أحبُّ اسمكِ

أحبُّ اسمكِ

إلى ريتا طبعًا

أبواب

قال أبي:

ابق جالسًا ولا تتحرك سأعود بعد قليل،

كانت سيارة حسينو واقفة أمام صيدلية الاستقامة وجان كارات

مشغول بتخطيط لوحة إعلانية كبيرة، ورائحة الكباب تملأ المكان، على الأرجح رائحة كباب مطعم دمشق القريب.

بقيت في مكاني، عاد أبي بسرعة ركضت لأساعده كان يسير

بصعوبة يحمل في يديه أشياء.. كثيرة كيس شاي سيلاني

وكيس سكر وعلب سردين، علبة سمنة تركية ماركة أڤت وكيس من التبغ الكردي المهرب والممنوع.

لفافته تتحرك بين شفتيه دون أن تسقط

وماذا سنفعل الآن يا أبي؟

سننتظر حتى يأتي حسينو وجميع الركاب وبعدها نعود إلى كرصور.

متعتي الوحيدة أن أتمسك بأبي وهو يجلس القرفصاء في السيارة وأتأمل بيوت القامشلي التي لا تشبه بيوتنا الطينية الجميلة وأبوابها مغلقة

بينما تظل أبواب بيوتنا مفتوحة دائمًا.

أحلام

لم نكره الصيف والغبار يومًا ولا الذباب ولا الشمس الحارقة ولا الأفاعي والعقارب.

لم نكره المياه الملوثة ولا المدن الجميلة والبعيدة ولا البيوت

النظيفة والأسرّة الفارهة والفاخرة.

في أواخر الخريف ندوّن أحلامنا بالأصابع على التراب الناعم الذي تتركه سيارات المزارعين الأغنياء خلفها.. طحين، برغل، دفاتر مدرسية، زيت، معكرونة، رز، شاي، حبوب للصداع، مالوكسان للمعدة، تحاميل تاميرين للأطفال، والكثير من التبغ الحموي وورق الشام.

كانت أحلامنا بسيطة أن نسمع دوي محركات حصادات الجوندير الخضراء بين حقول القمح في كل صيف ونراقب القطا وهي تحلق عاليًا في السماء.

كتابة

أنا لا أكتب

بل أدوّن أحلام حقول القمح

ورغبات أشجار اللوز

ونظرات الأرانب البرية

في براري كرصور.

انا لا أكتب

بل أدوّن صرخة الباب

حين حملت حقيبتي

وخرجت.

ريتا

أحب هذا الاسم

ريتا

وأبحث عنه

في قصائد محمود درويش القديمة

أحب هذا الاسم

الجميل والواضح

مثل وشم بدوي

أحبُّ اسمكِ

أحبُّ أن أنادي عليك.

دمعة

سنتذكرها

كلما نظرنا نحو الجبال البعيدة

نحو الأشجار التي تبكي

دون أن تمسح الريح

دموعها.

شاعر في حلب

هذه الصورة الجديدة

هي الصورة القديمة

تغيّرت ملامحه

ولم تتغير أناقته

وسيجارته

وفنجان قهوته

والمشهد الجميل أمامه

عبر زجاج المقهى

ساحة سعد الله الجابري

بيت قديم في الجميلية

شجرة سرو في الحديقة العامة

وكتاب لأمجد ناصر على الطاولة

لم تتغير الصورة كثيرًا

فقط قد تسمع صوت انفجار بعيد

ربما في سريان القديمة

أو في الأشرفية

وأنت تتأمل الصورة

مرة أخرى.

قمح

رائحة القمح في أكياس الخيش التي كنت أحملها على ظهري تحت شمس القامشلي الحارقة، كانت تختلط برائحة المرأة البعيدة وظلال حصادة الجوندير. أنت لا تعرف القمح إذا لم تكن قد حملته على ظهرك مثل طفلك.

حين كنّا بشرًا

قبل أن تصل الكهرباء

قبل أن نعرف الكوليسترول والسكري

قبل أن نشتري المراوح الكهربائية وتلفزيونات سيرونيكس وبرادات بردى

قبل منتجات ماجي وكنور

حين كنا نأكل حين نجوع

ونركض حين نفرح

ونغني في البراري

ونفرح لأسباب تافهة جدًّا

قبل ظهور نحاس ستور

حين كنا نركب باصات الهوب هوب

ونأخذ معنا أكلنا وشاينا وتبغنا في طريقنا الطويلة إلى حلب أو الشام

والأطفال كانوا لا يكبرون بسرعة مثل اليوم

ويموتون بسرعة أيضًا

قبل كل ذلك

كنا بشرًا

نبكي حين نودع ضيفًا عزيزًا

ونحمل حقيبته

ولم يكن ينظر إلينا

كي لا نرى دموع الرجال.

