الزمن النفسي في نصوص «زيارة» لعبدالله الصيخان

الزمن النفسي في نصوص «زيارة» لعبدالله الصيخان

الزمنُ النفسي أثرٌ يكابده الشاعر ويكتوي بناره، يتوغل أكثر فأكثر داخل مشاعره وأحاسيسه، ولا يذرُه إلا بعد إنهاكه، وسلب النوم من عينيه. حينها فقط يضعُ الشاعر قلمه، وقلبه، ويستريحُ من عناء البوح؛ فقد أنجز مهمته، وكفى. هذا ما تقدِّمه نصوص «زيارة» لعبدالله الصيخان، المؤلفة من (12) مقطوعة، ذات أفقٍ واحد، تتجه صوب المشاعر والأحاسيس، وتربط بينها وبين الأحداث الواقعية، على المستويين المحلي والعربي، وهو ما يشير إلى احتوائها حركتين: صاعدة وهابطة.

الحركة الأولى: الزمن النفسي الصاعد

صعودٌ للمشاعر والأحاسيس، حيث الانطلاق من الأضيق إلى الأفسح، مثلما هي قصيدة «نجمة الحبر»، التي يفتتحها بـ: «لنا قمرٌ في اليمامةِ.. عالٍ/ ولكننا حين نسهرُ يهبطُ من درجٍ في السماء ليسهر». الجملة الافتتاحية «لنا قمر»، تشير إلى العلاقة والتمازج بين الذات الجمعية والقمر؛ فالشاعر يؤسس لحركية النص منذ الجملة الأولى؛ ليقوم بعدها بدفع الحركة صعودًا، من خلال استعمال لفظة «لنا»، في بدايات المقاطع الموالية؛ ليؤكّدَ الزمنَ النفسيَّ، الذي تستغرقه القصيدة في حركيتها واندفاعتها: «لنا نجمة الحِبر../ نكتبُها../ والسماوات دفتر/… لنا في الرصافة نايان/ سينأى بنا الحزن حتى نؤلّف أرواحنا/ في كتابِ الهجاء/ المبعثر».

يستحضر الشاعر تاريخ العراق الحديث؛ عراق السيّاب، عبر التقاطع مع قصيدة «أنشودة المطر»، التي يتكئ عليها في صعوده. استحضار العراق يعني استحضار عروبة الزمن الحالي، وما تعانيه من إنهاك وتأزُّم، وهو ما ينعكس على الزمن النفسي للشاعر: «لنا في الحمام/ هديلُ اثنتين/ ولكنّ دمعهما قد تحجّر/… لنا في الحنان فؤادٌ يتيم/ ولكنه، حين نعشق، / أخضر».

استحضار الواقع العربي الحديث؛ لا يكفي للصعود، فالشاعر محتاجٌ إلى استعادة تاريخه وتراثه الموغل في الزمن، مؤكدًا عدم انفصاله عنه، وأنه ليس سبب التراجع: «لنا امرؤ القيسِ/ يبحث عن بلدٍ ضائعٍ/ ثم يُقبر…/…/ لنا ما لنا/ غيرَ هذا الجحيم الذي قد أحاط بنا/ من جميع الجهاتِ/ ولكنه عن ندى/ سوف يُحسر».

لا يأتي «امرؤ القيس» بهدف الاستحواذ على الراهن، والاستيلاء على المستقبل، بل ليساهمَ في دفع الأمة العربية إلى الأمام؛ للخروج من واقعها الفوضوي، ومأساويتها القاتلة، ولهذا يرد ختام المقطوعة بصرخة عابرة للقومية والمناطقية والقبائلية، التي تُفرِّق العرب والمسلمين: «لنا الله.. والله أكبر». هكذا تنتهي رحلة الصعود في القصيدة؛ حيث تدرَّجت من الذات الفردية، الممتزجة بهموم الذات العربية، وصولًا إلى الذات الإلهية، وهناك توقف الشاعر وأطلق صرخته المدوِّية «الله أكبر».

