جوليا كريستيفا: تودروف حذرني من رولان بارت لأنه لم يكن ماركسيًّا بما يكفي

جوليا كريستيفا: تودروف حذرني من رولان بارت لأنه لم يكن ماركسيًّا بما يكفي

أبصرت جوليا كريستيفا النور ببلغاريا في عام 1941م، وهاجرت في ريعان شبابها إلى باريس، وانفتحت على التيارات الفلسفية والأدبية التي كانت تمور بها الساحة الثقافية الفرنسية مثل: البنيوية والوجودية والظاهراتية والماركسية، وأوجدت لنفسها مكانة وازنة ضمن رعيل الكتاب الطلائعين بفرنسا أمثال: ميشيل فوكو، ورولان بارت، وجاك دريدا، وجون ريكاردو، وفيليب سولرز شريك حياتها، وانضمت إلى فريق مجلة تيل كيل (tel quel) ذائعة الصيت.

تجمع جوليا كريستيفا في كتاباتها بين التنظير النقدي، والإبداع الأدبي، والتحليل النفسي. وفي السنوات الأخيرة حملت كتاباتها قلق السؤال الأنثوي، فهي تسائل مفهوم الأنوثة بعيدًا من الأفكار الموروثة، والإجابات الجاهزة الواضحة، وتناضل في كتاباتها التنظيرية، ضد التفكير السلطوي الذكوري. وتمارس أعمالها اليوم تأثيرًا كبيرًا في الحركة النسائية العالمية؛ بسبب جدتها وثوريتها وأصالتها الفكرية. وقد كان لاحتكاكها بالناقد والمُنَظّر الفرنسي الشهير رولان بارت تأثيرٌ كبير في فتح مسالك تفكير جديدة أمامها، في طليعتها الاهتمام بقضايا الهوية والمرأة والثقافة واللغة. وفي هذا الحوار، المنشور في إبريل من هذا العام، تستعيد جوليا كريستيفا ذكريات علاقتها برولان بارت، وبعضًا من آرائه في اللغة والأدب والهوية الأنثوية التي طالما شكلت أهم انشغالاتها الفكرية في السنوات الأخيرة.

● ربما يكون رولان بارت في مقالته المعنونة بـ«الغريبة»، التي نشرها بـالصحيفة نصف الشهرية «لاكانزين ليترير»، في عام 1970، قد أهدى أجملَ بورتريه من إنشائه، مانحًا بذلك معاصرته جوليا كريستيفا دورًا لم يمنحه حتى حدود هاته اللحظة إلَّا للأموات. فهو يتحدث عن انفجار مفتوح لقدرتك على الترحيل. ويكتب: «لقد غيرت جوليا كريستيفا موضع الأشياء […] وما حولته عن موضعه هو المقول المُكرَّر، أي الحضور القوي للمدلول، بمعنى التفاهة. وما خلخلته هي السلطة، هو المعرفة الأحادية، هو الانتماء». كيف كان لقاؤك مع رولان بارت؟

عندما وصلت إلى باريس عشية رأس السنة الميلادية في عام 1965م مستفيدة من منحة الحكومة الفرنسية، نصحني تزفيتان تودوروف بزيارة لوسيان غولدمان، وحذرني من الذهاب لزيارة رولان بارت؛ لأن عقيدته الماركسية لم تكن قوية بما فيه الكفاية بالنسبة لشخص مثلي قادم من بلد شيوعي. وبما أنني أرغب في اقتراف ما يطلب مني الآخرون تركه، حضرت ندوة له، فوجدت نفسي مغمورة بلغة تتخلى عن أسطرة المعارف وأسطرة الجامعة. فقد طفق يتحدث بصوت يبدو أنه يتسلل في تضاعيف عواطفنا نحن الشباب القادم من بلاد مختلفة، الذين كنا نشكل جالية متعددة الجنسيات.

● في صحبة رولان بارت التقيت فيليب سولرز، والتحقت بوسط ذكوري بامتياز.