حب

نظرتُ خلفكِ طويلًا

مثل سوري عبر الحدود

والتفت نحو بيته.

شال

شالكِ

الذي وجدته في حقيبتي

شالكِ

الذي يواسي وحدة ثيابي.

شعر

كلما لمست ريتا كلمةً

صارت قصيدة.

فمكِ الذي لا ينام

لأن اسمي ظل واقفًا

لا يصل

ولا يعود

حين مضيت.

لا بد من طريقة

للنسيان

دون أن نجرح

الذكرى.

دموع الباز

دموع الباز

الباز

إنه الطير الحر.

أعرفه من خبط الأجنحة؛ ومن استقامتها، حين يفردها ليثير لعاب الصيادين الكرد وفخاخهم، ينظرون إليه بحسرة بينما يحلق منخفضًا فوق البيوت والأشجار والآمال القديمة والأحلام العالية.

إنه الطير الحر.

طيري الذي ينتظرني ويحرس الشمس في طريقها إلى جبال كردستان.

حجل

في سوق الطيور في المنامة، وجدت طائر الحجل كان وحيدًا في قفص وقربه البائع الهندي.

وقبل أن التفت نحو فريد رمضان؛ لأخبره عن العلاقة بين هذا الطائر والكرد، رأيت الطائر ينظر نحوي وكأنه يعرفني.

اشتريته وتركته يطير، حلق عاليًا نحو جبال كردستان.

رسائل

كانت العربات التي تجرها الخيول وتنقل البنات نحو هضاب گرديوان وخربة غزال حيث حقول القطن تمر قرب بيتنا.

ضحكات البنات تمتزج بأصوات القطا في سماء كرصور وهي تطير نحو الجبال البعيدة.

في مرات كثيرة، كنت أَجِد رسالة حب كتبت بخط جميل مع قلب يخترقه سهم قرب باب البيت بين النباتات التي زرعتها أمي.

رسالة طارت من بين أصابع مرتجفة لعاشقة. ربما كانت في العربة التي تجرها خيول ومرت قبل قليل قرب بيتنا.

الفخاخ

في صناعته لفخاخه، يحرص أبي على شراء خيوط قطنية صافية، ويقوم بدهنها بالشمع والعسل، فتصبح قوية وناعمة، ويصنع شباكًا صغيرة من خيوط النايلون العريضة؛ كي لا تجرح مخالب الطير الحر.

في المساء، يشعل لفافته، ويحكي لنا حكايات عن طيره الحر الأبيض، عن الأحلام التي ظلت بعيدة وعالية مثل الطير الحر الذي لن يأتي أبدًا.

أحيانًا كنت أجد ريشًا في سرير أبي. أحيانًا كنت أسمع خبط أجنحة قوية في غرفة أبي. هل زاره الطير الحر في الليل؟ هل حاول أبي الطيران؟

ربما.

كتب

حين سافرت إلى هولندا، تركت ورائي مكتبة صغيرة: مجموعات شعرية وترجمات من الشعر العالمي، استولى عليها جارنا بائع اللوز، كان يقطع صفحة من الكتاب ويضع اللوز الأخضر فوقها، ويرش عليها الملح، ويقدمها للعشاق الصغار في قدوربك.

شعر ولوز أخضر وآهات العشاق.

تركت كل ذلك خلفي ومضيت.

نشمية علي

كنت هزيلًا ومشاكسًا. وكانت أمي تضربني بقسوة، وكنت أهرب. ولأنها كانت تخجل من الركض خلفي، كانت تقذفني بأي شيء يقع بين يديها: كأس، طنجرة، إبريق الشاي الفارغ.

ثمة بقعة داكنة مثل ندبة في جبهتي من أثر ضربة قديمة ربما تركت لي ذكرى؛ كي أتذكرها، برقتها وحنانها وقسوتها، كلما وقفت أمام المرآة.

الغيوم

الغيوم تترك أولادها بين حقولنا في كرصور، وتمضي نحو الشمال؛ لأنها تعرف جيدًا أننا نحب الضيوف ونترك خناجرنا تحت وسائدهم.

خيول

كانوا يتركون خيولهم في أطراف المدينة قرب الأشجار وحقول القمح في نيسان، ويتجولون حفاة في المدينة. يحملون على ظهورهم أكياس الطحين والسكر والتبغ وثياب العيد لأطفالهم الذين يكرهون المدارس ويحبون الذئاب.