قصيدة «زيارة» تمثل كذلك الزمن النفسي الصاعد؛ إذ يفتتحها بـ«من ها هنا.. نهر الطفولة مر»؛ وهي اللازمة التي تحرك القصيدة وتدفعها إلى الأمام؛ حيث الانطلاق من الأضيق إلى الأفسح، ثم يكمل بعدها مازجًا الذاتي بالمحلي: «هذي سدرة الجيران تسدل ظل خضرتها على الجدران/ وضممت لي من سدرها ما يملأ الكفين.. / ثم شممته…/ فرجعت طفلًا». ينتهي المقطع بإطلاق صرخة مدوِّية، يمكن للقارئ تبيّن أثرها بصورة جليّة، يتلوها استفهام يمهد لإكمال الذات صعودها النفسي. فالهدف ليس التوقف عند لحظة الطفولة، بل مجاوزتها إلى ما يرتبط بمحيطها وتاريخها: «الله يا نهر الندى/ قد كنت أحلى؟».

يعاود الزمن النفسي انطلاقته وصعوده مع استمرارية القصيدة، حيث تأتي اللازمة بتغيير طفيف، مناسب للمرحلة الجديدة: «من ها هنا نهر الطفولة سال». حيث تتقاطع وتتمازج مع المحلي «فانسابي وئيدًا يا خطاي»، والتراثي (أو قيل.. يمضي إلى الصحراء يلتقط الحصى ويعيد نسج حكاية المجنون)، في استعادة لذاكرة المكان، ولذاكرة الإنسان. المكان باعتباره المنشأ والطفولة، والإنسان باعتباره التراث والامتداد، وهدف الاستعادة الاتجاه صوب الأنثى التي تغدو خلاصًا للذات مما تمر به من أزمات نفسية فـ«لا ليله ليلٌ/ ولا أيامه مثل النهار».

التأسيس لنهاية الصعود النفسي يتم على مرحلتين: الأولى، عبر استحضار «الحمام»؛ ليكون ناقل الرسالة بين الذات والأنثى «قبِّل أظافرها وقل مضناكِ أسقمه النوى»، «وقل لها أني تعبت من الجوى». هنا تبلغ القصيدة ختامها، وتستعد للبوح بأسرارها، فالصعود النفسي اكتمل، وحانت لحظة الكشف، حيث التوحد والتلبس بالنجم السماوي الساري أبد الدهر: «وكأنني النجم الذي أبدًا/ طوال الدهر ساري/ فمتى تفك حبيبتي الأولى…/ إساري؟».

استفهام الختام أحال القارئ إلى الاستفهام الأول؛ الذي انطلقت منه حركة الصعود «الله يا نهر الندى قد كنت أحلى؟»؛ إذ المقارنة جارية بين واقعين: أحدهما سابق والآخر لاحق، حيث السابق قيَّد الذات ومنعَها من الانطلاق، فهو يمثل الحالة الطفولية التي مرَّت بها، وما زالت مستمرة. هذه القصة نفسها؛ تشبه قصة الأمة العربية في تراجعها وتمسكها بالقديم، دون النظر إلى المستقبل، أو وجود إمكانية للتغيير، ولهذا ورد الختام صرخة مدوِّية، أطلقها الشاعر: «فمتى تفك حبيبتي الأولى… إساري؟».

الحركة الثانية: هبوطٌ من الأفسح إلى الأضيق

هذه الحركة معاكسة لحركة الصعود، مثلما هي قصيدة «وجدان»، التي تعود مناسبة كتابتها إلى تفجير إرهابي؛ أودى بحياة طفلة بريئة عام 2004م تحمل الاسم نفسه، في منطقة الوشم، إذ يفتتحها بـ: «نمرُّ على الوشمِ/ قلب الرياض يدقّ على باب هذا الجسد/ يقول افتحوا البابَ كي يتسلل من رئتي الدخانُ الذي في سماي احتشد». الجملة الافتتاحية «نمرُّ على الوشم»، تشير إلى العلاقة والتمازج بين الذات الجمعية «نمرُّ»، والمكان «الوشم»، فالزمن النفسي يحضر داخل القصيدة، مصطحبًا معه الأحداث المحلية والعربية؛ إذ لا انفصال بين الذات والأحداث المحيطة بها: «أتيتُ هنا قبل عشرين عام/ ومن شارعٍ فيه تبدو فلسطين كنا نحثُّ الخطى نحو حلم الصبا وكانت/ حديث الرفاق وأول أشعارنا في الحنين وآخر أشعارنا في القمر».

