نحو فكر اقتصادي جديد حتى لا يتحدث أصحاب القرار في مجموعة العشرين إلى أنفسهم فقط

نحو فكر اقتصادي جديد

حتى لا يتحدث أصحاب القرار في مجموعة العشرين إلى أنفسهم فقط

مجموعة العشرين، التي ترأسها الشقيقة المملكة العربية السعودية هذا العام، لها خلفية وتكوين يشيران إلى طبيعة خاصة بها. فلقد ولدت من رحم مجموعة الدول الثمان الصناعية الرأسمالية الكبرى في عام 1999م التي قررت أن تضيف إلى عضويتها قوى اقتصادية جديدة صاعدة من آسيا وأميركا الجنوبية وإفريقيا. عند ذاك تكونت مجموعة تمثّل في مجموعها 90% من الناتج الاقتصادي العالمي، و80% من التجارة العالمية ونصف مساحة العالم الجغرافية.

إذن فقد وُلدت مجموعة العشرين من نادٍ للأغنياء قديمٍ يشرف على سيره وزراءُ ماليةِ أعضائِه وروساءُ البنوك المركزية لدولهم؛ ليصبح ناديًا جديدًا موسَّعًا للأغنياء يشرف على سيره رؤساءُ الدول والحكومات ومجموعات مساندة من وزراء المالية ورؤساء البنوك المركزية ومؤسسات مالية دولية واستشاريين متخصصين في أمور الاقتصاد والمال.

هذه الخلفية التاريخية وتلك التركيبة كانت ولا تزال محلّ تساؤلات وانتقادات؛ إذ إن بعضًا يرى العضوية مغلقة والتمثيل غير متكافئ وغير جامع، وأن التركيبة تشبه عضوية مجلس الأمن الدولي غير المتساوية في الوزن واتخاذ القرارات، وأن وجود 173 دولة خارج هذه المجموعة يضعها خارج اتخاذ القرارات الاقتصادية الدولية التي تأخذ في الحسبان مصالح جميع دول العالم.

وبالطبع فإن وجود تلك التساؤلات وذلك اللَّغَط ينعكس في مدى الجديّة والالتزام الذي يتعامل به العالم مع قرارات وتوجيهات اجتماعات مجموعة العشرين السنوية.

عالم متغير

ما يجعل تلك المقدمة ضرورية كونها ارتبطت بأوضاع وأجواء عالمية هي في طريقها لتحولات جديدة كبرى. فروسيا والصين وأوربا وأميركا عام 1999م هي غيرها، وبصورة جذرية، في عام 2020م. لقد تغيرت الأوزان، والقدرات الاقتصادية، والتميزات الصناعية والتكنولوجية، والإمكانيات العسكرية، وأحجام النفوذ الإقليمي والعالمي بصور تجعلنا على أبواب عالم جديد غير العالم الذي ساد قبل عشرين سنة.

وفي الغيب ترقد وتنتظر إمكانيات تطورات تكنولوجية كبرى في حقول، من مثل الذكاء الاصطناعي والإنسان الآلي والتلاعبات البيولوجية في الطبيعة ومجتمعات الإنسان، وسيتمكن بعضها من قلب موازين القوى في العالم كله من جديد وبصور لم تتضح معالمها بعد.

وستكون لكل تلك التغيرات التي حدثت، والتي ستحدث في المستقبل القريب، آثار هائلة على الحياة السياسية، وبخاصة على أنواع الأنظمة الديمقراطية الجديدة التي بدأت ملامحها تظهر في إرهاصات صعود الحركات الشعبوية وظهور قادة بأفكار ومشاعر والتزامات وقيم مريضة خطرة تمجد العنف وتدعو إلى أشكال لا حصر لها من التعصُّبات والانحيازات غير الإنسانية.

وبالطبع فإن عالم ما بعد وباء كورونا، الذي قاد إلى ملايين العاطلين عن العمل، وإلى اختفاء آلاف المؤسسات الإنتاجية والمالية والخدمية، وإلى تغييرات هائلة في حقول التعليم والتدريب، سيكون عالمًا جديدًا آخر، وستكون لنتائج وحدة ومضاعفات الوباء آثار مختلفة ومتباينة على مختلف الدول. وهذا سيؤثر في أوزانها الاقتصادية ومكانتها الدولية، وفي الأدوار التي ستؤديها داخل المجموعة.