كانوا يتأملون البيوت الإسمنتية العالية والشرفات النظيفة وحبال الغسيل ويركضون حين يقطعون الشارع، ثم ينفخون دخان سجائرهم بفخر في الهواء قرب مطعم الفرسان.

وقبل المغرب بقليل يعودون، خيولهم كانت تصهل وكأنها تنادي عليهم.

البازيار

هدير حصادة جون دير خضراء في هضاب على فرو، شاحنات تنقل أكياس القمح والعتالون يشهرون خطافاتهم وينهالون عليها.

رائحة القمح والغبار وعرق العتالين الذين يركضون خلف الأكياس التي تتدحرج من الحصادة، وأركض خلف صغار القطا التي تهرب من ضجيج المحركات وتختبئ تحت أكوام القش خوفًا من الثعالب والقطط البرية.

أبي الذي ولد في كرميتي على أطراف طوروس بين ماردين ونصيبين الذي ينظر إلينا ويحرس حياتنا دون كلل.

وأنا الصغير أركض بلا سبب، أمضي حيث لا يذهب أحد؛ لا تراني غير القطا والحجل والطير الحر، يسرع أبي الخطى وأسرع خلفه.

— إلى أين يا أبي؟

— إلى هضاب قوجي وتوبز

— وماذا هناك؟

— الطير الحر الأبيض.

كل عصر يحمل أبي فخاخه ويختار حمامة مناسبة، حفظنا الطريق وحفظنا الدرس جيدًا.

تقول أمي: لن يأتي الطير الحر.

يقاطعها أبي: سيأتي لقد رأيته ولكن الفخاخ لم تكن معي كانت هذه المرة الأولى والوحيدة التي نسيت فيها الفخاخ، كنت عائدًا من توبز، رأيت باشقًا خائفًا فوق كوتيا، وحين ظللت عيني بيدي اليمنى رأيته. كان يطير سريعًا اقترب مني كما لو أنه يعرفني. آه، يا أم مروان كم كان جميلًا، يطير عاليًا، ثم ينقض على الأرانب البرية في هضاب توبز، ويطيرُ مسرعًا ثانية. رأيته ورآني، أحسست أنه التفت إليّ قبل أن يحلق عاليًا، ويختفي في سماء قوجي. لا شيء أجمل من عينيه التي تلمع تحت الشمس حين ينقض على فريسته التي تتجمد في مكانها ما إنْ تراه.

خيوط النايلون

الطريق إلى القامشلي تمر عبر قرى متناثرة. نيف، نقاره، عم باره جركين.

ما إن يفتح حسينو باب البيك الآب شيفروليه ١٩٥٧م، حتى يشعل سيجارته، ثم يكبس كبسة قوية على مفتاح المسجلة، ويصدح فارس بافي فراس: كل عاشق في هذه القرية، يده في يد حبيبته، إلا أنا، يدي على خدي.

نادرًا ما يشتغل المحرك، هكذا يعتقد حسينو ونحن الركاب، لكن المحرك من المفتاح الأول اشتغل. كان باب البيك مفتوحًا، رفع حسينو غطاء المحرك سحب سيخ الزيت، كان الزيت ناقصًا، قال لنفسه وبصوت عال: هذه السيارة لا تشبع من شرب الزيت.

هنا لمح حسينو أبي قادمًا نحوه: لا تنسَ أن تحضر لي خيوط النايلون من دكان حجي خضر. بعد أيام قليلة، موسم الصيد. الطير الحر في انتظاري.

كرصور

استيقظ أبي في الصباح، سار على رؤوس أصابعه، فتح الباب، وأشعل سيجارته نظر إلى الشمس التي ترتفع بهدوء في سماء كرصور. حمل الفخاخ ومطرة الماء وحمامة واحدة ومضى.

ركضت خلفه حافيًا: أبي!

التفت إليّ وتوقّف، ثم مضى بعد أن اقتربت منه.

سرت خلفه في طريقنا نحو هضاب تمويا، نمرّ قرب حقول البطيخ الأحمر، أراقب الأرانب البرية وهي تركض وتلعب، تقفز في الهواء وتختفي.

نسير وألتفت خلفي كثيرًا.

السماء فوق كرصور زرقاء وصافية، ثمة طيور كثيرة ولكن أفكر في طير أبي.

استلقى أبي على العشب وأشعل لفافته، نظرت إلى الدخان الذي يرتفع بطيئًا نحو السماء.

لم أعرف حتى الآن إن كنَّا في طريقنا إلى تمويا أم إلى قوتكي التي خلفها تمامًا وإن كنَّا سنذهب إلى قوتكي الصغيرة أم الكبيرة.

