لماذا تتراجع نسبة الرفض للمثلية بين الأقليات المسلمة في الغرب؟

لماذا تتراجع نسبة الرفض للمثلية بين الأقليات المسلمة في الغرب؟

في أوائل شهر مايو من عام 2018م، نشرت مجلة «نيوزويك» الأميركية ذائعة الصيت، نتائج استطلاع رأي حول قبول فكرة المثلية الجنسية بين الأقليات الدينية في الولايات المتحدة الأميركية، وقد جاء في الحصيلة أن أغلبية المسلمين في أميركا، باتوا يؤيدون الآن زواج المثليين. كان من الطبيعي أن تُرفض هذه البيانات، التي أكدت قبول 51% من مسلمي أميركا لزواج المثليين، في مقابل رفض 34%، مع الأخذ في الحسبان أن استطلاعًا سابقًا قد جرى في عام 2014م، بلغت نسبة الرافضين فيه للفكرة عينها، نحو 51%، ما يعني تراجعًا واضحًا وملحوظًا للرفض، في حين تتصاعد نسبة القبول، وإن أُنكِرَ المشهد علنيًّا أول الأمر.

قبل هذا الاستطلاع بنحو عام، أي في عام 2017م، أشارت بيانات أخرى خاصة بمعهد الأبحاث الدينية العامة في تقريره السنوي، إلى تزايد الدعم لحقوق المثليين، والمتحولين جنسيًّا، بما في ذلك تأييد أغلبية المسلمين الأميركيين لزواج المثليين لأول مرة.

جاءت هذه الأرقام، بعد نحو عامين من التقنين والاعتراف بزواج المثليين، من جانب المحكمة العليا الأميركية في البلاد، بشكل رسمي، في عام 2015م، في عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، والجميع يتذكرون صيحته الشهيرة في ذلك النهار: «الحب انتصر»، التي اختلف معه بشأنها الملايين من الأميركيين، من المسلمين والمسيحيين واليهود، الرافضين لفكرة المثلية، بوصفها أمرًا منافيًا ومجافيًا للفطرة الإنسانية.

هنا يطفو التساؤل موضوع هذه السطور: «هل تراجع نسبة الرفض للمثلية وارتفاع نسبة القبول لدى الأقليات المسلمة في أميركا وأوربا يعزى إلى أسباب سياسية واجتماعية، أم مرده تغيرات جذرية في البنية الثقافية لمهاجرين وجدوا أنفسهم بين أنساق مغايرة لما ألف عليه آباؤهم وأجدادهم، أو أن الأمر مزيج من التوجهين معًا؟».

الليبرالية الإسلامية والمغايرون

يُحاجُّ بعضٌ من مسلمي أميركا، وغيرهم من بقية مسلمي العالم، بأن وسائل الإعلام الغربية تحاول التركيز على حالات فردية لمسلمين في بلدانهم يدعمون المثليين، أو هم أنفسهم كذلك، في محاولة للترويج لمثل هذه الأفكار في المجتمعات العربية والإسلامية.

ولعل هذا الطرح صحيح بدرجة أو بأخرى، غير أنه يقفز على فكرة مؤكدة، وهي أن الهامش الذي توفره الحريات الدينية في الغرب، ساهم في حماية تجارب عدة منفتحة، ويمكننا القول: إنه فتح آفاقًا لما بات يسمى الليبرالية الإسلامية التي حاولت -ولا تزال- تأمين بيئة روحانية للأفراد المختلفين على أساس خياراتهم الجندرية، وميولهم الجنسية، التي لا تقبل بها مجتمعاتهم التقليدية والمحافظة، وبنوع خاص في الشرق الأوسط، حيث لا يزال العالم العربي بمسلميه ومسيحييه، يرفض طرح المثلية.

هنا تظهر إرهاصات من نوع الحديث عن استغلال تلك الأفكار، كمخلب قط، لتحقيق أهداف سياسية، تتجاوز الوجود في دول المهجر، وتمتد إلى الأوطان العربية والإسلامية. لكن الواقع المعيش هناك، يكشف عن وجه أنساق من الحريات الاجتماعية الصرفة، التي لا علاقة لها بالعمل السياسي المباشر، ولا سيما أن بعضًا يراها موصولة بالأفكار الإصلاحية الدينية.

