«العقل والإيمان والصراع من أجل الحضارة الغربية»

«العقل والإيمان والصراع من أجل الحضارة الغربية»

جعل المؤلف الحاصل على دكتوراه في الفلسفة والاقتصاد السياسي من جامعة أُكسفورد ومدير الأبحاث بمعهد أكتون بميشيغان، من محاضرة البابا بنديكت السادس عشر في ريجنسبرغ المسيئة لنبي الإسلام، أطروحة محورية في كتابه الذي ركّز على التعريف بالغرب وبسماته الحضارية، واحتوى مراجعات طوطولوجية وافتراضات هشّة حول الإسلام وقضايا أخرى، تفتقر كلها إلى أسس أكاديمية رصينة.

فالمؤلف يرى أن الحضارة الغربية ميزها سعيها العقلاني لبلوغ الحقيقة كنتيجة لمفهوم الله بوصفه لوغوس، «إله الحب والحقيقة المقدسة» الذي منح البشر ملكة العقل كي يدركوا العالم وأنفسهم معه، كما لقّن الفلاسفة العبريون من أمثال فيلون الإسكندري وبفضل ذلك، اكتست مفاهيم كالحرية والعدالة معاني قوية لا توجد بالقوة نفسها لدى الثقافات الأخرى. ولاحظ أن الأنبياء العبرانيين والنصرانيين هم من أعطوا العقل معنى ومصداقية، وأن انعدام الصراع بين الإيمان والعقل في الفكر الغربي بفضل التركيز على اللوغوس، ساعد على ظهور الثورة العلمية والتكنولوجية في الغرب. وهكذا يقفز هذا السرد على مراحل حاسمة في مسار التقدم البشري.

يبدو من رأي المؤلف كأن الحضارة اليونانية- الرومانية قد خلقت من عدم وهذا خطأ. فالإغريق والرومان مدينون للحضارات الشرقية العربية القديمة (بابل ومصر القديمة وغيرها) بكل ما بلغوه من تطور. وبفضل اختراع غير غربي: الأبجدية، أصبحت الإنسانية قادرة على التواصل والتفاعل وتحويل الخبرات والثقافات عبر الزمن. كما أن الغرب مدين أيضا للحضارة العربية والإسلامية بمساهمات علمية وفلسفية قيمة. وفي النهاية، لا يمكن لأي طرف أن ينسب لنفسه وحده ما بلغته الإنسانية جمعاء من تقدم.

عن ادعاء المؤلف أصولًا يهودية للتوحيد

إن تأكيدات المؤلف تعكس تجاهلًا بتاريخ اليهود، فالوثنية كانت حقًّا متجذرة في ممالك إسرائيل ويهوذا وفي قصة عجلهم الذهبي الذي ظلوا عليه عاكفين في غياب موسى (عليه السلام) خير دليل على ذلك، كما ورد في سفر الخروج 31-18-32-4 وفُصّل في القرآن الكريم (طه، الآية 49). ومن اللافت أن فرويد أكد أنه «إذا كان موسى مصريًّا وأعطى لليهود دينه الخاص، فإن هذا الأخير هو دين آتون الذي قال به أخناتون الذي قدّم عام 1350 ق-م تقريبًا، دينًا كرّس عبادة حصرية لإله وحيد. وهذا رأي مؤرخين ذوي صيت ذائع كبريستد وويغال. كما يعزى لمصر القديمة، سبق احتضان التوحيد بفضل أخناتون الذي رأى بعضٌ أنه شخصية تاريخية وليس وليد ذاكرة ثقافية، وتوحيد نجد آثاره في نصوص الهرم وكتاب الموتى وسبق أن بشر به نبي الله إدريس (الدارس) عليه السلام كما ورد في التراث الإسلامي الذي سُمي في بعض المراجع هرمس، والنهاية، لا يمكن للتراث العبري ولغته المستحدثة أن يدعي أنه أصل التوحيد واللغة والحضارة كما تحاول آراء مغرضة تمرير ذلك.