فإذا أضفنا إلى ذلك تراجع بعض الدول الكبرى الأساسية عن أفكارها والتزاماتها العولمية السابقة وعن تحالفاتها العسكرية القديمة، ودخولها في عوالم الانغلاق على الذات وعلى أوجاعها الوطنية، ندرك بأننا بالفعل أمام عالم في طريقه للموت ليفسح المجال أمام عالم هو في طريقه للولادة. وستكون معرفة ملامح المولود الجديد هي إشكالية الإشكاليات الكبرى في عالمنا الحالي ووقتنا الحاضر.

دور مجموعة العشرين في العالم الجديد

من الضروري أن يعرف المجتمعون في الرياض أنه سيكون أمامهم أمران لا بد من مواجهتهما: الأمر الأول يتعلق بضرورة إجراء مراجعة للموضوعات الثلاثة التي هيمنت على جدول أعمالهم طيلة العشرين سنة الماضية، وهي موضوعات النمو الاقتصادي العالمي والتجارة العالمية والاستقرار المالي العالمي. والأمر الثاني يتعلق بالتعامل مع موضوعات جديدة تفرضها التغيُّرات -في العالم الجديد الذي يولد- التي ستكون مترابطة إلى أبعد الحدود مع تلك الموضوعات الثلاثة التي استأثرت باهتمامهم في السابق وستكون لها تأثيراتها الهائلة في إدارة تلك الموضوعات الثلاثة، بل تغيير مكوناتها الكلاسيكية التي عرفت بها.

أما المراجعة فتقضي أن تشمل الفكر الاقتصادي خاصة الذي حكم مداولات الاجتماعات السنوية طيلة العشرين سنة الماضية. أي التبنّي الكامل لفكر مدرسة شيكاغو في الاقتصاد ومناظرات عرّابها الشهير ملتون فريدمان التي نادت بالرجوع إلى الرأسمالية الطاهرة غير الملوّثة بأنظمة الحكومات، وعوائق في وجه التجارة الحرة، والتزامات الحكومات بالقيام بمسؤوليات الرعاية الاجتماعية للفقراء والمهمشين خاصة؟

ومن أجل الرجوع إلى تلك الطهارة المتخيلة لا بد من أن يُبنى الاقتصاد على أسس حرية السوق التامة، وخصخصة الخدمات الاجتماعية، وتخفيض الضرائب، وعدم تدخّل الحكومات من خلال وضع الأنظمة والقوانين التي تحدُّ من حرية وحيوية وتنافس قوى السوق، وإضعاف قدرة النقابات التفاوضية مع أصحاب الأعمال.

الصورة التي يرسمها ذلك الاقتصاد الشيكاغُوي أن قوى وقضايا الاقتصاد من اختلال توازن العرض والطلب أو حصول التضخُّم في الأسعار أو مشكلات البطالة الدورية ما هي إلّا قضايا طبيعية ستأتي وتذهب مثلما تأتي مؤقتًا وتذهب عوامل الطبيعة المزعجة مثل العواصف والفيضانات. إنها صورة لجنّة قادرة على حلّ مشكلاتها بذاتها من دون حاجة لأحد لكي يضبطها.

في أدبيات هذه المدرسة تصل حرية الأفراد إلى أعلى مستوياتها وأوضح تجلياتها عندما يستطيع الأفراد الاختيار الحر للون القميص الذي يفضلونه ويلبسونه. وبالطبع تتناسى تلك المدرسة أن اختيار لون القميص يتم تحت تأثيرات غوايات الإعلان الذي له أعظم الآثار النفسية والسلوكية في الأفراد، ومن ثم فالاختيار ليس حرًّا وليس مستقلًّا ذاتيًّا. الدخول في تفاصيل فكر تلك المدرسة هو بسبب قيامها، ككلية اقتصاد في جامعة شيكاغو، بتدريب وتخريج المئات من عتاة ومبشّري فكرها الاقتصادي، الذين تبوّأت أغلبيتهم أهم مراكز اتخاذ القرار في الحكومات وزراءَ اقتصاد ومالية، ورؤساءَ البنوك المركزية، ومستشارين في المؤسسات الاستشارية الشهيرة، ومستشارين يُحضِّرون لاجتماعات مجموعة العشرين السنوية.