يبدأ ذلك الواقع، على سبيل المثال لا الحصر، من عند السيدة، «أمينة ودود»، التي تقدم نفسها في الداخل الأميركي بوصفها «عالمة فقه»، وتؤم صلاة مختلطة بين رجال ونساء، ضمن قاعة خاصة، تقدمها لها مجانًا الكنيسة الأنجليكانية في حي مانهاتن بنيويورك، منذ عام 2005م، غالبًا كنوع من الدعم الإصلاحي والتجديدي. ويمتد المشهد إلى مسجد يحمل اسم «الرابية»، أُسِّسَ في شيكاغو عام 2016م، ويهدف لتحقيق خمسة أهداف: دعم المرأة المسلمة، ومناهضة العنصرية، ومجابهة كراهية المثليين، والترحيب بمجموعة متنوعة من التقاليد الإسلامية.

هل يعني ذلك أن التقرير الذي نشرته شبكة «سي. إن. إن»، في الأول من يونيو من عام 2019م عن المثليين من بين الأميركيين المسلمين صحيح؟ التقرير يقول: إن أعداد المسلمين الذين يرون ضرورة قبول المثلية الجنسية، تضاعف في العقد الماضي إلى 52%، وربما يكون أعلى بين جيل الألفية. والثابت أن مسجد شيكاغو، الذي سبقت الإشارة إليه، وقد أسسته «مهدية لين»، وهي امرأة متحولة جنسيًّا، يأتي ضمن عدد من المساجد المنتشرة في جميع أنحاء العالم، وبخاصة برلين وتورنتو، وعددها أكثر من عدد نظيرتها في أميركا، حيث لا تزال ضئيلة. ويبقى التساؤل الجذري: ما الذي دعا إلى تغيير الطباع وتبديل الأوضاع على هذا النحو، داخل الأقليات المسلمة في الولايات المتحدة الأميركية؟

قبول المثلية ودرء الشبهات السياسية

ليس سرًّا أن الرفض القاطع من الجالية الإسلامية في الداخل الأميركي، كما عموم المسلمين في العالم، الذين يرون في المثلية إثمًا من الكبائر، قد وجد من يتصيده، بل يربط بينه وبين الإرهاب الإسلاموي، بحسب العديد من الدوائر اليمينية في الداخل الأميركي نفسه. كان هجوم الشاب الأميركي المسلم من أصل أفغاني، عمر مير صديقي متين في 12 يونيو 2016م، على نادٍ للمثليين في مدينة أورلاندو بولاية فلوريدا، حيث أوقع نحو خمسين ضحية، مدخلًا مثيرًا للقلق، فقد علت الأصوات منذرة ومحذرة من أن الرفض الإسلامي للمثلية، قد جر على الأميركيين وبالًا إرهابيًّا. وقد يكون عمر متين، نموذجًا قابلًا للتكرار، وهو ما جعل الأقلية الإسلامية الأميركية، تقع بين مطرقة الليبراليين وسندان اليمينيين، وكلاهما بات يصبُّ جامات الغضب على الإسلام كمحتوى ديني وإيماني أول الأمر، وهو ما جعل مساحات الإسلاموفوبيا تتعاظم إلى أبعد حد ومد من جهة، وإلى مسلمي أميركا من جهة مقابلة.

بدت القضية على النحو التالي، وباختصار غير مخلّ: «ضرورة العمل مع مسلمي أميركا، وبينهم وبين بعضهم، على بلورة عقد اجتماعي جديد، يتطلب طاعة القانون، والفصل بين الشريعة والحياة». هل كان لدفع اتهامات الإرهاب عن مسلمي أميركا علاقة ما بنشوء وارتقاء العديد من الأفكار التي تساهلت مع المثلية الجنسية أول الأمر، وتاليًا قبلتها من دون تحفظ؟ يمكن الجواب بالنظر إلى بعض الحالات في الداخل الأميركي التي تماهت مع هذا الطرح، ومنها الإمام ضائي عبدالله، وهو أحد رجال الدين المسلمين الأميركيين، الذين أعلنوا عن هويتهم الجنسية المثلية، ليس هذا فقط، بل إنه سعى إلى بناء مسجد للمثليين في واشنطن العاصمة، لكنه واجه فقر التمويل، وهوما دفعه للانتقال إلى كولورادو، بحثًا عن أوضاع ملائمة لبناء مسجده الذي يقبل فيه المختلفين جنسيًّا من المسلمين، حتى لا يقال إن المثليين الجنسيين من المسلمين، إرهابيون عن بكرة أبيهم.

