في المشروع البلاغي والفكري لمحمد مفتاح

في المشروع البلاغي والفكري لمحمد مفتاح

مساء يوم الأربعاء، التاسع من شهر مارس (2022م)، فارق الباحث الفذ والعالم الجليل محمد مفتاح الحياةَ في العاصمة المغربية (الرباط) حيث كان مقامه وحيث كلية الآداب والعلوم الإنسانية التي كان قد شرع في التدريس فيها من سنة 1969م إلى أن تقاعد. وقد نهل الراحل من فروع معرفية مغايرة لتلك التي تعودنا عليها في الخطاب النقدي بالمغرب إلى حدود نهاية السبعينيات النازلة من القرن المنقضي، وبخاصة أنه حتى هذه المدة كان هذا الخطاب لا يخرج عن دائرة «الجزيرة الفرنسية».

محمد مفتاح (1942- 2022م) صاحب أحد المشروعات البلاغية التي استطاعت أن تفرض ذاتها في خريطة النقد بالمغرب والعالم العربي عامة، رغم التحفظات العديدة التي يبديها الكثيرون، سواء من المغاربة أو المشارقة، بخصوص مشروعه القائم على مداخل ونتائج، بل على «ترسانة» من المفاهيم التي لا تعدو أن تكون سوى مجرد أدوات تتسرّب في ثوابته الفكرية. من ثم منشأ دلالات مشروعه التي ما كان لها أن تتضح بمعزل عن «القراءة» التي يعتمدها في تحليل القضايا والظواهر في مجالات البلاغة والشعر والكلام والفلسفة والتصوف… إلخ. وقراءته هاته تنهض، في حال قراءة المنجز البلاغي (بالمعنى الأوسع للبلاغة) المرتبط بالغرب الإسلامي تحديدًا، على إبستيمولوجيا تشييدية معضودة، علاوة على النظريات العلمية والتوجّهات الإبستيمولوجية الجديدة، بمفهوم التحقيب القائم على وحدة الثقافة المغربية ومفهوم المثاقفة ذي الصلة بالمدرسة المغربية والأندلسية.

وقد أسهم الباحث بدراسات عديدة هي حسب سنوات نشرها: «في سيمياء الشعر القديم» (1982م)، و«تحليل الخطاب الشعري- إستراتيجيات التناص» (1985م)، و«دينامية النص- تنظير وإنجاز» (1987م)، و«ديوان ابن الخطيب: تحقيق ودراسة» (1989م)، و«مجهول البيان» (1990م)، و«التلقي والتأويل- مقاربة نسقية» (1994م)، و«التشابه والاختلاف- نحو منهاجية شمولية» (1996م)، و«الخطاب الصوفي- مقاربة وظيفية» (1997م)، و«المفاهيم معالم- نحو تأويل واقعي» (1999م)، و«النص: من القراءة إلى التنظير» (2000م)، و«مشكاة المفاهيم- النقد المعرفي والمثاقفة» (2001م)، و«الشعر وتناغم الكون» (2002م)، و«مفاهيم موسَّعة لنظرية شعرية» (2010م)، و«وحدة الفكر المتعددة- قراءة جديدة في الأصول» (2016م)، و«المعنى والدلالة» (2018م)… وصولًا إلى أحد كتبه الأخيرة «فلسفة النقد- مقاربة مركبة» (2020م) الذي ضمّنه حوارًا أكاديميًّا مطوّلًا كنّا قد أجريناه معه (رفقة الناقد الفني والجمالي شفيق الزكاري)، ونشر أول مرة بمجلة «الثقافة المغربية» (العدد: 39، 2019م).

مراحل وتحولات

من الجلي أننا بإزاء تراكم معرفي لا يتوفر عليه أي ناقد أو باحث مغربي، تراكم كفيل بأن يؤكـد أن باحثنا يتوفر على مشروع لا يمكن فهمه إلا انطلاقًا من قراءة جميع هذه الدراسات التي تنطوي، في نظرنا، على نسق يوحّدها على الرغم من الاختلاف الحاصل فيما بينها. كما تشغل هذه الدراسات حيّزًا زمنيًّا يمتد على مدار أربعة عقود من الزمن؛ ممّا يلزم السؤال حول مجمل التطوّرات التي لحقت بخطاب الباحث على امتداد هذه المدة الزمنية التي شهدت من دون شك تحوّلات في أنماط التصوّر والأنساق والسرديات… في الجهات الأربع من العالم. ومن هذه الناحية فإن الباحث ذاته يعفينا من رصد التحوّلات التي لحقت بخطابه. فنجده في مقال له حول «مساراته»، أو «مسارات مشروعي المقترح… والمفتوح»- كما عنونه (وهو منشور ضمن ملف حول مشروعه بمجلة «الآداب»، العدد 3- 4، مارس/ إبريل 1998م، ص 80)- يميّز بين خمس مراحل؛ هي كالآتي:

المرحلة الاجتماعية: ويمثلها تحقيقه لشعر لسان الدين بن الخطيب، وما تضمنه هذا التحقيق من شرح ونظرة للشعر كانت صدى للمناهج الاجتماعية الانعكاسية السائدة وقتذاك.

المرحلة الوظيفية: يمثلها كتاب «الخطاب الصوفي» الذي ركز فيه على الكشف عن أدوار التصوف وليس ماهيته أو جوهره.

المرحلة الجمالية: ويمثلها «في سيمياء الشعر القديم» و«تحليل الخطاب الشعري»، وقد اهتم فيها بتحليل الأشكال والبنيات.

المرحلة الدينامية: يمثلها كتاب «دينامية النص» الذي اهتدى فيه إلى مرجعية إبستيمولوجية جديدة.

المرحلة المعرفية: يمثلها كتاب «مجهول البيان» و«التلقي والتأويل» و«التشابه والاختلاف» و«المفاهيم معالم». وقد حاول الإفادة فيها من منهاجيتين هما: منهاجية علم النفس المعرفي بمفاهيمه المختلفة، ومنهاجية نظرية العماء. وأغلب كتبه اللاحقة على تاريخ المقال، كما نتصوّر، تنتمي لهذه المرحلة طالما أنه لن يحيد فيها عن أفق «النقد المعرفي». الظاهر أن هذه المسارات ليست منفصلة بعضها عن بعض، بكلام آخر: هي ليست «خطية» بل هي «مركّبة ومتداخلة» كما يقول الباحث ذاته. فالمنهج الفيلولوجي، مثلًا، الذي ميّز «المرحلة الاجتماعية»، نجد بعض تجلياته في «المرحلة الجمالية» وما بعدها. كما أن بعض مرتكزات «المقاربة النسقية» نجدها في «المقاربة الجمالية». فضلًا عن أن هذه المسارات ترتكز على ثوابت معرفية ومخارج فكرية وثقافية.

ويهمنا أن نتوقف عند موضوع التراث ومدى تشبث محمد مفتاح بهذا التراث وتأكيد صلة هذا الأخير بالحاضر. ومن ثمّ فهو يختلف مع «التاريخانية الجديدة» التي تلح على «القطيعة» مع التراث وإن خففت من حدة الموقف عندما قالت بـ«محدودية التراث» التي لا يمكنها أن تفيد الحاضر. إنه يتصور أن الاهتمام بالتراث لا يخلو من فائدة كبيرة، فهو ليس مجرد «قيمة تاريخية» يعنى بها مؤرّخو الأفكار. فالتراث، بقضاياه وإشكالاته، يفيد في إضاءة بعض الإشكالات الملحّة في الثقافة العربية المعاصرة.

في ضوء هذا التصور يهتدي الباحث إلى التركيز على ما قدّمه الغرب الإسلامي في مجال التراث. وإذا كان محمد عابد الجابري يركز على بعض مفكري هذا الغرب أمثال ابن رشد وابن حزم والشاطبي وابن خلدون؛ وكل واحد من هؤلاء في مجاله المخصوص حتى لا يصل، عبر «المقاربة البينية»، بين الفلسفة والفقه والتاريخ… فإن باحثنا يتعاطى مع منجز هذا الغرب وفق فهم مغاير للتراث ووفق طريقة مختلفة في القراءة قادته إلى توزيع خطابه على الأدب والتصوف والأصول والكلام والبلاغة والمنطق… وبنوع من الإفادة من «المقاربة البينية» ذاتها الذي بلغ حدّ «الحديث النظري» عن هذه المقاربة في «التلقي والتأويل».

