوان «حصة الرمل» (تحت الإشراف الشخصي لجورج حنين ورمسيس يونان).

في نهاية إبريل 1947م غادر الفنان رمسيس يونان مصر ليستقر في باريس تسع سنوات. كانت هذه المغادرة إيذانًا بانفراط عقد جماعة «الفن والحرية». مع ذلك في إبريل 1950م نشر جورج حنين نفسه العدد الثاني والأخير من كراس «حصة الرمل».

في معرض الفنان حامد ندا في إبريل 1959م، كان آخر نشاط جماعي للسرياليين المصريين بإصدارهم كراسًا آخر بعنوان: «المجهول لا يزال». كان العنوان ردًّا على كتالوج آخر معرض جماعي أقاموه بعنوان: «نحو المجهول» افتتح في 20 يناير من العام نفسه في قاعة «كلتورا» واستمر عشرة أيام.

صيف 1960م هاجر جورج حنين من مصر، وأسدل الستار على الحركة السريالية المصرية. لفها صمت عميق فلم يعد يذكرها أحد في مصر حتى عام 1982م. في ذلك العام نشرتُ مقالًا مطولًا بالصور بعنوان: «صفحات من تاريخ السريالية في مصر» في العدد الخامس من المجلد الثاني من مجلة «فنون عربية» التي كانت تصدر من لندن برئاسة تحرير الكاتب والناقد العراقي جبرا إبراهيم جبرا. كان ذلك هو أول تذكير بالجماعة السريالية المصرية، بعد انتهاء نشاطها تمامًا في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين.

عُدتُ في سبتمبر وأكتوبر 1984م ونشرت دراسة في مجلة «الدوحة» القطرية على حلقتين، في أثناء رئاسة تحرير الكاتب رجاء النقاش، الأولى بعنوان: «قصة السريالية في الوطن العربي. من هنا بدأت وهذه هي بياناتها»، والثانية بعنوان: «الرواد، رمسيس يونان وفؤاد كامل والتلمساني». الواقع أن كل هذه المقالات والدراسات تضمنها كتابي الذي صدر بعد ذلك بسنتين.

في منتصف 1986م صدرت الطبعة الأولى من كتابي «السريالية في مصر» في طباعة متواضعة، غلافًا وإخراجًا وورقًا، وصور بالأبيض والأسود، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة. لكنه أحدث تأثيرًا كبيرًا، بمنتهى التواضع. وبقي حتى الآن الكتاب الوحيد باللغة العربية عن الحركة السريالية في مصر وجماعتها «الفن والحرية». نظم أتيليه القاهرة ندوة مساء 15 نوفمبر 1986م حول كتاب «السريالية في مصر» أدارتها الشاعرة ملك عبدالعزيز وشارك وتحدث فيها أنور كامل أحد مؤسسي حركة الفن والحرية السريالية، والدكتور لويس عوض، والفنان والكاتب عز الدين نجيب وغيرهم.

في أكتوبر 1987م نشرت دراسة مطولة في مجلة «عالم الفكر» التي تصدر من الكويت بعنوان: «السريالية والجنون» لم تتضمن حديثًا عن السريالية في مصر.

نظمتُ معرضًا من 26 نوفمبر إلى 4 ديسمبر 1987م بعنوان الكتاب نفسه: «السريالية في مصر»، في المركز المصري للتعاون الثقافي الدولي بوزارة الثقافة في القاهرة. كان المعرض الوحيد الذي جمع أعمالًا فنية ووثائق ومتعلقات شخصية لرواد السريالية في مصر، حصلت عليها من أُسر هؤلاء الرواد. ضم المعرض أعمالًا للفنانين: رمسيس يونان، وفؤاد كامل، وكامل التلمساني، وسمير رافع، وإنجي أفلاطون، وبن بهمان، وإيمي نمر. كما ساعدتني الفنانة إنجي أفلاطون وأعطتني صورة لها مع أستاذها كامل التلمساني (مرفقة هنا صورة تنشر للمرة الأولى من خطابها لي مكتوبًا بخط يدها تقول فيه: «عزيزي سمير. تركت عند السيدة محاسن صورة تذكارية من كامل التلمساني مع تلميذته حضرتي! إذ حبيت أستخدمها مع الدوكمنت الخاصة بالمعرض. ومع الشكر. بالرجاء الاتصال بالمنزل 3405258 حتى الثالثة ظهرًا. إنجي أفلاطون».

وأنا أعد لهذا المقال بحثت عن صورة إنجي وكامل التي لا توجد إلا عندي فلم أجدها. بالمصادفة وجدتها منشورة في كتاب الفنان محسن البلاسي عن كامل التلمساني الذي صدر مؤخرًا. سألت محسنًا: من أين حصل على هذه الصورة؟ فأجابني أنها كانت منشورة على أحد المواقع الإلكترونية بالإنجليزية، فأخذ نسخة منها. اختفى الموقع نفسه منذ سنتين تقريبًا. تذكرت أن أحدهم كان قد زارني في بيتي منذ حوالي 15 سنة مع آخر وصاحبة إحدى قاعات العرض في القاهرة. عرضت عليهم جزءًا من أرشيفي الخاص بالسريالية منه هذه الصورة! لم تكن هذه الصورة هي الوحيدة التي اختفت من أرشيفي بعد هذه الزيارة! المهم أن الصورة اختفت لكن بقيت لي رسالة إنجي بخط يدها.

في عام 1993م، نشرت كتابي «راية الخيال» تناولت فيه تاريخ الحركة السريالية عالميًّا بمن فيها بعض المجموعات التي تشكلت في أماكن مختلفة، منها المجموعة العربية التي أسسها في باريس الشاعر والمترجم العراقي عبدالقادر الجنابي واسمه بالكامل عبدالقادر ناجي علوان، المولود في بغداد عام 1944م. أصدر الجنابي منشورات، ومطبوعات، وكتبًا، وكتيبات، وترجمات بالعربية والفرنسية ركز فيها على تقديم تراث جماعة «الفن والحرية»، كما نشر إبداعات سريالية جديدة لسرياليين عرب شبان، في ذلك الوقت. إصدارات الجنابي هذه جديرة بجمعها وإعادة طبعها للتاريخ وللباحثين وللمهتمين لأنه كان يصدر من المنشور أو المطبوعة وقتها نسخًا قليلة جدًّا. كان ينسخها أو يطبعها طباعة بسيطة ويكتبها بخط اليد أحيانًا. كان يوزعها أحيانًا كثيرة بنفسه على مقاهي باريس التي يجلس عليها. هكذا حصلتُ على نسخ منها. مثل «فراديس» التي وصفها بـ«سجل الخيال المنتفض». كان يتعاون مع الجنابي ويلتف حوله شبان (وقتها) مثل سركون بولص، وعالية شعيب، وخالد المعالي، وجليل حيدر، وغيرهم… ما زال الجنابي يكتب ويرعى ويشارك في أحداث ذات صلة بالسريالية وهو في السابعة والسبعين من عمره.

وعلى الرغم من ريادة عبدالقادر الجنابي في الحديث عن جورج حنين وجماعة الفن والحرية المصرية في مطبوعاته التي أصدرها من باريس، فإن هذه المطبوعات ظلت هامشية، صدرت بطرق طباعية بسيطة وبأعداد محدودة، من ثم قرأها عدد محدود، ولم تصل إلى القاهرة إطلاقًا على حد علمي، ولم يتحدث عنها إلا عدد قليل في صحف لبنانية، أذكر منهم صديقي المرحوم السريالي الجزائري علي بن عاشور في مجلة «المستقبل» التي كانت تصدر في باريس، وكان له فضل تعرفي إلى عبدالقادر الجنابي نفسه في أثناء عملنا المشترك، أنا وابن عاشور، في هذه المجلة في بدايات الثمانينيات من القرن العشرين. أهمية ما قام به الجنابي ليست فقط في مطبوعاته، فهذه المطبوعات قد اختفت بمرور الزمن، وبخاصة أنه ليس لها أرشيف حتى عند الجنابي نفسه. لكن الأهم هو في تأثير التجمع الذي التف حول الجنابي، وأصدر مطبوعاته من خلاله، في تكوين عدد من المبدعين العرب الشبان وقتها، الذين مارسوا إبداعًا سرياليًّا جديدًا وعملوا على نشر هذا الاتجاه. ذلك في الحقيقة يحتاج إلى بحث مستقلّ لتتبع إبداع هؤلاء، وما تركوا وراءهم، وما إذا كانوا أثروا بدورهم في غيرهم؟

حركة جديدة متناثرة

أحدث كتاب «السريالية في مصر» بعد صدوره ردود أفعال كثيرة لم أتوقعها على الإطلاق. بدأت كتابته في باريس شابًّا في أواخر العشرينيات من العمر، بخطاب من جورج حنين مؤسس السريالية في مصر إلى أندريه بريتون مؤسس السريالية العالمية. كان ضمن وثائق في معرض استعادي ضخم لسلفادور دالي في مركز بومبيدو. مشيت وراء الخطاب حتى كتبت الكتاب. لم يكن يعنيني ما بعده ولم أفكر فيه. سجلت جانبًا من ردود الأفعال في الطبعات التالية؛ إذ لم أستطع متابعة كل ما كتب عنه في الصحف العربية والأجنبية.