وعلى الرغم من تزايد الرغبة بين مسلمي أميركا في قبول المثلية الجنسية، فإن الخوف لا يزال يتملك كثيرين، غير أن هذا لم يعد يمنع مبادرات تكتسي بأثواب المجتمع المدني، لخدمة الغرض عينه. في هذا الإطار يمكننا الحديث عن حركة «مسلمين من أجل القيم التقدمية»، هذا التجمع الذي تترأسه «آني زوينفيلد»، التي باتت تمثل حاضنة لشباب وشابات أميركيين مثليين من مسلمين وغيرهم من بقية أتباع الأديان. تتلقى زونيفيلد، ماليزية الأصل، مكالمات هاتفية من الشباب المثليين والمثليات الذين يتعرضون للتهديد من أسرهم أو يخشون الكشف عن هويتهم الجنسية.

بعد نحو ثلاثة أعوام من حادث أورلاندو، وجهود ميدانية من مسلمي أميركا المعتقدين في حق المثلية، خرج علينا مسح آخر أجراه معهد السياسة الاجتماعية والتفاهم، في واشنطن، بتاريخ يونيو 2019م، جاء فيه أن نحو 31% من عينة تبلغ 800 أميركي مسلم، يحملون رأيًا إيجابيًّا عن المثليين، فيما أعرب 23% عن رفضهم، و 45% قالوا إنهم لا يحملوا رأيًا في الوقت الحاضر.

مسلمو أوربا وطروحات فقهية مغايرة

بالانتقال من الولايات المتحدة الأميركية إلى القارة الأوربية، يبدو المشهد وكأننا أمام قراءات فقهية أكثر جدلًا، وأكثر إثارة، لجهة قبول المثليين، قراءة تبدأ من تفسيرات قرآنية مختلفة، وتمضي ضمن أطر وأنساق اجتماعية وفكرية تواكب تطورات الحياة في دول أوربا. خذ على سبيل المثال نموذج «الإمام لودفيك محمد زاهر»، جزائري المولد، ومؤسس جمعية «المثليين المسلمين» في باريس عام 2012م. يرى لودفيك، الذي خصص أطروحته للدكتوراه من جامعة السوربون في علم النفس وعلم الاجتماع عن هذه القضية، أن من الواجب انفتاح المسلمين على معارف علمية جديدة، بعيدًا من مخاوف القلق من الآخر المغاير، ولا سيما جنسيًّا، ويرى أنه بالرجوع إلى التراث الإسلامي، سنجد رجالات ومفكرين كبارًا من نوعية، ابن حزم الأندلسي، لم يروا أن النصوص الدينية حرمت المثلية، بل إنها فقط نددت بالاغتصاب وقطع الطريق وأعمال السرقة التي كان يقوم بها قوم لوط. ولعل الإمام لودفيك يحمل فكرة مثيرة، وهي أن المستعمر الغربي، هو الذي زرع الرفض للمثلية في العالم العربي الذي كان متساهلًا في قرون سابقة مع هذا الطرح، في حين كانت المثلية تقود إلى الإعدام في الشرائع الوضعية الأوربية، منذ القرون الوسطى. واللافت أن المسجد الذي أسسه لودفيك في باريس، ليس خاصًّا بالمثليين فقط، بل هو مفتوح للجميع ولغير المسلمين أيضًا، مسيحيين ويهودَ، يمكنهم متابعة الصلاة معًا، كل في موعده وحسب طقوسه.

تغير مفاهيم الجيل الأول للمهاجرين

شيئًا فشيئًا، هذا هو المهم في تحليلنا، حدث تغير فكري في ذهنية المحيطين به، ولا سيما أسرته التي بدأت تتفهم ميوله الجنسية، وبخاصة والدته التي رحّبت نسبيًّا بقرار زواجه من صديقه الجنوبيّ الإفريقيّ، وعدّته أفضل الحلول. ما الذي يعنيه ذلك؟ باختصار، التغيرات الذهنية لا تبدو أنها تنسحب على عقلية الجيل الثاني من المهاجرين المسلمين فحسب، بل تعود إلى الخلف، لتنسحب على جيل الآباء كذلك. تبدو والدة لودفيك كمن يفضل أخف الضررين، ويرى والده أن يحيا ابنه من غير مخاطر في فرنسا وعموم أوربا على مثليته، أفضل ألف مرة من أن يتعرض للقتل في الجزائر. في نهاية مناقشة لودفيك أطروحته وحصوله على تقدير مشرف جدًّا، قال والده محمد زاهد، لمحطة، فرانس 24، هذا اليوم هو أسعد أيام حياتي، أنا فخور بابني لودفيك؛ لأن المجتمع لم يكن متسامحًا معه، فهو تعرض إلى التهميش والتهديد من طرف إسلامويين في الجزائر، واليوم لا يستطيع أن يعود إلى هذا البلد لأنه مهدد بالقتل.

