«بنات آوى والحروف المفقودة» لهيثم الورداني… الحياة الثانية لابن المقفع

«بنات آوى والحروف المفقودة» لهيثم الورداني… الحياة الثانية لابن المقفع

في كتابه «بنات آوى والحروف المفقودة» يُؤسس الكاتب المصري هيثم الورداني مدينة سردية من طراز فني خاص، عبّد لها شوارع وشِعابًا، تتصل بنواة المدينة الرئيسة: «اللغة». يطرح الورداني في كتابه الصادر أخيرًا عن دار «الكرمة» للنشر بالقاهرة، سردًا بحثيًّا عبر نصوص عابرة للنوع الأدبي، يمتزج فيها النقد الفكري بالسردي، والسياق التاريخي بالخُرافي، والسيرة بالتأملات، في محاولة للإحاطة ببحث مُكثف يقتفي سيرة عبدالله بن المقفع و«حيواناته الناطقة»، ليس فقط عبر إعادة قراءة دُرّة أعماله «كليلة ودمنة»، بل الانفتاح على تأملات أوسع تُعيد تفكيك سؤال اللغة المنطوقة، والمكتوبة، واللغة «المُستعارة» كوجه من وجوه الحضور والاحتجاج الثقافي.

يدٌ ناطقة

يُحرّض الكتاب على التعمّق في منابع الخُرافة كجنس أدبي أصيل، وسياقاتها التي ارتبطت بظهورها التاريخي، وسلّط الضوء على أحد أبرز الكتب التأسيسية في فن الخرافة وهو «كليلة ودمنة»، الذي تكلّم فيه الحيوان ليُنصت له الإنسان، طارحًا تساؤلات حول ما إذا كانت الخُرافة في الأصل هي فن مهزومي التاريخ؟

يجد الورداني أن ولوج عالم «كليلة ودمنة» لا يستقيم من دون التوقف عند سيرة مُترجمها إلى العربية عبد الله بن المقفع، فيستهل الكاتب مدخلًا سورياليًّا إلى ابن المقفع، يبدو وكأنه ينتزع له حياة ثانية، عبر «انتشال» روحه التي زُهقت مبكرًا، مقتولًا، في عمر الأربعين. ففي قصة قصيرة بعنوان «في المكان الخطأ»، يُفتتح بها الكتاب، اعتاد بطل القصة أن يمر خلال سيره في مدينته بقناة مياه هادئة، غير أنه في إحدى المرات برزت له يدٌ مبتورة على سطح الماء، فينتشلها البطل، وتبدأ منذ تلك اللحظة مُفارقات درامية مع استغاثة اليد التي تنطق وتُعرّف نفسها إليه: «أرجوك ساعدني، يجب أن أعود إلى عملي، عملي الكتابة، أنا يد ابن المُقفع».

وتتصاعد المُخيّلة السردية إلى أن يستعين البطل بيد ابن المقفع، بعد أن يتعرّض لإصابة تؤثر في حركة يده، فيخشي أن يتلخص منه القائمون على المصنع الذي يعمل فيه بسبب تلك الإصابة ويستغنوا عنه، فيُقرر هو ويد ابن المُقفع معًا أن يُعملا «الحيلة»، فيُثبّت البطل يد ابن المقفع «المبتورة» بيده «الحيّة»، فتصير اليدان وكأنهما يد الشخص نفسه. «تعوّدت على يد ابن المقفع وأصبحت جزءًا مني»، يقول بطل القصة الذي انتشلته يد ابن المقفع من الطرد من مصنعه ببرلين.

ولا تخلو القصة بكل سورياليتها من مدخل ذاتي، حيث يستنطق الورداني في هذا الكاتب ابن المقفع ويده التي سطرت واحدًا من أبرع أشكال النثر ونقلها إلى قارئ العربية.

ينسب الكتابُ للراحل طه حسين قوله: إن عود النثر العربي لم يشتد سوى في القرن الثاني الهجري، ولا سيما مع أفول نجم الشعر «الفن الأول للغة العربية» مؤقتًا مع أفول الدولة الأموية، حيث لم يعد قادرًا على استيعاب التعقيدات التي أتت بها الدولة العباسية فبدأ اللون النثري يتفتح في الدواوين التي لم تعرفها الدولة الأموية سوى على استحياء، أو البحث عن لغة جديدة تتجادل داخل معارف عصرها. فالنثر كان الأجدر باستيعاب الفِرق الكلامية والنقاشات الفلسفية التي ذاعت في هذه الحقبة، ورأى عميد الأدب العربي أن أبرز من مثّل تلك الكتابة في القرن الثاني الهجري كان عبدالله الكاتب وعبدالله بن المقفع.

لكن ما هو السياق التاريخي والذاتي الذي سطر فيه ابن المقفع «كليلة ودمنة»؟ يخوض الورداني، للإجابة عن هذا السؤال، تأملات مُطوّلة، فبطلا كتابه هما أخوان من فصيل «بنات آوى» المعروف عنها أنها تعيش على جيف الأسود والسِّباع، ولها عويل معروف في عالم الحيوان، إلا أن عويلهما الذي ترجمه ابن المقفع كان «فصيحًا» عامرًا بالحكمة والطرافة «تحدثا لأول مرة بالسنسكريتية، ونقل كلامهما بيدبا الحكيم. ثم تحدثت الفهلوية على يد برزويه، وبعدها تحدثت العربية على يد عبدالله بن المقفع»، كما جاء في الكتاب عن تنقّل الكتاب بين اللغات والثقافات وصولًا للغة العربية.

وهنا يمكن الإشارة لكتاب «كليلة ودمنة بين الأصول القديمة والمحاكاة الشرقية» للدكتور مجدي شمس الدين إبراهيم، الذي تحدث عن «فضل» الترجمة العربية التي تركها ابن المقفع. يقول شمس الدين: إن ترجمته العربية كان لها الفضل في انتشار وتداول «كليلة ودمنة»، ولولاها ما ذاع صيتها على النحو الذي انتشرت به في دول العالم «فقد ضاعت الأصول الهندية وفقدت الترجمة الفهلوية، واختفت النسخة السريانية، ولم يبقَ أمام الأدباء عدا ترجمة ابن المقفع، يأخذون عنها ويحاكونها وينسجون على منوالها وينظمونها شعرًا يجذبهم إليها أسلوب ابن المقفع الجذاب»، وهو الكتاب الصادر عن دار «الفكر العربي» عام 1986م.