موقفه من القطيعة والتراث

وعلى ذكر الغرب الإسلامي فالباحث من الذين يدافعون عن «المدرسة المغربية» (أو «المدرسة المغربية الأندلسية») التي كان قد دشّنها «أديب المغرب» عبدالله كنون (1908- 1989م). وفيما بعد سيعمقها نقاد آخرون أمثال عباس الجراري وعلال الغازي ومحمد بن تاويت التطواني ورضوان بن شقرون… إلخ. غير أن الباحث لا يقول بأي نوع من «القطيعة» بين المدرسة المغربية والمدرسة المشرقية كما انتهى إلى ذلك محمد عابد الجابري في مشروعه الفكري الشهير والمعمّد، من خلال أربعة أجزاء، بـ«نقد العقل العربي» (1984- 2001م). فلا مجال للقطيعة عند محمد مفتاح؛ بل إنه يتصوّر أن مفهوم القطيعة ليس موضوع إجماع حتى في الثقافة الأوربية. وإذا كان الأمر هكذا في هذه الثقافة فإن القبول بها في الثقافة العربية أعسر؛ لأنها ثقافة تعضيد في مجملها.

أمّا في ضوء «النظرية الاتصالية» التي دافع عنها، وتلافيًا لأي ضرب من «القطيعة الداخلية» أو الأحرى النظرة الثقافية التراتبية، فنجد الباحث ينأى عن التشديد على عصر دون آخر مثل العصر الموحدي الذي مال إليه بعض المؤرخين والمفكرين المغاربة بحجة أنه في هذا العصر حصلت الثورة على التقليد في المجالات كافة من فقه ونحو وفلسفة وآداب وبلاغة… حسب محمد عابد الجابري، وبحجة أن النموذج الموحدي هو أنموذج الحكم بالمغرب (دولة المخزن) كما يذهب إلى ذلك عبدالله العروي في كتابه «الأيديولوجيا العربية المعاصرة». فالباحث يرى أن روح هذه الثورة لم تنقض بانقضاء دولة الموحدين. فقد استمرّت -على الأقل- إلى بداية القرن التاسع للهجرة. ثمّ إن الباحث حتى حين يدرس الطوائف الصوفية في الغرب الإسلامي في القرن الثامن للهجرة، في كتابه «الخطاب الصوفي»، فإنه يعي ضرورة عدم التقوقع في هذا القرن بمفرده.

كما تقوده النظرية الاتصالية إلى البحث في النواة التي وجّهت الثقافة المغربية، وكانت بالتالي وراء وَحْدتها. ومن هذه الناحية فإن أكثر من باحث حصر هذه النواة في الثوابت الثلاثة المتمثلة في المذهب المالكي (الفقه) وعقيدة الأشعري (الكلام) وطريقة الجنيد (التصوف السني). أمّا باحثنا فيحصر هذه النواة في «الاتحاد والجهاد». ويرجع الاتحاد إلى الاصطدام مع الأجنبي الذي اقتضى الدعوة إلى وحدة الأمة ووحدة الشرعية لمقاومته. غير أن هذه النواة لا تخلو من «اختزال»… وباحثنا هو أوّل من لا يخفى عن ذهنه هذا الاختزال. لكن برغم ذلك ليس غريبًا أن يرى بعضٌ في هذا الاختزال «حداثة سلفية جديدة» و«مركزية عقدية» و«جهادية توفيقية»؛ بل وجدنا من يتحدث عن «الأغلوطة الجهادية»، كما يجادله الناقد المغربي سعيد علوش في كتابه «نظرية العماء وعولمة الأدب» (2000م)، على غرار «الأغلوطة الأنطولولجية» و«الأغلوطة التشييدية» اللتين يتحدث عنهما محمد مفتاح في أثناء دفاعه عن «القراءة التفاعلية».

إن تتبّع أفكار محمد مفتاح وتصوّراته للتراث، وفحصها ودراستها بشكل معمق، لا بد من أن يختلف من باحث لآخر. والتراث، كما يقال، هو قراءته أو الأحرى قراءاته بخاصة في ضوء دراسات التأويل والهرمنيوطيقا ونظريات القراءة والمناهج المعاصرة… وغيرها من «متوسطات القراءة» التي هي جديرة بأن تنتج وعيها بموضوعها، كما في حال قراءات محمد مفتاح، وجديرة بأن تكشف عن السند الإبستيمولوجي التشييدي للقراءة ذاتها. ولعل في هذا وجهًا آخر لأهمية خطاب محمد مفتاح، وهي أهمية لا نلمس لها أثرًا عند نقاد كثيرين، بل عند مفكرين كبار ممن ولجوا قارة قراءة التراث.

