برنار لوشوفاليي: متعة الموسيقا مقاربة نفسية عصبية

برنار لوشوفاليي: متعة الموسيقا

مقاربة نفسية عصبية

بين الطب والموسيقا علاقة وطيدة قد لا تفصح عن نفسها من الوهلة الأولى، لكنها بالتأكيد تمتد زمنيًّا إلى بدايات ظهور الجنس البشري الذي عبّر عن آلام الجسد بالأنين، وترجم ما يعتمل في دواخله من لواعج الشوق والحنين بما توافر بين يديه من آلات عزَف عليها، فباحت بمكنونات مشاعره ورقص على وقع ألحانها فانتشلته من منغّصات الحياة إلى مباهجها.

وعند هذا المدى تتضح الصورة الآتية: فبالطب تُستعادُ عافية الجسد، وبالموسيقا يُستردُّ شفاء الروح. وهنا يظهر مكمن التميز عند برنار لوشوفاليي الذي وزّع حياته بين حقليْن يطوف بين أرجائهما ويلوذ باستكشافاتهما ويحتفي بتواشجهما ضمن مؤلفه الأخير: «متعة الموسيقا- مقاربة نفسية عصبية» (الصادر عن دار أوديل جاكوب)، منطلقًا من فكرة مفادها أن فقدان متعة الاستماع إلى الموسيقا هو أحد الأسباب الكامنة وراء الإصابة بالاضطرابات الإدراكية عند كثير من المرضى، وأن المقطوعات الموسيقية تؤثر بشكل إيجابي في تطوير وعينا بالسعادة والسكينة؛ إذ تخاطب فينا قدراتنا العاطفية والعقلية، وتمنحنا الشعور بالمتعة والمرح عبر العزف والغناء في محاكاة للأصوات السارة في الطبيعة.

برنار لوشوفاليي

من بين الدوافع التي حثت الكاتب على تأليف هذا الكتاب رغبته العارمة في الانغماس في جملة من الأسئلة التي تستدعي الإجابة عنها الانطلاق في رحلة يتعين قطع مسافاتها لبلوغ مرتبة الموسيقيّ والطبيب معًا. ولتحقيق هذا المبتغى سعى برنار لوشوفاليي إلى البحث عن الجمال المستتر الكامن في الموسيقا، وعن العلاقة الوثيقة التي تربطها بمشاعرنا. فلم تفتأ ذكريات الافتتان المطلق بالموسيقا وإيقاعاتها تراود فكر الكاتب وتهيج أحاسيسه وتضاعف من حيرته، فلا يتوانى في مساءلة نفسه: لماذا تُعدّ أعمال «باخ» التي عزفها على البيانو جميلة جدًّا؟ ولماذا يؤثر فينا صوت الكمان تأثيرًا قويًّا؟ ولماذا تحيرنا البراعة المدهشة في عزف موريزيو بوليني؟ وكيف ينفذ موسيقيون كبار من طراز: شوبر، وسترافينسكي، ورافيل، ورامو إلى أعماق أرواحنا؟

تنطوي هذه الأسئلة وغيرها على لغز غامض حلّه الوحيد في نظر الكاتب هو الانغماس في محيط هذه الروائع الفنية الذي يبدو بالنسبة له الحياة الوحيدة الممكنة، فالموسيقا هي الشيء الوحيد الذي بوسعه أن يسهم إلى حد كبير في تهدئتنا.