حواس لغوية

يغزِل الورداني خيوط تأملاته ساعيًا للربط بين نشأة ابن المقفع وظروفها السياسية والاجتماعية الحساسة، وبين عمله الأبرز «كليلة ودمنة». فعبدالله بن المقفع، فارسي الأصل، وُلد نحو عام 106هـ/ 724م. عاش معظم حياته في عصر الدولة الأموية، وشهد اضطهاد العرب في هذا الوقت لمن هو «أعجمي» أو «هجين»، وكانوا يُسمون وقتها الموالي، وعاصر بزوغ الدولة العباسية التي اتخذت من الفرس وباقي المُكونات المضطهدة من الأموين حلفاء لها، قبل أن تفرز الدولة العباسية لاحقًا هي الأخرى اضطهادًا مُعاكسًا ضد المُكوّن العربي، وظهور ما يسمى بـ«الشعبوية».

يشير الكتاب إلى أن ابن المقفع قد تفتّحت حواسّه اللغوية في عصر مضطرب، يسود فيه الصراع الاجتماعي حول الهُوية واللغة كمُكوّن رئيسي لها، فلم يكن العربي كالأعجمي في الدولة الأموية، هذا الصراع أنزل البشر منازل مختلفة في ميزان السلطة. وبسبب فصاحة ابن المقفع ونبوغه اللغوي، فقد كان مُحتكًّا بتلك السلطة عبر عمله بالكتابة، وكانت تلك المهنة تعني في هذا العصر تدبيج الرسائل في ديوان أحد الحُكام أو الولاة. ويمر الكتاب على مراحل توغير صدر الخليفة أبي جعفر المنصور ضد ابن المقفع منذ كتابته لـ«رسالة الصحابة»، وصولًا لإصداره أمرًا بقتل ابن المقفع بسبب اتهامه بالزندقة، وكانت في ذلك العصر تهمة تقليدية رُمي بها كثير من الفلاسفة والشعراء العرب وغير العرب في العصر العباسي، وكل ما كان يثير ريبة السلطة أو المجتمع.

واللافت أنه لم تُشِر أية مصادر تاريخية إلى أن ترجمة المقفع لـ«كليلة ودمنة» كانت تكليفًا من أحد، بل كانت مشروعًا شخصيًّا دأب عبدالله بن المقفع على إنجازه. فلو كان تكليفًا، لكتب ذلك في مقدمة الكتاب، كما جرى العُرف في ذلك الوقت، ولكن يبدو أن «كليلة ودمنة» نطقتا في لحظة ارتباك وشعور بالخطر كالذي كان يستشري في السياق التاريخي الذي يعيشه ابن المقفع، في أوج صراع اجتماعي تزامن آنذاك مع اتساع الإمبراطورية الإسلامية. فاللغة العربية شكّلت في ذلك الوقت جبهة صراع أساسية بين العرب وغير العرب وخطًّا ملتهبًا من خطوط الاحتكاك الاجتماعي. «ابن المقفع الأعجمي الأصل، العربي اللسان، سمع العجماوات تنطق العربية، فجعل متحدثيها يصمتون ليسمعوا ما لديها لتقوله»، بذلك لم تعد اللغة العربية حدًّا فاصلًا بين ناطقيها وغير ناطقيها بل مجال تفاوض لا يستبعد حتى الحيوان.

تحطيم قداسة اللغة

يطرح هذا السياق تساؤلات عدة منها: هل كانت ترجمة ابن المقفع لـ«كليلة ودمنة»، من دون أن يُكلفه بها أحد، تعليقًا أدبيًّا على عصره؟ هل كانت ترجمتها في تلك اللحظة التاريخية مجرد مصادفة؟ هل كان كتاب «كليلة ودمنة» سبب رمي ابن المقفع بالزندقة بعد أن أنطق العجماوات؟

فطبيعة «كليلة ودمنة»، باختلاف نُسخها، ظهرت كوسيلة احتجاج وإصلاح في وقت هيمن فيه صوت واحد للسلطة، منذ كتبها «بيدبا الحكيم» في محاولة عبر قصص «حيواناتها» تقديم النصيحة للملك دبشليم؛ فقرأ له «كليلة ودمنة» كي ينقذ جماعته. وكأن كائنات «كليلة ودمنة» لم تنطق سوى في الأوقات المشحونة، حيث الأمل في الإصلاح يسكن الأصوات «الخرافية».

في زمن ابن المقفع، كان ظهور هذا الكتاب حدثًا فريدًا في القرن الثاني الهجري، بأن تجري الحكمة على لسان الحيوانات، فقد وصفه الجاحظ بأنه «كنز الحكمة». ويشير الكتاب إلى أن «كليلة ودمنة» لفتت الانتباه إلى مسألة «قداسة اللغة» وكسر احتكار الإنسان لها من خلال جعلها تجري على لسان البهائم والوحوش، وفتحت آفاقًا لفكرة أن اللغة ليست وسيطًا ولا إرثًا تتباهى به الأمم، وإنما حيّز اجتماعي قابل للتهجين بكلام من استبعدوا منها مثل كائنات «كليلة ودمنة». تمامًا كعبدالله المقفع الأعجمي الأصل، العربي اللسان، وكأن «كليلة ودمنة» تُمثل تجسيدًا أدبيًّا للتناقض البنيوي الذي وسم الدولة العباسية مع اتساع رقعتها. فربما كان ابن المقفع يريد به توجيه النقد أو الإصلاح، أو إعادة تعريف العلاقة بين الكاتب والواقع أو الأدب والسياسة، فصار كتابه شكلًا أدبيًّا لمُنعطف تاريخي.