هذه القرى تشبهنا كثيرًا. لا تستطيع أن تغادر وتشعر بالوحدة أيضًا. لكنها ظلت كما هي: صغيرة، ربما مثلنا تخاف من المدن الكبيرة والبعيدة.

 توقف أبي، سألني: هل تريد أن تشرب الماء؟

قلت: لا!

وركضت خلف عصفور كان يطير على ارتفاع منخفض. ضحك أبي حين توقفت، وقال: الصياد لا يعرف اليأس. انظر إليّ، كنت في عمرك حتى اليوم ما زلت أنتظر طيري الحر الأبيض. لن أفقد الأمل.

لم نذهب إلى تمويا كما توقعت. أنظر خلفي كرصور تصغر شيئًا فشيئًا. لا بد أن القرى كانت صغيرة وكبرت وستعود ذات يوم صغيرة.

بين تلك التلال والهضاب سرنا طويلًا لم نجد الطير الحر. قبيل المساء عدنا. كانت أمي تعد العشاء لنا وتتحدث مع أختي الصغيرة عيشانة التي حملت هذا الاسم لتشبه عيشانة علي في أغنية محمد عارف الجزراوي التي تحبها جدتي كوجري كثيرًا. أشعل أبي لفاته ونظر نحو السماء. بيت الطير الحر.

أطفأ لفافته وغرق في نوم عميق. غطته أمي ببطانية تركية عليها صورة لكبش يركض نحو الجبال البعيدة.

دموع الباز

خرج أبي صباحًا حاملًا فخاخه، سار بهدوء توقف بعد خطوات قليلة أشعل لفافته، سحب نفسًا عميقًا ومضى نحو هضاب قوجي.

لن يعود أبي كعادته في المساء، لن يعود بعد شهر.

تقول أمي: ذات يوم، وبينما كنت جالسة أمام الباب الخشبي الكبير لبيتنا الطيني تحت شجرة التوت، رأيت طائرًا جميلًا يطير على ارتفاع منخفض يقترب من البيت ويحلق عاليًا. وحين رآك تلعب مع شقيقتك الصغيرة، اقترب كثيرًا من البيت ونظر في عينيك طويلًا. رأيتُ دمعته التي سقطت بالقرب منك، ثم حلق عاليًا.

هناك من رآه في هضاب قوجي، وهناك من رآه بين بيرا بازن وقوشاني يطير على ارتفاع منخفض قبل أن يحلق عاليًا، ويختفي بين الغيوم.

وكنتُ كلما رأيتُ طيرًا، صرختُ: يا أبي.

القطيع

مات الكبش. فتحت أمي باب الزريبة، وجدَته يحتضر، ركضَت لإحضار السكين، لكنها في اللحظة الأخيرة تراجعت، كان الكبش فردًا من أفراد العائلة نحبه جميعًا، يدخل الصالون حين يكون جائعًا يأخذ الرغيف الذي تتركه له أمي قرب الباب ويمضي نحو بيادر القرية.

تراجعت أمي وبكت بحرقة وحين عادت وجدته ميتًا.

صرخت: هواااااااري.

ويقال: إن القس الذي كان أمام باب الكنيسة في ماردين سمع الصرخة، وعرف أن شخصًا عزيزًا قد مات في قرية كردية بعيدة وأجهش بالبكاء.

كان خروفًا صغيرًا جدًّا، وجده أبي بين حقول القمح في منتصف الربيع يمشي بصعوبة. كانت سعادته كبيرة بعد أن باع القطيع الذي كنا نملكه، لا يستطيع أبي أن يعيش بعيدًا من البيوت الطينية وحقول القمح والتلال الصغيرة والمطر وهدير حصادات الجوندير ورائحة الخزامى في نهارات كرصور.

كبر الخروف الصغير بيننا حتى إنه كان يندَسُّ بجسده الصغير في فراش أبي، مثلي تمامًا ويغادر قبل أن يستيقظ بقليل في الصباح الباكر حيث يمضي مع القطيع الصغير إلى هضاب قوجي وكوتيا حيث شجرة لوز وحيدة لا أحد يعرف من زرعها وتركها هناك ليستظل الرعاة الكرد بظلالها في الصيف.

باع أبي القطيع بعد أن تراكمت عليه الديون، ولم تنزل قطرة مطر واحدة في الشتاء.

في ذلك الصباح تأخر في النوم على غير عادته، وأشعل لفافة وهو في السرير. نظر سقف الغرفة ونهض سريعًا، انتعل حذاءه البلاستيكي، ومضى إلى الخارج.