في ندوة بارت تحدث فيليب سولرز عن ستيفان مالارميه الذي سيصبح مؤلفًا مركزيًّا لكتابي: «ثورة اللغة الشعرية». وبعد هذا أصبحنا نلتقي بصفة منتظمة نحن الثلاثة: رولان بارت، وفيليب سولرز، وأنا بفالستاف على وجه التحديد. لقد انخرطت في هذا الوسط من دون أن يشعرني أحد بكوني امرأة أو أجنبية. وكنت حالة من بين حالات أخرى. صحيح أنه كما رويت في مذكراتي: «أنا أسافر» أن والدي هو من علّمني كيف أناقش، وربَّاني على المساواة بين الرجل والمرأة. أما بارت فلا يعطيك الانطباع بأنه يصلح خطأً متوارثًا في النظرة إلى المرأة؛ لقد تعلم، حقًّا، من طلبته، ويسجل كل ما يأخذ انتباهه في مساراته الخاصة في الكتابة والتفكير.

منبع الثقة والإلهام

● ما شكل الإلهام والتحرر الذي منحتك إيَّاه هاته الرفقة؟

لقد عُني بارت بمجال الجنس والهويات الذي كان مجالًا للكتابة، ومجالًا لتحرير الفكر واللغة على نحو ما كان يتطلع إلى ذلك. إنه فضاء الغيرية الذي ينبغي لي أن أجده بداخلي إذا كتبت. لقد ساعدني كثيرًا على الشعور بالثقة في نفسي، في محك الكتابة والفكر الذي كان محكًّا لطيفًا ومضنيًا في آنٍ، وفي لحظات سوداوية ومؤلمة. وتلقيت نصَّه كلحظة اعتراف وإلهام عجيبة. لقد أنزلني في قلب ثقافة أراد أن يخلقها هو ويعيد خلقها. كان بارت مُحرِّك إعادة الخلق هاته.

● لقد رافقته في رحلته إلى الصين في عام 1973م. هل اهتم مثلك بقضية النساء؟

بل هي القضية الوحيدة التي كانت تثير اهتمامه. يجب أن ننظر إلى بارت مثل إنسان لطيف لا يجارى في رقة الجانب. يتماهى باستمرار مع الأنوثة الغريبة. وعطفه يكاد يكون أموميًّا. كان يلفت انتباهه الاختلاف: الاختلاف الثقافي، ودور الكتابة في هاته الثقافة. كان يبحث هناك عن سياق غريب للغة. هذا السياق هو الجسد، والرغبة، والتاريخ السياسي، وأيضًا، ومن دون أدنى شك، التاريخ بين الجنسين.

جوليا كريستيفا ورولان بارت في الصين

● هل تعتقدين أن يكون لفكر رولان بارت وكتابته دور تحريري في أيامنا هاته فيما يخص قضية الأنواع؟

نعم، بكل تأكيد. كان رولان بارت مسكونًا بقضية العلاقة بين الجنسين. ففي كتاب «س/ ز» (S /Z) يلامس مكانة الكتابة التي تتنزل، تحديدًا، بين الاثنين، بين لغتين، وبين معيارين، وبين جنسين، وهو ما يلتحق بهذا السياق الغريب للغة كما أعتقد. إنَّ جوهر الكتابة يظهره بارت بهذا الاختلاف بين «س» و«ز» ، بين ما كُتب وما لم يكتب. فهو يرى فيه انكماشًا وانزياحًا. الاختلاف ليس الرجل أو المرأة. يبحث عنه فيما هو بين بين. أنا مقتنعة بأنه يوجد لدى بارت إرهاص بدراسة النوع. فهو لا ينظر إلى النوع كمطلب سياسي أو تنظيمي. وهو ليس متعاليًا على الجنس، وليس خارجًا عن الجنس، وليس مناضلًا مثليًّا في هذا العصر. إنَّه في هذا بين بين ما يدعو إلى تجربة الرغبة، هذا الـ«بين بين» هو مكان الكتابة. إنه يتموضع ضد تيار رغبة تحدد لنفسها أهدافًا بمفهوم الهوية والسلطة، الذي نبصره يتطور، أيضًا، في المجتمع الرقمي حيث نحن نوجد في حالة عدم وجود الوارث. إن المطالبة بالهوية هي، اليوم، وفي غالب الأحيان، رغبة في السلطة.