يقول الورداني: «ابن المقفع هو كاتب العربية الأول، قطع المسافة ما بين الديوان والأدب في لحظة خطر، وحرّك الكتابة من موقعها كأداة تنظيمية محكمة في جهاز السلطة، إلى موقع جديد تعمل فيه على توسيع شقوق تلك السلطة». فكلام من لا لسان له هو حدث أدبي جلل في حد ذاته، وانتصار لبلاغة من يُعمِل الحيلة حين تعوزه القوة، ولو من وراء سِتار «الخُرافة».

«عصور دانيال في مدينة الخيوط» لأحمد عبداللطيف.. سريالية المدينة وندوب الذاكرة

«عصور دانيال في مدينة الخيوط» لأحمد عبداللطيف.. سريالية المدينة وندوب الذاكرة

تتسع الرواية الجديدة للكاتب والروائي المصري أحمد عبداللطيف لمستويات مُتعددة من الطموح والتجريب الفني، بداية من تحري بنية جمالية شائقة لنص مُركّب، وصولًا لخلق طبقات صوتية مُتعددة لحكاية بطله المأزوم، والتمسك بتلك الكتابة الحُلمية حتى في أحلك كوابيس المدينة، والبحث عن مدخل جديد لتأسيس علاقة بين النص واللغة كعنصر جمالي وتعبيري، وهو ما يسعى له منذ روايته «صانع المفاتيح»، 2010م، حتى عمله الأحدث «عصور دانيال في مدينة الخيوط» الصادرة أخيرًا عن دار «العين» للنشر بالقاهرة.

يبدو عنوان الرواية «عصور دانيال في مدينة الخيوط» كخريطة مُصغّرة لعالمها السردي الذي يبدو منفتحًا على الزمن، وبطل روائي يحمل اسمًا غير نمطي يشي بخلفية توراتية، ومدينة تستعير من الخيوط مجازاتها ومفاتيحها التي لا تخلو من أسطورية، وهو ما يجعلنا أمام انطباع مبكر أن عناصر الرواية من زمان وبطل ومكان تتقاسم البطولة السردية من دون مُنازعة.

تقدير الزمن

يبدو الزمن في الرواية معلقًا في مرج الطفولة والصبا والكابوس، فبطل الرواية «لا يعرف تقدير الزمن» وهي أكثر العبارات التي تُلازم البطل، ويستدل بها على نفسه على مدار السرد. فالبطل يعيش أربعة عصور، تتقلب بين شتاتها ذاتُه وذاكرتُه. وفي بنية الرواية يبدو كل عصر وكأنه مستقل بذاته، ولكنه الاستقلال الذي يظل منقوصًا ما لم يُربَط بغيره من العصور، ليس فقط على مستوى تدفق الحكاية السردية، وإنما في فهم التاريخ الشخصي للبطل وتاريخ مدينته، ويُراوِح التاريخ في الرواية ما بين واقعية جارحة ثم لا يلبث أن يؤول لسريالية عاصفة في عصر آخر، فيصبح فهم الحدث الروائي مرهونًا بالاستسلام للعبة العصور الزمنية التي صنعها الكاتب أحمد عبداللطيف منذ مطلع روايته التي يبدؤها بآخر عصورها وهو العصر الرابع.

يبدأ العصر الرابع بمشهد بانورامي كابوسي لدُمى تفتح أبواب شرفاتها فترى جثث رجال مذبوحين مُلقاة من حولها «وكأنهم ناموا في صحبة وفاجأهم الموت على حين غِرّة»، في مشهد يستعير سينوغرافيا المسرح كبناء جمالي لتشييد مشهد افتتاحي صادم بمعالم سريالية «كانت جثثًا مرصوصة بيد آدمية في شكل زهرة متفتحة».

وتبدو المدينة في عصرها الرابع، وكأنها تدفع ثمنًا فادحًا لعقاب ما وقع عليها، كما لو أن تلك الدمى كانوا بشرًا تحولوا إلى عرائس ماريونت في لعنة زمنية، حيث الدُّمى «ذات العيون الزجاجية» التي تسكن تلك المدينة يُعانون لعناتٍ بشريةً لا تُفرّق بين إنسان الألفية الثالثة وإنسان العالم الحجري، فهنا القتل، والدماء، والظلام، والأمطار، والرعب المحيط، يسود الشوارع والميادين والبنايات ذات المعالم المعاصرة، تسكنها دُمى بأدوار بشرية (دمية رجل/ دمية امرأة/ دمية طفل)، يشتركون جميعًا في «ذات دُمْيَوِيّة» غارقة في ظلام المدينة المُتسيّد «لا شيء يخيف الدُّمى أكثر من الظلام والبحر، والاثنان صارا على عتبة كل بيت».

بطلان ومدينتان

يبدو (البطل/ الراوي) في مكان ما مُحيطًا بالحدث السردي بصوت متورّط في الحدث المركزي أو «حادثة القتل الغامضة» التي تُطل كلغز كابوسي للمدينة بعد أن استيقظ سكانها (الدُّمَى) على جثث 40 رجلًا حول نافورة الميدان. ومع تقدم السرد يتكشف لنا أن الدُّمى تحتل الطبقة العلوية للمدينة، حيث للمدينة في الرواية طبقتان؛ مدينة علوية تسكنها عرائس ماريونت، وأخرى سفلية هي مركز تحريك خيوط تلك العرائس، مدينة تتحكم في مصير مدينة أخرى، وتجتمع لدى «دانيال» مقاليد المدينتين، بعدما تقوده مصادفةً للعمل في جهاز «الأرشيف» الذي يبدو وكأنه مركز قيادة المدينة السفلية، بما يملكه من سلطة ورعب تبدو وكأنها تُمسك بخيوط ومصاير سكان مدينة الدمى «فوق الأرض مدينة يسير سكانها إلى مصير محتوم كأنهم قطارات تسير على قضيبين دون التفات للوراء ولا قدرة على تغيير القبلة ظنًّا منهم أنهم اختاروا الطريق وأنه ممهد لهم. وتحت الأرض مدينة أخرى تشاهد المدينة العلوية وتضحك منها بسخرية».