كان القطيع خلف البيت تمامًا. ركض إليه المرياع، ثم الخراف البيضاء الصغيرة، ثم بقية القطيع، ومضى نحو سوق المواشي في أطراف القامشلي.

عاد أبي بعد يومين وحيدًا ومنهكًا، وظل في البيت طوال أسبوع كامل لا يتحدث مع أحد. يمضي وقته مستلقيًا على سريره يدخن بشراهة ويتحدث مع نفسه، لكنه ذات صباح وأنا أتسلل إلى فراشه رأيته يبكي بحرقة، بكيتُ معه. وكانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها دموع أبي ولا أريد أن أراها ثانية.

قوج

ترك قوج طاحونته بين كروم العنب وحقول البطيخ الأحمر في هضاب توبز وكوتيا، ثم مضى إلى مدينة كبيرة وبعيدة، لا أحد يعرف اسمها.

ثمة تمثال حجري صغير لمريم العذراء في غرفة صغيرة تطل على البئر قرب المحركات الألمانية الضخمة made in Germany وحين يذهب الطحان الكردي ليدخن سيجارة حمراء طويلة، كنّا نتأمل البيت الطيني النظيف الذي ظل ينتظر أولاد قوج الذين غادروا إلى المنافي البعيدة في أستراليا أو كندا.

هناك جِرَارٌ فخارية تفوح منها رائحة النبيذ والأغنيات القديمة.

في الصباح الباكر يحمل الطحان أكياس القمح، التي تركتها حصادات جوندير الخضراء خلفها. بينما آلاف الأرانب البيضاء تركض بين حقول البطيخ الأحمر، وتختبئ بين شجيرات دوار الشمس.

وحين يكون وحيدًا، يتحدث الطحان الكردي بالسريانية المرصعة بكلمات كردية وأرمنية مع كائنات غير مرئيّة تنصت إليه بشغف، لغة تعلّمها من شعوب جميلة أكلت من قمح هذه البلاد لتهاجر كالطيور إلى بلاد غريبة.

لا بد أن تنبت لنا أجنحة حتى نطير إليهم.

حقل ألغام

حقل ألغام كان يفصل بيننا وبين الأهل الذين ظلوا في الطرف الآخر بعد اتفاقية سايكس بيكو.

وكان أحد الأقارب يعرف مكان الألغام (في السبعينيات)، ويتسلى بفكها وإزالتها وفتح الطريق أمام المهربين والمحرومين من جوازات السفر لرؤية أهلهم وزيارة عائلاتهم في نصيبين وماردين.

وذات يوم انفجر لغم بين يديه، تناثر جسده: قسم ظل في الطرف التركي والقسم الآخر في الطرف السوري من الحدود.

حفرنا له قبرًا عندنا ودفناه، وحفروا له قبرًا هناك ودفنوه. في العيد كنّا نزور قبره ونلوح لأهلنا الذين يزورون قبره الثاني في الطرف الآخر. ولم يكن يقطع نحيبنا غير مرور القطار التركي وتلويحات الركاب الذين كانوا غرباء مثلنا في بلادهم.

القصيدة الأولى

 القصيدة الأولى كتبتها على جدار بيتنا الطيني في كرصور، وقرأتها لأمي وأختي عيشانة وحقل القمح القريب وعصافير الدوري في باحة البيت.

أسراب القطا تحلق عاليًا فوق كرصور في طريقها نحو الهضاب القريبة في بيرا بازن وكيستك.

أتأملها بحرقة مثل أم رأت ابنها الجندي في شاحنة روسية قديمة تنقل الجنود إلى الحرب.

أحبُّ العصافير في سماء كرصور والأزهار بين حقول القمح في هضابها، والذين يعودون إليها من المدن البعيدة منهكين، وحين يضعون رؤوسهم على حجارتها ينامون بسعادة.

أحب الرعاة في الهضاب القريبة والشمس في سماء كرصور.

أحب فارس باڤي فراس والعشاق الذي يبكون خلف النوافذ البعيدة في گرباوي وسهرمكة ونيف.

أحب السيارات التي تتعطل دائمًا في منتصف الطريق بين كرصور والقامشلي.

أحب الأطفال الذين يدخنون مثل الكبار في قدوربك وينفخون دخان سجائرهم في وجوه بعضهم، ثم يسعلون بسعادة، ويسحبون سكاكينهم عاليًا دون أن يجرحوا الهواء.

تعلمتُ الشعر من الحياة، من السير خلف أبي في هضاب قوچي، من الركض خلف أسراب الزرازير التي تقترب من الأرض، ثم تحلق عاليًا بين حقول القمح.