إشكالية المثلية الجنسية وفِقْه الموازنات

في يوليو من عام 2021م، كتب عضو البرلمان البريطاني الباكستاني الأصل، «أكرم خان »، وزير الهجرة في حكومة الظل في حزب العمال البريطاني تغريدة قال فيها: «إن الجالية المسلمة، والمثليين ومزدوجي الممارسة الجنسية، والمتحولين في بريطانيا، يعرفون أن لدينا جميعًا من المشتركات العامة أكثر من المسائل التي تفرقنا، ويجب ألا يكون للكراهية والفرقة مكان في مجتمعنا».

هذه التغريدة بدت كأنها أحدثت لبسًا بين الفهم التقليدي للمثلية كأمر مرفوض دينيًّا وإيمانيًّا، وبين مسألة اندماج مسلمي أوربا في الحياة السياسية، حيث لا انتقائية، فإما القبول بعناصر الحياة السياسية وشروطها كافة، وقد بات رفض المثلية تهمة تتسبب في عرقلة المشاركة في الحياة العامة، أو الانزواء بعيدًا مع التكلفة العالية للتهميش المتوقع.

في هذا الإطار يرى بعضٌ أنه كما ترتفع قضية مطالبة المسلمين في الغرب بالتضامن معهم، ولا سيما في مواجهة موجات الكراهية التي تشنها تيارات اليمين المتطرف؛ لذا فإنه حين يتعلق الأمر بالحقوق والمصالح الشخصية للآخرين، فإن على المسلمين إظهار التضامن مع المهمشين كافة ومنهم المثليون، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.

تصرح «بشرى ديليكايا» -التركية الأصل الألمانية الجنسية التي تعيش في برلين- لوسائل إعلام ألمانية بأنه: «لا يمكننا أن نتحدث فقط عن الإسلاموفوبيا وحسب، فإلى جانبها هناك أيضًا رهاب المثلية الجنسية، ومعاداة السامية، ومعاداة الغجر، والعنصرية الثقافية؛ لأن المسلمين ليسوا الأقلية الوحيدة التي تعاني الإقصاء اليومي».

تبدو القضية كأنها توازنات من التضامن مع التعاطف، تستلزم ربما استدعاء القاعدة الفقهية الشهيرة، «ارتكاب أخف المفسدتين لتفويت المفسدة الأكبر»، وهو أمر يدخل في سياق فقه النوازل أو المستجدات، أي المقاربة بين قبول المثليين والاندماج في الحياة العامة في المجتمعات الغربية، أو رفض الطرح المثلي ومن ثم تفضيل خيار الانعزال… هل المشهد بسيط على هذا النحو أم إنه أكثر تعقيدًا؟

أبناء المسلمين ومعضلة الغيتو

بالقطع لا، إذ تبقى هناك معضلة مثيرة للتفكر، وتتقاطع مع الأسباب الاجتماعية التي تجعل نسبة من يقبل من مسلمي الغرب، ولو على مضض، التماهي مع فكرة المثلية الجنسية، ونعني بها قضية العيش في أطر تعليمية وإعلامية، تفرض القبول بهذا التوجه الجنسي فرضًا. على سبيل المثال لا الحصر، باتت مسألة تشريع المثلية كمناهج تعليمية من الثوابت، ومن هنا يبدأ أولياء الأمور في التفكير والمقارنة بين إبقاء أبنائهم في هذه الأجواء التعليمية المرفوضة أخلاقيًّا، على مجانية الدراسة، أو القيام بنقلهم إلى مدارس ذات صبغة دينية إسلامية أو كاثوليكية، ترفض تقنين تلك التشريعات، لكن مع نفقات خاصة عالية ترهق كيان الأسرة ماليًّا. لكن إذا قدر لتلك الأسر تجنب العملية التعليمية، هل سيقدر لها العيش في غيتو إعلامي يتجنب غض البصر عن كل ما هو مرئي ومقروء ومسموع في الإعلام الحر لتلك الدول؟ وإلى أين يذهب الأطفال الذين يتابعون حكمًا الرسوم الكاريكاتيرية، بعد أن أعلن عملاق الترفيه، ديزني لاند، عن نيته لجعل المجموعات المثلية ممثلة في أبطاله بنسبة لا تقل عن 50% من الشخصيات العادية، بجانب 50% من الأقليات العرقية، وأصحاب الميول الجنسية؟