أحمد عبداللطيف

وكما تستقر ملفات سكان المدينة في الأرشيف، يقرأ دانيال أرشيفه الشخصي الذي يبدو أقرب للغة السير الذاتية بكل مُكاشفاتها ومفارقاتها، ويصبح «أرشيف دانيال» أحد مفاتيح السرد الذي يحفر في مسارات (الماضي/ العصور) المُتعددة، فيُدخلنا الأرشيف لعالم طفولة دانيال الحافل بالغرابة والجُرح، حيث تبدو سنوات طفولته مهد انفتاحه المُبكر على الوحدة والفقد والثأر والغضب.

وكما للمدينة في الرواية طبقتان، فهناك نسختان للبطل، فهنا «دانيال» و«دانيال الآخر» حتى نصل لـ«دانيالات» متعددين، وهو الأمر الذي استلزم بنية فنية لا تتسع فقط للمساحة الدرامية والتكوين النفسي والذهني المُركب لبطل الرواية التراجيدي، بل لخلق مسارات ونسخ متعددة للحكاية نفسها، وهو ما جعل السرد الروائي لعبة صوتية مُتعددة للبطل/ الحكاية، فيصبح للصوت الواحد أصداء في عصور «دانيال» المتعاقبة، وللحقيقة الواحدة طبيعة مرآوية وأحيانًا متناقضة، فنغدو أمام صوت بطل مُنقسم يكتب تاريخه ويعيد قراءته ويهرب منه تارة بالانتقام وتارة بالنسيان وتارة بالإنكار، دانيال قاتل وآخر مقتول، دانيال بريء ودانيال مُنتقم. ويخلق عبداللطيف مسارات لغوية تربط بين الصوت الداخلي للبطل، وصوت دانيال متحدثًا عن دانيال الآخر؛ أحدهما طلق اللسان والآخر متلعثم، أحدهما مُنزوٍ والآخر يمتلك مفاتيح المدينة «استحلت شخصًا منفصلًا عن ذاته يطل عليها كغريب يراقب غريبًا، وبهذه الطريقة كنت دانيال الذي يحدّث دانيال ودانيال الذي يحب ويكره دانيال».

يعتمد السرد على بنية الشذرات المكثفة والفصول القصيرة، التي تبدو كمقاطع نثرية مكتوبة بلغة بصرية تستعير من تقنيات المونتاج السينمائي، حيث ينتهي المشهد ليعود في زمن آخر بمعطيات روائية جديدة. ويواصل الكاتب أحمد عبداللطيف بالإضافة إلى لعبة البنية الروائية، لعبته التجريبية مع اللغة، فهو يتحرر من علامات الترقيم في أغلب الرواية، ويستعين بها في حدود وبتوظيف مقصود لتلعب دور الدفقات الشعورية الحساسة، ولا سيما في سنوات الطفولة الأولى لدانيال، ويعد هذا التوظيف لعلامات الترقيم مواصلة لتجارب سابقة وصلت ذروتها في مجموعة «مملكة مارك وطيوره الخرافية»، ومن قبلها في رواية «إلياس»، حيث يمنح التحرر من علامات الترقيم تجربة لها وقع الصدى اللغوي لمشاعر أبطاله ما بين اضطراب، وتمرد، ولهاث هروبي متصل من أزماتهم العاطفية، وهي مشاعر ينتصر الكاتب لمنحها التدفق والتحرير حتى من قبضة علامات الترقيم.

فن النبوءة

يبدو بناء الرواية أقرب لبناء لعبة «البازل» كبنية سردية منفتحة على التشويق والغموض، أو كما يقول أمبرتو إيكو «الغابة لا تمنح مفاتيحها بسهولة للزائر الكسول»، فلُغز جريمة القتل الذي تفتتح به الرواية أولى عصورها، لا يمكن فهم أبعاده من دون ربطه بسيرة البطل «دانيال» منذ ولادته العسرة، وحياته المرهونة بموت من سبقه من أشقاء، وحادث مبكر يعصف ببراءة طفولته، وتلك النبوءة وراء اختيار اسمه بكل ما يحمله من غرابة وتاريخ توراتي مجهول في سياقه المعاصر، لكنه يظل يحمل دلالاته داخل النص.

فاختيار اسم «دانيال» لم يكن اختيار والديه، بل كان نبوءة من عَرّافة نصحتهما بتسميته بهذا الاسم حتى يعيش بعد موت متكرر لمن سبقه من أشقاء، فيعيش باسم اختارته له «عرافة»، في تقاطع بين المصير والنبوءة، وهما الثيمتان اللتان يصعب تفادي ارتباطهما الوثيق بمفتاح شخصية دانيال نفسه.

فدانيال يستعين بالحلم وسيلة لفهم عالمه الذي أصابه التعقيد مبكرًا «كنت ولا زلت أرى نفسي في الواقع بنفس طريقة رؤيتي لذاتي في الحلم»، فهو ينتبه لها ويحتاط لها، ويُفسرها ويُصدّق ما تحمله من علامات، ويثير هذا الخيط تساؤلات مبكرة حول ما إذا كان ثمة علاقة بين بطل الرواية «دانيال» والنبي «دانيال»، فقد اختار الكاتب تصدير روايته بمقطع من سِفره: «فدخل دانيال وطلب من الملك أن يعطيه وقتًا فيبين للملك التعبير. حينئذ لدانيال كُشف السر في رؤيا الليل». وينفي النص نفسه علاقة تسمية البطل تيمُّنًا بدانيال النبي: «لا العرافة كانت تعرف. ولا أم دانيال وأبوه كانا يعرفان قصة دانيال في العهد القديم. ومن غرابة الاسم وسؤال الناس عندما بدأ دانيال يبحث عن القصة. وبدافع الفضول أولًا فتح الكتاب المقدس، وقرأ سفر دانيال التوراتي وأحد حكماء بابل». فنجد البطل الروائي يقرأ مقاطع من «سفر دانيال» بفضول لا يخلو من التقاء مجازي تصنعه الرواية دون تأسيس علاقة مباشرة بين البطل والنبي التوراتي المعروف عنه علاقته الخاصة بتأويل الأحلام.