ساعدت الترجمة المختصرة جدًّا التي ركزت على الجانب التشكيلي للكتاب باللغتين الإنجليزية والفرنسية، التي صدرت عام 1987م عن العلاقات الثقافية الخارجية بوزارة الثقافة المصرية، في وصول ردود الأفعال خارج مصر. منها قرصنة هاتين الطبعتين ونشرهما على الإنترنت بلا احترام لأي حقوق. والاستعانة بهما كمرجع في أبحاث ودراسات وكتب. انتبه إلى النسخة العربية عدد من الباحثين الأجانب سواء بإجادة بعض منهم للغة العربية أو بترجمة فقرات منها. منهم من نقل من الكتاب من دون الإشارة إليه.

أستطيع القول إجمالًا: إن صدور الكتاب تسبب في حركة جديدة لإعادة اكتشاف جماعة «الفن والحرية» السريالية المصرية، ورد الاعتبار لها والاحتفاء بها من جهة، وتشجيع المبدعين الشباب على ولوج عالم السريالية وإعادة تشكيله وإبداعه من جهة ثالثة. بدأت هذه الحركة بسيطة وأخذت تنتشر حتى وصلت ذروتها بإقامة معرضين دوليين كبيرين متنافسين في وقت واحد تقريبًا بعد مرور 30 عامًا على صدور كتاب «السريالية في مصر»، أحدهما أقامته مؤسسة الشارقة للفنون بالتعاون مع الجامعة الأميركية بالقاهرة ووزارة الثقافة المصرية في قصر الفنون بالقاهرة ابتداء من 28 سبتمبر 2016م بعنوان رئيس «حين يصبح الفن حرية» وعنوان فرعي: «السرياليون المصريون 1938- 1965م) شاركتُ فيه بعرض وثائق ولوحات فنية، والآخر في مركز بومبيدو في باريس بعنوان رئيس: «الفن والحرية» وعنوان فرعي: «الانشقاق والحرب والسريالية في مصر 1938- 1948م». افتتح معرض بومبيدو بعد معرض القاهرة بشهر تقريبًا!! وقد انتقل كل معرض منهما إلى متاحف دول أخرى.

– الأهم من وجهة نظري هو تأثير الكتاب في مبدعين شباب وبخاصة في مصر. مشكلين حركة جديدة متناثرة، اعتمدت نوعًا واحدًا تقريبًا من التعبير هو الكتابة، الشعرية والنثرية والنقدية، وإعادة نشر نصوص أعضاء جماعة الفن والحرية. على العكس من تأثير جماعة الفن والحرية، فقد تأثرت بها جماعة تشكيلية جديدة هي «الفن المعاصر» أسسها أستاذ الفن حسين يوسف أمين وضمت سمير رافع، وإبراهيم مسعودة، وكمال يوسف. وقد أتوا من جماعة الفن والحرية، فضلًا عن حامد ندا، وعبدالهادي، الجزار وغيرهما. أقامت هذه الجماعة معرضها الأول في ظل جماعة «الفن والحرية» عام 1946م. اهتم أعضاؤها باستخدام التراث الشعبي المصري في تعبيراتهم الفنية، فقيل: إن حركتهم تمصير للسريالية في مصر. هذا قول يحتاج إلى مناقشة ليس هنا مجالها.

من المصادفات الجيدة أن الوحيد من مؤسسي جماعة الفن والحرية الذي كان على قيد الحياة عندما صدر كتابي هو أنور كامل عثمان، ولد عام 1913م، صاحب امتياز ورئيس تحرير مجلة «التطور» لسان حال «جماعة الفن والحرية».

كان علاء الديب نشر مقالًا عن كتابي في عدد 7 أغسطس 1986م من مجلة صباح الخير. بعده نشر أنور كامل أول مقال له، بعد صمت يقرب من ثلاثين عامًا، في مجلة صباح الخير (عدد 18 سبتمبر 1986م) بعنوان: «لكنهم صنعوا المستقبل». صدّر علاء الديب لمقالة أنور كامل بمقدمة بدأها: «لعل من حسن الحظ أن أحد هؤلاء الرواد وهو الأستاذ أنور كامل –مد الله في عمره– ما زال بيننا، ويتمتع بذاكرة ناصعة وعقل فاحص واعٍ، وهو الوحيد من جيل الرواد الذي ما زال قادرًا على أن ينتقد، وأن يضيف إلى التسجيل التاريخي الهام الذي قام به سمير غريب». كتب أنور كامل في مقاله بالنص: «أخذني العجب كيف استطاع هذا الكاتب الشاب –بتعبير علاء الديب– أن يجمع من البيانات والوثائق ما أعجز أنا عن جمعه بهذا الشمول مهما أردت أو حرصت مع أني كنت جزءًا من هذا التاريخ؟».

وكتب أيضًا: «كيف تكون هذه البيانات والوثائق متوفرة للباحث في باريس وربما في غيرها من عواصم العالم دون أن يجد ما يستحق الذكر في دار الكتب المصرية أو في مكتبة الجامعة؟». وكتب أنور كامل كذلك: «لهذا أقول إن العمل الموثق الذي قام به سمير غريب –هذا الكاتب الشاب– عمل عظيم حقًّا. لكنه عمل يجب أن تتلوه أعمال، لأن التاريخ الذي تناوله بالبحث والتوثيق أخصب من أن يضمه مجلد واحد». وكتب أنور كامل بعد ذلك: «لقد قرأت كتاب السريالية في مصر مرتين؛ الأولى في القاهرة عقب قراءتي لمقال علاء الديب مباشرة، والثانية في مرسى مطروح ومن أمامي البحر». ثم أخذ أنور كامل يتذكر شخصيات ومواقف، ويجيب عن أسئلة، فأثرى بذلك موضوع الكتاب.

بهذا المقال بدأ أنور كامل ما أسميته «حركة جديدة متناثرة»؛ إذ لم يكتفِ بالمقال المذكور، بل بدأ في نشر مقالات وإعادة نشر نصوص وترجمات طبعها مكتوبة على الآلة الكاتبة في نسخ محدودة أطلق عليها «فسائل» وصل عددها إلى 80 فسيلة تقريبًا. كان يوزعها بنفسه في جلساته في مقاهي وسط القاهرة. عندي نسخة كاملة من هذه الفسائل أعطاني أنور نفسه النُّسَخ الأولى منها، وتمنيت لو استطعت إعادة طبعها كاملة في كتاب.

استهل هذه الفسائل، في 2 سبتمبر 1986م، بواحدة عنوانها: «إلى أمشاط من ماس مكسورة» (مرفقة صورة) من أربع صفحات، كل صفحة تضم أربعة أسطر فقط. كتب في صفحتها الأولى: «كُتبت أمام البحر بمرسى مطروح في 15 أغسطس 1986م، نُشرت ضمن مقال «لكنهم صنعوا المستقبل» لأنور كامل بعدد 18 سبتمبر 1986م من مجلة «صباح الخير». على الرغم من أن لقاءاتي بأنور كامل كانت قليلة جدًّا، فإن القدر جعلني أتدخل لعلاجه على نفقة الدولة عندما أصيب بجلطة في المخ عام 1991م. فكتبت الخطاب الذي وقعه فاروق حسني وزير الثقافة آنذاك إلى وزير الصحة في 30 سبتمبر 1991م طالبًا علاج أنور كامل على نفقة الدولة.