من البيوت الطينية والنوافذ الخشبية الكبيرة في كرصور، من الركاب الذين كانوا ينتظرون حسينو وسيارته (شيفروليه ١٩٥٧م) في القامشلي قرب بقالية عزتو. من الغبار الذي يتركه القطيع خلفه في براري بيرا بازن.

كتبت القصيدة الأولى على الجدران الطينية في كرصور تحت شمس أيلول. وتركتها هناك؛ كي لا يقول لي أحد: لم تترك شيئًا خلفك لأهلك وذهبت بعيدًا.

ولدتُ لعائلة كردية عريقة

ولدتُ لعائلة كردية عريقة

عائلة كردية عريقة

ولدت لعائلة كردية عريقة، كان أبي عتالًا؛ وكانت أمي ربة منزل، تطبخ وتنظف البيت وتصلح النافذة المكسورة وتحلق شعري مرة كل شهرين ثم تنظف المقص الألماني: ثروة العائلة ومصدر فخرها. كنا نملك بيتًا طينيًّا كبيرًا بباب خشبي ظل مفتوحًا طوال حياته، غرفة لنوم العائلة وغرفة لنوم الضيوف. وحين لا يأتي أحد نكتفي بعصافير الدوري التي بنت أعشاشها في الصالون. ولدتُ لعائلة كردية عريقة. كنا نستمع لمحمد شيخو حين نحزن، ولسعيد يوسف حين نفرح. ولدت لعائلة كردية عريقة لا شجرة لها غير شجرة التوت في باحة البيت الطيني. ولدت لعائلة كردية عريقة كانت تكره لينين لأنها تحب الملا مصطفى البارزاني.

مِقَص أَلْمَانِيٌّ يَلْمَعُ تَحْتَ شَمْسِ كَرْصُور

لَا أَحَدَ يَعْرِفُ مَنِ اشْتَرَى هَذَا الْمِقَصَّ، تَقُولُ جَدَّتِي كُوجَرِي الَّتِي مَاتَتْ قَبْلَ سَنَتَيْنِ وَهِيَ فِي الْعِقْدِ التَّاسِعِ مِنْ عُمْرِهَا: – حِينَ تَزَوَّجْتُ جَدَّكَ إِبْرَاهِيم خَالِد عَلِي كَانَ هَذَا الْمِقَصُّ مَوْجُودًا فِي خِزَانَةِ الْبَيْتِ. وَحِينَ احْتَرَقَ الْبَيْتُ الْقَدِيمُ.. احْتَرَقَ كُلُّ شَيْءٍ. وَنَحْنُ نَبْحَثُ بَيْنَ الرَّمَادِ وَجَدْنَا الْمِقَصَّ. تَنَقَّلَ هَذَا الْمِقَصُّ بَيْنَ أَصَابِعِ الْحَلَّاقِينَ فِي كَرْصُور، نِيف، كيسْتِك، بِيرَا بَازَن، جَبَل الْغَزَال، سَهْ رَمْكَا، هَرَمْ رِشْ. كَانَ جَدُّكَ يَهْتَمُّ بِهِ مِثْلَ فَرْدٍ مِنَ الْعَائِلَةِ، يُنَظِّفُهُ بِالزَّيْتِ وَيَتْرُكُهُ قَلِيلًا تَحْتَ الشَّمْسِ، ثُمَّ يَلُفُّهُ بِقِطْعَةِ هِيزَار بَيْضَاءَ مِنْ مَالِ حَلَب.

لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ رَائِحَةِ الْعَائِلَةِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي هَرَبَتْ مِنْ مَارْدِين إِلَى الْقَامِشْلِي لِأَسْبَاٍب سَنَعْرِفُهَا حِينَ نَكْبُر. مَاتَ جَدِّي إِبْرَاهِيم. مَاتَتْ جَدَّتِي. مَاتَ عَمِّي رَمْزَانْ. وَمَا زَالَ الْمِقَصُّ الْأَلْمَانِيُّ يَلْمَعُ تَحْتَ شَمْسِ كَرْصُور.