وتعد الأحلام وتأويلاتها وظلالها الميتافيزيقية من مفاتيح قراءة أعمال الكاتب أحمد عبداللطيف، وواحدة من أبرز لغاته السردية. ففي «عصور دانيال» يتقاطع مصير البطل مع أحلامه، وتبدو أحلامه وأحلام صديقه «إبراهيم» في الرواية مُحركة لتروس السرد وحركة المدينة، علاوة على دورها الجمالي الذي أشار له أفلاطون بوصفها «واحدة من أجمل الفنون»، وهو ما ظهر في محاورة «فيداروس» حين كتب أفلاطون على لسان سقراط: «إن الناس الذين اخترعوا الأسماء في العصور القديمة، لم يكونوا يعتبرون الهوس شيئًا مخجلًا أو معيبًا وإلا فلماذا اشتقوا منها اسمًا لأجمل الفنون وهو فن التنبؤ»، حيث تبدو النبوءة وكأنها تنسج من خيوط الحلم والمستقبل معًا نصًّا مفتوحًا على السحرية والغرابة والاحتمالات، وهو ما يمكن سماع أصدائه في هذا النص الروائي.

«دِلشاد» لبشرى خلفان.. رواية نهرية تحكي السيرة المنسية لمسقط

«دِلشاد» لبشرى خلفان.. رواية نهرية تحكي السيرة المنسية لمسقط

 في رواية «دِلشاد» ستألف رؤية بطلها مُتعثرًا في ضحكاته وهو يهيم في الضواحي والحارات، وكلما علت قرقرة ضحكه، تعلم أنه يتضور جوعًا وفقرًا، وعجزًا، وأن خيام «مسقط» التي عدِمت حبّات التمر لم تعد تستغرب تلك الضحكات فأهلها «إما في جوع أقل، وإما في جوع أكثر، أما الشبع فلم يخطر يومًا على بالهم ولم يعرفوه»، فإذا كان الجوع هنا هو الصوت الطاغي للرواية، فالجنون هو صداه المحمول في غبار تلك المدينة الصغيرة المُندسة بين البحر والجبال.

لطالما ترسخت في الأعماق تلك التوأمة بين الجوع والبكاء، إلا أن الكاتبة العمانية بشرى خلفان نسجت في روايتها «دلشاد- سيرة الجوع والشبع»، عن (منشورات تكوين-الكويت)، علاقة سردية مريرة بين الجوع والضحك، فكلما زادت قرصات الأول على البطون، ارتفعت أصداء الضحك في وجه أشباح الجوع المُترعة في «مسقط» وحاراتها الضيقة، إنها ليست فقط سيرة عن أنياب الجوع الذي ينهش البطون، بل الذي يلتهم القلوب أيضًا: «لم أكن أتكلم عن الجوع، بل كنت أعتبر قرصة بطني شيئًا طبيعيًّا مثل الظلام، ودبيب القمل، ورائحة المزابل» يقول «دِلشاد».

منحت الكاتبة بطلها «دِلشاد» اسم روايتها، في اختيار ينحاز للتجريد، بما يمنحه من فضاء أرحب للمُعطيات السردية الشخصية والتاريخية لـ«دلشاد»، الذي تبدأ الرواية بصوته، ضمير المتكلم، وهو يُفتش في منابت طفولته البائسة، ثم ما تلبث الرواية أن تتفرع لأصوات روائية عدة، تروي معًا عبر أصوات مُتداخلة ومُتصادية قبسًا من التاريخ المجهول لعمان، الحافل بالجوع واليُتم، والحرب والتشرد.

تأخذنا رواية «دِلشاد» إلى سياق زمني سحيق يعود لأكثر من مئة عام من تاريخ مسقط، وهو تاريخ غير مطروق روائيًّا، وهو ما صعّب من مهمة الكاتبة في رسم هذا العالم المجهول بملامحه «المسقطية» القديمة، وصولًا لطبقات تاريخها المنسي، وهو ما ظهر في اعتنائها برسم تفاصيله البصرية والاجتماعية الموزعة بين الحارات، والخيام، وروائح هياكل الأسماك، وألعاب الأطفال، وكرب النخيل، وبؤس الطرقات، وضغائن الحرب العالمية الثانية التي زادت من بؤس أهلها الجوعى، وصولًا للبحر الذي منح الرواية آفاقًا سردية شاسعة، سواء في وصف رحلات البحر، أو في الندوب الشعورية التي تنتاب أبطالها وهم محمولون فوق تموجات سطحه المهيب.

مجاز القلب الفرِح

بشرى خلفان

يجمع «دلشاد» في قبضته أغلب مفاتيح الرواية وثيماتها، بداية من المجاز المرير لاسمه، الذي يعني بالفارسية «القلب الفرِح»، وهو الرجل الذي لم يعرف في حياته سوى البؤس، يغرق دائمًا في الضحك كرد فعل وحيد على كل سقوط جديد له في هاوية الفقر أو الفقد، ضحك أقسى من البكاء، فضحكات «دلشاد» انطلقت مع سنوات طفولته المبكرة، تحديدًا لحظة أن وجد أمه ميتة في خيمتهما، فلم يعرف ماذا يفعل، فتمرمغ في الضحك في مشهد بكائي حار، اصطحب معه الضحك إلى منافي غربته وتيهه بين الموانئ هربًا من قسوة مسقط، كحيلة صاخبة جعلتها بشرى خلفان أقرب للمُعادل الرمزي الذي يُواكب أحلك لحظات مسقط الجائعة، التي صار فيها عدد قليل من النساء أمهات لعشرات الأطفال الجوعى، بعد أن صرن أمهات «الحليب» للأطفال الذين حصد الموت والعوز أمهاتهم الحقيقيات، تمامًا مثل «دِلشاد»، الذي أرضعته سيدة أخرى غير أمه، يقول: «كثيرة أمهاتنا، وإخوانها وأخواتها في كل حارات مسقط، لكن جوع مسقط شديد، وحليب الأمهات يُنسى عند تقاسم اللُّقم».