جاء بعد أنور كامل كاتبان من جيلين مختلفين ليقودا هذه الحركة الجديدة المتناثرة، هما الشاعر والكاتب والمترجم بشير السباعي (توفي 21 إبريل 2019م)، والكاتب والشاعر الذي كان شابًّا هشام قشطة الذي تعرف إلى أنور كامل بعد نشر كتابي. علمًا أنهما لم يكتبا شيئًا عن الحركة السريالية المصرية قبل ذلك على حد علمي.

استهل بشير السباعي حركته بما أسماه عرضًا وتحليلًا لكتابي في مجلة «القاهرة» عدد 15 يونيو 1987م. كانت تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب، برئاسة تحرير الكاتب والناقد غالي شكري، وهي غير جريدة القاهرة التي تصدر حاليًّا عن وزارة الثقافة.

كان عنوان مقال بشير: «سرياليون أم تروتسكيون»، عرض في مقدمته لأهم معالم الكتاب باختصار شديد. أقر بأن «هذه هي المرة الأولى التي يصدر فيها كتاب مكرس لتاريخ الحركة السريالية المصرية»، و«هي المرة الأولى التي يجتمع فيها بين دفتي كتاب واحد كل هذا العدد من الوثائق والنصوص السريالية التي لم يسبق نشر جانب منها، والتي لم يعد الجانب الآخر الذي سبق نشره متاحًا لجمهور القراء منذ وقت بعيد. وهي المرة الأولى التي يجري فيها تقديم تاريخ الحركة السريالية المصرية ووثائقها في مصر الثمانينيات بهدف أن يكون –حسب تعبير مؤلف الكتاب– طعنًا في الحاضر وشقًّا للمستقبل».

ثم بدأ بشير هجومه على الكتاب من خلال اعتراضه على ما جاء فيه مما سماه «تروتسكية السرياليين المصريين المزعومة». مؤكدًا كلامه بأمثلة من علاقة الحركة السريالية الدولية بزعامة أندريه بريتون بالحركة التروتسكية. في طريقه هاجم بشير الدكتور لويس عوض على بعض مما جاء على لسانه في الندوة التي عقدت بأتيليه القاهرة في 15 نوفمبر 1986م لمناقشة كتابي، ووصف بشير ما قاله الدكتور لويس بأنه «الركون إلى ذكريات مشوشة تفتقر إلى التحري الصارم للحقيقة التاريخية». أنهي بشير مقاله متسائلًا: «متى سيكف مؤرخونا وصحفيونا عن خزعبلاتهم؟ متى سيحترمون عقولهم وعقولنا؟ أم إنهم عازمون على مواصلة تخبطهم الذي ليس من شأنه إلا أن يجعل أية محاولة جادة لفهم تاريخ الحركات الفكرية والأدبية والفنية في مصر المعاصرة من قبيل المستحيلات؟».

كانت هذه نهاية ضارية على كاتب شاب ينشر أول كتاب له اجتهد فيه قدر ما استطاع. جاء كلامي عن علاقة السرياليين بالتروتسكية في سياق الوثائق التي تعرض لها الكتاب وسياق العلاقة بين السرياليين المصريين والحركة السريالية الدولية بزعامة «البابا» أندريه بريتون.

رددتُ على بشير السباعي في عدد 15 أغسطس 1987م في المجلة نفسها، بمقال تحت عنوان: «السريالية ليست تنظيمًا سياسيًّا». فقام بشير بالرد على ردي في مقالة طويلة أشد قسوة في عدد ديسمبر. أذكر أن المرحوم غالي شكري رئيس تحرير المجلة اتصل بي وقتها محاولًا تخفيف وقع المقال، وأخبرني أنه قرر إغلاق باب الحوار في هذا الموضوع. وعلى الرغم من الخلاف الحاد الذي نشب بيني وبين بشير السباعي واتهاماته التي كالها لي على صفحات مجلة «القاهرة»، فإنني استفدت من المعلومات التي تضمنتها مقالتاه عن كتابي. فقد كان أكبر سنًّا وأكثر ثقافة ومعرفة مني.

إلا أن أهم تأثير لكتابي في بشير السباعي هو نشاطه الرائع في إحياء تراث السريالية المصرية الذي قام به بعد ذلك سواء في ترجمات طبعها أو على الإنترنت في مدونته الممتازة والمميزة والمفيدة التي أطلق عليها اسمًا دالًّا هو: «مبدأ الأمل». رجع في بعض المقالات المنشورة في هذه المدونة أو «البلوغ» إلى استشهادات من كتابي رغم هجومه السابق عليه. في هذه المدونة نشر بشير ترجمة عربية لمختارات من كتابات جورج حنين بعنوان: «بلاء السديم»، وترجمة لدراسة جان جاك لوتي عن الحركة «السريالية المصرية، كما ترجم نصوصًا لأعضاء في جماعة الفن والحرية وغيرهم. وبذلك واصل بشير السباعي الطريق الذي بدأته بنشر كتابي «السريالية في مصر». ومن المؤسف أنه توقف عن النشر في مدونته عند يناير 1914م.

أما هشام قشطة فقد طلب مني في بداية اهتمامه بجماعة الفن والحرية، التي اكتشفها في كتابي، أن يقوم بإعادة نشر أعداد مجلة «التطور» التي أصدرتها الجماعة في النصف الأول من أربعينيات القرن العشرين. كنت في ذلك الوقت مديرًا لصندوق التنمية الثقافية بوزارة الثقافة. لَبَّيتُ طلبه، وتحمل الصندوق نفقات إعادة نشر «التطور»، ومثبت على غلاف المجلد الخلفي أنه صدر بدعم من الصندوق، ومثبت أيضًا أن المجلد صدر بالتعاون مع البعثة الفرنسية للأبحاث.

إذن أعدنا نشر أعداد «التطور» في مجلد واحد في منتصف تسعينيات القرن العشرين على ما أظن، فقد خلا المجلد المطبوع من تاريخ إعادة النشر، وخلا من رقم الإيداع في دار الكتب القومية الذي يتضمن بالطبع سنة النشر!! من المؤسف أن هذا المجلد خلا أيضًا من العدد السادس من «التطور» الذي صدر في شكل جريدة نصفية من أربع صفحات؛ إذ لم يستطع هشام العثور عليه، ولم تكن لدي صورة كاملة منه على الرغم من استعراضي لهذا العدد في كتابي. كنت راجعت أعداد «التطور» كلها في دار الكتب المصرية، وصورت منها صفحات متناثرة.

ثم أصدر هشام قشطة مطبوعات أخرى اهتمت بتراث «الفن والحرية» أهمها وأطولها عمرًا الكتاب غير الدوري «الكتابة الأخرى» الذي حظي بدعم خاص من بشير السباعي من طريق نشر مقالات ودراسات وترجمات متعلقة بتراث السريالية في مصر. التف حول هشام عدد من الشعراء الشبان المميزين؛ منهم: إبراهيم داود، وأحمد طه، وجرجس شكري، وعزمي عبدالوهاب، وفاطمة قنديل، وغيرهم. ونشر هشام في عدد يناير 2010م ترجمة أنسي الحاج لديوان جورج حنين «نهاية كل شيء تقريبًا».

لكن لا بشير، ولا هشام، أشارا من قريب أو بعيد إلى دور كتابي فيما قاما به وكتباه كما سيتضح من الأمثلة الآتية.

في العدد 20 من «الكتابة الأخرى» فبراير 1998م، ترجم بشير السباعي دراسة جان جاك لوتي «الحركة السريالية في مصر» وكتب لها تمهيدًا. في هذا التمهيد تجاهل بشير تمامًا دور كتاب «السريالية في مصر»، كما تجاهله في كل كتاباته عنها باستثناء مقاله السابق ذكره في مجلة القاهرة، واستشهاداته منه في مدونته. أرجع «توجيه الانتباه مرة أخرى إلى تراث الحركة السريالية» إلى: «احتداد أزمة أشكال التعبير الأدبي في مصر خلال الأعوام الأخيرة». من دون أن يوضح ما يقصده بهذه «الأزمة». علمًا أن تعبير «الأزمة» هو أكثر التعبيرات استخدامًا في الحديث عن الثقافة منذ عشرات السنين في مصر، وليس فقط خلال أعوام التسعينيات من القرن الماضي التي تحدث عنها بشير.