بخصوص تشخيص أمراض العقل والإيمان: يرى المؤلف في الماركسية امتدادًا لانهيار العلاقة بين العقل والإيمان وللنسبية التي تنصُّ على أن «من صميم الحرية أن يكون للمرء الحق في أن يحدد بنفسه مفهوم الوجود، والمعنى، والكون» وبهذا يصير بلوغ الحقيقة مستحيلًا ويُميع كل شيء. لقد كان حريًّا بالشراكة المفترضة بين الإيمان والعقل «المهددة الآن»، أن تدفع بالمؤلف والبابا معًا للنظر في أسباب سقمها. فالمؤلف يرى أن التنوير قد تسبب في تعويض العقل بالعاطفة وأن هناك إما استخفافًا بالعقل أو غلوًّا فيه. ويعتقد المؤلف أن النزعة الإنسانية العاطفية طفت على السطح بعد أن فقد العقل سيطرته على المشاعر في الغرب؛ إذ صارت المصطلحات مصقولة والحجج الموثوقة «مسيئة» أو «مثيرة للجدل» وميّعت «دكتاتورية النسبية» الحقائق وإذا لم يجدد الغرب علاقته مع الحوار الواعي، ستتجه حضارته حتما نحو الفوضى. وقد أجاد بيك دو لاميراندا في تصوير حالة التعفن التي كانت تمر بها الكنيسة في مجمع اللَّاتران أمام البابا ليون العاشر: «بانغماسها في الرذائل والإسراف، أضحت الكنيسة في أمسّ الحاجة للإصلاح».

ثم تعمقت هذه القطيعة بين العقيدة المسيحية والعقل؛ بسبب حركة التنوير وعقله القوي القائم على نقد جذري للدين وللاستبداد الملكي. «فعند وفاة الرب، زعموا أنهم أقاموا مملكة الإنسان وحقوقه» والحال أنه إذا كان الربّ هو إله العقل المقدس، فمن المؤكد أن أديانه السماوية ستلد إيمانًا قويًّا لا يناقضه العقل؛ لأن علّة وجود هذا الأخير هي تأكيد عجائب خلق الله والنواميس التي وضعها لحكم هذا الكون وجميعها علامات وآيات دالّة على عظمته.

ويبدو أن هذا الأمر لا ينطبق على العقيدة المسيحية. ففي الإسلام، على سبيل المثال، الله عليم، وهو أحسن الخالقين والعلم البشري لن يسفر سوى عن تأكيد عظمة الله على قدر ما بلغه من صحّة بما أنه محدود بطبعه.

ويمكن تفسير رفض الإيمان والعقل بعضهما لبعض في الغرب بعدم صدق الأول وقصوره وعدم قدرته على الصمود أمام تساؤلات الثاني. فلقاء الكنيسة والعلم (العقل) كان لقاء مواجهة. فلم تكتب النجاة لكوبرنيكوس، الذي اكتشف مركزية الشمس، مناقضًا بذلك قول الإنجيل بأن الأرض مسطحة، من محاكم التفتيش سوى لكون «دورات الأفلاك السماوية» لم ينشر إلا بعد عامين من وفاته. بل إن أعماله قد أُحرِقت بأمر من الكنيسة. وفي سنة 1600م تعرض جيوردانو للتعذيب، ثم أُحرِقَ حيًّا على الأوتاد في روما؛ بسبب دفاعه عن نظام كوبرنيكوس. أما كيبلر، المواصل لأعمال كوبرنيكوس، فقد اتهم بالهرطقة وعانى طيلةَ حياتِه ملاحقاتِ الكنيسةِ الحاقدة. بل إن عمته اتُّهِمت بالسحر وأحرقت، وسُجنت والدته في شتوتغارت عام 1615م.

في سنة 1630م، منعت الكنيسة غاليلي من تدريس الكوبرنيكية. وبعد تلفظه بعبارته الشهيرة: «ومع ذلك ما زالت تتحرك»، حُكم عليه بالإقامة الجبرية حتى وفاته. وقد استشاط غضبًا أثناء محاكمته قائلًا: «لم أكن مضطرًّا للإيمان بالإله نفسه الذي منحنا الحواس والعقل والذكاء، وكان ينوي أن نتخلى عن استخدامهم». حتى روجر بيكون، قضى هو الآخر حياته وراء القضبان؛ بسبب اهتمامه بالفيزياء وعلم الفلك وعاش ديكارت طوال حياته في المنفى، ومع ذلك يحاول بعضٌ عبثًا تبرير سلوك الكنيسة. أما الآباء المستنيرون المؤسسون لأميركا بما فيهم جون آدمز، فعقيدتهم المسيحية التي ارتكز عليها تأسيس أميركا، مميعة وتشكك في المعجزات التي وردت في الكتاب المقدس وتفتقر لحدود ذات مغزى.