مُقَاتِلٌ آشُورِي

فِي طَرِيقِ الْعَوْدَةِ مِنْ حَلَب، تَقِفُ الْحَافِلَةُ فِي تَلْ تَمْر. الشَّمْسُ تُشْرِقُ بِهُدُوءٍ عَلَى الْكَنَائِسِ الْقَدِيمَةِ، فِي الْقُرَى وَالْبَلدَاتِ الْآشُورِيَّة. لَا أَعْرِفُ لِمَاذَا كُنْتُ أَنْتَظِرُ الْمُقَاتِلَ الْآشُورِيَّ حَامِلًا في يَدِهِ قَوْسَهُ وَعَلَى كَتِفِهِ خُرْجُ سِهَامِهِ، رَاكِضًا خَلْفَ غَزَالَةٍ بَرِّيَّةٍ بَيْنَ الْكُرُومِ الَّتِي تَمْتَدُّ عَلَى ضِفَافِ الْخَابُور. حَتَّى هَذِهِ اللَّحْظَةِ، مَا زِلْتُ أَنْتَظِرُ هَذَا الْمُقَاتِلَ فِي عَرَبَةٍ حَجَرِيَّةٍ تَطِيرُ عَالِيًا نَحْوَ أَحْلَامِنَا الشَّاهِقَة.

بيوت

أعرفُ بيوتَ كرصور، حفظتها مع أشجارها القليلة ورائحتها والثياب المنشورة على حبال الغسيل التي تربط بيتًا بآخر، وتفوح منها رائحة الغائبين في القامشلي وحلب والشام وبيروت وفلسطين. أعرف بيوت كرصور وحجارتها وطيورها حتى الغيوم التي تمرّ فوقها في أول الشتاء. أعرف بيوت كرصور ورائحة ترابها وآمال أهلها وأحلامهم حلمًا حلمًا. أعرف بيوت كرصور الصغيرة التي كبرت الآن، لكن هل تعرفني، أنا الذي غادرت وحيدًا، غصنًا من شجر، وسأعود كثيرًا.

عفرين

إلى محمد زادة

زرت عفرين مرات قليلة وحدثني حامد بدرخان في مقهى القصر طويلًا عن أشجار الزيتون فيها. وكنت كلما رأيت شجرة زيتون تذكرت أشجار الزيتون في عفرين. وفي جزيرة كوس اليونانية كنت أتحدث بالكردية مع ميرا تحت شجرة زيتون، حين سقطت قطرة زيت دافئة مثل دمعة. أحيانًا الأشجار تهاجر أيضًا خلف أهلها وتبكي حين لا تجد طريق العودة.

كنت صغيرًا؛ لماذا كبرت؟

كنت صغيرًا جدًّا.. كبر راكان وكبرت زبيدة وكبرت عيشانة وكبر صفوان وبقيت الصغير المدلل، الصغير الذي لم يكبر قط. كنت صغيرًا جدًّا. أحيانًا تبحث عني ولا تجدني ثم تجهش بالبكاء وأستيقظ حين تسقط دموعها على وجهي، لتكتشف أني كنت نائمًا قربها تمامًا.

كنت صغيرًا جدًّا. لماذا كبرت؟

بوط عسكري

بوط عسكري قديم على حافة طريق ترابي، متروك ومهمل. قد يكون لجندي قتل في معركة أو هرب منها لأنها ليست معركته قد يكون لمَدَنِيّ وجده وكان حافيًا. بوط عسكري قديم على حافة الطريق. يهمني أن أعرف أين صاحبه الآن.

القرى

وكأن الله خلق هذه القرى وتركها هناك لي وحدي. كرصور، كيستك، بيرا بازن، قوشانه، كوتيا، نيف، موسيسانا، تمويا. وكأن الطفل الذي كان يركض خلف قطيع الخراف لم يعد يخاف من الذئاب والضباع واللصوص. يسير خلف قطيعه وفِي يده خنجره الفضي، وكأن قدر هذا الطفل أن يولد كبيرًا وأن يحب محمد شيخو ويبكي وحيدًا وتحت أمطار بعيدة كي لا يرى أحد دموعه. وكأنني الآن في كرصور، أبحث عن خرافي والطيور والأرانب البرية التي تركتها في تلك الهضاب، تنتظرني..

حصادة الجون دير

وصلت حصادة الجون دير الخضراء إلى كرصور، كان والدي سعيدًا، يشعل لفافة من أخرى، يحضر أكياس الخيش الفارغة والجديدة ويطلب من أمي إحضار خيوط القنب والماء البارد للسائق والخياط. حصادة الجون دير تقف أمام بيتنا، بكامل هيبتها وأناقتها. بعد ساعات سنرى أكياس القمح ترتب بعناية وفي شكل هندسي جميل أمام الباب الخشبي الكبير. في أعلى مؤخرة الحصادة الألمانية غزالة صفراء، رأيتها تركض بين بيوت كرصور قبل أن تقفز ثانية إلى مكانها.

