الجمال ليس له قانون

الجمال ليس له قانون

تدفق الأدب لا يسمح لنفسه بالوقوع في أي شبكة.

ندرس تاريخ الأدب الأوربي عامة، اعتمادًا على حلقات مجردة، يحددها المتخصصون في المادة، بوساطة الموصوفات الصوتية المنقولة من جيل إلى جيل: ما قبل النهضة، النهضة، الباروكية، الكلاسيكية الجديدة، الرومانسية، الرمزية، الحداثة، وتفريعاتها الكثيرة. والحال أن هذه الألفاظ هي نتيجة تجريدات، أدت إلى ترك التحليل الملموس للكتاب معزولًا.

وهذه الصيغة متداولة كثيرًا عند أساتذة الثانوي ومؤلفي المقررات الدراسية التعميمية، إلا أنها لا تنجح في تسليط الضوء على فرادة الأعمال التي نقدرها اليوم بسبب حداثتها الأبدية. كيف نطابق la celestine لفرناندو روخاس أو Guargantua وPantagruel مع خطاطة النهضة. فلائحة الأعمال التي تشكل تفردًا، وتندرج خارج هذه المفاهيم – الباذخة، والاختزالية مع ذلك – هي غير متناهية. وفي الواقع، فإنها تتضمن كل المؤلفين الذين يهمونني.

فإذا أخذنا، مثلاً، حالة الرومانسية، التي كتب عنها آلاف الصفحات، سنواجه صعوبة في ذلك. فعلى الرغم من وجود عناصر مشتركة – سطحية بالنسبة للأغلبية- بين الرومانسيين الإسبان، والفرنسيين، والإيطاليين، وبين الإنجليز، والألمان، والروس، فكيف يمكن أن نفسر الاختلافات النوعية السحيقة التي تفرقها؟ الرومانسية الفرنسية، مثلها مثل الإيطالية والإسبانية – وهذه الأخيرة مستوحاة بشكل كبير من الفرنسية- قيمتها متوسطة، وغالبًا ذات بعد لفظي، ولا تستطيع أن تُقارن برومانسية البلدان المذكورة.

فيحصل أن نبحث عندنا بلا جدوى عن واحد مثل كيتس أو كوليريدج، عن بوشكين أو ليرمونتوف، أو أيضًا عن عبقري في مستوى هولدرلين. فترجمة جيدة لهؤلاء الشعراء، ستكون متفوقة على كل الشعر المكتوب في لغتنا (باستثناء القصائد الأخيرة لـــ بيكير). حين ترجم أنطونيو بيريز راموس إلى الإسبانية الأبيات الشعرية التي يلعن فيها ليرمونتوف وطنه، الذي أرسله إلى القوقاز ليذبح الشيشان، قلت له بدون أي تملق: «لقد كتبت القصيدة التي لم يتمكن أي أحد من شعرائنا من تأليفها».

وإذا أضفنا إلى ذلك الاستعمال الروتيني لمفهوم الجيل، وأعني فكرة جمع المبدعين حسب أعمارهم، ماسحين بذلك فرادة الروائي أو الشاعر في علاقته بمعاصريه، فإننا سنجد أن البلبلة التي حدثت بسبب هذه الخطاطة كبيرة جدًّا. يكفي أن نعود إلى الوراء لتبيان كم هذه المناورة اختزالية؛ هل كان سرفانتيس عضوًا مميزًا في جيل 1850؟ غوته في جيل 1790؟ تولستوي في جيل 1858؟ نجد أنفسنا من جديد أمام الاستعمال السيئ للتركيبات التعبيرية، وللإتيكيت، وللتواريخ التي لا تقول أي شيء عن مضمون العمل الذي نريد تحليله.

ليس علينا إلا أن نتصفح بعض المجلات الثقافية أو المقررات الأدبية المشبعة بهذه العبارات (الواقعية، الشكلانية، الجيل، إلخ). لكي نحصل على الدليل: عوض أن نعتمد، كنقطة انطلاق، المؤلف المزمع دراسته، لكي نبرهن على انتمائه إلى إحدى هذه الموصوفات المجردة، ندرجه فيها مباشرة وبدون أي تفسير منهجي. من الممكن أن تتشابه الهياكل العظمية للأشخاص المعتمدة في التحليل، لكن أبدًا الجسد الواقعي لأعمالهم.