● ولكن ما إن تثار قضية الهوية حتى يتهرب رولان بارت كثيرًا…

نعم، هذا يزعجه. في شهر يونيو المنصرم دُعيت لإلقاء محاضرة بلندن عن «الأنثوي» في مناظرة موضوعها التحليل النفسي، ترأستها، وللمرة الأولى، امرأة. وقد طلبت مني هاته المرأة أن أفتتح هاته المناظرة التي كانت تحت عنوان: «الحركة الأنثوية». فتساءلت: كيف يمكننا أن نتحدث عن الهوية في هاته اللحظة من التسارع الأنثروبولوجي التي تُعلِن فيها الهويات عن نفسها، إنَّها في حرب، إنَّها تنفجر؟ يبدو من خلال هذا أنه من غير الممكن أن نحدد الأنثوي. في مقالتي الموسومة بـ: «مقدمة في أخلاقيات المؤنث»[بموقع: Kristiva.fr]، انطلقت من جملة لـكوليت في رواية (Lagabonde) حين تتحدث شخصيتان؛ إحداهما قالت: «من أي طينة هاته المرأة؟ هل هي من نُحاس…؟»، فأجابت الشخصية الأخرى: إنها من «أنثى» بكل بساطة. السؤال مفتوح. لقد شرحت في مقالتي أن المؤنث هو بوزون للَّاشعور. مثلما أن هناك بوزونًا للجزيئات الكونتية لا يمكن القبض عليها، ولكنها تبقى، مع ذلك، ضرورية، فإن المؤنث، بالمثل، ضروري ولا يمكن القبض عليه. إنه يشمل كل نظريات النوع، والجنس المتعالي،… إلخ؛ لأنه علبة أدوات كل الهويات. وقد سمعت، أيضًا، أن كل الذين عاشوا العذاب والتهميش، والذين عاشوا غربتهم بصورة راديكالية يطالبون بالسلطة والاعتراف بالهوية.

● كتبتِ في سياق حركة «أنا أيضًا»: «أنَّ كلَّ شخص يعيد اكتشاف جنسه المميز عند التقائه الآخرين؛ بسبب تعدد الإشكال الجنسي الذي يرتسم في العصر الكوني. وهنا يكمن كلامه المحرّر. الذي هو، بكل بساطة، إبداعيته».

إنَّها خُلاصة العبقرية النسائية. وكتاب س/ ز يتجاوب مع هذا الانفتاح. جرَّ جورج باتاي  سارازين نحو ما يمكن تسميته انقلابًا مكتوبًا يمر عبر العجز، والنساء الخائنات… أشياء قاسية جدًّا، كتبها في اللحظة التي كان يتساءل فيها عن جذور النازية لتحرير البشر من الأشياء التي كانت تجعلهم يعانون بصفة فردية وحميمية. لقد اكتشف رولان بارت مع المحلل النفسي جون روبول الإخصاء المقصود. ويتعلق الأمر، بالنسبة إليه، بالحديث عن الجنسيْنِ، وعن وحدتهما، وعن المتخيل في الخنثوية التي من شأنها أن تكوِّن نوعًا من القوة الهذيانية العصية على الاختراق. ذهب سارازين يبحث عن هذا اللقاء، عن هاته الوحدة بين الجنسيْنِ، وفي العمل أنشأ نحتًا. وحدة الجنس هاته، وعدم التمييز هذا بين الجنسين صار يبحث عنه في العمل. وفي نهاية المطاف اكتشف سارازين أن «زامبينيلا» تمثل وحدة الجنسين. وعندما وجد نفسه مخصيًّا اكتشف أن ذلك قمة الوحدة بين الجنسين وأنه لا يوجد هناك اختلاف، وأن السامي أكثر سموًّا من العمل. ورجع سارازين إلى إخصائه الخاص، وإلى حدوده الخاصة. وما كان يعتقد أنه المرأة السامية لا وجود لها إذًا. فصمت. ولكن بارت لم يصمت. لقد رأى انسداد مسالك التآلفات بين الجنسين، وحله يكمن في تقويض هاته المعارف وهاته الأوهام وعدم كبتها؛ لأن الكبت يؤدي، بحسب جورج باتاي، إلى التوليتارية. بينما ينبغي الولوج إلى أتون العواطف لمرافقتها. وهذا ما فعله بارت بوضع يده على عمل بالزاك بطريقته، وبتفكيك التميمة، وبتشريح النص بكيفية عنيفة جدًّا. فخلف لطافة رولان بارت يقبع هيجان.

تفكيك خطاب العشق

● مقالتك «معنى ولا معنى الانتفاضة» تتحدث عن هذا التناقض بين المظهر المهذب لبارت وفهمه للكتابة وللنظرية وهي عمليات عنيفة.