من اللافت للنظر أن الكاتب قد استفاد من تكوين عميق في الموسيقا الكلاسيكية، فهو حائز على بيانو كنيسة سان بيير في مدينة كاين الفرنسية، كما أنه يشغل منصب أستاذ علم الأعصاب ورئيس القسم في المستشفى الجامعي بالمدينة نفسها. وفي هذا الإطار، وجّه جلّ اهتماماته إلى دراسة الاضطرابات الإدراكية ومتعة الموسيقا لدى المرضى المصابين باضطرابات دماغية. واعتمادًا على الأبحاث التي أجراها رفقة زملائه في فريق العمل، أصبحت الدراسة العصبية النفسية للموسيقا تشكّل محورًا ذا أولوية خاصة في عدد من مسالك البحث العلمي الجامعي. وهنا تبرز قدرة هذا الكتاب على تقديم أجوبة مستنيرة لمختلف الأسئلة المطروحة بشأن تأثير الموسيقا في الخلايا العصبية من خلال الاستفادة من الكشوفات الطبية المتجددة، بما يجعل الكتاب جديرًا بالقراءة وإمعان النظر وإعادة تأمل خصائص المقطوعات الموسيقية على مستوى الأداء.

حالات الوعي بالنفع المشترك

ينضم الكاتب إلى القائلين بأنه «يتعيّن على الموسيقا أن تسعى بكل تواضع إلى إرضاء المرء»، وذلك بتحقيق المتعة. وهنا يتساءل لوشوفاليي: ما المقصود بالمتعة؟ يعكس هذا المصطلح في نظره حالات من الوعي بالسعادة والرفاه والنفع المشترك، مما هو متاح للبشرية جمعاء، ولكنه يضطلع بذلك بطريقة مختلفة وتبعًا لعوامل متعددة قد تكون فردية أو جماعية. أما فيما يتعلق بالموسيقا فيمكن أن نثير التساؤل عن طبيعة العلاقة التي تربط الموسيقا بالمشاعر، وعن مجموع المنبهات السمعية التي تولّدها. وهذه الملاحظة يمكن أن تكون نقطة انطلاق محتملة لعدد من المناقشات التي تشكّل فيها الاختبارات لُحمة هذا الكتاب.

تمثّل كل مقطوعة موسيقية للكاتب لحظة رائعة، توقظ فيها هواجس أسئلة من قبيل: لماذا أثّرتْ فيَّ كثيرًا مقطوعة فيفالدي إلى الحد الذي جعلني أحتفظ بها بعد مضي سنوات عديدة كذكرى عزيزة؟ هل الموسيقا في ذاتها هي السبب الرئيس في ذلك؟ هل تحمل بين طياتها أصواتًا خفيّة تصدر عن آلات وترية غالبًا ما تتحاور فيما بينها؟ وهل يعد ذلك المصدر الوحيد للمتعة؟ أم إن بنية أعمال فيفالدي كلها تمثل مصدرًا ثانيًا لذلك؟

إن الغرض الأساس من هذا الكتاب هو محاولة وضع هذه الأسئلة في منطقة تماس الموسيقا بالطب، ليبيّن الكاتب أن إدراك الموسيقا بالحس والمتعة التي تولّدها في النفْس يعكسان عمليات معقدة جدًّا لا تأخذ في حسبانها فقط بنية المقطوعة في ذاتها، ولكنها ترتبط أيضًا بمجموعة من الأفكار والتأثيرات، وبسياق أدائها والاستماع إليها.

يذكر المؤلِّف أنه قد أُتيحت له الفرصة للعمل مع فريق من الأطباء في قسم الأمراض العصبية بالمركز الجامعي للاستشفاء بـ«كاين»، حيث تكفّل بعلاج عدد من المرضى المصابين باضطرابات تتعلق بإدراك الموسيقا في علاقتها بإصابات الدماغ التي تطول الأوعية الدموية في أغلب الأحيان. وقد مكّنت الفحوصات التي أُجريت لهؤلاء المرضى، إضافة إلى البيانات التي جُمِّعت من الأدبيات الطبية، من ملاحظة أن مثل هذه الاضطرابات الإدراكية غالبًا ما تكون مقترنة بفقدان متعة الاستماع إلى الموسيقا.