لذلك لا يمكن للمهتم بالبحث الإبستيمولوجي بالمغرب أن يتغافل عن جهود محمد مفتاح الذي بلور تصورًا إبستيمولوجيا مغايرًا ومن خارج دائرة الفلسفة أو دائرة البحث الفلسفي الإبستيمولوجي الذي دشنته أعمال محمد عابد الجابري في السبعينيات وجهود سالم يفوت ومحمد وقيدي وعبدالسلام بنعبد العالي في السبعينيات النازلة والثمانينيات الصاعدة. وقد اتضح المنحى الإبستيمولوجي، في مشروع الباحث، منذ كتابه «في دينامية النص» (1987م) حيث يشير في مقدمته إلى أنه لم يبقَ مستحسنًا أن يكتفي الكاتب بتقديم تطبيقات للمناهج من دون الكشف عن الخلفيات الإبستيمولوجية والتاريخية التي نَمَتْ وترعرعت فيها. كما صار متعينًا عليه أن يبنيَ قواعد اللعبة وآلياتها وأن يهتك خبايا أسرارها.

شرط الوعي المعرفي

غير أن ما يمكن نعته بـ«الوعي المعرفي» الذي يسند قراءة محمد مفتاح لا يسلم من الأساس الأيديولوجي؛ لذلك بقدر ما تكشف قراءته عن سندها الإبستيمولوجي التشييدي الظاهر بقدر ما تكشف عن سندها الأيديولوجي الباطن. على الرغم من الأساس الإبستيمولوجي لقراءته، والمنهاجية العلمية الثقيلة الداعمة لها، فثمة ثنائية «المعرفة والأيديولوجيا» المندغمة في فعل القراءة أو متوسّطات القراءة. ثمة افتراضات ينطلق منها باحثنا. وهذه الافتراضات لا يتستر عليها محمد مفتاح، إضافة إلى أنها لا تخلو من «تحيّز». والباحث لا يستبعد مثل هذا الموقف، غير أنه يشترط عنصر الوعي بضرورة الأسس الإبستيمولوجية والتاريخية الخاصة بكل تيار حتى إذا انحاز القارئ العربي الإسلامي المعاصر -كما ينعته- ينحاز عن بينة، وإذا رفض يرفض عن بينة.

تصوّرات الباحث، في تصوّرنا، جديرة بأن تقارن مع تصوّرات قراءات أخرى لمفكرين مغاربة بارزين من دارسي التراث أمثال محمد عابد الجابري وطه عبدالرحمن وعبدالكبير الخطيبي (في مجال الثقافة الشعبية بصفة خاصة)؛ بل يمكن مقارنة تصوّراته مع تصوّرات المؤرّخ المفكر عبدالله العروي المعروف بموقف «القطيعة» مع التراث (كما أسلفنا). وذلك كلّه في المدار الذي يسعفنا على أن نرى كيف أنه يتقاطع مع بعض تصوّرات هؤلاء ويختلف مع بعضها. كما تسعفنا هذه المقاربة على تبيان جوانب من المشروع الثقافي والأيديولوجي لباحثنا، مثلما تسعفنا على تبيان أهمية هذا المشروع الذي لا يقل أهمية عن هذه المشروعات إن لم نقل إنه يكمّل بعض جوانبها. فمشروعه، بدوره، ينخرط في نسق الفكر المغربي وبالقدر ذاته يُـفيد في نسق الفكر العربي.

في النسوية الإسلامية المعتدلة

في النسوية الإسلامية المعتدلة

تنهض النسوية الإسلامية المعتدلة على أصول وجذور تركن إلى الإسلام الحنيف ذاته بالنظر إلى حضور المرأة منذ بدايات ظهور الإسلام. غير أنّ هذه النسوية، بوصفها تيارًا في التأويل ومن منظور حقّ المرأة في الاجتهاد، لم تأخذ في الظهور إلا بعد أربعة عشر قرنًا على ظهور الإسلام؛ وتعيينًا في الثمانينيات النازلة والتسعينيات الصاعدة من القرن العشرين.