ولذلك من الضروري أن تضمّ لجان المراجعة مفكرين اقتصاديين لا ينتمون لفكر مدرسة شيكاغو، بل من الذين ساهموا في نقدٍ موضوعيّ علميّ لفكر تلك المدرسة، وعُرف عنهم الكتابات الجادة في إبراز النتائج السلبية الكارثية التي قاد إليها تبني وتطبيق مبادئ تلك المدرسة.

ما تحتاج له مجموعة العشرين هو تعرُّف ودراسة ما كتبه، على سبيل المثال فقط، أمثال جوزيف ستيغلتز، وتوماس بيكيتي، وجون جيلبرث، ونعومي كلاين، ونعوم شومسكي، وديفيد سنج، وجون جري، وجورج منبيوت، وفانس كيبل، وأناند جريدهاراداس، وربيكا سولنت، وجلال أمين، وها جون تشانغ، وجون رولز. إنها قائمة طويلة من المفكرين والمحللين والناقدين، من اليسار والوسط واليمين، من الذين وقفوا في وجه مدرسة شيكاغو، ووجه ما انطلق منها من فكر رأسمالي نيوليبرالي عولمي وجّه اقتصاد العالم كلّه عبر الأربعين سنة الماضية.

فهؤلاء، وغيرهم كثيرون، هم الذين بيّنوا الارتباط الوثيق فيما بين ذلك الفكر الاقتصادي وأزمات المكسيك والدول الآسيوية في عام 1997م، والأزمة الروسية عام 1998م، وأزمة الهيدج فندز الأميركية عام 1998م، وأزمة العالم الكبرى عام 2008م. وهم الذين أظهروا فاجعة ارتفاع دخل الواحد في المئة الأغنى في هذا العالم بنسبة 18% في حين انخفض دخل الطبقة العاملة من أصحاب الياقة الزرقاء 12%، وأن هؤلاء الأغنياء يملكون نصف ثروة العالم.

وهم الذين فندوا الادّعاء بأن الاقتصاد هو علم مماثل في انضباطه وصحة نتائجه للعلوم الطبيعية الفيزيائية والكيميائية، بدليل فشله الذريع في التنبؤ بمجيء الأزمات الاقتصادية والمالية عبر الأربعين سنة الماضية. وهم الذين بينوا النتائج الكارثية لمقترحات صندوق النقد العالمي والبنك الدولي لدول العالم الثالث المثقلة بالديون في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي تحت مسمّى برنامج التعديلات الهيكلية، التي قضت بالتوجه نحو الخصخصة الشاملة وتقليص دور الدولة في الرعاية الاجتماعية وتقليص القوانين المنظمة للاقتصاد إلى أبعد الحدود. فكانت النتيجة تباطؤ النمو الشديد في تلك البلدان إبّان الثمانينيات والتسعينيات وإجهاض الثورات الصناعية التي قامت بها بعض أنظمة العالم الثالث بعد تحررها من الاستعمار مباشرة.

وهم الذين ربطوا بين إضعاف دور الدولة في تنظيم وضبط الاقتصاد وبين مسرحيات الفقاعات التي اجتاحت العالم: فقاعة قروض وأسعار السكن والعقارات، فقاعة المراهنات المجنونة على أسعار أسهم وسائل وخدمات التقنية الجديدة، فقاعة أرباح مضاربات الهيدج فندز العبثية التي لا ارتباط لها بأرباح الشركات أو خسائرها، وغيرها من الفقاعات الأصغر في الحجم وفي الضحايا.

وهم الذين كشفوا في كل مرة يُطَبَّق برنامج النيوليبرالية تكون النتيجة انتقال كبير للثروة ليس فقط لطبقة الواحد في المئة الأغنى في العالم، إنما تتركز في أيادي طبقة عُشْر الواحد في المئة الغنية. وعلى الرغم من أن هذا هو الوضع الشاذ الذي تؤدي إليه فلسفة النيوليبرالية فإن كل ذلك يُبرَّر ويُلطَّف من جانب مراكز وجماعات فكرية وإمبراطوريات إعلامية خاصة، خلَقَها ويَصرفُ عليها الأغنياءُ حتى تُبرِّر ذلك وتدافع عن الأسس والممارسات النيوليبرالية في الاقتصاد والسياسة والثقافة.