معتقدات المؤلف اللاهوتية ونتائجها الخاطئة

قال المؤلف: إن الإسلام يفرض خضوعًا مطلقًا لإرادة إلهية غير مُلزمة حتى بكلمتها ذاتها، فالجهادوية والإسلاموية نتاج لتصور الله على أنه محض إرادة وغياب للوغوس في اللاهوت الإسلامي و«الإيمان القسري ليس إيمانًا على الإطلاق». بداية ليس بين العقل والإيمان (اللذان ليس لهما المعنى نفسه في الحضارات الأخرى) في التقليد الإسلامي سوى انسجام مطلق. ويقتضي الرابط بينهما ضمنًا النظر في تصور الإنسان في حدّ ذاته بما أن الإيمان جزء من بنية الوعي الإنساني. فالطبيعة الجوهرية البشرية أو الجبلّة تدفع الإنسان إلى عبادة ربّ، وتحثه على السعي إليه. يكون هذا الدافع الأصلي متجذرًا ثم يتحول إلى إيمان متوهج عبر لقاء العقل والوحي. فالفطرة ستقابل وحيًا مزدوجًا. الأول هو الخليقة ذاتها (فكل الموجودات جزء من الوحي الموجه للإنسان) ويدل هو ذاته على أن وراء الخليقة خالق ولا يوجد مخلوق قائم بذاته والخليقة أكثر من حصيلة العناصر المشكلة للكون، إنها مجمل الآيات أي العلامات التي تستدعي الضمير من أجل فهمها وخالقها. فالكون والإنسان ذاته «آيات» بل كتاب مفتوح ومليء بالعلامات. ثم إن هناك تطابق أساسي بين الدافع الداخلي الذي يحمله الإنسان في فؤاده والعالم المحيط به الذي يستدعي استيعابًا واعيًا (فكريًّا ورُوحيًّا) للوحي الأول.

ويشير الوحي الثاني إلى قيام الرسل بنقل الكلمة (الرسالة) نقلًا متواترًا بدءًا من آدم إلى محمد r، في التصور الإسلامي. فالعالم يغرس في القلوب إيمانًا ينقله كل وحيّ نحو الوعي في التاريخ وللمجتمعات، وكي تُذكى، ستحتاج الجذوة الأولية القابعة في عمق الذات البشرية إلى تأمل العقل. فهذا القبس يمنح النور (وهو أداة لرؤية العالم). وعندما يتجه الفكر نحو الاستبطان، يرقب الإنسان هذا الكون ولا يرى فيه سوى آيات يساعد التأمل فيها على بلوغ الإيمان وتقويته. فالقرآن يدعو البشر إلى النظر والتأمل في الطبيعة لإيقاظ ما يخفيه هو ذاته بداخله، حتى يتحول القبس نورًا (فرقانًا). كما أن الإيمان يحتاج إلى عقل يراقب ويحلل الكون الذي لا يرى فيه سوى آيات. وعلى الإيمان المرور بملكة العقل كي يتقوى. فليس هناك إيمان عميق متجذر من دون عقل مُعمَل.

ولهذا حاورت النصوص المقدسة عقل الإنسان وتحدّته. لكن كونها وحيًا موحى، لا يعفي الإنسان من مسؤولية إعمال العقل لتغذية إيمانه: ﴿وسخّر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون﴾.

