قمة الرياض والأمن الإنساني

قمة الرياض والأمن الإنساني

يندرج موضوع الأمن الإنساني في جدول أعمال قمة مجموعة العشرين G20 Riyadh 2020 Summit التي ستلتئم في الرياض في 21-22 من نوفمبر 2020م، حيث يشغل حيزًا واسعًا من الهدف العام الذي تتمحور حوله قمة العشرين والذي يتحدد بـ«اغتنام فرصة القرن الحادي والعشرين للجميع»، ويتفرع عن هذا الهدف ثلاثة محاور أساسية كلُّها يدور في فلك الأمن الإنساني.

المحور الأول: تمكين الإنسان، والمقصود بذلك تهيئة الظروف للجميع من العيش والعمل وتحقيق الازدهار. المحور الثاني: الحفاظ على كوكب الأرض، وذلك خدمة للإنسان من خلال تعزيز الجهود المشتركة لحماية الموارد العالمية. المحور الثالث: آفاق التعاون، وذلك من أجل الإنسان وسعادته ومستقبله، من خلال تبني إستراتيجيات مشتركة طويلة الأمد للاستفادة من منافع الابتكار والتقدّم التقني.

ظرف استثنائي

تكتسب قمة الرياض أهمية خاصة؛ لأنها الأولى التي تنعقد في بلد عربي وهو المملكة العربية السعودية التي تسلّمت رئاستها في الأول من ديسمبر 2019م، وصرّح حينها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قائلًا : إن المملكة ستلتزم بمواصلة العمل الذي انطلق من مدينة أوساكا (اليابانية) لتعزيز التوافق الدولي والتعاون مع شركاء المجموعة للتصدي لتحديات المستقبل، وبالطبع لما فيه خير الإنسان وأمنه، حيث تستضيف المملكة في اجتماع القمة الخامسة عشرة قرابة 100 اجتماع ومؤتمر على مستوى وزراء ومسؤولين رسميين وممثلين عن مجموعات التواصل وهي مجموعة الأعمال B-20 ومجموعة الشباب Y-20 ومجموعة العمال L-20 ومجموعة الفكر T-20 ومجموعة المجتمع المدني C-20 ومجموعة المرأة W-20 ومجموعة العلوم S-20 ومجموعة المجتمع الحضري U-20، حيث تتوج هذه الاجتماعات بلقاء القادة، إضافة إلى رؤساء دول عربية وأجنبية ومنظمات إقليمية ودولية.

جدير بالذكر أن المملكة التي ترأس قمة العشرين كانت قد شاركت فيها لأول مرة عام 2008م في قمة واشنطن، في الوقت الذي كان العالم يعاني أزمة اقتصادية ومالية حادة نجم عنها انهيار مصارف كبرى وشركات تأمين عملاقة، في حين أنها تمتلك ثروة سيادية ضخمة ولديها ثاني أكبر احتياطيّ للنفط في العالم، ولعلّ سبب اختيارها يعود إلى مكانتها الاقتصادية المميزة وأهميتها بوصفها قوة فعّالة ونشطة في سوق الطاقة العالمية، إضافة إلى مكانتها الإقليمية ورمزيتها الدينية.

وتتوافق الرؤية السعودية الجديدة 2030 مع توجهات مجموعة العشرين، بما فيها من تحقيق الاستقرار الشامل، والتنمية المستديمة، وتمكين المرأة، وتعزيز الرأسمال البشري، وزيادة تدفق التجارة والاستثمار لتحقيق الأمن الإنساني؛ لذلك فقد اكتسبت ثقة المجموعة من جهة، وثقة العديد من دول العالم من جهة أخرى.