الشاعر مهموم بأمته ومشكلاتها وواقعها المأساوي، والتغيير لا يتحقق إلا باجتماع أبنائها، فاليد الواحدة لا تصفق، فمن التوحد بين الذاتين الفردية والجمعية؛ تنطلق حركة القصيدة، مستخدمة القناع الأنثوي «وجدان»؛ التي ترمز إلى فلسطين، لهذا يكررها الشاعر في المقاطع الموالية: «ووجدان كانت هناك تلاعبُ عصفورها في حذر/ وتسقيه ماء الحياة ولم تدرِ أنَّ الطغاة سيسقونها من شراب أسن/ ووجدان كانت هنا –قرب هذا الجدار– تُحدّث عصفورها عن دروس/ الصباح وعن حلم أمس الذي ما رأت مثله في المنام: كانت تطير إلى أفق/ أخضر وسرب عصافير بيض يشاركها في الدعاء لهذا الوطن/ ووجدان كانت حديث الرفيقات في الصف كانت تجيد التأمل في الكائنات/ وكانت تريد التحدّث عن أملٍ منتظر».

الزمن النفسي يتخذ مسارًا هابطًا من الأفسح إلى الأضيق؛ من فضاء العروبة إلى فضاء أخص، هو فضاء فلسطين وقضيتها، حيث رمز إليها بالأنثى «وجدان»، أمَّا ختامها فتأكيد على أن فلسطين باقية لا تموت: «ووجدان كانت هنا دمعةً في البيوت –تحت هذا الجدار– ولكنها سوف/ تبقى لنا كالنخيل الذي لا يموت..
وإرهابهم يُحتضر».

من فضاء الجماعة إلى الذات

قصيدة «القلطة» ذات المدلول المحلي، المستوحى من حياة البيئة، تشير إلى الضيافة والكرم، وما يتصل بهما من شهامة ومروءة وإعانة وإغاثة، وهي صفات الفارس الأصيل، الملتزم بالقيم الأخلاقية والاجتماعية عند العرب. تمثل كذلك الزمن النفسي؛ إذ افتتاحيتها تبدأ بتكثيف اللحظة، والإفصاح عن حركتها الهابطة: «ذهب الناس بمعناهم، وخلوني وحيدًا..»؛ حيث الاتجاه من فضاء الجماعة الأفسح، إلى فضاء الذات الأضيق.

حركة القصيدة تبدأ من عبارة الافتتاح؛ إذ الذات المتوحدة والمعزولة، تبحث عمَّا يملأ فراغ أوقاتها، لهذا لجأت إلى تدوين الأشعار على «الورق الأبيض» في أثناء بحثها «عن المعنى..»؛ عن هموم القبيلة، وما يشغل تفكيرها، في محاولة لمساعدتها؛ كي تخرج من مآزقها، التي هي مآزق الأمة العربية. لذا؛ حينما سمع صوت عودتهم، اعتمر «ثياب الحكمة»، وأصغى لأناشيدهم، وتساءل: «هل رجع البدو من المقناصِ يتلون قصيدا؟».

استخدم الشاعر تقنية الاستدعاء للتراث العربي (شعر المحاورة)، عبر التماثل بينه وبين تقاليد البيئة المحلية (شعر الرديّة)، حيث مزج الهمَّيْنِ الخاص والعام؛ همّ الشاعر وقبيلته، وهمّ العروبة في تخلفها وتراجعها، وبهذا يكون التساؤل حول عودة البدو من المقناص؛ تساؤلًا عن قصدية الحياة الحالية، والهدف من ورائها، والبحث في كيفية تقدم الأمة وتطورها.

استحضار العروبة والتراث؛ أبرز فاعليتهما، وتأثيرهما على الذات؛ حيث أمدَّاها بشعور الأمان والاطمئنان. لكن التساؤل عن هدفية الحياة وقصديتها اتخذ منحًى فرديًّا، حينما انتقل من الفضاء الأفسح؛ فضاء القبيلة والعروبة، إلى الفضاء الأضيق؛ فضاء الذات والشعر. لجأت الذات في أثناء بحثها عن إجابة لسؤال الهدفية والقصد «المعنى..»، إلى إيجاد معادل موضوعي يساهم في مساندتها ومساعدتها، خلال مرحلة هبوط الزمن النفسي، فالقبيلة حين عادت واستعدَّت للراحة: «انسل فتى وتلوى الصفّ طيرًا بجناحين من الأبيض والأحمر../ ينشقّ عن الصف غلام يلثغُ الشعر أسمّيه قريني/ حين قال: قربوا (الطار) من النار قليلًا.. فهناك الصف.. قام».