أسماء المرابط

واللافت هو طابع التزامن في ظهورها وعلى نحو ما تأكّد في عدّة أماكن في المجتمع الإسلامي العالمي؛ في الولايات المتحدة الأميركية وأوربا وآسيا وجنوب إفريقيا والمغرب والمشرق. ومن ثمّ شُسُوع الرقعة الجغرافية للتيار وفي الوقت ذاته تباعد الجغرافيات؛ وهو ما أضفى عليها خواص الثقافة أو خواص «الإقليم الثقافي» الذي يميّز كل بلد على حدة. فتركيا، مثلًا، أو إندونيسيا لا يمكنهما أن تكونا المغرب. مثلما أن تونس ليست هي المغرب أو مصر على الرغم من التقارب الجغرافي والثقافي. وفي ظل هذا المعطى الثقافي والهويّاتي التعدّدي، من حيث اللغة واللباس والمعمار… أو الثقافة عامة، «لم يعد ممكنًا تقليص المرأة المسلمة إلى وضعٍ عامّ مُوحّد» بتعبير النسوية المسلمة أسماء المرابط.

وستتبلور النسوية الإسلامية أكاديميًّا، وابتداءً، بالولايات المتحدة الأميركية التي ستحتضن أهمّ الناقدات والباحثات المسلمات في التيار. فدور الغرب كان حاسمًا في إظهارها؛ بكلام جامع: كانت النسوية الإسلامية محكومة بما يسمى بـ«الولادة المدرسية الغربية»؛ ثمّ إن أوّل مؤتمر عالمي لها سيكون بالغرب: إسبانيا (المجلس الإسلامي، برشلونة، 2005م). ولقد كان للغة الإنجليزية دور حاسم في ظهورها وانتشارها. وفي هذا السياق سترقى إلى أن تعلن عن نفسها في شكل تيار سيكون بدوره قرين خطاب جديد نابع من التوليف بين معرفة حالة الأنثى في العالم الإسلامي وإعادة قراءة ما كتبه علماء الدين الأجلاء من نصوص تحيد عن التأويل الذكوري الغالب وفي دلالة على «التراث المتواصل».

ومن ناحية التلقي أو التقبل في التعاطي مع النسوية الإسلامية، وعدا بعض الترحاب والقبول، فعدد من العلماء المعاصرين سينتقدون التيار بحجة افتقار الباحثات إلى «الكفاءة» في دراسة النص القرآني وتفسيره. إضافة إلى مدى تمكنهن من التاريخ الإسلامي الذي يستلزم الاطلاع على مصادر ومصنفات أخرى في مجال السير والتراجم والآداب. غير أن التيار سيلفت الانتباه إليه في ثقافات وجغرافيات متباعدة… وبخاصة في ظل العولمة، وبما وفّرته من إمكانيات التواصل «اللحظي» في بقاع العالم كله.

وعلى الرغم من هذه الشكوك فقد تمكّنت النسوية الإسلامية من فرض ذاتها داخل النسوية العالمية كلها، بل ارتقت إلى أن تكون جزءًا منها. ومَرَدّ ذلك إلى نبرتها التحليلية وخلفيتها الفكرية على نحو ما سيتضح مع مفكرات وناقدات وكاتبات أمثال الإفروأميركية أمينة ودود، والباكستانية أسماء بارلاس، والمصرية ليلى أحمد، والإيرانية زيبا مير حسيني، والباكستانية رفعت حسن، والأميركية كيشيا علي، والمغربية أسماء المرابط… وغيرهن. وهذه الأسماء تكتب وتحاضر وتتداخل باللغات الأجنبية؛ الإنجليزية أوّلًا ثم الفرنسية.