من هنا يُبيِّن الفحص الدائم للوضع الاقتصادي العالمي أنه في الوقت الذي يزداد فيه الأغنياء غنًى، فإن الفقراء يزدادون فقرًا وتهميشًا وبؤسًا. وأخيرًا فإن هؤلاء هم الذين يقرعون جرس الإنذار بشأن التدهور السريع الخطر لبيئة الكوكب الأرضي ما لم يوجد نظام اقتصادي يتناغم ويتعايش مع التوازن الحياتي في البيئة الطبيعية.

هذه الأصوات يجب ألّا تنحصر أصواتها في الكتب التي تُنشَر وفي الوسائل الإعلامية المحدودة المفتوحة لهم، بل لا بد لصوتهم أن يكون موجودًا في كل الاجتماعات السنوية لمجموعة العشرين حتى يكون هناك توازن فيما يسمعه ويقرؤه أصحاب القرار في هذه المجموعة، وإلا فإنهم يتحدثون إلى أنفسهم ويستمعون لأنفسهم.

نحو فكر وممارسات جديدة

مراجعة الفكر والممارسات القديمة لن تكفي. هناك حاجة مُلحّة للتعرُّف والتعامل مع عالم جديد يولد. فما بعد وباء كورونا سيضع العالم أمام جروح اقتصادية بالغة الحجم والعمق. وصعود الاقتصاد الصيني إلى المرتبة الأولى العالمية سيطرح فكرًا وممارسات اقتصادية مختلفة عن الفكر والممارسات الأميركية. وأوربا تعلمت دروسًا مؤلمة وهي في طريقها إلى تغييرات اقتصادية وأمنية كبرى. والعالم الثالث اكتوى بنيران إملاءات التعديلات الهيكلية. والانكفاء الأميركي نحو المصالح الوطنية والابتعاد من الالتزامات العولمية تراقبه الدولة قبل أن تُقرِّر السير في دربه.

وشباب العالم أدركوا أن الحرية الفردية والاستهلاك النهم والابتعاد من السياسة لم يُقَلِّل نِسَبَ الانتحار والوحدة والاكتئاب. وفضائح شركات التواصل الإلكتروني الاجتماعي وضعت الموضوع برمّته تحت الشكوك والمخاوف والمراجعة الناقدة.

وفوق كل ذلك بدأ العالم يدرك شيئًا فشيئًا أن الانجرار وراء ما أراده أغنياء العالم ومن يخدمونهم من استبدالهم بكلمات السياسة وتعابيرها كلماتِ المالِ ومضارباتِ الأسواقِ وأوهامَ الغِنى الفاحش والانكفاء المريض على الذات والملذّات، ذلك الانجرار لم ينشر السعادة والرضى النفسي والشعور بعيش الإنجازات.

وهكذا عادت موضوعات الفقر، وعدالة توزيع الثروات المادية والمعنوية، والبطالة، ودمار البيئة، ومسؤوليات المجتمع المدني، والتزامات الدولة تجاه المهمشين، وتكافؤ الفرص، والتلاعب الانتهازي بالدين، وجنون التسلُّح… عادت ترتفع من جديد. وشيئًا فشيئًا سيعود وهج السياسة، التي أبعدت وأفقرت وأريد لها الموت البطيء، لتنظم الاقتصاد وتحكمه بالقيم الروحية والأخلاقية والالتزمات الإنسانية السامية ومتطلبات العدالة.

ستكون خطوة متقدمة ضرورية لو أن المملكة العربية السعودية، التي ترأس المجموعة هذا العام، نجحت في إقناع الآخرين في مجموعة العشرين بالبدء بإجراء تلك المراجعة الفكرية والمنهجية لموضوع الاقتصاد. لقد عانت الإنسانية بما فيه الكفاية جرّاء مدارس اقتصادية وعرَّابين جعلوا همّهم الأول والأخير صحة ورفاهية السوق، ونسوا صحة وسعادة الإنسان.