هل من خلاصة؟

فلسفيًّا المشكلة هي قضية تُحَلّ بأدوات ووسائل تقليدية، أما الإشكالية فعلى العكس من ذلك؛ إذ إنها تتطلب أدوات وحلولًا من خارج الصندوق. بالضبط، تبدو قضية القبول الإجباري من أنظمة ليبرالية مغرقة في ظلام تنويرها، والتعبير هنا، للفيلسوف الفرنسي اليساري الشهير، ريجيس دوبرييه، في كتابه «الأنوار التي تعمي». مسلمو الجاليات الأوربية والأميركية، حكمًا، يمضون مرغمين في طريق واحد، القبول اجتماعيًّا بما لا يقبلونه روحيًّا ووجدانيًّا، وما هو راسخ في قناعاتهم الإيمانية. من هنا ربما تكون الحاجة في تعاطيهم مع أطفالهم، وقبل الحديث عن المثلية وحرمتها في الأديان، إلى التربية على فهم قيمة الأسرة كنواة للمجتمع، وبسط حقائق الفطرة وزرعها منذ الطفولة في نفوسهم، علّ ذلك يخلق لاحقًا قدرة على التفكير الحر السديد، الذي يجعل من رفض التوجه المثلي خيارًا لا إجبارًا.

وفي كل الأحوال، تبدو المتغيرات الاجتماعية الداخلية، هي الروافع الأكثر تأثيرًا، بجانب نظيرتها المتصلة بشراكة الحياة السياسية في داخل دول المهجر، لجهة ارتفاع نسبة القبول بالمثليين، من جانب الجاليات الإسلامية الغربية، ولا سيما أن البديل الآخر المتاح هو التعرض لمزيد من اللاتضامن من بقية أطراف وأطياف المجتمع.

قديمًا قالوا: لا تحارب الحقائق، بل تعامل معها، ويبقى البحث عن أفضل الطرق للتعامل مع هذا الإشكال متاحًا ومباحًا من باب الاجتهاد، وبعيدًا من معطيات التكلس وأزمات الانسداد التاريخي.

قمة العشرين..  هل تنقذ البشرية من هوة الانحدار؟

قمة العشرين.. هل تنقذ البشرية من هوة الانحدار؟

تمثل قمة مجموعة الدول العشرين التي ستنعقد في الرياض في شهر نوفمبر، لحظة استثنائية في مسيرة العالم المضطرب على عتبات العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، ولهذا تتجه الأنظار نحو تلك القمة، التي لم يقلل من شأنها أنها افتراضية، بسبب هذا الفيروس الشائه الذي يضرب العالم شمالًا وجنوبًا، يمينًا ويسارًا.

يحمل الاسم الذي اختير للقمة دلالات إنسانوية واعدة، تتسق -لا شك- ورؤية المملكة 2030. إنها قمة «اغتنام فرص القرن الحادي والعشرين للجميع»، ولعل القارئ الحصيف في بقاع وأصقاع الأرض، يدرك أن العالم على أبواب تحديات جسام، وتغيرات جيوبوليتيكية جذرية، وكذلك فرص كبيرة، ولهذا فإن العقلاء والنجباء فحسب، هم الذين سيقدر لهم قيادة العالم، والمملكة في ظل رؤية تنويرية تجمع بين الأصالة والحداثة، تسعى عن حق لأن تكون حاضنة لمفاتيح حلول الملفات الاقتصادية والتنموية المعقدة، ومن هنا يمكن للمرء طرح أسئلة عديدة ومنطقية.

منطلقات أهمية القمة

تكتسي قمة العشرين في الرياض هذا العام أهمية خاصة ولا سيما أن جيوبوليتيك العالم قلق ومشوش، بل لا نغالي إن قلنا: إنه مضطرب إلى أبعد حد ومد. تنعقد القمة في عام استثنائي لم تعرف البشرية مثيلًا له منذ عام 1918م، أي عام وباء الإنفلونزا الإسبانية الذي أوقع الملايين من الضحايا حول العالم.