لكن بشير يجد مبررًا آخر «ساعد في حجب تراث جماعة الفن والحرية عن الأنظار، وسهل مهمة أيديولوجيِّي الحداثةِ السلطوية في تزوير تاريخ الجماعة». كما كتب بالنص في مقاله «زمن الفن والحرية المتواصل» في العدد 19/20 من «الكتابة الأخرى» فبراير 1999م، هذا المبرر هو «تعزيز الخطاب الحداثي السلطوي الذي ترافق مع صعود الناصرية»! ومن ثم يستخدم بشير نقيض هذا المبرر كمبرر لإحياء تراث جماعة الفن والحرية حيث يستكمل حديثه كاتبًا: «وكان من الطبيعي أن يأخذ هذا الموقف في الانقلاب مع سقوط الحداثة السلطوية القومية في مصر»! ليس في مصر فقط، بل يضيف: «وفي شرق أوربا».

أي أن إعادة اكتشاف تراث جماعة الفن والحرية الذي قمت به يعود من وجهة نظر بشير إلى «سقوط الحداثة السلطوية القومية في مصر وفي شرق أوربا». يضيف بشير: «وهو ما يعبر عن واقع أن هذا الإحياء هو تجاوب مع حاجة مُلِحّة إلى حداثة ديمقراطية ذات شواغل إنسانية متحررة من الشوفينية القومية»… هذا (موضوع كبير) كما يقال لم يَدُرْ بِخَلَدِي ولا علاقة لي به. فإذا كنتُ أول من أعاد إحياء تراث جماعة الفن والحرية كما هو ثابت تاريخيًّا، وكما أوضحت سابقًا، فإنه لم يَدُرْ بِخَلَدِي إطلاقًا موضوع الحداثة السلطوية هذا عندما شرعت في القيام بالبحث عن تراث جماعة الفن والحرية.

كان الموضوع ببساطة هو من قبيل «الصدفة الموضوعية» الذي صكه السرياليون. هي، كما أشرت في مقدمة كتابي «راية الخيال»، زيارتي لمعرض سلفادور دالي في مركز بومبيدو في باريس عام 1980م. هناك وجدت من بين المعروضات خطابًا من الفرنسي أندريه بريتون إلى المصري جورج حنين، فلفت نظري وقررت متابعة الموضوع. أسفرت هذه المتابعة عن كتابين وليس كتابًا واحدًا؛ هما: «راية الخيال»، و«السريالية في مصر».

يعمم بشير السباعي حين يقول: إن «المبادرات المهمة في اتجاه إحياء هذا التراث قد نبعت من صفوف عدد من المثقفين المناوئين بحزم لكل خطاب سلطوي، والداعين إلى الحرية المطلقة للإبداع الفني، والذين ما زال عدد منهم يحيا في المنافي الأوربية». أنا لا أكذب بشير، ولكني طالبته بتحديد ما قصده «بالمبادرات المهمة»، هل هي مبادرات من مصريين أو عرب أو أجانب؟ ومتى كانت هذه المبادرات؟ ومن هم «الذين ما زال عدد منهم يحيا في المنافي الأوربية» عند كتابة كلامه؟ على حد علمي، وكما أكد أنور كامل نفسه، لم تكن هناك أية مبادرة مصرية قبل مبادرتي. والمبادرة العربية هي مبادرة عبدالقادر الجنابي من باريس، الذي اعترفت بفضله في تعرفي إلى جماعة الفن والحرية، وإلى السيدة «إقبال العلايلي» أرملة جورج حنين شخصيًّا التي كانت تعيش في باريس، والتي أمدَّتني بصور ووثائق من الجماعة.

ثم واصلت رحلة بحثي في باريس والقاهرة بالتعرف إلى زوجة رمسيس يونان وبنتيه: سيلفيا وسونيا، وشقيقَيْ كامل التلمساني: حسن وعبدالقادر، وقدرية أرملة فؤاد كامل، والفنانة إنجي أفلاطون وغيرهم ممن شاركوا أو عاصروا جماعة الفن والحرية. مبادرة الجنابي لم تكن مكرسة فقط لجماعة الفن والحرية المصرية، بل كانت مبادرة أممية للمشاركة في النشاط السريالي العالمي، ونشره باللغة العربية مع التركيز على جماعة الفن والحرية كنموذج وحيد حدث في مصر. تحدثت عن الجنابي وإصداريه «الرغبة الإباحية» و«النقطة» في كتابي «راية الخيال» من ص 77 حتى ص 85 طبعة دار الشروق 1993م.

كتب بشير السباعي أن تراث الحركة السريالية المصرية «كان عرضة لمؤامرة صمت مريبة من جانب أغلب النقاد ومؤرخي الأدب المعاصر»، لم يُشِرْ إلى أنني الذي بدأت قطع هذه «المؤامرة» على حد تعبيره. ليس هذا فحسب، بل إنه يُرجع الفضل في تشجيع جهود إحياء هذا التراث في القاهرة إلى الراحل أنور كامل (1913– 1991م). فمنذ عام 1987م حتى 1991م، نشر مجموعة من كتابات السرياليين المصريين المهمة في أوراق محدودة التوزيع، واشترك معه كاتب هذه السطور –أي بشير- في ترجمة مجموعة جورج حنين الشعرية الأولى «لا مبررات الوجود» (1938م)، التي تولى الشاعر أحمد طه نشرها بالعربية في القاهرة في نوفمبر 1987م، وقد توالى بعد ذلك ظهور أعمال أخرى لجورج حنين مترجمة إلى العربية لأول مرة في عدد من المجلات غير الدورية أساسًا «الكتابة السوداء»، و«الكتابة الأخرى»، و«الجراد». كتب بشير السباعي ذلك في تمهيده لدراسة جون جاك لوتي.

شخصيًّا لا أعتقد أنه كانت هناك «مؤامرة صمت مريبة» أَخْفَتْ تراث السريالية المصرية.. نظرية المؤامرة هذه لا تصلح هنا. القائل بها يكون في معظم الأحيان واقعًا تحت تأثير أيديولوجي كما كان الحال مع المرحوم بشير. كل ما في الأمر، من وجهة نظري، أن الأحداث الكبرى مصريًّا وعربيًّا ودوليًّا التي وقعت بعد نهاية النشاط الجماعي للفن والحرية في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، وبعد تحول أعضائها إلى فنون واتجاهات أخرى، غَطَّت على هذه الجماعة ووضعتها في زوايا النسيان.

هنا أنقل فقرة مما كتبه هشام قشطة في «بيان الكتابة الأخرى» في العدد 19/20 فبراير 1999م من كتابه غير الدوري «الكتابة الأخرى»، الذي توقف بدوره بعد ذلك؛ إذ يقول: «إن محترفي القتل الذين يحتلُّون الصحف وكافة وسائل الإعلام لهُم أخطر على الثقافة من أي شيء آخر، فلقد تم على أيديهم طمس كل الحقائق، وغابت المعايير، وعمَّت الفوضى»!! وهو العدد الذي أهداه «إلى ذكرى جورج حنين وأنور كامل ورمسيس يونان وفؤاد كامل وكامل التلمساني وزملائهم الآخرين بمناسبة مرور ستين عامًا على إنشاء جماعة الفن والحرية». ليس مدهشًا في هذا السياق أنه لم يدعوني ولو مرة واحدة للكتابة عن هذه الجماعة!! ولم يذكر اسمي ولو مرة واحدة في أي من إصداراته.

أعتقد أنه عندما صدرت الطبعة الأولى من «السريالية في مصر» لم يكن هشام قشطة قد سمع بها. لكنه بعد أن صدر كتابي التفت بقوة إلى هذه الحركة وأصبح متفرغًا، تقريبًا، للبحث فيها والكتابة عنها. فقد أضاف هذا العدد من «الكتابة الأخرى» إضافة قيمة لتراث الحركة السريالية بإعادة نشر المعركة الفكرية التي دارت في بعض من أعداد مجلة الرسالة ما بين يوليو وسبتمبر 1939م حول بيان «يحيا الفن المنحط» الذي وقعه عام 1938م عدد ممن أصبحوا أعضاء في جماعة الفن والحرية بعد ذلك.

في افتتاحيته للعدد الأول من الإصدار الثاني من «الكتابة الأخرى» (يناير 2010م) ذكر هشام قشطة أن هذا الشهر يتوافق مع الذكرى السبعين لظهور مجلة «التطور» لسان الحال العربي لجماعة الفن والحرية التي… إلخ. وكان حريًّا به في هذه المناسبة أن يذكر على الأقل أنه أعاد إصدار أعداد هذه المجلة بدعم من صندوق التنمية الثقافية بوزارة الثقافة المصرية وقت إدارتي له.