الطير الحر

أين الطير الحر يا أبي؟ هناك بين هضاب حاج ناصر وجامرلي. يسرع أبي مع حمامته وفخاخه وألهث خلفه. هل بقي لدينا ماء يا أبي. لا، قريبًا سنصل إلى توبز. ونرى باشقًا يحلق فوقنا، يُخرِج أبي منظاره ويقول: عادة يهرب الباشق من الطير الحر. هذه بشائر خير. نجلس على الأرض بين حقول البطيخ الأحمر، يشعل أبي لفافته بانتظار الطير الحر الأبيض الذي لن يأتي أبدًا.

الصيف

إلى خلف علي الخلف

فتحت عيني.. رأيت امرأة سمراء كالقمر. تقف بالقرب من سريري تريد أن تحملني بين يديها وتطير، لم أفهم كلمة مما كانت تردده، أدركتْ ذلك، نادت على أمي لتترجم لي شوقها العربي بلغة كردية. قالت أمي: خالتي وضحة. لم أفهم كيف تكون خالة أمي (أمي التي لا تعرف كلمة واحدة بالعربية) امرأة تتحدث لغة لا نفهمها وتفوح منها رائحة الليل والقهوة ووجه مرصع بالشوق وشامة تشبه شامة سميرة توفيق. بل كانت أحلى. لا أعرف متى جاءت ومتى ذهبت، استيقظت صباحًا كانت قد عادت إلى الحسكة وكانت وقتها بعيدة جدًّا. سألت أمي عنها قالت: ستعود في الصيف القادم، تمنيت لو أن فصول السنة كلها صيف وغرقت في البكاء.

الطريق

 الشمس تشرق بهدوء خلف التلال البعيدة، الحمار واقف أمام الباب، أبي وأمي يضعان نصف جوال من القمح الحلبي (للقمح أسماء: الإيطالي والمكسيكي، وأفضله الحلبي) على ظهره، وعلي أن أسرع إلى طاحونة قوج في توبز، تعطيني أمي خمس ليرات وصرة صغيرة فيها خبز وبيض مسلوق، بحركة سريعة أكون على صهوة حماري وأنطلق نحو توبز، حقول البطيخ بين كوتيا وقوجي وتوبز، المكان الأجمل بالنسبة لي؛ هضاب وقطا وأرانب برية وثعالب تطير أحيانًا، أكسر بطيخة بقبضتي الصغيرة وأنظر نحو كرصور من هنا؛ رف حمام يطير عاليًا هاربًا من باشق، نحو الشمس التي توقفت فوق بيتنا تمامًا.

عمل

خلال عطلة المدارس الصيفية، كنت أساعد أبي في رعي الخراف التي يشتريها في الشتاء ويبيعها في نهاية الصيف أو أول الخريف. معها تجولت في هضاب.. قوتكي، بيرابازن، تمويا، كرديوان، كفر سبي حتى علي فرو. رائحة القمح بعد الحصاد، أسراب القطا، الشمس في منتصف النهار، حصادات الجوندر الخضراء، سيارات الشيفروليه الحديثة/ سيلفيرادو، تركتورات كيز، الطير الحر الذي ينتظره أبي بعد هذه السنوات أنظر إلى كرصور في الصورة التي أمامي أغمض عيني وأركض خلف خرافي.

سيموت هناك وسأبكي عليه هنا

 كنت طفلًا سعيدًا جدًّا، قتلت ألف عصفور، وخربت أكثر من ألف عش لصغار العصافير ورميتها لقطتي الجائعة التي تحب لحم العصافير مثل أمي. كان أبي يضربني وأمي ومعلم المدرسة وجارتنا أموكي. كنت طفلًا سعيدًا أحب الموسيقا؛ صنعت طنبورتي من علبة حلاوة فارغة وغنيت (بوكي دلالي) لمعلمتي اللبنانية التي طلبت مني أن أتعلم أغنيات عصام رجي وسمير يزبك وعازار حبيب، وقلت لها: تكرم عيونك الحلوين.. وبعد أسبوع عزفت لها وغنيت: صندلي يا صندلي.. بدي دوا إلها.. بدي دوا إلي. ولم تفهم كلمة واحدة وضحكت حتى وقعت على ظهرها ورأيت سوتيانها وما تحت التنورة القصيرة جدًّا.. أنا شيركو ضربت مروان ابن عمي «علي» الذي يكتب عني الآن ألف مرة وسأضربه إذا عاد من ألمانيا ثانية، لكنه جبان يخاف مني ومن الشرطة لذلك لن يعود أبدًا.

سيموت هناك في أمستردام وسأبكي عليه هنا في كرصور..