الـ«فتى» يتميز بأمرين: بأنه القرين القادر على الإنشاد، وبأنه يجيد قيادة الأوركسترا البدوية. وبهذا يكون معادل الذات الموضوعي، الذي رفض الشاعر تسميته، وجاء به نكرة دالة على العموم، فأحال إليه مهمة البحث والتنقيب عن «المعنى..»، وهي الإحالة الشاملة لجميع أبناء الأمة، بينما اكتفى بالجلوس والمراقبة: «وأنا أنقل (مسباحي) من يُمْنَى ليُسْرَى».

المقطع الأخير مشهد حواري مع أحد المنتشين بالرقص والغناء. حينما تساءل: «ما الذي تفعله الأرض بنا يا صاح؟»، فجاءه الجواب: الشعر سر «أسرار الغرام»، ووحده القادر على اجتراح المعجزات، حينها رغب المنتشي بالحصول على السر: «امنحني يدًا.. صوتًا مديدًا». الذات عاجزة، لا تستطيع منح الشعر للآخرين؛ حيث الشعر معادل للمعرفة والحقيقة، فعبره تنكشف أسرار الأمم وأسباب تفوقها، وهو الهمُّ الذي حملته القصيدة، لهذا جاءت نهايتها صادمة: «قال ما قال ولكن إذ تلفتُّ رأيت/ لم يكن في الحلبة من ناسٍ سواي../ وأنا أنقل (مسباحي)/ مختالًا.. وحيدًا». هبط الزمن النفسي من الفضاء الأفسح؛ فضاء القبيلة والعروبة، إلى الأضيق والأخص؛ فضاء الذات المتوحدة والمنعزلة، التي لا تمتلك القدرة على تغيير الأحداث، ما لم تسعفها الجماعة وتساعدها، حيث وقعت ضمن مفارقة حادة؛ تسببت بذهولها، وعدم إدراكها لما يحصل، فاكتفت بالجلوس والمشاهدة، ونقل المسباح «من يمنى ليسرى»، من دون أن تصدر صرخة واحدة؛ فـ«لم يكن في الحلبة من ناسٍ» سواها.

الحركتان الصاعدة والهابطة نتيجتهما واحدة، والسبب راجع إلى الرغبة في تجاوز الواقع المأساوي للأمة الإسلامية. فعلى مستوى الحركة الصاعدة حضرت قصيدة «نجمة الحبر»، التي استعار لها عبارة «الله أكبر»، وضمنها صرخته، وكذلك فعل مع قصيدة «زيارة»؛ إذ ضمنها تساؤله الحاد «فمتى تفك حبيبتي الأولى… إساري؟». أمَّا على مستوى الحركة الهابطة، فقد حضرت قصيدة «وجدان»؛ حيث استعار رمزية النخلة ودلالتها على الحياة والاستمرار «تبقى لنا كالنخيل الذي لا يموت»؛ ليشير إلى استمرارية القضية الفلسطينية، بينما في قصيدة «القلطة»؛ التي اختتمها بتدوير المسباح «من يمنى ليسرى»، اكتفى بالجلوس والمراقبة؛ لتكون سلبيته وعدم قيامه بفعل أشد تأثيرًا من صرخاته المدوِّية.

«بحثًا عن الزمن المفقود» في مرآة «ألف ليلة وليلة»

«بحثًا عن الزمن المفقود» في مرآة «ألف ليلة وليلة»

تقدم سباعية مارسيل بروست ملحمة زمنية تعود بالقارئ إلى الماضي وكأنه يستعيد أحداث الأمس وينظر لها من اتجاهات متغايرة، تختلف عن نظرته الأولى التي اعتقدها صحيحة، وظنها الوحيدة الحقيقية، فالأكاذيب تنكشف، ولا تنطلي عليه حينئذ. صدرت الترجمة العربية الثانية (الأولى عبر دار شرقيات) عن دار الجمل، وتكونت من سبعة أجزاء، تقع في حدود خمسة آلاف صفحة، لتشكل بذلك إحدى أطول الروايات في العالم، وتتميز -إضافة لطولها- بجملها الطويلة والمتتابعة التي ترهق القارئ، ما لم يكن مستعدًّا لذلك. وتطرح الرواية قضايا عدة بتركيز شديد؛ حيث تعيد تدويرها ضمن أكثر من جزء، كقضية «دريفوس» التي نالت شهرة واهتمامًا من الطبقة المثقفة إبان القرن التاسع عشر. ومن القضايا التي يطرحها الراوي وتعالجها الرواية هي حضور «ألف ليلة وليلة»، وتأثيرها في الكُتاب في العصور السابقة(١)، وهذا الحضور اتخذ شكلين أساسيين؛ الأول: التأثير في الراوي، والثاني: التأسيس لأحداث القصص الداخلية في الرواية.