في الافتتاحية نفسها كتب هشام: «وكما هو معلوم للجميع، أن «الكتابة الأخرى» أبدت دون مواربة، ومنذ إصدارها الأول، اهتمامًا ملحوظًا بالتراث الطليعي لجماعة «الفن والحرية» في مختلف تجلياته الإبداعية، خاصة الشعرية، باعتباره تراثًا لا يمكن جحده في عملية إثراء استكشاف مكونات الوجود الإنساني استكشافًا فنيًّا ضمن السيرورة العامة لتجاوز مأزق الحياة المعاصرة». لكن ما يمكن جحده عمليًّا عند هشام قشطة هو تجاهل اسم سمير غريب وكتابه «السريالية في مصر».

مع ذلك، وبغض النظر عني وعن كتابي، تجب الإشادة بكل المجهودات التي قام بها بشير السباعي وهشام قشطة في حركتهم لإحياء تراث السرياليين المصريين الرواد، وإن تركزت هذه الحركة في مطبوعات محدودة التوزيع كمًّا ومجالًا جغرافيًّا، كَلَّفَتْ هشام قشطة على وجه الخصوص تكاليفَ ماليةً كبيرة. كنت أتمنى أن تتجاوز هذه الحركة حدود مصر لتلتقي المهتمين من الدول العربية. من هنا تأتي أهمية مدونة بشير السباعي «مبدأ الأمل» المفتوحة على فضاء عالمي من خلال الإنترنت. وأرجو أن يُطْبَعَ ما لم يطبع مما نشره بشير في مدونته؛ إذ تظل الشبكة العنكبوتية، على أهميتها الفائقة، غير مضمونة في حفظ التاريخ وإبداع المبدعين.

ظهرت في القاهرة في تسعينيات القرن الماضي أيضًا جماعة أخرى من الشباب أصدروا مجلة غير دورية اسمها «الجراد» تكونت هيئة تحريرها من كريم دروزة، ومحمد متولي، ومحمد شندي وماهر صبري. كان واضحًا في تقديمهم لمجلتهم تأثرهم بالموجات التي أطلقها كتاب «السريالية في مصر» في الحياة الثقافية المصرية بين الشباب. لم يكن اسم المجلة «الجراد» هو الغريب فقط، بل كان شعارها أغرب: «جرادة تركب على دراجة نارية؟؟!!»، ثم أتبعوه بالإنجليزية عبارة Give me a break، أي أعطني استراحة. كما نشرت قصائد بالإنجليزية وترجمتها العربية. واهتمت أيضًا بنشر الكاريكاتير.

لم أتوقف عن إعادة دراسة وبحث الحركة السريالية المصرية عند كتاب «السريالية في مصر»، بل أصدرت كتابًا آخر عن أصغر أعضاء هذه الحركة؛ الفنان سمير رافع، بعنوان: «الهجرة المستحيلة: من درب اللبانة إلى باريس»، نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1999م.

لم ينته الحلم السريالي

في الألفية الجديدة خَفَتَ مشهدُ «الحركة الجديدة المتناثرة»، إلى أن حدث «انفجار» مفاجئ؛ إقامة أول مؤتمر عالمي عن السريالية في مصر وجماعة الفن والحرية. ذلك الذي أقيم في نوفمبر 2015م في القاهرة. هي المرة الأولى التي يخصص فيها مؤتمر لإعادة التذكير بالسريالية في مصر، وإعادة البحث والنقاش حولها. شارك فيه عشرات من الباحثين والكتاب والفنانين من دول مختلفة بدراسات وأوراق متنوعة. كان من المقرر أن تصدر في كتاب جامع، لكنه لم يصدر.

بدلًا من ذلك تعمل مطبوعات جامعة ديوك الأميركية على إصدار عدد خاص من مجلتها الفصلية «جورنال الفن الإفريقي المعاصر» تحت عنوان: «السريالية المصرية بمنظور عالمي»، يتضمن كل الأوراق المقدمة إلى مؤتمر القاهرة. من المقرر أن يصدر هذا العدد في نوفمبر 2021م. بعد هذا المؤتمر الدولي أُقيم معرضان ضخمان للسريالية في مصر؛ أحدهما في القاهرة، والآخر في باريس، وكلاهما انتقل إلى عواصم أخرى كما أشرت من قبل. كان لا بد لكل هذه الأحداث أن تترك مفعولًا.

نشأت حركة على الإنترنت منذ سنوات قليلة أسسها اثنان من تلاميذي، هما: الشاعر والفنان محسن البلاسي، والفنان ياسر عبدالقوي. أصدرا مجلة إلكترونية اسمها «الغرفة». صدر عددها الأول العام الماضي، ويعدان لإصدار العدد الثاني باللغتين العربية والإنجليزية. كما أسسا حولها مجموعة أسمياها «الشرق الأوسط وشمال إفريقيا السريالية» تضم مبدعين من دول مختلفة في المنطقة. وهي تحظى بدعم من عبدالقادر الجنابي، وتتعاون مع موقع إلكتروني مهم متخصص اسمه: كبريت (الغابة السريالية) Sulfur/ Surrealist Jungle ينشر ترجمات ونصوصًا باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، فضلًا بالطبع عن صور وأفلام.

كما أصدر محسن البلاسي في فبراير 2021م أول كتاب عن «كامل التلمساني» أحد رموز جماعة الفن والحرية مزودًا بصور ومستندات، وكتبتُ له مقدمة مع مي التلمساني ابنة أخي كامل. تصوروا بعد مرور أكثر من ثمانين عامًا على نشأة جماعة الفن والحرية يصدر أول كتاب عن أحد رموزها؟؟؟ يا لفقر الثقافة العربية!!

على المستوى الشخصي، لم يتوقف بحثي عن «السريالية في مصر» بعد صدور كتابي بالعنوان نفسه. وعلى الرغم من صدور أربع طبعات له، آخرها طبعة إلكترونية أصدرها قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة المصرية، ويميزها وجود الصور الملونة، فقد أتبعته كما ذكرت بنشر كتابي عن سمير رافع أصغر من شارك في معارض «الفن المستقل». وكان الكتاب الأول باللغة العربية عنه. وفي العام الماضي نشرت دراستي عن الفنانة الراحلة «إيمي نمر» في مجلة «ديوان الأهرام» عدد أكتوبر 2014م. وهي أيضًا المرة الأولى التي يعاد فيها اكتشاف هذه الفنانة المميزة باللغة العربية. وكانت عضوة في جماعة «الفن والحرية»، وشاركت في معارضها «الفن المستقل».

على مر السنوات وبعد أن كبرت خمسة وثلاثين عامًا منذ صدرت الطبعة الأولى لكتابي، فحلمي هو أن أعيد النظر فيه جذريًّا، أعيد كتابة تاريخ السريالية في مصر وجماعة الفن والحرية بشكل أكثر نضجًا وأكثر تكاملًا وأصح مما ظهر به في طبعاته المتعددة. أن أصدر مرجعًا معلوماتيًّا نهائيًّا عن جماعة الفن والحرية وتأثيراتها، وما قام به أعضاؤها، وأدوارهم فيها وفي الحياة العامة.

ما زلت أشعر بأهمية وروعة هؤلاء الشباب الذين «صنعوا المستقبل» كما وصفهم أنور كامل. وما زلت أشعر بأنهم لم يأخذوا حقهم بعد، ما زلت أشعر أنهم قادرون على التأثير حتى الآن، وبخاصة الآن، في هذه المدة العبثية التي يعيشها العالم وبالأخص العرب. يجب أن يصدر كتاب آخر يتجاوز «السريالية في مصر». كتاب متكامل وليس مقالات وكتابات منفصلة أو مستقلة ظهرت في حركة «بشير السباعي/ هشام قشطة» رغم دوريهما المهم. كتاب أكثر عمقًا في البحث عن جوانب السرياليين المصريين المتنوعة بما فيها علاقاتهم وأنشطتهم الدولية أو غير المصرية. كتاب يصدر باللغة العربية ويترجم إلى الإنجليزية ومن ثم لغات أخرى.

كتاب موثق بالصور والمستندات. فإن لم يكن كتابًا واحدًا جامعًا شاملًا، فلتكن أجزاء من مسيرة متصلة. ليس علي وحدي أن أقوم بهذا، وليس على فرد وحده. بل أدعو لإنشاء مركز لأبحاث السريالية في مصر والعالم العربي، يتوافر له التمويل والإمكانيات الكافية ليحقق هدفه. حاول السرياليون الرواد في مصر أن يدخلوها في ثراء القرن العشرين الإبداعي والروحي. ها نحن في القرن الحادي والعشرين ولم ندخل القرن العشرين بعد!! بل انتكسنا إلى ما قبل العصور الوسطى. فلا نامت أعين المتخلفين والجهلة.