عنف ضد العقائد نعم . إنَّه مسعور نجح في التعبير عن سُعاره بلغة فرنسية مرهفة. وعندما بدأ في كتابة مؤلَّفِهِ: «شذرات من خطاب عاشق»، وكان شكلًا آخر للإحاطة بقضية الآخر والجنس الآخر، قال: إنه عصر جديد (حيث يجب أن تنقذنا قوة الرغبة من عقائد اجتماعية) يبدو لنا محط إعادة نظر. كل السؤال المطروح على مايو 68 لا يعني أنه ينبغي أن نترك الرغبة، ولكن هاته القوة الشاملة للرغبة لا تبدو مطروحة. ومن هنا تنحَّتْ، وما حلَّ هو مجتمع الاستهلاك والاستعراض. وبينهما حاول بارت أن يعيد ترميم الإحساس باللذة، والعاطفة، والعالم المرهف الحس. عاد الزمن الحسَّاس، وهو زمن العشاق الذي لا يدخل في نظام الأمْثَلَة، ولكنه يقبل خيبة الأمل. وردت هنا جملة «العاشق العصي على العلاج»، كما لو أنه يخاطب نفسه: «سواء أكان جُرحًا، أم سعادة، تأخذني، أحيانًا، الرغبة في الاستغراق». أحب أن أستعيد قضية العلاقة باللغة بدءًا من إمكانية الاستغراق لكي نوضحها، أيضًا، للّائي أو الذين عاشوا لحظات من العذاب أو الهدم في تجارب غرامية، للّائي أو الذين كانوا/ كن خاضعين (ات) أو موافقين (ات). في هذا الاستغراق تكمن الظرفية الغريبة للغة، أيضًا، في هذا المكان الذي نستغرق فيه إلى الدرجة التي نجد أنفسنا في فراغ الذات وهجر الآخر، بمعنى انهيار سوداوي فادح، سيسعى بارت للبحث عن الجواب اللغوي لكل هذا في التجارب الداخلية لـإغناس (دو لوليولا). فقد رافق إغناس دو لويولا في بحثه عن الله، وهو ما يتمثل في مرافقة المسيح في تنقلاته حتى المستقر الرابع. إنها فيما يمكن تسميته (Kénose) (من اللغة الإغريقية بمعنى فراغ، أي التجرد من الذات: فمات). وفي هذا الموت التقى الفراغَ. وانتظر إشارة من الله لم تأتِ. بالنسبة لرولان بارت نثير، من خلال هاته التجربة، السوداوية وكارثة الكائن في الحياة الاجتماعية -مكان الرغبة- وبكيفية ذاتية، موت الإله مصدر الإلحاد. ولكن بارت ليس هنا في خيبة الأمل العدمية. إنه في خيبة أمل بعثية، ولكنها إشارية وليست تجلِّيًا إلهيًّا.

تزفيتان تودوروف

● وهذا ما نجده في الغرفة المضيئة…

هو ذا. إنه «شيء ما» وجده في وفاة أمه. يجب تسمية الفراغ، في اللحظة التي تفتقد فيها العلامة. فالإلحاد يُبَرَّر؛ لأنه يعطي لغات جديدة. في الحركة الرائعة في تعبيرات النساء في وسائل الإعلام نرصد ميلاد لغات: فقد وجدت سارة أبيتبول لغة، ووجدت فانيسا سبرينغورا لغة. المعضلة القائمة في مجتمعنا هي أننا في لحظة لا يظهر فيها إلَّا حدة التوتر بين اللغات الشائخة، ونحن نجد صعوبة في إيجاد لغة جديدة. هي لا توجد بالضرورة في كتب جديدة أو أفلام جديدة هي في هاته اللحظة شكاوى ومطالب. ينبغي لنا أن نفهم الكتابة، أيضًا، ككتابة حياة. العثور على فنون عيش جديدة.

كيفية لتسكين الآلام

● المصطلح الذي يمكن أن يتدخل ليحدد ما نحاول اكتشافه هو مصطلح «المحايد».

«المحايد» هو كيفية لتسكين الآلام. دعانا بارت للبحث عميقًا، تحت المحايد، عن التوترات التي تشكل أدوارًا رئيسية في الرغبة. فهو يُعرِّف المحايد كحركة تنتقل من عدوة إلى أخرى، ولكن من الصعب جدًّا الانتباه، في اللغة الفرنسية، إلى هاته الحركة في المحايد.