إن محاولة تصوير الإسلام كدين يفتقر إلى العقل عبث لا طائل من ورائه. فقد ورد ذكر العقل 34 مرة في القرآن الكريم، وهو، خلافًا لما يوحي به الموروث الغربي، عقل غير مقطوع عن خالقه ولا عن ضرورات الحياة التي أودعها الله في كونه. ومع ذلك فهو ليس جوهرًا مطلقًا بإمكانه الحكم على خالقه. ففي الموروث الإسلامي، بالعقل يُعرَف اللهُ جيدًا وبه يُعبَدُ ويُشكَر. وبالعقل يعطي الله وبه يعاقب. فالإسلام هو بامتياز دين العقل والتفكير السويّ ضمنه واجب بل وجزء من قنوات المعرفة بمعية الحواس والوحي، غير أن الأولوية من نصيب هذا الأخير من أجل دفع الإنسان إلى الإيمان بعالم الغيب. فمحدودية العقل لا تمكنه لوحده من إدراك كل معرفة وكل حقيقة عندما لا تكونا عقلانيتين تمامًا. وبإيجاز، قادَ هَدْيُ العقلِ دون الوحي البشرَ إلى عبادة الأصنام والأجرام السماوية، ثم عبادة البشر، فجاء الوحي يدعو لعبادة خالقهم جميعًا.

فإذا كان بعض المؤلفين يعدُّون المعتزلة وابن رشد وغيرهما عقلانيي الإسلام، فإنهم يحجّمون عن قصدٍ مجالات فكر هؤلاء. إنها قراءة غربية لإسهامات هؤلاء العلماء الذين بَوَّءُوا الوحي مكانًة أولية، على غرار ما فعلوا بالشرع القائم على المصادر الكتابية (الفقه) وكانوا في الوقت ذاته وبوضوح عقلانيين، (بالنسبة لمعايير التاريخ والعقليات الأوربية)؛ لذا وجب استيعاب مقاربتهم هذه على ضوء تمفصل العلوم الدينية والفلسفة والمنطق الداخلي للفكر الإسلامي وتطوره لتفادي قراءة أيديولوجية لإسهاماتهم وتقديمهم على أنهم «مفكرين حداثيين»، «ديكارتات الإسلام» وذلك مجرد قراءة غربية لتاريخ الفكر الإسلامي».

كما أن أعمال علماء الغرب (من ديكارت إلى لوك وروسو) ليست سوى ثمار المدارس الإسلامية ومناهجها في الاستنباط والتقصي والملاحظة والتجربة، أما التصريحات المشبوهة القائلة بأن الرّب عند المسلمين «غير ملزم حتى بكلمته، وأنه غير عادل» فيمكن دحضها بقوله تعالى: ﴿وعد الله. لا يخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾، و﴿من عمل صالحًا فلنفسه، ومن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد﴾.

أما استنتاجات المؤلف حول اللوغوس والجهادوية، فيجب أن نلتمس له العذر عنها بما أنه لا يفقه في الجيوسياسة. فالإرهاب مسألة نسبية ومسيّسة وتتطلب معرفة عميقة ومحيّنة بمواضيع كالجيوسياسة والإمبراطوريات والجشع البشري والإمبراطوري. فنحن لا نعيش في عالم القساوسة الأبرياء (حتى إن ثبت فساد الكثير منهم) بل في عالم الجيوبوليتيك المحكوم بمعايير وبراديغمات غربية لا ترحم وَضَعَهَا أشخاصٌ من أمثال ثوسيديديس: «يفعل الأقوياء ما يمكنهم فعلهم ويعاني الضعفاء ما يجب عليهم معاناته» أو مكيافيللي: «الغاية تبرر الوسيلة». فإن كانت الأخلاق تعني أي شيء في هذه الغابة، فإن الغرب يرى فيها خطرًا على مصالحه. ففي المنطق الغربي، تُغزى الشعوب وتُقتل وعندما تقاوم، تتحول مقاومتها إلى تمرّد وإرهاب في حين يُغضّ الطرف عن الإجرام الغربي المتعدد الأوجه (العسكري والمالي والاقتصادي). وما يزيد الطين بلّة هو ازدواجية المعايير والتمركز الغربي على الذات. فالجهادوية التي يحاربها الغرب الآن هي الجهادوية نفسها التي حظيت بتقديره ورعايته ودعمه المالي والتقني عندما كانت تخدم أهدافه في محاربة الشيوعية. أما ما يتعلق بمفهوم الجهاد في التقاليد الإسلامية (الذي يعني حرفيا الجُهد)، فهو ليس سوى كبح النفس والطباع الذميمة أو مواجهة العدوان الخارجي.