التأثير في الراوي

يطرح أندريه موروا تساؤلًا حول سبب طول رواية «بحثًا عن الزمن المفقود»، والإجابة التي يقدمها تعود به إلى «ألف ليلة وليلة»(٢)، حيث يؤكد أنها هي التي ألهمت الكاتب. هذه النظرة الخارجية ليست وليدة رأس أندريه، فمارسيل بروست صرَّح داخلها؛ في معرض حديثه عن الشرق: «لم يراود خيالي شرق «ديكان» ولا شرق «ديلاكروا»… وإنما الشرق القديم كما في «ألف ليلة وليلة» التي أحببتها كثيرًا، وبينما كنت أهيم في شبكة هذه الشوارع السوداء، فكرت في الخليفة هارون الرشيد وهو يبحث عن مغامرات في الشوارع المنسية من بغداد»(٣)، وهي إشارة دالة على تأثير كتاب الليالي في تشكيل الذهنية الغربية عن الشرق، الذي يحتفل بالغرائب والعجائب(٤).

ويتحدث في الجزء نفسه حول طول روايته، ويصرح بأنه «سيكون كتابًا بطول ألف ليلة وليلة ربما، ولكنه مختلف تمامًا. لا شك أننا عندما نحب عملًا ما فإننا نرغب في فعل شيء مشابه له، ولكن يجب أن نضحي بهذا الحب الآني، وألا نفكر في أذواقنا، وإنما في حقيقة لا تطلب منا ما نفضله، وتمنعنا حتى من التفكير فيه. فقط عندما نتبعها نصادف أحيانًا ما تخلينا عنه، ونجد أننا كتبنا «الحكايات العربية» عندما نسيناها»(٥)، وهو تصريح يحمل من الدلالات الكثير، فتأثير (الليالي) يتجاوز المحيط العربي إلى العالم، وما العودة إليها بالإشارة تارة أو التصريح أخرى إلا دلالة على هذا التأثير وقوته(٦).

وفي أثناء حديثه عن البندقية، يُدهش لجمال أبنيتها ومتاحفها وكنائسها، فيتوقف عن السرد ويُفسح المجال أمام مشاعره: «كنت أخرج وحيدًا في المساء، وسط المدينة السحرية فأجد نفسي، في الأحياء الجديدة، كشخصية من شخصيات «ألف ليلة وليلة»»(٧). ولا يتوقف هنا، بل يكمل توصيفه للبندقية واكتشافه ساحة واسعة وقصورًا فخمة، فإذا به يُشبهها بـ«قصور الحكايات الشرقية التي نجلب إليها في الليل شخصية روائية، ثم نعيدها إلى منزلها قبل طلوع الفجر، بحيث لا تجد المسكن السحري وينتهي بها الأمر إلى الاعتقاد بأنها لم تذهب إليه إلا في الحلم»(٨).

ويبلغ التأثير مداه في الجزء السابع حيث لا يزال يتحدث عن رحلته، إذ يشير إلى «فندق السفراء القديم في مدينة البندقية الذي يحتوي على صالة للتدخين جُلبت كما هي من قصر شهير نسيتُ اسمه، على غرار قصور ألف ليلة وليلة»(٩). ولا تتوقف تأثيرات الليالي على المباني والساحات والفنادق، بل تصل إلى الحياة اليومية، والأطباق الشهية ففي الجزء نفسه (السابع) وبعد تناوله للطعام إذا به يتذكر «شخصية من شخصيات ألف ليلة وليلة راحت بعفوية تؤدي حركة لتُحضر بها جنيًّا مطيعًا ومستعدًّا لنقلها إلى مكان بعيد»(١٠). والإشارة هنا إلى حكاية علاء الدين والساحر الإفريقي. كما أنه في الجزء الأول أيضًا يصرح بهذا التشابه: «ونحن لا نزال جالسين أمام صحون الألف ليلة وليلة وقد أثقل علينا الحر وبخاصة الطعام»(١١).