يفتتح «دِلشاد» السرد بعبارة يصعب تفادي شحنتها القاسية وهو يستدعي بواكير حكايته، يقول: «حلفت أمي أني خرجت من رحمها وأنا أضحك، وأنها أسمتني فرحان كي أعاكس شؤم ولادتي لأب ملعون»، فوالده تُوفي قبل ولادته بأشهر بعد أن اكتشف أهل مسقط جثته في البئر الذي كان يسقي منها الماء لهم، ليتربى مع أمه التي شاع بين نساء حارات مسقط أنها نصف مجنونة، كانت تخرج كل يوم من خيمتها ليتبعها «دلشاد» الطفل الذي تركته كهوام الأرض، فنسيت أن ترضعه، فرقّت لحاله واحدة من سيدات «البلوش»، واسمها «ما حليمة»، وبدأت في إرضاعه بعد أن كانت تنساه أمه أمام خيمتها.

وبعد موت أمه المفاجئ، لم يجد دلشاد سوى اللوذ بـ«ما حليمة» للعيش وسط أبنائها في خيمتها الصغيرة، وبسبب ضيق الحال وشُحّ الطعام الذي لم يكن يكفي سد أفواه أبنائها الثلاثة ووالدتها العمياء، لم تستطع استضافة «دِلشاد» لمشاركتهم هذا الشُّح، ولكنها تقبله بعدما يحصد «الكوليرا» اثنين من أبنائها، فتأخذ «دِلشاد» ليكون سندًا لابنها الوحيد الناجي من هذا الوباء اللعين، ولكنها تظل تُذكر دِلشاد أنه «ابن عرب»، وأنهم «بلوش»، في نبرة مسحوقة تحت ضغوط الهُويات والأعراق المتعددة التي لا تُغادر عالم الرواية.

سنوات الهُزال

تتسع دنيا «دلشاد» بالحب، لكنه حب يُجدد بؤسه الطويل، فتموت زوجته تاركة له طفلته «مريم» التي تتسلم تباعًا دفة السرد، بعد أن يضطر «دلشاد» في لحظة مصيرية مدفوعًا بفقره الشديد أن ينقذها من أنياب الجوع الحادة، فيُسلمها لبيت أحد العائلات الميسورة «بيت لوماه» لتعمل لديهم، فيكون لها هذا البيت سترًا، وهناك تتذوق مريم لأول مرة في حياتها الأرز ومرق السمك بعد سنوات الهزال، وهناك أيضًا تعرف لأول مرة الحب، ومعه يأتي الرغد، فيتبدل حالها من خادمة إلى سيدة «بيت لوماه» بعد زواجها من صاحب البيت «عبداللطيف لوماه» التاجر والمثقف النبيل، الذي يُبرز السرد عبر شخصيته، ذلك البُعد المُقاوم لبؤس مدينة مسقط الذي ازداد مع تورطها في الحرب العالمية الشرسة، ليتأثر الساحل العماني بقنابل اليابانيين، فيفقد عبداللطيف لوماه حياته بسببها في نهاية مأساوية، بعد أن سخّر متجره ومؤنه الغذائية لعون الفقراء خشية موتهم جوعًا وقت الحرب، ويترك عندها «مريم» من كفوف الرغد إلى قبضة الدَّين والعوَز.

يتداخل «التيه» الذي يُغرق شخصيات الرواية في دهاليزه، بداية من «دِلشاد» بعد تسليمه مريم لبيت لوماه، فيلجأ للبحر الذي يهرب به من مسقط كلها إلى مومباي ليبدأ هناك تيهًا جديدًا، وكذلك تهرب «مريم» وابنتها لتبدآ حياة جديدة، فتتقاذفهما أمواج الحياة في «مطرح»، ولم تستطع مريم خلال كل تلك السنوات أن تُبطل ما ورثته عن والدها «دِلشاد»، وهو الضحك العالي الذي يخرج في أحلك اللحظات وأقساها، يتذكر «دِلشاد» هذا الميراث الثقيل: «صرت أخاف عليها من الضحك، من ضحكاتها الرنانة البعيدة، ضحكتها التي هي مثل ضحكتي تنطلق دون سبب إلا من الجوع وأدخنته ربما».

أغنيات وقنابل

يمُر السرد على ألسنة رواة مُتعددين، وتتماهى لغة السرد مع هذا التعدد، فالأبطال يتقاسمون الحكاية ذاتها من زواياهم الخاصة، وأحيانًا يأخذون الحكاية إلى مدى أبعد، فالسرد يدور بين حارات وخيام وأسواق «لوغان» و«مسقط» و«مطرح» و«ولجات»، وصولًا عبر البحر إلى «مومباي»، وتختلف أنغامه على ألسنة «العرب» و«البلوش».

وتُطعّم بشرى خلفان سردها بمقاطع حوارية عامية بلوشية، وكذلك «سواحلية»؛ لتخلق بها تنوّعًا سمعيًّا يستعير كثيرًا من الأغاني والأهازيج القديمة الدارجة على ألسنة الجدّات، في نسيج سردي يُواصل الإبحار في التراث الشفاهي والتقليدي العماني، الذي سبق وسلّطت الكاتبة بشرى خلفان عليه الضوء في روايتها الأولى «الباغ».

ففي الرواية أنفاس حكائية تستدعي الأساطير الشعبية على ألسنة نساء الأزقة، يهربن بها من واقع الجوع الثقيل إلى عالم أخف من الخيال، فهذه أم «دلشاد» كانت تُخبره أنها تطير كل ليلة فوق وديان وجبال مسقط وسيوحها وبحرها: «كانت امرأة مسكينة، لا يصدق هذرها أحد، ولا أتذكر أنها أعدّت لي يومًا لقمة من بقايا الأسماك كما تفعل باقي الأمهات في الحارة».

وكما الحكايات تتطاير، تتوارث السيدات الأغنيات عن جداتهن، في نغمة وصال لا ينقطع، تغنين تلك الأغنيات وهن يمشطن شعور صغيراتهن بالسدر، وكذا يفعل البحارة المساكين في عرض البحر وظُلمته، تنثال صدى الأغنيات في شريط صوتي واحد مع صوت القنابل، وصيحات الراديو المُنذرة لأهل مسقط باقتراب «الحرب التي قتلت الملايين في أوربا»، فقد ترك الفقر والركود في وجدان مسقط تبلدًا ثقيلًا.