ويصادف انعقاد هذه الدورة الجديدة من القمة ظروفًا استثنائية بالغة، في مقدمتها وباء كورونا (كوفيد -19) الذي اجتاح العالم منذ بداية عام 2020م، وهو الأمر الذي اقتضى من قادة المجموعة في ختام القمة الافتراضية الاستثنائية، ضخ أكثر من 5 تريليونات دولار في الاقتصاد العالمي، بوصفه جزءًا من السياسات المالية والتدابير الاقتصادية، حيث يصبح العمل والتضامن والتعاون الدولي ضرورة لا غنى عنها لمعالجة آثار تداعيات الوباء، خصوصًا أن الإنسانية جمعاء مهدّدة، وهو ما يقتضي استخدام جميع الأدوات السياسية المتاحة للحد من الأضرار الاقتصادية والاجتماعية واستعادة النمو العالمي والحفاظ على استقرار السوق وتعزيز المرونة؛ وهو ما أكّده خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز مشيرًا إلى أن تأثير الجائحة ربّما يتوسع ليشمل الاقتصاديات والأسواق المالية والتجارة وسلاسل الإمدادات العالمية، بما يعرقل عجلة التنمية والنمو ويؤثر سلبًا في المكاسب التي تحققت في السابق، ومن ثم يؤثر في الأمن الإنساني.

أزمة إنسانية ومعالجات إنسانية

تتطلب الأزمة الإنسانية الاستثنائية معالجة إنسانية استثنائية هي الأخرى، والأمر يحتاج إلى استجابة عالمية وتضامن دولي فعال وتعاون وعمل مشترك لمواجهتها، وهذا الأمر الذي حددت الرياض ملامحه مع الدول الشقيقة والصديقة والمنظمات المتخصصة لاتخاذ الإجراءات المناسبة لاحتواء انتشار الفيروس كما أشار خادم الحرمين الشريفين، ولا سيّما في ظل تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي، وهو ما يحتاج إلى حزم حافزة، وتدابير احترازية، وسياسات قطاعية، وإجراءات عملية لحماية الوظائف وإمدادات طبية، لمدّ يد العون للدول النامية لتعزيز قدراتها وتحسين جاهزية البنية التحتية لديها، من أجل حماية أرواح الناس واستعادة الثقة في حياتهم ومستقبلهم، خصوصًا التعافي النشط للاقتصاد وامتصاص تبعات الاضطرابات التي وقعت في المدة المنصرمة، وهو ما احتواه مشروع البيان الختامي، حيث تركزت العديد من اجتماعات القادة على التنسيق للتصدي لوباء كورونا، على الرغم من إجراءات الحجر الصحي غير المسبوقة التي فُرِضَت على مليارات من البشر، حيث بلغت نسبة الإصابات أكثر من 31 مليون إنسان وزادت الوفيات على مليون إنسان.

ويُعَدّ عام 2020م أسوأ مدة ركود عرفها الاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة؛ لذلك احتوى جدول عمل قادة قمة العشرين على طائفة من القرارات التكاملية التي لم تقتصر بالطبع على دول العشرين ، بل شارك فيها عدد من المنظمات الدولية، وهو الأمر الذي يدلّ على خطورة الأوضاع، ولعلّ أهم التحديات التي تواجه القمة، هو التصدي لتداعيات وباء كورونا وتأثيراته الاقتصادية والاجتماعية والنفسية على جميع المستويات التي مسّت مباشرةً الأمن الشخصي والجماعي للبشر جميعًا دولًا ومجتمعات وأفرادًا، وهو ما يستوجب مناقشته باستفاضة ومسؤولية؛ للتوصل إلى حلول، واتخاذ مبادرات، وتنسيق جهود دول المجموعة، على الرغم من الانقسامات داخلها لضمان الإمداد الطبي والغذائي للجميع، بما فيها البحث العلمي لاكتشاف الدواء واللقاح المناسبيْنِ.

ما الأمن الإنساني؟

إذا كان ما يواجه قمة العشرين، بل العالم أجمع، هو موضوع الأمن الإنساني، الخاص بتمكين الإنسان، ولا سيّما في ظل الجائحة، فما الأمن الإنساني؟ وكيف السبيل لتحقيقه على المستويات الفردية والجماعية والدولية؟

إن المقصود بالأمن الإنساني هو أمن الإنسان الشخصي المتجسد في حقوقه وحرياته وعيشه في سلام من دون خوف، ولن يتحقق ذلك من دون تحقيق طائفة أساسية من القضايا التي تتعلق بالأمن الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي والتعليمي والديني والصحي والغذائي والمائي والبيئي والنفسي، وكل ما يوفّر للإنسان حياة كريمة، تلك التي أقرَّتها اللوائح والشرائع الدولية؛ لأن الإنسان هو محور وغاية كل نشاط وفاعلية مجتمعية. وحسب الفيلسوف الإغريقي بروتاغوراس «الإنسان مقياس كل شيء».