ما زال المجال مفتوحًا للباحثين الشبان المهتمين لكي يواصلوا المسيرة. هناك موضوعات وثيقة بجماعة الفن والحرية لم تُبحث؛ مثلًا: الفنانون المتمصرون والأجانب الذين شاركوا في نشاط الجماعة مثل حزقيال باروخ، وإريك دي نمش، وغيرهما.. جمع مقالات نشرها الفنان فؤاد كامل في مجلات «الفن والحرية» ولا يعلم عنها أحد اليوم شيئًا. ترجمة كاملة إلى اللغة العربية لمحتويات جريدة «دون كيشوت» التي أصدرها السرياليون المصريون بالفرنسية، وذلك بعد أن تَرجمتُ شذرات منها في كتابي. سنكتشف مفاجآت منها أنها أكثر تقدمًا من كل الصحف والمجلات التي تصدر في أيامنا الحالية في العالم العربي كله.

ما زلنا لم نكشف بعد عن كل فواجع وفضائل السرياليين المصريين الذين كانوا.

القاهرة في 6/3/2021م

الجدران تهتف.. ثورة الغرافيتي الثانية في العالم تنفجر في ميدان التحرير

الجدران تهتف.. ثورة الغرافيتي الثانية في العالم تنفجر في ميدان التحرير

كورنبريد وبداية تاريخ الغرافيتي الحديث

منذ قديم الزمان كانت الجدران، ثم كان الإنسان. في البداية لم يكن قادرًا على الكلام فأنطق الجدران. عبّر الإنسان الذي سمّيناه البدائي عن نفسه بالخربشة على جدران الكهوف التي لاذ بها من هول الطبيعة. تحسنت قدراته فرسم عليها بالألوان. علم الإنسان على الجدران دون معلم حتى تعلم. وارجعوا إلى صور كهوف «لاسكو» في جنوب غرب فرنسا، 17500 عام، التي احتوت على 600 رسم ملون و1500 نقش على جدرانها الداخلية! عندما نشأت أقدم الحضارات كان عمادها أيضًا رسم الإنسان على الجدران. كانت الحضارة الفرعونية في أبرز وجوهها حضارة الجدران. هي الحضارة الوحيدة التي تركت تاريخها كله عليها الذي استمر آلاف السنين. لذلك استطاعت البشرية أن تعرف تفاصيلها وأن ينشأ علم كبير اسمه المصريات أو «إيجيبتلوجي». كانت الكتابات والرسوم على الجدران هي وسيلة الإنسان في التعبير عن نفسه، عن علاقته بالخالق وعلاقته بالطبيعة وبالآخرين، وكانت وسيلة الإعلام التي تنقل الإخبار. في الحضارة الرومانية ترك المصارعون رسائل فاحشة في كثير من الأحيان على جدران الكولوسيوم في روما. نظر علماء الآثار إلى الكتابة على الجدران الخارجية لمباني مدينة بومبي التي جمدتها حمم البركان فوجدوا كتابات الحب والشعر.

استمر تعبير الإنسان على الجدران في كل الحضارات الأخرى وفي كل الأديان. كانت جدران أماكن العبادة بالطبع هي الأولى بتعبير الإنسان. عندما منع الإمبراطور الروماني المسيحية في مصر، هرب مؤمنون بها إلى كهوف في الصحراء وأسسوا نظام الرهبنة. على جدران هذه الكهوف عبّروا عن معتقداتهم بالكتابة والرسم، ثم أقاموا الأديرة ليعتكفوا فيها، وارجعوا إلى صور جدران دير الأنبا أنطونيوس على سفح جبل الجلالة في محافظة البحر الأحمر بمصر، أول دير أنشئ في العالم. بعد ذلك باثني عشر قرنًا غيَّر مارتن لوثر التاريخ المسيحي بكتابة انتقاداته للكنيسة الكاثوليكية على باب كنيسة مدينة فيتنبرغ بألمانيا، مؤسسًا بذلك للمذهب البروتستانتي. بعدما ظهر الدين الإسلامي ابتكر المسلمون فنين رائعين على جدران مساجدهم: الخط العربي بأشكاله المتنوعة، ورسوم الأرابيسك المجردة. هذه مجرد أمثلة على علاقة الأديان بالكتابة والرسم على الجدران. لكن هذه الممارسة بدأت كما أوضحت تلقائية، واستمرت كذلك قبل الأديان ومعها؛ لأنها مرتبطة بوجود الإنسان في كل مكان وزمان.

شخصيًّا تفتَّح وعيي على هذه الرسومات في طفولتي. كنت أرى واجهات بعض من بيوت الجيران في منفلوط في صعيد مصر وقد ازدانت برسومات ملونة للكعبة ولجمال وأشخاص وهلال ومعها هذه العبارة الأثيرة: «حج إلى بيت الله الحرام، وزار قبر النبي عليه الصلاة والسلام الحاج فلان بن فلان. حج مبرور وذنب مغفور». كان هذا إعلان كبير واضح على حج صاحب البيت بطريقة فنية بسيطة تخصص فيها بعض النقاشين. أنتقل مباشرة إلى مثال آخر لم أعشه لحسن الحظ، لكن حكاه لي صديقي بهجت النادي الكاتب المقيم في باريس. حكى لي أنه اعتُقل في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وتنقل بين سجون ومعتقلات عدة في مصر، كان منها سجن القلعة في القاهرة. منذ سنوات عدة زار بهجت مصر، وذهب إلى القلعة فوجد السجن وقد أصبح متحفًا. بحث عن الزنزانة التي كان فيها، وكم كانت المفاجأة عندما وجد ما كتبه ورسمه هو ونزلاء هذه الزنزانة ما زال على جدرانها. هذا فصل آخر من تاريخ الكتابة على الجدران. أبرز مثال عليه هو برج قلعة لندن. ضمت هذه القلعة المتجهمة، في تاريخها الطويل والمليء بالأحداث، رجال دين وعلماء وسياسيين فضلًا عن مجرمين ومتآمرين وخونة معظمهم عبّروا عن أنفسهم بالكتابة والرسم على جدرانها. بجوارها برج بوشامب، الذي بناه توماس بوشامب عام 1397م. في هذا البرج أكبر عدد من الكتابات على الجدران، لكن كثيرًا من نزلائه لم يعبّروا عن أنفسهم طواعية بل أجبروا على الكتابة تحت الإكراه الشديد لدفع ثمن الولاء لدينهم أو لآرائهم السياسية.

حرب الجدران

فلسطين بين الاحتلا والمقاومة على جدار الفصل العنصري

رحلة طويلة عبر الزمان حتى أصبحت الكتابة والرسم على الجدران ظاهرة فنية عالمية يمكن التعرف على بداياتها في الستينيات من القرن الماضي. خرجت الظاهرة من جدران محددة ومناسبات معينة إلى فراغ الشوارع والميادين. بدأت في فيلادلفيا بالولايات المتحدة الأميركية عندما وجد أهالي أحد أحيائها عبارة «كورنبريد يحب سينثيا» منتشرة على الجدران. اشتهر الفتى كورنبريد واعتبر مؤسس الغرافيتي المعاصر. في الوقت نفسه تقريبًا بدأ أطفال في مدينة نيويورك بالكتابة على الجدران بشكل بسيط، مجرد اسم الكاتب أو رسالة إلى طفل آخر أو كلمة حب. لكنهم أدخلوا من دون أن يقصدوا عنصرين جديدين في الظاهرة هما: الشهرة والأسلوب. اشتهر من هؤلاء الأطفال من كان يوقع باسم «تاكي 183». هو لم يكن أول طفل يكتب على الجدران في نيويورك لكنه بالتأكيد حصل على أكبر قدر من الاهتمام. حفظ تاريخ الغرافيتي هذا الاسم. أخذوا يتنافسون على مساحات فارغة. بدأت حرب الجدران التي دخلها السود في الأحياء الفقيرة ليعبّروا عن عدائهم للتفرقة العنصرية. سرعان ما بدأت الظاهرة في الانتقال عبر الدول. أذكر أن دهشتي كانت عظيمة عندما ذهبت إلى باريس في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وفوجئت برسومات وكتابات على جدران أنفاق المترو تحت الأرض. كيف دخل هؤلاء العفاريت إلى هنا ورسموا؟