أوكتافيو باث

الشيء الأكيد، هو أن التاريخ الأدبي والفني يقدم حلقات، تكون فيها التيارات والأشكال الجديدة التي تفرض نفسها بقوة مفاجئة، في تناوب مع تيارات أخرى حيث – من خلال مجموعة من الظروف التي من المفترض أن يحللها الباحث- يضعف الزخم الابتكاري، وتختفي الحظوة الشعرية، ويحول، التكرار وصدأ الموضوعات والأشكال، النبع الشعري إلى قفر. وقد عرف الأدب الإسباني مثل هذه المراحل، حيث الازدهار فالتصحر، الكلام الخصب فالتقعر. إن القوة الشعرية لسان جون دولاكروث، وكونكورا، وكيفيدو (اخترت عن قصد، هؤلاء المبدعين الثلاثة المختلفين)، اختفت حوالي القرن 17، لكيلا تظهر من جديد سوى في القرن السابق.

يكفي، معاينة تاريخ مختلف حضارات الكوكب، للتحقق من أنه بعد مراحل طويلة لخمود جلي، تنبثق فجأة الإبداعية المغمورة. ذاك ما تمكنا من رؤيته في أميركا اللاتينية في منتصف القرن العشرين. حتى ذلك الوقت، لم يتجاوز الروائيون والشعراء الأصيلون لهذه القارة (البرازيلي ماتشادو دو أسيس، استثناء متفرد) حدود ما سماه ميلان كونديرا عن حق بــــ «السياق الصغير». يعني هؤلاء الكتاب الذين يمثلون على أحسن وجه السمات الخاصة لبلدانهم أو للغتهم، لكنهم لا يقدمون أي جديد لأوراق شجرة الأدب الوارفة «السياق الكبير». فقصيدة مارتان فييرو، مثلاً تجسد بدون أدنى شك قيمة هوياتية تستحق التقدير، لكنها لا تعني الشيء الكثير خارج بلدها الأصلي. التماثيل التي أقيمت للمؤلف ترسم حدود مجده الشعري.

كان لابد من اتنظار 60 عامًا، لرؤية ظهور، بشكل تزامني، مؤلفين، من خورخي لويس بورخيس إلى أوكتافيو باث، فرضوا عالمية أعمالهم، سواء في بوينيس إيريس، أو في المكسيك، أفي الهافانا، أم في مونتيفيدو. هؤلاء الكتاب، وآخرون طبعًا- من الصعب ذكرهم جميعًا في هذا المقام-  هم بذور ماسمي بــــ«الانفجار» في سنوات 1960م، الذي كان مركزه في برشلونة وباريس. نخبة من الروائيين مثل كورتاثار، غارسيا ماركيز، فوينتيس، فارغاس يوسا، كابريرا أنفنتي، روا باستوس، أونيتي، إلخ، مسحت الحدود السياسية التي رسمتها استقلالية العالم الجديد.

هؤلاء لا يكتبون روايات أرجنتينية، أو كولومبية، أو مكسيكية، أو بيروفية، أو كوبية، أو أوروغوية، أو أي بلد من الثمانية عشر بلدًا في أميركا اللاتينية، بل يؤلفون نصوصًا مبتكرة، تلك التي كانوا مدينين فيها، بالقدر نفسه، لقرائهم في أوربا وفي أميركا الشمالية، مثلما كانوا مدينين لعمل رولفو، ليتاما ليما، كاربانتي، ليوبولدو مارشال،أو غيمارايس روسا. بفضلهم، استعادت اللغة الإسبانية دورها في الإبداع الأدبي؛ وهو الدور الذي فقدته منذ موت سيرفانتس.

على الروائيين أن يقرؤوا الشعر

إن النثر والشعر شيئان مختلفان، لكنهما غير متعارضين ولا متناقضين. لا أتحدث هنا عن المسمى «النثر الشعري» الذي اعتنى به، منذ حوالي عشرين سنة، الشعراء القريبون من الحكم الفرنكوي، لكن أعني هذه الشفوية التي حللها Walter J. Ong . ففي بحثه المتألق الشفوية والكتابة، يبين هذا الأخير بأنه علاوة على التعبير الأولي للثقافة الشفوية، التي تتضمن الحركات، وتغير المقامات الصوتية، وتعبيرات الوجه، وعناصر سيميائية أخرى، توجد عناصر أخرى، تلك المتعلقة بالكاتب المتوحد في إصغائه للكلمات التي أودعها في الورق، والتي – على رغم أنها تكون غالبًا غير ملحوظة  عند القارئ «العادي»-  تنكشف للقارئ المتنبه الذي سيقرؤها بالإنصات إلى الإيقاع، أو ربما يقرؤها بصوت مرتفع.

في حين أن الأغلبية الشاسعة من الروايات والمحكيات التي تنشر هذه الأيام، لا تتحمل هذه الشفوية، التي من شأنها أن تبرز بوضوح المظهر الوظيفي الخالص لنثر ما، في خدمة الحبكة السردية، وفي كثير من الأحيان، الخرق التعبيري والعنف الفظ الذي يمارس على التركيب بدون أي رحمة (فقط جمالية النتيجة يمكنها أن تبرر «الانتهاك»). ونجد من لا يحقق البعد الجمالي الكامل، سوى عبر قراءة بصوت مرتفع. هذه النصوص هي، في الوقت ذاته، نثر وشعر، مثل القرد النحوي الرائع لـــ أوكتافيو باث.