فكما تشير مجريات أحداث الرواية، كانوا دومًا غير مرئيين لأصحاب المطامع، غائبين في رسائل السلاطين، وفي مجالس الوجهاء حيث تفوح روائح العود ويرفرف علمي السلطنة الأحمر مُعانقًا علم الإمبراطورية البريطانية العظمى، لا يدرون شيئًا عن تورط السلطنة في الديون التي لا تُسد إلا بديون، ولا بسيطرة بريطانيا على الموانئ والتجارة، فالسياسة تُلقي بأعبائها الثقيلة وآثامها على يومياتهم الزهيدة داخل خيام الخوص المعزولة عن كل أمل، وسط حارات فقيرة خاملة تفوح منها رائحة القمامة، وتغطي أسراب الذباب على كل شيء.

تُختم الرواية في لحظة بارقة، كان ينتظر فيها القارئ معرفة مصير قصة حب جديدة ما زالت تحبو، بطلتها فريدة حفيدة «دِلشاد»، إلا أن الكاتبة بشرى خلفان آثرت أن تضعنا أمام احتمالات مفتوحة، أو في انتظار جزء ثانٍ للرواية، كما دوّنت بعد انتهاء سطور الرواية: «تم كتاب «الجوع» يليه كتاب «الشبع» بإذن الله»، فمِعمار الرواية بإشكاليتها المشتركة ومداها الزمني الطويل أقرب ما يكون للرواية «النهرية» التي يُسلّم فيها الرواة بعضهم، جيلًا بعد جيل، ناصية الحكاية: بتنويعاتها، ومفاتيحها، ومراثيها، حتى سُخريتها.

سرد مُنفتح على أثر «ما لا يمكن إصلاحه» لهيثم الورداني

سرد مُنفتح على أثر «ما لا يمكن إصلاحه» لهيثم الورداني

يقبع أبطال الكاتب والقاص المصري هيثم الورداني تحت سطح الحياة، مُحتشدين داخل هامش يخصهم، يُعينهم هذا الابتعاد النسبي على التداوي وهم يتأملون ندوب الأشياء، وثمن الاختيارات، يستنطقهم الورداني في محاولة أخيرة لتحرير أرواحهم من العطب، فيصعد بهم مسرح مجموعته القصصية الأخيرة «ما لا يمكن إصلاحه» التي تطرح كثيرًا من أسئلة الذات والعزلة والاكتمال، مُنفتحًا على خيارات أدبية واسعة للسرد يغلب عليها لونا الفانتازيا والديستوبيا.

صدرت المجموعة القصصية عن دار «الكرمة» للنشر والتوزيع في القاهرة، وتضُم ثماني قصص، تُرَاوِح أطوالها، وأمكنة سردها، إلا أن صاحبها الكاتب هيثم الورداني استطاع أن يحتفظ بخصوصية حالاتها الشعورية التي تسري في فضاء المجموعة، حتى تكاد تستمع لصدى تساؤلات أحد أبطالها في أحراش القاهرة، وهو يتردد على لسان بطل قصة أخرى في تيه برلين.

فالمكان في المجموعة القصصية، التي تقع في 243 صفحة، يُعيد تشكيل أبطاله، ولكنه تحت تأثير قسوته وصلفه يكون مُحرضًا لهم كثيرًا على الاختفاء، يستوي في ذلك إذا كان المكان مدينة عالم ثالث أو مدينة عالم أول، فالإنسان الذي يطرحه هيثم الورداني أينما حلّ شخص مُكدس بتساؤلات الذات، والهوية، والتاريخ، والمجتمع، يقدمه كفرد بتفاصيل يومية عادية، قبل أن تتكشف تدريجيًّا همومه الكبرى التي تقع تحت طائلة ما يُطلق عليها الورداني «ما لا يمكن إصلاحه».

هيثم الورداني

معجم الندوب

يطرح الورداني في واحدة من قصصه «أمل أعمى»فلسفة تحوّلات المعاني المطمورة تحت سطح الكلمات،  يصنع في القصة محورين أحدهما يخُص البطلة التي تسعى لنشر مشروع كتاب بعنوان «معجم الندوب»، والمحور الثاني يخص علاقتها بابنتها «نور» التي تبدأ القصة بسؤالها لوالدتها عن كيفية غرس بذور الريحان داخل الأصيص، ويترك الورداني انطباعات الدهشة الأولى تسري عبر أسئلة تلك الطفلة التي تتأمل أثر الظُلمة المُعتمة التي تحيط البذور، وتظل على مدار القصة في انتظار خروجها للنور.

يظل الريحان المنشود موصولًا بحديث والدتها الدائم عن العُمق الذي يجب أن يحيط بالأشياء حتى تنمو، في مساحة حوار مجازية بغلاف طفولي صنعها الورداني على هامش مشروع البطلة الرئيسي لنشر مشروعها اللغوي، الذي أفرد له هامشًا من السرد يشغل في حد ذاته مسارًا موازيًا لحياة البطلة العالقة بين هُوية مصرية وأخرى ألمانية، بين زيجة مُنتهية وابنة حالمة، وجميعها صدوع تتلمس عبر سطور معجمها سبيلًا لالتئامها «لم تعد كلمة (شجرة) تشير إلى الشجرة الضاربة بجذورها في الأرض، وإنما تحمل الكلمة داخلها شجرة أخرى لم تعد واقفة مكانها، شجرة اقتلعت من أرضها. داخل كل مفتاح يكمن مفتاح آخر معطل، مفتاح مدفون في الأرض ينتظر أصحابه لكي يعودوا إلى بيت لم يعد موجودًا. كلمة (البيت) لم تعد تعني مكان السكن فقط، وإنما تعني أيضًا بيتًا مفقودًا. المعجم كما نفهمه ليس متحفًا للغة، بل يصلح لكي يكون شكلًا من أشكال كتابة التاريخ». هكذا يقول معجم الندوب.