الأمن بمعناه الأول حسبما جاء في القرآن الكريم (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) (سورة قريش، الآية 4) حاجة لا غنى عنها للنفس البشرية، وغيابه يترك تأثيرات سلبية ومرضية فسيولوجية ونفسية على الإنسان، وخصوصًا حين يستمر انعدامه، ولذلك يُعَدّ الأمن الإنساني معيار الرفاه والتقدم. ومن ثم لا يمكن قياس أمن الدولة أو أمن المجتمع، إلّا بدرجة قياس أمن الفرد من زواياه المختلفة، ولا يمكن اختزال ذلك في جانب واحد، فالأمن عامة يتجسّد في الجانب الإنساني المتعدد الوجوه والجوانب؛ لأنه مسألة مترابطة ومتداخلة ومتفاعلة شخصيًّا ومجتمعيًّا، مدنيًّا وحكوميًّا، سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وصحيًّا وتربويًّا وغذائيًّا وسكنيًّا وبيئيًّا، وكل ما له علاقة بالحياة الحرة الكريمة.

ولذلك يُعَدّ الأمن الإنساني المعيار للرفاه والتقدم الاجتماعي ودرجة تطور المجتمع، حتى الأمن بمعناه التقليدي حسب عالم النفس الكبير سيغموند فرويد يتقدّم أحيانًا على الكرامة؛  إذْ لا يمكن تأمين شروط الكرامة الإنسانية من دون تحقيق الأمن بجوانبه المختلفة، ولهذا يمكن القول أنْ لا كرامةَ من دون أمن، ولا أمن حقيقيًّا في ظل هدر الكرامة الإنسانية وخرق الحقوق، وهي معادلة صعبة أحيانًا، ويتوقّف على درجة التوازن فيها تأمين مستلزمات حكم القانون، وتحقيق التنمية بمعناها الإنساني الشامل؛ لذلك وضعت قمة الرياض هدف تمكين الإنسان وتوفير مستلزمات حياته وسعادته في أولوية جدول عملها.

الأمم المتحدة والأمن الإنساني

إن أول من استخدم مفهوم «الأمن الإنساني» في أدبيات الأمم المتحدة وبرنامجها الإنمائي في عام 1994م هو محبوب الحق وزير المالية الباكستاني الأسبق بدعم من الاقتصاديّ الهنديّ المعروف «أمارتيا صن» (الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1998م)، منذ ذلك التاريخ كثر استخدامه وتعزّز مضمونه، ولا سيّما الاعتراف بأولوية أمن الأفراد، فالفرد إنما هو عضو في جماعة، أي أن الفرد تنازل عن بعض حقوقه لصالح الدولة التي يكون من واجبها تحقيق أمنه الاقتصادي والغذائي والصحي والسكني والبيئي والشخصي والمجتمعي، إضافة إلى الأمن السياسي والفكري وغير ذلك.

ولا يقتصر مفهوم الأمن الإنساني على الأمن الوطني الخاص بكل دولة أو كيان سياسي، بل يمتدّ ليصل إلى المجتمع الدولي، وهو لا يعرف الحدود الجغرافية، فإذا اختلف في موضع من العالم فقد يختل في غيره؛ لأن دائرة العنف والإرهاب يمكن أن تأخذ في الاتساع، وذلك بفعل العولمة التي أصبحت تشمل كل شيء، ودليلنا على ذلك امتدادات أعمال الإرهاب التي قامت بها تنظيمات القاعدة وداعش وأخواتهما خلال العقدين الماضيين، وهو ما سبب تهديدًا خطيرًا ومباشرًا للسلم والأمن الدوليين اللذين تُعَدُّ حمايتهما مقصدًا أساسيًّا من مقاصد ميثاق الأمم المتحدة التي أُعلِن عن تأسيسها في 24 أكتوبر عام 1945م.