إذا كان اختراع المطبعة قد أسهم في نسيان، في أوربا أولًا ثم بالعالم بأسره، الشفوية الأولية والحركية التي ترافقها، فهذه الأخيرة ستبقى حاضرة، مثل الوريد المدفون، عند أقلية من الكتاب، حيث تحتوي لائحتهم، المدهشة في القرن العشرين، على بعض الأسماء الكبرى في الرواية المعاصرة. لاشيء يمكنه أن يجعلنا نقدر حق تقدير فرادة «يوليس» لــــ جويس، أو«السفر في أقاصي الليل» لـــــ سلين، أوl A ffreux pastis de la rue des Merles لـــ كارلو إميليو كادا، أو «ثلاثة نمور حزينة» لـــ  كابريرا أنفنتي، سوى قراءة شفوية.

خورخي لويس بورخيس

الإنصات إلى تسجيل بصوت ليتاما ليما تجربة مثيرة، تمحو الحدود بين الأجناس. هل هو شعر أم نثر؟ حتى أن القارئ- المستمع لا يطرح السؤال: تطوقه النثرية الموسيقية وتأسره.

«الشذرات الثلاث للـفضاء» لـــ خوان رامون جيمنيز، المكتوبة في أثناء مرحلة نضجه، الأكثر إبداعية، الممثلة في Animal de fond  يمكن قراءتها مثل مونولوج داخلي، وفي الوقت نفسه، مثل إحدى قصائد أعماله الأكثر سلاسة وتكثيفًا. وقد أدرجه كُتاب الأنطولوجيا Les Iles Etranges عن حق في اختياراتهم. وينطبق الشيء نفسه على القصيدة الطويلة، لـــ ووردزوورت، «إقامة في لندن»، التي يقطع فيها القارئ- المؤلف، طوال تجوالاته، العالم المتنوع والممتلئ حياة، للأحياء الشعبية، في العاصمة الإنجليزية لذلك العصر. وهي التجربة التي سبقت «قراءة فضاء جامع الفناء». إن قراءة هذه النصوص بصوت مرتفع، هي أحسن طريقة لاستعادة أبعادها الشفوية؛ هذه الشفوية الضمنية التي تبني الحكي.

على كتابنا أن يقرؤوا أكثر الشعر؛ ليس الذي يدعى شعرًا دون أن يكونه، بل الشعر الحقيقي. هكذا سيتجنبون هذه النثرية المعطوبة، والممتلئة بالجمل الجاهزة، التي نجد أمثلتها الكثيرة في عالم وسائل الإعلام من خلال الكتب الأكثر مبيعًا، حيث ما يهم هو الحبكة: الحبكة البوليسية، الرواية التاريخية، ومواد أخرى رخيصة، بها «يستدرجون القارئ»، حسب الخبراء في التسويق، دون أن يدققوا من أية جهة.

إنه لأمر محزن، في الحقيقة، أن نرى قلة الاهتمام الذي يولى لمن يراهنون على النص الأدبي (ليس لهم الحق في أي ظهور إعلامي، ويجدون بصعوبة ناشرًا في أوقات الأزمة هذه، ويمرون بشكل خفي أمام أعين القارئ المتوسط)، في حين نلحظ التشجيع الذي يحظى به أولئك الذين يبيعون كيلومترات من الورق المطبوع، يهلل له المسؤولون عن تأخرنا في التعليم والثقافة (مستوانا هو الأكثر انخفاضًا في أوربا، وفي انحدار مستمر مقارنة مع ما كان عليه الأمر قبل عشرين سنة أو ثلاثين). على ممثلي المؤسسة الثقافية الانكباب على المسألة، عوض تهميش كل جهد إبداعي وتركه يواجه ذاته.

موت الرواية؟

لقد أدى الجدل القائم في الآونة الأخيرة، حول أثر التقنية الجديدة، وإمكانية اختفاء الكتاب الورقي، من خلال بعض المنتديات، إلى التفكير في اختفاء الرواية. ادعى بعضهم أن تاريخها، كما نعرفه اليوم، سيعرف نهايته، في عصر غوتنبرغ. لكن هذه التوقعات الحزينة، ليس لها أي أساس. وكما حدث هذا طوال القرن الماضي، فإن الرواية قد خضعت لألف تحول، وستبقى وستنبثق، ربما بنشاط زائد.