غرائبية المعارك

تتورط بطلة «أمل أعمى» في بواطن السطح وجذوره، وانتظار هباته، فطفلتها تنتظر طرح نبتة الريحان، فيما تنتظر هي نشر مُعجمها ولغتها الخاصة عن الندوب، وعلى ذات حافة الانتظار يحتشد سائر أبطال قصص المجموعة. فبطل قصة «أديم الأرض» تعصف به مفارقات ديستوبية فيصرخ «لم أعد أفهم ماذا يحدث في حياتي؟» ولعل هذا التساؤل هو أحد مقاصد السرد في المجموعة القصصية، بعد أن يضعه هيثم الورداني في سياق غرائبي محض، يجعله في مهمة يومية استنزافية، بمصاحبة زملاء له يستقبلون كل صباح شاحنات من الجثث، وتكون مهمتهم الأساسية دفنها وانتظار المزيد منها، يؤدي البطل الدور المناط به وكأنه في دورية عمل عادية، لا يرتعب من جموع الجثث المبصرة، ولا كواسر الطيور التي تُحلق فوق رأسه في انتظار فرصة لنبش جثثه.

يستغرق في تأملات حول ماهية حياته، يتحسس ذاكرته، يستشعر الجنون «لاحظت أنني كلما حفرت حفرة لا أجد أي أثر للجثث التي دفناها في اليوم السابق»، فتشتبك خيوط الواقع والخيالات، خاصة مع عدم تعرفه على زوجته وابنته. يستمر في صراع مع هوامشه الغرائبية وهو ينبش الأرض في ترقب لمعركة جديدة مع الجثث، ومعها ينبش في تاريخه الشخصي وعن مساحات الأمان التي تقبع بها عائلته في انتظار عودته من كوابيسه، وكأن مشاعره أصيبت بعطب في خضم معاركه مع الحياة، بصورة لم يعد من الممكن استعادة براءتها من جديد، أو بتعبير هيثم الورداني «ما لا يمكن إصلاحه».

يتساءل البطل عن حقيقة هُويته ودوره في الحياة «كنت متأكدًا أن المعركة لا تزال دائرة، وأنني الآن في موقعي هذا موجود بين رحاها لكني لا أراها. هل أصبحت الآن مثل باقي الناس الذين نراهم غادين أو عائدين ونحن نعمل بينما هو لا يروننا؟».

بذكر الاختفاء والحضور، تتسلل ذات الثيمة في قصة «الخطوة المعلقة» حيث البطل الذي يبدو أنه تناسى مرور الزمن، فنسته الحياة، ومعها فقد ظله، يعيش على هامش المدينة، يُتابع رواد المقهى بنظرة مشحونة بالغربة، وفي لمسة سردية غرائبية جديدة، يمُر البطل من أمام مرآة المقهى فتتراءى له صورته وهي تذوي، فيعيش مشاعر رعب حول الاختفاء، مصحوبة بمشاعر مصيرية بأنه يفقد ذاته تدريجيًّا، لا ينتمي حقًّا لشيء «كشخص قادم من مكان آخر، أو ربما كشخص موجود في المكان الخطأ».

الماضي كملاذ

وكما يجعل الكاتب هيثم الورداني من الغرائبية ملاذًا لأبطاله التائهين في فوضى العالم، والوقت، استعان أيضًا بالماضي ليكون هو الآخر ملاذًا لشخوصه المنسيين في زحام الحاضر، فجعل الماضي في قصته «غداء» بمثابة آلة الزمن السحرية التي ينتظر البطل العجوز أن يرتادها ليعود إلى سبعينيات من القرن الماضي، حيث أوج سنوات شبابه.

يُمضي النهار في عتمة غرفته، وهو يتخيل تلك الأيام، ويُجري ترتيباته للعودة إلى شارعه القديم، بعد أن يطمئن على زواج ابنته، تظل ساعات النهار التي يُجري فيها تدبيراته للعودة للماضي هي أسعد ساعات اليوم «بدأ كالعادة يُراجع خطته التي دأب على التفكير فيها كل صباح. لم يكن تفكيره فيها كل يوم يزيدها تماسكًا أو إحكامًا، وإنما يزيدها تشويقًا، فالمباهج التي يمكن أن تسفر عنها والتي يكتشفها شيئًا فشيئًا كل صباح لا تنتهي. خطته ببساطة أن يغادر البيت ويعود إلى السبعينيات».

تتطور خطط كل صباح ككرة ثلج ضخمة، من المستحيل إنكار وجودها، لتبحث الزوجة العجوز عن أحلام تخصها بمعزل عن جليد زوجها ومباهجه الأسطورية، فيقدم الورداني لها هي الأخرى عصاه السحرية، يتسلل إليها من نافذة غرفتها صوت كروان مصحوب بهسيس من نداءات، تصطخب مع الوقت لتفرض وجودها، نداءات تدعوها للمغادرة لزيارة قصرها البعيد ولو لليلة واحدة.

في استشرافهم للأحلام فقدوا ذواتهم، يقول أحد شخوص السرد: «لقد اكتشفت أنني لم أفعل ما أريده في حياتي قط»، وهو اعتراف يتردد صداه بين جنبات المجموعة القصصية.

فالأشياء المأمولة تذوي، ما بين حب ورغبة وأمل وهُوية وشعور بالتحقق، مُستبدلة ذوات أصحابها المنتظرين بذوات باهتة لم يعد يمكن إصلاحها، ليصطفوا في طابور طويل، أملًا في أبواب خلفية للفرار إلى واقع أكثر ترحيبًا، كهسيس النداءات التي دعت بطلة «غداء» العجوز لمغادرة عالمها الآفل، أو حتى الهروب غرقًا تحت سطح الحياة بمصاحبة المذياع، الذي طلّ في المجموعة القصصية كصوت مقاومة أخير، ومركزًا لمفارقات عالم بطل «الخطوة المعلقة» الذي يفقد تدريجيًّا صورته في المرآة، وهو «يستمع بين الحين والآخر إلى الراديو».