وما عدا ذلك فالمؤلف محقّ بخصوص علل العقل والعقيدة. فمع العبر-إنسانوية والتقنو-إنسانوية ونتاج الذكاء الاصطناعي، سيفقد البشر إنسانيتهم. كما تدفع الآثار الوخيمة للحضارة الغربية ورأسماليتها الوحشية (استغلال الموارد الطبيعية على نطاق واسع والنمو الاقتصادي الجامح والتصنيع المفرط)، بالبشر صوب الارتياب والمجهول.

ولكن إذا كان على التحليل العلمي ألَّا يحلّ محلّ الإيمان الديني، فمن المحتمل أن الصراع الحاصل بينهما مردّه انحرافات الموروث الروحي اليهودي-المسيحي (نصوص «مقدسة» تعجّ بالتناقضات وكنيسة يشوب سلوك قادتها فساد وشذوذ). وبالتالي، يفتقر التاريخ الفكري للغرب من منظور العلاقة بين العقل والإيمان إلى الموضوعية والمصداقية.

بخصوص اللوغوس في حد ذاته وتعقيداته

لا يشير اللاهوت إلى الشيء نفسه في التقاليد الإسلامية والمسيحية. ففي الإسلام، لا نقول عن الله إلّا ما قاله هو عن نفسه. فهو لم يقدم تعريفًا عن ذاته العليا بل قال للقبس الذي بداخلنا وفي قلوبنا ما قاله لعقولنا. فهو يهدي الأخير كي يفهم ما هو (أي الله) فهمًا أفضل. وأي محاولة في اتجاه سبر أغوار ذاته عبث وضلال، فالعقل له حدود، والحقائق تكون في بعض الأحيان خارجة عن نطاقه. ونجد الله يصف نفسه بنفسه في القرآن: ﴿بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون﴾.

لقد استعار محررو أناجيل العهد الجديد الأوائل مفهوم اللوغوس من الفلسفة الإغريقية من أجل مساعدة العالم الهلينيي على فهم ماهية المسيح عليه السلام: «في البدء كانت الكلمة «اللوغوس» (يوحنا 3:1). ولم تسلم النسخة اليونانية من الإنجيل من تأثير الفلسفة الإغريقية التي عرفت مصطلح «اللوغوس» منذ ما يزيد على 500 عام ق-م. ذاك الذي أصبح رابطًا للأرضية المشتركة بين الفكر اليهودي- المسيحي والإغريقي- الهلينيي في القرن الميلادي الأول. لقد استخدمه الإغريق ويوحنا كإحالة إلى الله نفسه، ولم يكن يُتصور أن الكتاب المقدس سيُسمى كلمة الله. لقد أصبح مصطلح اللوغوس يحيل إلى خالق الكون ذاته، وليس إلى صفحات الكتب التي تتكلم عنه، بدل أن يكون مجرد محاولة تقوم بها ثقافة ما لفهم العالم وإلهام الإنسان كي ينسج علاقة مع الله.

إن فكرة الله بوصفه خالق الكون الذي لا حدود لقوته كافية ومرضية تمامًا. ولحكمة يعرفها وحده جلّ وعلا، خلق ملائكة، وأوكل لكل واحد منهم بمهمّة، وعلى غرار البشر لم يخلقوا إلا ليعبدوه ويسلكوا وفقًا لإرادته وهَدْيِه. ومن بين صفاته «الحقّ» الذي أنعم على البشر بنعمة العقل الذي يقتضي حرية الاختيار والمسؤولية. ومن دون هذه الأخيرة، يمكن للطغاة ومرتكبي الإبادة الجماعية الإفلات من العقاب. اللوغوس رؤية إنسانية لله ولكيفية تصرفه وليس حقيقة مقدسة والله تعالى يستطيع التصرف بالطريقة التي تعجبه.