غير أن التأثيرات السلبية لفيروس كورونا المستجد أشد هولًا؛ إذ تضرب العالم، في أزمنة العولمة، حيث سقطت السدود وأزيلت الحدود، ولم يصبح العالم فقط قرية كونية كما أشار إلى ذلك عالم الاجتماع الكندي الشهير «مارشال ماكلوهان»، في ستينيات القرن الماضي، بل بات «حارة كونية» في ظل أدوات ووسائط التواصل الاجتماعي، ناهيك عن الترابطين الاقتصادي والمعرفي اللذين باتا يحكمان حركة البشر حول الكرة الأرضية.

تأتي القمة لكي تظهر القدرات الحقيقية للمملكة العربية السعودية في القيادة الأممية، وتحقيق مدركات طموحة سواء تلك التي تتعلق بالاقتصادات الفاعلة المستديمة، أو إيجاد حلول للمشكلات المتفاقمة، وما سيرشح بنوع خاص عن أزمات عام 2020م.

تقود المملكة اليوم قمة العشرين حيث ثلاثة ملفات تمثل قلقًا في النهار وأرقًا في الليل لمواطني المعمورة كافة، في المقدمة منها أحوال ومآلات الاقتصاد العالمي، ولا سيما بعد أشهر طويلة من الإغلاق، سواء الكلي أو الجزئي من جراء فيروس كورونا، وما إذا كان الوضع سيستمر في الأشهر المقبلة؛ إذ استمر انتشار الفيروس من غير مقدرة حقيقية على مواجهته والانتصار عليه.

المحور الثاني الذي يجعل من قمة العشرين حدثًا مميزًا ومهمًّا موصول بالتوترات والاضطرابات السياسية حول العالم، ولعل الناظر بعين مجردة للخارطة الدولية، يمكنه أن يقطع بأن المشهد الأمميّ الآنيّ مشابه لأوضاع البشرية، قبل الحرب العالمية الأولى من جهة، ومتجاوز لسيناريوهات زمن الحرب الباردة من ناحية أخرى.

ولعل عبء الملف السياسي المطروح أمام قادة وزعماء ورؤساء وملوك مجموعة العشرين هذا العام، يتجاوز الحروب والصراعات القائمة على أسباب تقليدية من حدود وموارد ونفوذ سياسي، إلى ما هو أخطر، أي نشوء وارتقاء مشاعر الكراهية بين الأمم والشعوب، وعودة أحاديث القوميات العنصرية، وانتشار حركات المدّ الشوفينيّ، عطفًا على تأجيج تيار العداء بين أتباع الأديان، وإشعال نيران القضايا الدوغمائية.

أما المنطلق الثالث الذي يجعل القمة في الرياض ذات وزن مغاير، فيرتبط بما يمكننا أن نسميه «الاقتصادات المستجدة»، حيث أشكال الاقتصادات التقليدية العالمية تتوارى، وتطفو على السطح اقتصادات الابتكار، وهذه عملتها المؤكدة ليست الدولار أو اليورو، بل المعرفة والمعلومات.

مجموعة العشرين وصمام الأمان

هل يمكن القطع بأن مجموعة العشرين تمثل صمام الأمان لعالمنا المعاصر؟ الشاهد أن ذلك كذلك قولًا وفعلًا، وعلى المرء مراجعة بعض الأرقام التي لا تكذب ولا تتجمل؛ كي يخلص منها إلى أهمية الحدث القائم على أرض المملكة في أوقاتنا الحاضرة.

تشكل دول مجموعة العشرين ديموغرافيًّا نحو ثلثي سكان العالم، وهو ما يعني أنها قوة سكانية، قادرة على تغيير الأوضاع وتبديل الطباع متى شاءت. هذه القوة تضم نحو 85% من حجم الاقتصاد العالمي، و75% من التجارة العالمية، وأكثر من 90% من الناتج العالمي الخام، وعليه فإنها مجتمعة تتجاوز فكرة المنتدى الذي يسعى للنقاش؛ إذ هي محرك حقيقي لدول صناعية وزراعية متقدمة، يجمعها هدف واحد ومهم، وهو الحفاظ على استقرار العالم اقتصاديًّا، والانطلاق إلى آفاق متقدمة من النمو الاقتصادي المستديم، حتى إن كانت الأجواء الدولية غير مواتية من جراء الوباء المستجد.

ولعله من بين الأسباب التي تكسب القمة مذاقًا خاصًّا، هو أنها تأتي في توقيت تُجري فيه المملكة برنامج إصلاح اقتصادي ومجتمعي كبيرين، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، بل يعزز الواحد حضور الثاني، فالاستثمار في الحجر، هدفه البشر، وبما ينعكس على حياة المواطن السعودي ورفاهيته في الحال والاستقبال.