إنها ثورة الغرافيتي، المصطلح الذي ظهر مع هذه الثورة في السبعينيات من القرن العشرين، ويعني ببساطة الكتابة والرسم على الجدران. أصبح الغرافيتي ثورة باندماجه مع فن شعبي جديد ظهر في الولايات المتحدة اسمه الهيب هوب. واقع الأمر أنه لم يكن فنًّا فقط، كان ثقافة شبابية عبّرت عن نفسها بالغرافيتي الذي استخدمه نشطاء سياسيون وجماعات من السود وغيرهم، وعبّرت عن نفسها بموسيقا الراب ورقص البريك دانس Break dance وهو التعبير الجسدي لموسيقا الراب الغنائية السريعة، وهي بدورها تحتل المنطقة الرمادية بين الكلام والنثر والشعر والغناء. في هذه المرحلة بدأ الغرافيتي يصبح فنًّا متخصصًا يتميز فيه فنانون وتشتهر منهم أسماء كان من أولها «أوج سليك». شهد عام 1983م الإفراج عن فلم وثائقي عن ظاهرة الغرافيتي في تلك المرحلة، أخرجه توني سيلفر وأنتج بالتعاون مع هنري شالفانت. كان حول الهيب هوب مع التركيز بشكل كبير على مشهد الكتابة على الجدران. سجل الفلم مجموعة من الأسماء المرتبطة بهذا المشهد في ذلك الوقت، مثل: فوتشرا، دوندي، زفير بين كثير من الأسماء الأخرى. وعرض الفلم أيضًا وجهات النظر المعارضة لهذه الظاهرة.

الأحداث السياسية الكبيرة في العالم

أصبح الغرافيتي مرتبطًا بكل الأحداث السياسية الكبيرة في العالم. يسارع فنانوه بالوجود في مكان الحدث والمشاركة فيه وتسجيل مواقفهم منه. إنهم كالفنانين الرحّل لا ينتظرون دعوة للمشاركة، بل يدفعهم شعور داخلي بالواجب أو تلبية لتضامن جماعي. هناك جداران شكَّلا حدثين مهمين في تاريخ الغرافيتي المعاصر، أحدهما لأنه هُدم، والآخر لأنه أُقيم. جدار برلين الذي هُدِم وكان يفصل بين ألمانيا الاتحادية وألمانيا الديمقراطية وما أعقبه من توحيدهما في أكتوبر عام 1990م. تحولت برلين منذ ذلك الوقت إلى عاصمة عالمية للغرافيتي. الجدار الذي أقيم هو جدار الفصل العنصري الضخم الذي بنته إسرائيل في الضفة الغربية المحتلة ليفصل بين المستوطنات الإسرائيلية، والمدن والقرى العربية. بدأ بناء هذا الجدار عام 2002م، وفي نهاية عام 2006 بلغ طوله 402 كم. سرعان ما استخدمه فنانون فلسطينيون وغيرهم من فناني العالم في تحويله إلى أطول حائط غرافيتي في التاريخ. عدَّت السلطات المسؤولة ظاهرة الغرافيتي في البداية اعتداءً على الفراغات العامة وجرَّمتها. كيف لا تفعل وقد عرّف قاموس أوكسفورد كلمة غرافيتي بهذا النص: «تعامل كصيغة مفردة أو جماعية كتابة أو رسومات مخبأة أو خدش أو رش بطريقة غير مشروعة على جدار أو سطح آخر في مكان عام». لكن الظاهرة تحولت إلى طوفان أغرق السلطات المسؤولة نفسها، فحاولت في بعض الدول استيعابها أو اعترفت بها كفنٍّ. بحلول منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، انتقل فنانو الغرافيتي الذين وصفهم بعض بالمخربين، من التوقيعات البسيطة، إلى رسائل فقاعية، إلى جداريات ذات عناصر خطية وتصويرية مبتكرة تمامًا. أصبح الغرافيتي فنًّا مميزًا. بعد ثلاثين عامًا، انتشر في معظم دول العالم حتى وصل تأثيره الأسلوبي والثقافي إلى وكالات الإعلانات وإلى متاحف فنية، حتى الهندسة المعمارية.

رسوم الحج على أحد البيوت

لا بد من الاعتراف بأن القاهرة شهدت الثورة الثانية لفن الغرافيتي في العالم.. توقف الزمن أحد عشر يومًا في ميدان التحرير والشوارع المحيطة به بعد 25 يناير 2011م. سجل شباب الغرافيتي تاريخًا خاصًّا بعد أن اجتاح كل حوائط المنطقة تقريبًا، وانتشر في أماكن أخرى كثيرة. لم يكن شرطًا أن يعرف الشاب كيف يرسم. يكفي أن يحصل على علبة رش ملون «إسبراي» ويفعل ما يشاء على الحائط. مع ذلك ولد فنانون شبان متميزون في الرسم على الجدران في تلك الأيام. شخصيًّا فوجئت بانفجار هذه الظاهرة وهذا العدد الكبير من الشبان الذين لم يكن يعرفهم أحد من قبل. كنت لاحظت في سنوات العقد الأخير من القرن الماضي انتشار كتابات على الجدران في كل محافظات مصر تقريبًا تدعو إلى الحجاب وتسجِّل شعار «الإسلام هو الحل». منذ يناير 2011م رأينا شعارات سياسية راديكالية، وشاهدنا صورًا قوية لوجوه شابة، وزعامات سياسية، وأكف مضمومة وسلاسل حديدية وغيرها. لا بد من العودة إلى الكتاب المهم عن ثورة الغرافيتي في مصر بعنوان: «الجدران تهتف» لندخل مرة أخرى في جو هذه الحقبة الاستثنائية، بعد أن محت السلطات كل أثر للغرافيتي من على الجدران، وهذه إحدى مشكلات هذا الفن الزائل. فكما يسهل على الفنان ممارسته يسهل أكثر على السلطة محو ما فعل. لكن شباب الفنانين الذين أصدروا كتاب «الجدران تهتف» نجحوا في تصوير عدد كبير من رسومات وكتابات الغرافيتي، وسارعوا إلى نشر كتابهم في العام التالي مباشرة 2012م قبل أن تبرد الأحداث مُصدِّريه بعبارة: «لن ننسى». كتبت رشا عزب في هذا الكتاب: «نحن لا نخاف الجدار، لقد أودعنا فيه سرنا، ورسمنا عليه المحرم والمشروع». كتب عمرو مصطفى: «لا أعرف إذا كنت ثائرًا لأنني فنان شارع، أم فنان شارع لأنني ثائر. أنا أفضل الثانية وأحب الاثنين: الثورة والفن». الواقع أن مثل هذه الكتابات تعبر عن جوهر فن الغرافيتي في مرحلته الحالية التي بدأت منذ السبعينيات من القرن الماضي كما أوضحت. إنه فن متمرد بلا أي قيود. ليست له مدرسة، ولا يحتاج إلى دعوة لممارسته على أي جدار. لا تنظَّم له معارض. لا يباع ولا يشترى. لا يفكر فنانوه في بقاء أعمالهم أو الحفاظ عليها كما يفعل باقي الرسامون والمصورون. إنهم لا يفكرون على الإطلاق في خلود الفن. يعرفون أن ما يرسمونه قد يمحى في اليوم نفسه. لكنهم يرسمونه ليعبروا عن أنفسهم وكفى. إنه انفجار طاقة فنية شخصية تعبّر عن رفضها وأفكارها علنًا من دون استئذان مستبيحة أية مساحة بيضاء على جدار، ورغمًا عن أي نظام.