في حكم البابا على نبي الإسلام

وبالنسبة لمقولة البابا بيلاجيوس الثاني: «أرني ما جلبه محمد من جديد، ولن تجد سوى أشياء شريرة وغير إنسانية…»، كان يمكن أن يكون هذا الفحيح مسألة منتهية بعد اعتذار البابا للمسلمين. لكن بعد أن أثار المؤلف هذه الخميرة فإن استنباطاته المغلوطة لتبريرها تقتضي ردًّا. فهذا الاقتباس أسلوب يهدف إلى تأكيد حكم سلبي عن طريق الاستفهام أي إضفاء نوع من البداهة على تصريح معين؛ كي يؤخذ كما لو كان أمرًا مسلمًا به. وهذه طريقة غير نزيهة في وصف سلوك نبي الإسلام r. والأدهى من ذلك، أن هذه المقاطع توحي بأن العنف متأصل في الفقه الإسلامي. وأمام هذه الهلوسة الصادرة عن أعظم رموز المسيحية، يصبح التذكير المقتضب بسلوك من سبقوه في البابوية ضروريًّا بغرض المقارنة والتحليل إلا إذا كان المؤلف ينتظر منا أن نسمع ونذعن فقط.

أولًا، حرّر محمد العباد من الوثنية إلى الإيمان الحقّ والتوحيد، ومن الصراع القبلي إلى الأخوة في الإيمان، ومن عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، وأزال الظلم بإزالة الإمبراطوريات القديمة الظالمة وطغيانها (الفارسية والبيزنطية)، وأبدى في الوقت نفسه تسامحًا غير مسبوق تجاه غير المسلمين، ومنح السلامَ والحريةَ شعوبًا مضطهدةً، بما في ذلك المسيحيون أنفسهم الذين حررهم من نير إخوانهم في العقيدة. فقد حظي المستضعفون في الأرض بدعم الإسلام وحمايته كما أكد ذلك ميخائيل الدمشقي بطريرك أنطاكية الذي رأى المسلمين كمنقذين:« إنه الرب المنتقم العظيم الذي ينزع الممالك ممن يشاء ويعطيها لمن يشاء، وبعد أن رأى ما رأى من شرور الرومان [أي: الأباطرة المسيحيون في بيزنطة] الذين نهبوا كنائسنا وأديرتنا بدون رحمة طوال حكمهم وحكمونا بقسوة، أغاثنا من الربوع الجنوبية بأبناء إسماعيل (المسلمين) لينقذونا من أيدي الرومان اللصوص».

ومما لا شك فيه أن محمدًا كان أول رجل وضع إيمانه بالسلام والتسامح موضع التنفيذ. ففي مجال التسامح لا أحد أعظم من محمّد. لكن ما الذي جلبه أسلاف البابا؟ إليكم هذه العيّنة الدموية المأخوذة من سجل للحروب الصليبية المشين: «بعد تقتيل جميع سكان القدس، محمديون ويهود ومسيحيون منشقون (حوالي 60000 شخص) وهي عملية استمرت ثمانية أيام على الرغم من الحماس الذي أبداه الفرسان الأتقياء، حيث لم تفلت لا النساء والأطفال ولا كبار السنّ من الذبح، ومن أجل الاستراحة من الإرهاق الذي تسببت فيه هذه المذبحة العامة، انخرط الصليبيون في أكثر أعمال العربدة والفساد إثارة للاشمئزاز. فحتى المؤرخين المسيحيين أنفسهم استنكروا سلوك حماة العقيدة هؤلاء. فقد وصفهم برنارد الخزان بالمجانين أما بودري، رئيس أساقفة دوول فقال: إنهم بغال تتمرغ في القمامة in stercoribus) jumentatanquam.(computruerantilli».