ما يَجري في المملكة مؤطر بخطوط طول وخيوط عرض رؤية 2030 التي يقودها وليُّ العهد، وعليه فإن انعقاد القمة على أرض المملكة هذه الدورة، يعني أن تصبح التجربة السعودية الوليدة والجديدة محط أنظار العالم، ومنطلق انتصارات وطنية بهدف الدخول في شراكات استثمارية مع عمالقة العالم اقتصاديًّا.

القمة و تحديات في الطريق

والثابت أننا لا نغالي إن قلنا: إن هذه القمة تحديدًا، حافلة بالتحديات الجوهرية على الطريق، ورغم جسامة التحديات، فإنها تخلق فرصة فريدة لتشكيل توافق عالمي بشأن القضايا الدولية عند استضافة المملكة لها والحديث هنا لوليّ العهد السعودي.

ولعله يمكن إيجاز بعض من تلك التحديات في ثلاثة محاور:

المحور الأول: يمكن أن نطلق عليه الرؤية الكوسمولوجية، أي ذلك المنظور الأممي الذي يحتاجه عالمنا المعاصر، لمواجهة إشكاليات مُلحّة، في المقدمة منها الشباب الذين هم الأمل والمستقبل لبقية دول العالم، وكيف يمكن لدول مجموعة العشرين أن تفتح أمامهم المسارات، وتعبّد المسافات للحياة الكريمة، وإتاحة فرص العمل المبتكرة القادرة على تهيئة السبل للناس للعيش في ازدهار حقيقي مستديم.

هذا البعد حيوي وجوهري في 2020م خاصة، ولا سيما في ضوء ملايين الوظائف التي خسرها قطاع الأعمال الخاص والعام في ست قارات الأرض، خلال الأشهر التي انتشر فيها وباء كورونا.

ولعل المطلوب هنا أفكار إبداعية وليس اتباعية، أي التطلع إلى أفكار الابتكار، والعالم الرقمي، وما يستقطبان من مجالات عمل جديدة، أظهرت الجائحة أهميتها ولا سيما في ظل إشكالية التواصل عن بعد.

المحور الثاني: هو ذاك الموصول بالتهديدات الإيكولوجية التي تحوم من حول الكرة الأرضية، فقد باتت التغيرات المناخية تشكل خطرًا كبيرًا ورهيبًا، يمكنه أن يستجلب كوارث على البشرية.

والقارئ يدرك كذلك أن الدول العشرين الكبرى يقع على كاهلها العبء الأعظم في تقليل درجات الاحتباس الحراري المؤدية لارتفاع حرارة الكرة الأرضية، وإعادة ترتيب أزمات المياه، ومواجهة الحروب التي يمكن أن تنجم عنها، والحديث عن البيئة يستدعي ولا شك قضايا الطاقة، وما هو معرَّض منها للنفاد، وما هو طاقة متجددة، وهذه الأخيرة مسار اهتمامات العالم أجمعه.

أما المحور الثالث: فيمكننا أن نطلق عليه، محور النوازل أو المستجدّات، وهذه بدورها باتت تشكل عملة من وجهين، وصراعًا بين الخير والشر.

من بين تلك المستجدات أحوال الذكاء الاصطناعي، والميكنة، وما يعرف بـ«الأتمتة»، فما كان من ضروب الخيال العلمي قبل بضعة عقود، أضحى اليوم حقائق متجسدة على الأرض، غير أن الأزمة الحقيقية موصولة بطريقة استعمال تلك الأدوات والميكانيزمات الحديثة، فهل تُسَخَّرُ للمزيد من التعاون لمواجهة الاحتياجات العالمية، والاستفادة منها في التخطيط المشترك لكل مناحي الحياة الاقتصادية والعلمية، الاجتماعية والمدنية، أم إنها يمكن أن تَضْحَى وبالًا على الإنسانية المعاصرة…؟

هل من مثال خاص يمكن التوقف معه وعنده، مطروح بقوة على مائدة النقاش في قمة العشرين المقبلة، مثال كان للمملكة العربية السعودية بنوع خاص السبق في مداواته ومجابهته، والتصدي لتبعاته السلبية؟

مؤكد أن هناك الكثير من القضايا، لكننا سنختار واحدة فقط، وهي مسألة الأمن السيبراني، والتحديات التي تواجهها المملكة ومجموعة العشرين في هذا الإطار… ماذا عن ذلك؟

الأمن السيبراني تَحَدٍّ عصراني

من دون الخوض في غمار التحليلات التقنية، يمكننا الإشارة إلى مفهوم الأمن السيبراني، بوصفه مصطلحًا فرض نفسه عالميًّا في العقود الأخيرة، وتحديدًا في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، وذلك حين أضحت شبكات التواصل الاجتماعي هي من تقوم بالتحكم في دفة أغلبية الأنشطة الإنسانية المعاصرة.