مفكرون يدعمون النسوية

فاطمة المرنيسي

كما لا ينبغي، في سياق التشكل والامتداد، التغافل عن دخول باحثين ومفكرين متنورين إسلاميين على خط دعم هذه النسوية من أمثال المفكر الأردني فهمي جدعان الذي سيخصص جزءًا مهمًّا من كتابه «خارج السرب- بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية» (2010م) للنسوية الإسلامية أو «النسوية التأويلية» كما يسميها. وذلك من خلال التركيز على فاطمة المرنيسي التي كانت «أوّل من أبرز النسوية الإسلامية» من خلال كتابها «الحريم السياسي» الذي كانت ترجمته للعربية «رديئة» بتعبيره، ثم تركيزه -اعتمادًا على أسلوب العرض والنقد- على «التأويلية الإسلامية» في أبرز صورها عند ثلاث مفكرات وباحثات مرموقات سلفت الإشارة إليهنّ؛ وهنّ أمينة ودود، وأسماء بارلاس، ورفعت حسن. ونجده يميّز بين أربعة تيارات ضمن النسوية في المجال العربي والإسلامي. يشرح الفكرة قائلًا: «إلى يمين هذا المحور تقع نسوية يمكن أن نطلق عليها «النسوية الإصلاحية»، وإلى يسار هذا المحور تقع نسوية يمكن أن نسميها «النسوية الرافضة». وعند وسط المحور نلتقي بما يمكن أن نسميه بـ«النسوية التأويلية». أمّا المنظور «السلفي» الاتباعي في أمر المرأة فيقع خارج الأشكال التي تطيق مفهوم النسوية» (ص35). ورأيه، بعد هذا التصنيف، «أن النسوية التأويلية ترقى إلى مرتبة منظور نسوي إسلامي وإنساني جدير بالزمن الراهن المنظور» (ص255).

كما يستوقفنا، ضمن مراجع النسوية الإسلامية الذكورية المساندة، المفكر المغربي الإصلاحي أحمد الخمليشي الذي تكنّ له فاطمة المرنيسي احترامًا كبيرًا، بل نجدها أقدمت على ذكره في مقدمة الترجمة الإنجليزية لـ«الحريم السياسي»؛ بل خصّته بـ«العالم مولاي أحمد الخمليشي». والرجل صاحب رؤى تجديدية بخصوص القوامة والولاية في مجال موضوع المرأة في إطار البحث الفقهي والمنظومة الفقهية، ومن الدعاة إلى الاجتهاد -تصوّرًا وممارسة- في الدين الإسلامي وتحديدًا في كثير من القضايا الفقهية والدينية التي تهمّ الخطاب الإسلامي عمومًا والفقهي خاصة، ومن المدافعين عن انفتاح العقل الفقهي على الواقع ومتطلباته ومواكبته للقضايا الراهنة. هذا بالإضافة إلى مناداته بـالانفتاح على العلوم الإنسانية وتعلّم اللغات الأجنبية.

وثمة من يتصوّر أن ارتباط المرنيسي بهذا المفكر، إلى جانب المفكر عبدالرزاق مولاي رشيد صاحب كتاب «المرأة والقانون في المغرب» (بالفرنسية، 1991م)، وفي إطار الاشتغال على قوانين الأسرة في المنطقة المغاربية، كان له تأثيره في مستوى انعطاف دراسة الحريم نحو النسوية الإسلامية. وهي تقرّ بأفضاله على كتابها «الحريم السياسي» الذي يعدّ مرجعًا أساسيًّا في النسوية الإسلامية.

استجابة لحالة مُلِحّة

وعلى الرغم من الاختلاف في تقويمها، فقد كانت النسوية الإسلامية «استجابة لحاجة مُلِحّة» كما تدرس ذلك المؤرّخة والدارسة النسوية المصرية مارغوت بدران في دراسة مستفيضة ومنهجية لتيار النسوية الإسلامية ومراحلها. وتستهل الدراسة بأن هذه النسوية حرصت على الظهور والتشكّـل من داخل الإسلام ومن خلال البحث في أعماق النص القرآني عن رسالة المساواة بين الجنسين والعدالة الاجتماعية. وهو ما يشرح عودة الباحثات إلى البدايات الأولى أو التعاطي مع موضوع المرأة، في المرحلة الأولى من الإسلام، بغية تثمين التجربة النبوية النسوية المليئة بالحب والعطف على النساء… إلخ.

فهمي جدعان

فالتأويل، أو المنحى الهرمينوطيقي، مرتكز أساسي في النسوية الإسلامية. ومن ثمّ المقارنة بين فاطمة المرنيسي وأمينة ودود ذات الأبحاث ذائعة الصيت في مجال النسوية الإسلامية ولا سيما كتابها «المرأة والقرآن» (1999م) الذي يعنى بإعادة قراءة النص المقدس من منظور نسوي. وهي تراهن على الإسلام في شكله الأصلي الذي هو دين يقوم على المساواة بين المرأة والرجل، ودين نشأ على المساواة المتضمنة في النص القرآني.