الموسيقا بوصفها احتفالًا شعبيًّا

يرى لوشوفاليي الموسيقا كُلًّا متكاملًا، أي بمنزلة متعة تترتب على الإبداع، والكيفية التي تُؤدّى بها. كما أن الاستماع إلى أثر المادة الصوتية ناجم عن انتظام نوعي لعدد من الأصوات لا تعبأ بالتمييز مثلًا بين الموسيقا الكلاسيكية والموسيقا المعاصرة، أو بين الموسيقا الترفيهية وموسيقا الجاز. ويمضي الكاتب بعيدًا فينظر للموسيقا بوصفها احتفالًا شعبيًّا وُجد منذ آلاف السنين، حيث كانت «الموسيقا-الحركة» ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالرقص، حتى إنه يمكن أن نتصور أنها راسخة في جينات الإنسان العاقل الأول. ويقرر الكاتب أن الموسيقا وُجدت حتمًا قبل اللغة: فقد سبق علم العروض علم الأصوات، طالما أن صيحات معدّلة أو مُغنّاة استطاعت أن تُوفّر وسيلة للتواصل الداخلي في اللغة المنطوقة.

يرفض الكاتب الرأي القائل: إن الموسيقا لا تعبّر عن أي شيء، ولا تقول أي شيء. فعلى النقيض من ذلك يرى لوشوفاليي أنه لَطالَما سعت الموسيقا إلى أن تقول شيئًا ما: فتارة تقوله بصراحة، وفي هذه الحالة يهتدي المستمع بالإشارات التي يقدّمها عنوان المقطوعة الموسيقية أو سياق أدائها، وتارة أخرى يتنكّب المؤلِّف الموسيقي الإفصاح عن جوهر مقطوعته، فلا تصرح المقطوعة بما تريد أن تقوله. وبصفة عامة، يذهب الكاتب إلى إن معظم المقطوعات الموسيقية المكتوبة قبل الحقبة الرومانسية –باستثناء بعض الحالات (الموسيقا الغنائية مثلًا)- كانت تبدو مجردة تماًما: فلا شيء يشير إلى حقيقة مشاعر المؤلِّف الموسيقيّ أو مزاجه، ومع ذلك تؤثر فينا هذه المقطوعات بقوة جمالها، وهنا تكمن الغاية المتوخاة منها. ومن جانب آخر، فمنذ بيتهوفن، كلُّ من يؤلف مقطوعة موسيقية لا يتردد في الحديث عن نفسه، بل يذهب إلى حدّ إشراكنا في نطاق حميميته.

يقرّ الكاتب بأنه ليس أول من طرَق باب التأليف في الموضوع (متعة الموسيقا)، لكنه ينبّه إلى أن كتابه هذا يتميز بانفتاحه في الوقت نفسه على المستمع والمؤلِّف الموسيقيّ وعازف المقطوعة الموسيقية. كما أخذ على عاتقه -بعد أن يقدّم توضيحات عصبية نفسية وأخرى عصبية فسيولوجية بخصوص المشاعر والمتعة بوصفهما أثرين موسيقيين- أن يبحث عن الاختلافات الموجودة بين متعة الموسيقا التي تصرح بما تريد أن تقوله، وبين الموسيقا التي تلمح ولا تكشف بشكل صريح عن دلالاتها. وبين هذين النوعين خصّص الكاتب فصلًا لدراسة الرقص، مسبوقًا بفصل آخر تحدث فيه عن العلاقات القائمة بين الموسيقا والجسد؛ إذ الرقص في منظور الكاتب زاخر بالمعاني.

ختامًا، قدّم برنار لوشوفاليي في كتابه: متعة الموسيقا، رؤية خاصة للعلاقات القائمة بين الموسيقا والطب، وهي رؤية تتفق وإزاحة العقبات النفسية العصبية عبر استثمار ممرات الخلاص التي تمنحنا إياها الموسيقا.. الممتعة والساحرة والمحيّرة التي تملك قدرة عجيبة على التأثير فينا. ولنا أن نتساءل مع الكاتب: هل ستنجح الموسيقا مستقبلًا من تلقاء نفسها في تعليمنا شيئًا آخر غير الطريقة التي بها تُعزَف أو في كشف الأسباب التي تحملنا دومًا على محبتها والتعلّق بها؟