ولعل المتابع لحركة التواصل الإنساني، ولا سيما بين الدول ذات المستويات المتقدمة من شبكات الاتصالات، يدرك تمام الإدراك كيف أنها باتت تعتمد بالكلية على الفضاء السيبراني في عمل شبكات الدفاع والهجوم على أراضيها، وإدارة بورصات الأوراق المالية، ثم مجالات الرحلات الجوية، إلى جانب وسائل الانتقال في البحار، وهو ما يعني أن من يملك زمام المبادرة وأدوات القيادة والسيطرة في هذا العالم غير المنظور، هو من سيقدر له تدبير شؤون العالم، وإحداث الفصول كما يريد، صيفًا أو شتاء، حرًّا أو بردًا، سلامًا أو حربًا.

وباختصار غير مُخِلٍّ، ما يستدعي أن يكون لهذا البند خاصة حضور مهم على مائدة النقاش في مجموعة العشرين، هو أن مسألة الأمن الخاص بالمعلومات المنتقلة عبر الأثير الإلكتروني إن جاز التعبير، باتت مجالًا ممهدًا لنسق إنسانوي أرقى وأسرع، وفي الوقت عينه مهددة حال جرت بها المقادير بوصفها أداة للشر، وهو ما أدى إلى ظهور قناعة عند الإستراتيجيين بأنها المجال الجديد في الحروب، بعد البر والبحر والجو.

لماذا يتحتم على قمة العشرين في الرياض تركيز بعض من نقاشاتها المحمومة على موضوع الأمن السيبراني؟

باختصار مفيد ووفقًا للإحصاءات العالمية، فإن هجمات الأمن السيبراني تهدد أنشطة اقتصادية حول العالم بما يقدر بـ«6» تريليونات دولار، أي ما يعادل 70% من الاقتصاد العالمي، وهو الأمر الذي يجعل العالم برمّته، باقتصادياته المتنوعة، وتماسك مجتمعاته واستقرار أجياله، في حاجة حتمية إلى تعزيز الأمن السيبراني وبلورة إستراتيجية قوية ومستقلة.

ماذا عن الصعيد العسكري، ولا سيما أن دول مجموعة العشرين هي الأكثر حداثة وعسكرة إن جاز التعبير، وعليه فهي الأكثر تعرضًا للتهديدات السيبرانية؟ الجواب يقودنا إلى قضية «الجيوش الإلكترونية»، وهي عبارة عن فِرَق للعمليات عبر الفضاء الإلكتروني داخل صفوف القوات المسلحة، تتكون من قراصنة معلومات مهمّتهم اختراق شبكات الكمبيوتر الخاصة بالخصم، ونشر برامج التجسس والمراقبة، وتنفيذ المهمات العسكرية التي تُطلَب منها، مثل: تعطيل أحد البرامج العسكرية، أو السيطرة على إحدى الشبكات، أو تدمير بعض الخدمات الإلكترونية.

والثابت أن جهود مجموعة العشرين لحماية الفضاءات السيبرانية المعلوماتية، تتساوق في واقع الأمر مع رؤية المملكة المستقبلية 2030، وما يدور في أطرها بنوع خاص من أفكار لتطوير قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات خلال عصر الثورة الرقمية، وظهور التقنيات الحديثة.

الخلاصة

يمكن للمرء الاستفاضة حول العناصر التي تجعل هذه القمة ذات ملمح وملمس خاص، وهناك مجالات وافية للسرد عن بقية التحديات، غير أن ما أردنا أن نلفت إليه العقول قبل الأنظار هو الأهمية الإستراتيجية لقمة العشرين، حيث الأحداث تتسارع، والعالم في مواجهة فائض من الفوضى غير المنظمة، وخيوط الاستقرار تبدو واهية، وخطوط المواجهات على أنواعها تظل الأوفر من أسف.

ينتظر العالم من المجتمعِينَ في المملكة توجهات تستنقذ البشرية من هوة الانحدار، وتباعد بينها وبين جُبّ الكراهيات.