ولمعرفة شرور الباباوات، ينبغي مثلًا الرجوع إلى عالم اللاهوت الكاثوليكي الأكثر تبحُّرًا وورعًا، جون سالزبوري: «لقد ترك البابا يوحنا الثاني والعشرون، ابن الإسكافي، بعد وفاته ممتلكات شخصية تقدر 18000000 دوكيت و17000000 دوكيت في شكل مجوهرات وأواني نفيسة… إلخ. أما جون الثالث عشر السيئ السمعة بسبب فجوره وفسقه وأكاذيبه وخداعه، فيعدّ «عدو كل فضيلة وبالوعة جميع الآثام وفضيحة الفضائح والشيطان المتجسد». كما فاق إلكسندر السادس جميع من سبقوه في المحارم والفسق والفحش ولا يزال اسمه يوحي بكل خطيئة تحطّ من الخلق الإنساني. وبعد أن ضاقت أوربا ذرعًا بجرائم إلكسندر السادس وفحشه، وبطمع يوليوس الثاني الجامح، ولصوصية ليون العاشر، وبالفضائح المجلجلة التي لطخت ما سُمي بالكرسي الرسولي، ومزادات بيع صكوك الغفران، والضرائب المضنية، والخرافات المشينة، والفواحش المزرية التي تحدث في أروقة الراهبات؛ تخلصت أوربا من هذا النير المثير للسخرية الذي خيم بثقله المريع على الدول المتخلفة لدهور.

مخاطر النسبوية

إن المؤلف محق بخصوص النسبوية. فما قيمة مذهب متناقض مع نفسه؟ إذا كان كل شيء نسبيًّا، ستكون النسبية نفسها نسبية! ومن ثم، ستكون إما مطلقة، مؤكدة على وجود مبادئ مطلقة وإما نسبية ومن ثم غير قادرة على إنكار وجود أي مفهوم مطلق. ومن المثير للدهشة أن الثقافة الغربية المهيمنة تشجع النسبية الثقافية وتصرّ في الوقت نفسه، كما فعل فوكوياما، على سمتها المطلقة المزعومة التي تفرضها العولمة على بقية الثقافات التي تراها غير قادرة على تحقيق المثل الأصيلة. والأدهى أن النسبوية مصابة بازدواجية المعايير فمثلًا يزعم الغرب أن حرية التعبير مفهوم مطلق ويدافع عنها بشراسة عندما تهاجم آلته الإعلامية عقائد الآخر (الإسلام)، لكنه يقف موقفًا جازمًا ضد كل دعوة من أجل تقصٍّ غير متحيز في قضايا كالمحرقة أو هجمات 11 سبتمبر 2011م الإرهابية.

أما إلحاق نظرية آينشتاين بالنسبية فمحض شعوذة يفندها عنوان أعماله: «نظرية الثبات» (ثبات سرعة الضوء وصلاحية قوانين الفيزياء بغض النظر عن تغيير الوقت والمكان). ومع ذلك، أليست الكنيسة نفسها هي من روّج للنسبوية ولا سيما عند التعامل مع ماضيها المحرج والحكم عليه، حينما أكّد البابا يوحنا بولس الثاني «أن نأخذ في الحسبان الظروف الثقافية للعصر والعوامل التاريخية الأخرى» الشيء الذي يمثل نسبوية تميل إلى التقليل من شأن الخطايا المرتكبة؟

خـاتمة

إذا كان في كل الأديان السماوية وعي إلهي يتخلل الكون، والجميع يشترك في الإيمان بكائن علوي هو من خلق الكون، فإن الله لم يكن قط ملكًا لجماعة أو فلسفة أو عرق معين، وإذا لم يكن الكتاب المقدس «كلمة الله» فسيكون مجرد محاولة من بين العديد من المحاولات الثقافية لفهم الله، و في هذا السياق، فإن أفضل رسالة تستخلص من تعاليم الإسلام تجاه المسيحية هي ما يلقنه القرآن إيانا: ﴿لتجدن أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا الذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون﴾، فالبشر بانفعالاتهم وأوهامهم ومعرفتهم المحدودة يفسدون طبيعة الأشياء. بدأت المسيحية كعقيدة توحيد خالص طبيعي سهل، ثم انحرفت فيما بعد بسبب الفلسفات الشرقية والإنسانوية والأساطير الوثنية. وما طرأ عليها من فقه دفاعي، حولها إلى شيء مختلف عمّا بشر به عيسى عليه السلام.


Samuel Gregg, Reason, Faith, and the Struggle for Western Civilization, Gateway Editions, 2019, 256 pages.