هناك، بالكاد أقل من قرن، حيث توقع الكثيرون أن السينما سوف تؤدي إلى نهاية الرواية. ما الجدوى من تضييع الوقت في وصف دقيق للأشياء وللشخصيات خلال عشرات الصفحات، إذا كانت صورة واحدة قادرة على أن تلتقط كل شيء في لحظة؟ تبدو هذه الحجة بلا جدوى وتنطبق، في الواقع، على شكل معين من أشكال السرد. إلا أن السينما لم تلغ الرواية؛ عدلت فقط من المجرى، أو بالأحرى، من ممكناته، أكثر شساعة من دوارة الرياح.

بالطبع، قلة ابتكار كثير من الروائيين، وعادات القراءة عند القارئ الكسول سمحت، ليس فقط بالاحتفاظ بالأشكال السردية البالية، بل بنجاحها التجاري: ولائحة أعلى المبيعات في كل البلدان تشهد على ذلك. ومع ذلك، فبعض الكتاب تحدوا وقبلوا بمخاطرة ولوج أرض مجهولة. هناك ألف طريقة لفعل ذلك، وقد قاموا بهذا الاستكشاف. وستكون اللائحة طويلة جدًّا لتبيان ذلك، إلا أنني سأقتصر على رسم بعضها.

في حين أن «مخترعًا نادرًا» مثل رافاييل سانشي فيرلوسيو يقوم بتحويل Les eaux du Jarama  إلى جهاز تسجيل (المانييتوفون)، الذي يعمل، في المقام الثاني، ككاميرا، في النطاق الذي يسمح به النص لمتابعة تحركات الشخصيات عبر محادثتهما (ناقدًا بذلك نقدًا قاتلاً الجمالية ذات الموضوعية المزعومة لرواية كاميلو خوسي سيلا La Ruche، حيث كانت ذاتية المؤلف خانقة).

أما الرواية الجديدة، عند ميشيل بوتور وناتالي ساروت وبخاصة، ألان روب غرييه، فأبدعت شكلًا تعبيريًّا غير مسبوق في منافسة مباشرة مع الكاميرا، حيث يحققون عمقًا في المجال كبيرًا للغاية (كلود سيمون و مارغاريت دوراس، المحسوبان على هذه المجموعة، تابع كل واحد منهما على حدة طريقًا مميزًا). بالنسبة لكبار روائيي القرن العشرين، تعمل السينما كمحول: لقد غادروا المنطقة التي استثمرها هؤلاء، ومركزوا إبداعيتهم على اللغة- مكثفة، متقطعة، شذرية شعرية.

فمن التداعي الحر الجويسي إلى الجملة الأخاذة والموحية لـــــــ بروست، ومن الإيقاع اللاهث لــــــ سلين إلى البنية غير المسبوقة لــــــ بييلي. في بعض الحالات يمتزج الشعر والرواية والسينما لصياغة واقع جمالي عال. وقد وصل بعضهم بنجاح، إلى هدم السرد، باختزاله إلى الحد الذي لم يعد موجودًا سوى في اللغة، كما في Finnegans Wake أو في النص غير المكتمل لـــ Arno Scmidt.

إن مرئيات ميلان كونديرا حول الخصائص النوعية للعمل الفني- في مجال الفن، في اختلافه عن المجال العلمي، الاكتشاف الجديد لا يبطل المعارف السابقة، بل يوسع فقط المجال التجريبي إلى مناطق غير مكتشفة وغير معروفة- يتم تأكيدها باللائحة الطويلة للكتاب الذين يثبتون عدم جدوى هذه الدعوى التي تقول بموت الرواية.

في الأعوام الخمسة عشر الأخيرة، لم يكن التقدم المستمر للتقنيات المتطورة، مهيئًا لهذا الموت؛ بل بالعكس، فقد شجع الرواية لتتبنى أشكالًا جديدة، حيث تؤدي الشبكة العالمية، والهاتف المحمول، ومواقع التواصل الاجتماعي، دورًا مهمًّا. فقيمة الكتابة الروائية اليوم تتوقف، في نهاية المطاف، على العمق الفني ومعناه عند هؤلاء المبدعين. سيوجد، دائمًا كالمعتاد، مبتكرون ذوو أصالة غير قابلة للاختزال، وآخرون سيقتصرون على اتباع التيار دون الإتيان بعناصر جديدة، كما وقع بعد غزو السينما، قبل مئة سنة.

يبدو لي أن كتاب النعي القدريين هم خارج هذا القصد، ويمكننا الرد عليهم بأن الرواية، بالنسبة لشخص ميت، هي في حالة جيدة! لكن هذا يعني الصمود أمام ثقافة تمضية الوقت، وتكاثر التنميط الاجتماعي، من خلال الوعي بالإبحار ضد التيار، كما هو الحال في الماضي، وكما هو اليوم، وكما سيكون غدًا.


المصدر: Juan Goytisolo : Beautè n’a pas de loi, Fayard, 2016,pp 7-16