ومنظور النساء، المعتمد في النسوية الإسلامية، شامل طالما أنه يراعي عنصر الثقافة وشروط المجتمع. والمدخل لذلك كلّه هو صنف من «الهرمينوطيقا الإسلامية النسائية» أو «الهرمينوطيقا القرآنية» باصطلاح أسماء بارلاس صاحبة الكتاب الشهير في النسوية الإسلامية بعنوان: «المؤمنات في الإسلام» الذي يطمح بدوره إلى إعادة قراءة التأويلات الذكورية للنص القرآني.

والملحوظ أن أمينة ودود، رغم شهرتها، كانت عُرضةً للنقد؛ واللافت من داخل المنظومة الإسلامية ذاتها. فاطمة المرنيسي بدورها تعرضت لانتقادات رغم أنها اعتمدت الأسماء الكبرى في التاريخ الإسلامي: ابن قتيبة، ابن عساكر، الزمخشري، العماد الأصفهاني، البخاري، الطبري، ابن سعد، الذهبي، الصفدي. مضمون النقد الموجَّه لها أنّها لا تعطي المرأة، في نطاق «الحق في التأويل»، الثقلَ ذاته مقارنة مع أمينة ودود.

الباحثة النسوية المغربية أسماء المرابط عبّرت بوضوح عن الفكرة، بل عارضتها في الوقت ذاته. تقول في حوارها سالف الذكر: «صحيحٌ أنّ هنالك سورةً (في القرآن الكريم) تُركّز على النساء، لكنّ 90٪ من الآيات القرآنية تتحدّث عن الإنسان بشكل عام، متجاوزةً موضوع الجنس. أشعرُ بالفزع عندما أرى كم تُحدّد النساء لأنفسهنّ وضعًا مِعياريًّا». لكن ما أسرع ما تستحضر ما يحصل في ساحة التأويل من هيمنة ذكورية عندما تقول: «واليومَ كلُّ أعمالِ التفسير تتمّ على يد رجال يُنتِجون تفسيرًا جنسانيًّا للقرآن». لكن في مقابل ذلك هناك من يتصوّر أن عظمة الإسلام أو التاريخ الإسلامي لا يتقبّل مقولة «الفقه الذكوري» و«القراءة الأنثوية»؛ فهما لا يصلحان أن يكونا نموذجين للتفسير والمعرفة في سياق العلوم الشرعية، وهما من باب الإسقاط لفكرة الجنوسة (أو الجندر) النسوية على التاريخ الإسلامي.

حذر مع المنتوج الغربي

ويشهد للنسوية الإسلامية كشفها عن نوع من الحذر في التعاطي مع المنتوج الغربي، وكذلك كشفها عن نوع من الثقافة العربية الأصيلة. كما أن الجديد فيها، وعلاوة على مفاهيم التأويل والهرمينوطيقا بشقيها المنهجي والفلسفي، هو الإفادة من مناهج العلوم الإنسانية ونظريات العلوم الاجتماعية وتوجّهات الدراسات النصية واللسانية. والآن، وبعد ما يزيد على ثلاثة عقود في عمر النسوية الإسلامية، فإنه يمكن التمييز داخلها بين تيارين: تيار الباحثات المسلمات الناطقات باللغة الإنجليزية (والفرنسية على نحو أقل) وتيار الباحثات من الكاتبات باللغة العربية. والفرق بينهما قائم إلى حد تلافي بعض الكاتبات استعمال تسمية «النسوية الإسلامية» في العالم العربي.

وبالإجمال لا ينبغي تلخيص النسوية الإسلامية في مجرد «تقليعة من تقليعات العصر»، أو «إسقاطات معرفية»، أو «تلفيقات جندرية»، أو «خطاب موجّه للغرب»، أو غير ذلك من الأحكام التي جوبهت بها. فعناصر التميّز والإضافة واردة فيها وبخاصة من ناحية تلافي السقوط في «النسوية الإلكترونية»؛ وهذا في مقابل التشديد على «المعرفة» ذاتها من منظور يصل ما بين قيم الإسلام وقيم الحداثة. وهو ما جعلها تسهم في نوع من الاستجابة لواقع المجتمعات العربية بعيدًا من تلخيص المعركة مع الرجل بصفة عامة والرجل التقليدي بصفة خاصة. وربما كان الرهان، في النسوية الإسلامية، في مزيد من تصدي الباحثات المسلمات للإسلاموفوبيا المتزايدة في الغرب الأورُأميركي.