● أنت لا تستعملين، مطلقًا، مفهوم المحايد…

لا. حتى كلمة «نوع» تُقنعني أكثر بمعنى أن الرغبة لم تُلْغَ. ولكن هذا ليس واردًا عند بارت مطلقًا. كتب في مؤلفه «نقد وحقيقة»: «أن الكاتب هو من تشكل اللغة معضلة بالنسبة إليه» والمحايد، الذي نميل كثيرًا إلى استعماله كسِمة، ينبغي أن يمثل مشكلة. والكاتب هو، إذًا، من يسبر أغوار اللغة وليس الاستعمال أو الجمال. فهو يعلن منذ كتابه «الدرجة الصفر في الكتابة»: «ولأن الكاتب لا يمكن أن يغير شيئًا في المعطيات الموضوعية للاستهلاك الأدبي[…]، فهو ينقل، عن قصد منه، الضرورةَ المستعجلة للغة حرة إلى مصادر لغته، وليس إلى الاستهلاك. وما يدعو إليه بارت هو كذلك استعراض المظاهر للولوج إلى مصدر الإبداعية.

● من هنا علاقته، أيضًا، باللغة الجديدة.

هناك إجابتان عن هذا الأمر: اللغة الجديدة والحكي (أو مقاطع الحكي). في مؤلفه: «شذرات من خطاب عاشق» يصف رولان بارت وضعيات الانتظار التي نجد فيها، أيضًا، الأنثوي: «في كل رجل يتحدث عن غياب الآخر، والأنثوي، يظهر هذا الرجل الذي ينتظر ويشقى في انتظاره، فيتأنث بشكل عجيب». يبدو هذا غير مفهوم… ولكني اعتقدت دائمًا أن أول خطاب عاشق تحضر فيه هيمنة الغياب غير المحيَّد هو كوانتية الكوانتيات. هناك بالتأكيد هذا التوتر تجاه الآخر. يتعلق الأمر في ساد وفوريي وليولا بعدم إمكانية الإمساك به، وعدم الرغبة في القبض عليه. فلماذا رغب بارت في الإمساك به داخل المحايد؟ إنَّ خصوصية العاشق أنه لا يتمكن من الإمساك به من دون أن يجعل منه خيبة أمل كاملة، أو يحتفظ بمذاق خيبة الأمل. هناك، أيضًا، الاغتباط في غياب الجواب. وفي السوداوية الظاهرة التي تتولد عن ذلك.

● في الشذرات يعلن بارت أن «الأصل» و«المستقبل» سينتميانِ إلى «الموضوعات التي يحضر فيها المؤنث».

يرى بعض دهاقنة الفلسفة الإعلامية أنَّ اتجاهَ المجتمع نحو التأنيث من شأنه أن يُحيِّد الصراعات، ومن ثم جزءًا من المتعة. أعتقد أن الوسيلة الوحيدة لتجنب أشكال من التعقيم هي الاعتراف بالتوتر بين الجنسين، بما في ذلك عندما يكونان مجموعين في الخنثوية. فالدراماتيكي حي على نحو دائم. نحن نُحيِّده عندما نكتب؛ لأنه في هاته اللحظات لا نكون في حالة التهيج الجنسي، أو النفور من العلاقة الجنسية. نهدئ المتعة لنكون قادرين على نظمها في كلمات. في هذا المحايد، ننقل المتعة إلى الجملة. ليست هناك، إذًا، حيادية قاتلة.

الأنثوي يحضر في العلاقة بين الجنسين. في كلمتي التي ألقيتها بلندن قلت: إن معضلة اليوم هي الجنسية الغيرية. إذا اعترفنا بالحضور المترافق للآخر في كل جنس، كيف يمكننا أن نستمر في الإبقاء على علاقة الجنسية الغيرية؟ أليست مُهدَّدة؟ تحضر في ذهني عبارة لألفريد دو فينيي: «الجنسان يموتان كلٌّ من ناحيته»، وقد أخذ بروست هاته الفكرة ساخرًا بعض الشيء… إذا كان من الضروري أن تستمرّ هاته الحضارة، وليس فقط مع أمهات حوامل وأطفال أنابيب، أو بالحضانة، أو الاستنساخ،… إلخ، وإذا تمكنت العلاقة بين الجنسين من الاستمرارية، فهذا يكون مع إعادة تقويم للهويات الجنسية، ومع الأخذ في الحسبان الغيرية الجنسية النفسية. نحن على الأقل أربعة في شخصين اثنين.


المصدر :  ‭Le Nouveau Magazine littéraire‭, ‬N028‭, ‬Avril 2020‬