وكم كان فادحًا إهمالُ الأمن الإنسانيّ في أنظمة جاءت بقصد تحقيق العدالة الاجتماعية، لكنها غرقت في الأمن بمعناه التقليدي، مخلِّفة معاناة مؤسفة، خصوصًا عندما أهملت أمن الإنسان وانشغلت بأمن النظام. وعلى الجانب الآخر فقد انشغلت بعض البلدان بأمنها الخارجي على حساب أمنها الإنساني، ولو خصّصت الميزانيات الضخمة له على المستوى العالمي لحققت نتائج فائقة للبشرية، وهو ما دعا قمة كوبنهاغن للتنمية الاجتماعية في مارس 1995م لتأكيد أن البشر هم غاية وهدف أي نظام، وأي تغيير. 

لتأمين الأمن الإنساني فإن الحاجة تتعاظم إلى تلبية الاحتياجات الأساسية للبشر بصفتهم بشرًا من دون تمييز أو إقصاء أو تهميش، وعلى أساس المساواة بينهم، وقد انكشفت في العديد من البلدان هشاشة مفهوم الأمن التقليدي، فانهارت بعض الأنظمة بسرعة خارقة، في حين ظلّت أنظمة أخرى متماسكة وقوية بالمواطنة وبتحقيق الأمن الإنساني وتلبية الحاجات الأساسية للناس في خياراتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

إن إعادة قراءة علاقة الفرد بالدولة من خلال حكم القانون بوصفه المرجعية التي يخضع لها الجميع، وحسب مونتسكيو «فالقانون مثل الموت لا يستثني أحدًا»، وهو الفيصل في ضبط سلوكهما وفقًا للقواعد الناظمة التي تطبّق على الجميع، يرتّب مسؤولية حفظ أرواح وممتلكات المواطنين وضبط النظام والأمن العام على الدولة، بحيث يصبح الأمن الإنساني جوهر الأمن الوطني، كما أنه جوهر الأمن الإقليمي على صعيد التعاون بين بلدان المنطقة، وهذه تتطلب تأمين الحماية من جميع المخاطر الداخلية والخارجية، إضافة إلى تلبية الاحتياجات المتعدّدة واحترام الحقوق والحرّيات، ويتطلب ذلك تحقيق التنمية البشرية المستديمة التي تعني توسيع خيارات الناس فيما يتعلق بطريقة عيشهم وحرّيتهم وفي مقدرتهم على العيش في سلام من دون خوف، على نحو يؤمّن لهم فرصًا اجتماعية متكافئة، وبهذا المعنى فالأمن الإنساني لا يتعلّق بأمن البلد فحسب، بل يرتبط بصورة عضوية بأمن الناس.

خلاصة القول: إن مفهوم الأمن الإنساني يمثل بُعدًا يتجاوز المكان واللغة والقومية والشعب والدولة والمنطقة الجغرافية والهوية والثقافة والنظام القانوني، ليمتد إلى جميع مناحي حياة البشر، وهناك علاقة وثيقة إذًا بين الأمن الإنساني وحكم القانون، وبينه وبين المواطنة السليمة والمتكافئة، وبينه وبين الحكم الرشيد أو «الحوكمة»، من خلال المشاركة والشفافية، وبينه وبين الثقافة، خصوصًا الدعوة إلى التسامح ونبذ العنف وقبول الآخر، وبينه وبين العدالة، ولا سيّما الاجتماعية والمساواة وحقوق المرأة، وبين الحقوق الفردية والجماعية وبين الحقوق الوطنية والحقوق الدولية، وهذا يمثل جوهر قمة الرياض.

الأمن الإنساني مفهوم عالمي بقدر ما هو مفهوم محلي أو داخلي أو وطني أو قومي أو إقليمي، وإذا كان هذا يختص بحدود الدولة أو الكيان المقصود به الإقليم، فإن الثاني يقصد به أمن الإنسان في كل بلد وفي كل مكان، ولعل هذه الإضاءة للمفهوم القصد منها هو إبراز الهدف الأساسي الذي انعقدت قمة الرياض من أجله والذي عُبِّرَ عنه على نحو واضح من خلال اغتنام الفرصة للجميع.