زها حديد.. تصاميمها أعمال فنية

زها حديد.. تصاميمها أعمال فنية

حزنت على وفاة زها حديد بأزمة قلبية مفاجئة في الخامسة والستين من عمرها. هذه العبقرية الهندسية العراقية التي رفعت اسمًا عربيًّا مشرفًا في العالم كله طوال سنوات، وفي ظروف مناوئة تمامًا للعرب. التقيتها في القاهرة عام 2009م، عندما أتت لعرض تصميمها لأرض المعارض الجديدة الذي لم ينفذ. وكتبت عنها في مقالتي الأسبوعية بجريدة الأخبار المصرية. تابعت كثيرًا من مشروعاتها الفذة عبر العالم. هي ليست المهندسة العربية الوحيدة التي لمع اسمها عالميًّا فقط، بل هي المهندسة الوحيدة في العالم الأكثر شهرة، وثاني مهندس عربي يؤثر في العمارة العالمية بعد المصري حسن فتحي عبر التاريخ. فمتى يجود الزمان بمثلها؟

هي شخصية غير تقليدية، أحيانًا غريبة الأطوار، وانعكس ذلك في تصميماتها المعمارية. لها شخصية قوية وحضور طاغٍ، حتى إنها حازت لقب واحدة من أقوى نساء العالم؛ لذا فقد اكتسبت من اسمها صفته، وقالت ذات مرة مازجة الإنجليزية بالعربية: «Iam a Hadid» يعني «أنا حديد». ربما ساعدها تكوينها الشخصي على هذا الحضور، لكن الذكاء الواضح في عينيها الواسعتين هو الأهم، وثقتها بنفسها واضحة. بالغة النشاط، لا تحب النوم كثيرًا. أحببتها، فهي تقدم نموذجًا يحتذى للنساء عامة، ولنساء العرب خاصة. تصمم المشروعات، وتتابع تنفيذها، وتلقي المحاضرات، وتشارك في المؤتمرات والمعارض، فمن يحتذي؟

لديها نحو 1000 مشروع معماري في 44 بلدًا. هي ملكة الهندسة المعمارية الإبداعية في العصر الحديث. لم يكن لكلمة المستحيل مكان في حياتها، ولم تكن تتقيد بالقواعد سوى تلك التي تضعها لنفسها، وكان شعارها في الحياة كسر الحواجز. عندما أقيم معرض إكسبو العالمي في مدينة سرقسطة الإسبانية، صممت زها جسرًا طوله 275 مترًا، واستخدمته كجناح للعرض في الوقت نفسه. وصممت لشركة بي إم دبليو مصنعًا في مدينة لايبزغ تمر فيه السيارات عبر مكاتب الموظفين!!

أعلنت زها حديد الحرب على الزوايا، وبدأت منذ أيام الدراسة استلهام أشكال جديدة تتجاوز تصورات ما بعد الحداثة. سعت في هندستها المعمارية الديناميكية إلى تجاوز قانون الجاذبية، كما فعلت في منصة القفز في جبل إنسبروك النمساوي. وكذلك مكتبة الكلية الجديدة في جامعة فيينا التي تمثل مركبة فضائية في خدمة العلوم.

كانت زها حديد صارمة، ولا تقبل المساومة، وتصر على تنفيذ خطة البناء مهما ارتفعت التكاليف أو تأخر موعد الإنجاز. متحف الفن الحديث للقرن الواحد والعشرين في روما مثلًا أنجز بعد 11 سنة من الموعد المحدد. كانوا يقولون: إن هذا التصميم غير قابل للتنفيذ، وظلوا يرفضون لفترة طويلة عرض أعمال فنية في فضاء يتنافس مع الفن. كانت تدرك ذلك من البداية، وقالت: «أسلوبي غير مألوف في العمل. فهناك عملاء كثيرون يعتبرون تصاميمي ضربًا من الجنون. إنه صراع دائم ومُضنٍ في بعض الأحيان. لكن هذه المعركة والمواجهة المستمرة تجعلك في النهاية أشد قوة». وقالت في مناسبة أخرى: «يتعين علينا جميعًا تقديم تنازلات من حين لآخر، لكن عندما يطلب مني صاحب المشروع التنازل كليًّا عن جانب أساسي منه فعندها أرفض».

أحد أهم مشاريعها الأخيرة هو متحف «إم إم إم كورونيس» على قمة جبل كرونبلاتز من جبال الألب الإيطالية. هو نفق محفور في الجبل، ومشيد بالخرسانة المسلحة، ومكون من ثلاثة طوابق، ولا نرى منه من الخارج سوى مداخله. جدرانه كلها غير مستوية، هكذا تمكنت زها حديد من حفر بصمتها على الحجر. كانت تعشق عنصر الخفة وحيوية الحركة على سطح الأرض، ومساحة الحرية التي تمنح القدرة على التحليق فوق سطح الأرض.

ظلت مشروعاتها لسنوات عدة تصنف في خانة الفنون التي تعرض في صالة المعارض، فكانت تصاميمها تعد أعمالًا فنية أكثر منها مشروعات للتنفيذ أو غير قابلة للتنفيذ. تعتقد زها حديد أن فكرة الحداثة الجديدة لا تقتصر على وجود أشياء متطابقة في صورة واحدة، إنما هي عبارة عن أشياء مختلفة تجتمع في آن واحد. وأعتقد أن من أهم أسباب نجاحها هو تطلعها الشديد لاكتشاف جديد، تكتشفه من داخلها معتمدة على موهبتها، وما حصلته من علم وخبرة. لم تلق بالًا كثيرًا لما تحدثوا عنه من انتمائها للمدرسة التفكيكية في العمارة، فهي في الواقع كانت فوق المدارس والاتجاهات. هي خلقت مدرستها أو اتجاهها الخاص. بدأت بعد تخرجها في لندن بأعمال مفاهيمية بحتة، لكن مشروعها الرئيسي الأول كان تصميم مركز إطفاء في ألمانيا، انتهى تنفيذه عام 1993م. كان هيكلًا خرسانيًّا ضخمًا مائلًا وله جناح يخرج منه مائلًا ومنحنيًا نحو الأعلى كعلامة بصرية له. شكل هذا المبنى بداية أسلوب زها حديد المتميز. كما جاء تصميمها للمتحف الإيطالي الوطني لفنون القرن الواحد والعشرين في روما، الذي تم تنفيذه عام 2009م، ليؤكد مدرسة زها حديد في العمارة. وهو مزيج طموح من المنحنيات والأنابيب المتقاطعة، اعتبره نقاد العمارة عملًا رئيسيًّا.

اعتمدت زها على دخول المسابقات المعمارية؛ لإثبات تفردها، وقد فازت ببعضها، وخسرت بعضها. أحيانًا لا تعني الخسارة أن مشروعها ليس هو الأفضل، ولكنها المسابقات التي تحكمها ملابسات كثيرة. وهي في الوقت نفسه كانت طريقها للشهرة وللعالمية. هذا فضلًا عن حصولها على جوائز عالمية في العمارة. فكانت أول امرأة وأول مسلمة تحصل على جائزة المعهد الملكي للمعماريين البريطانيين. لكن جائزة بريتزكر التي حصلت عليها عام 2004م غيرت كثيرًا في مسيرتها المهنية، فهي أول امرأة وأول مسلمة تحصل عليها، فقد جعلت الجائزة آخرين يغيرون آراءهم في تصاميمها التي كانوا يرونها غريبة جدًّا أو مبالغًا فيها، وربما أنثوية جدًّا. كانت تصاميمها يغلب عليها بالفعل هذه الصفات. حطمت أسقفًا زجاجية كثيرة في مجال التصميم المعماري. شكلت تصميماتها المنحنية الأضلاع، وهندسة الليزر الأنيقة التي استخدمتها، الانتقال من القرن العشرين إلى القرن الواحد والعشرين، أكثر مما فعلت أعمال أي معماري آخر.

أشارت زها أكثر من مرة إلى تعرضها للتمييز؛ بسبب الجنس وأصلها العربي، مما سبب لها مشكلات في عملها. قالت: «أدركت منذ وقت طويل أنه لا يسمح لي باقتحام عوالم معينة؛ لأنني امرأة وشابة ومن أصول أجنبية. وأعتقد بأن كوني امرأة كان هو العامل الحاسم في ذلك كله». خصصت «ديسبينا ستراتيجاكوس Despina Stratigakos» في كتابها الصادر حديثًا «أين المعماريات؟» فصلًا كاملًا لما وصفته «بالتمييز الجنسي الذي واجه زها عند كل منعطف». وهي، زها حديد، على كل حال لم تكن تفضل الحديث عنها كامرأة مهندسة. قالت لتلفزيون سي إن إن عام 2012م: «أنا مهندس، ولست مجرد امرأة مهندسة».

دفعت زها حديد بفن العمارة إلى أقصى ما هو ممكن. ويجب على نقاد ومؤرخي العمارة في العالم أن يفحصوا هذا الرأي مقارنة بمنجزات معاصريها من كبار المعماريين أمثال: ريتشارد ماير، وفرانك غيري، وألدو روسي، ونورمان فوستر، وكلهم حاز على جائزة بريتزكر قبل زها حديد.