أما في الجزء الثاني فيورد التداخل بين محبوبته السابقة جيلبيرت والحلوى وارتباطها الذهني بالليالي العربية: «كانت تذكّرني بقصعات أقراص الحلوى الصغيرة، قصعات ألف ليلة وليلة التي كانت تسلي عمتي «ليوني» عظيم التسلية بموضوعاتها حينما كانت «فرانسواز» تجيئها يومًا بعلاء الدين أو المصباح السحري وآخر بعلي بابا أو النائم اليقظان أو السندباد البحري الذي يبحر من البصرة حاملًا كل أمواله»(١٢).

التأثير في الرواية

لا ينفصل نوعا التأثير إلا بمقدار محدود، فامتداد الأثر ينتقل من الذات إلى المكتوب الحكائي، وهو ما شاهدنا بعضه، وتاليًا سنكمل بقية التأثير المرتبط ببناء الحكاية التي يقدمها بروست، حيث يرى أن الأساس الذي اعتمد عليه هو الحكايات العربية، وأنه كتبها من حيث نسيها، فرواية «بحثًا عن الزمن المفقود» وهي تطرح قضاياها وتقوم بتشريحها تستحضر «ألف ليلة وليلة»، وتوليها أهمية كبرى لتقريب الصورة إلى ذهن القارئ، مثل حديثه عن النوتة الموسيقية أو الرسوم التوضيحية والمنمنمات أو حديثه عن الألوان وتوزيعها. حين يتحدث عن النوتة الموسيقية التي تمثل محورًا مهمًّا من محاور بناء المعمار الفني للرواية(١٣) يشير إلى أنها «تشبه الزخرفات العربية»(١٤) وهو دليل على أن للثقافة العربية انتشارًا وحضورًا راسخًا في ذهنية القارئ الغربي وفي تشكيل وعيه الجمالي، فالموسيقا تأخذ أفكاره بعيدًا «وددت لو كنت واحدًا من أشخاص ألف ليلة وليلة التي كنت أقرؤها دون انقطاع، والتي فيها فجأة في فترات الحيرة والشك جني أو فتاة يافعة فاتنة الجمال تخفي على الآخرين لا على البطل المرتبك الذي تكشف له بالضبط ما يرغب في معرفته»(١٥).

أما حين يتحدث عن تقاسيم الجسد الذكوري وجمال الوجوه، فيعود إلى الزخارف الموجودة في الإنجيل وفي منمنمات ألف ليلة وليلة، وينسبها: «لرسامين كان عليهم وضع رسوم إيضاحية للأناجيل أو لكتاب ألف ليلة وليلة، ففكروا بالبلاد التي يجري فيها المشهد، وجعلوا للقديس بطرس أو لعلي بابا بالضبط الوجه الذي لأضخم شخصية في «بالبيك»»(١٦). على مستوى الألوان وتوزيعها وجمال تناسقها وعلاقتها بالموسيقا، يصف بروست (الموشور الضوئي) في أحد مشاهده «كأنما ذلك كنز غير متوقع ومتعدد الألوان، عن سائر الأحجار الكريمة في «ألف ليلة وليلة». ولكن كيف نشبه بهذا التألق اللامتحرك للنور ما كان حياة وحركة دائمة وسعيدة؟»(١٧)، فعبر المشابهة بين الحدثين يستدعي الذاكرة التي ترى أن الشرق العربي غني بحكايات أسطورية وعوالم سحرية لا تنتهي، وهي مصدر الجمال ومعيار التناسق.

أما على المستوى النفسي والتعبير عن الحالات التي تعتري الإنسان، فيلجأ بروست إلى استعارة عبارتين من عبارات ألف ليلة وليلة، هما: «وقد انشرح فؤاده… وهو في غاية الارتياح»(١٨)، وهذا يدل على عمق التأثير الثقافي لكتاب الليالي في الفرد والذهنية الأوربية، ومساهمته في تشكيلها وتحديد سماتها. كذلك يظهر تأثير حكايات ألف ليلة وليلة في شخصيات الرواية حيث تقول جوبيان للراوي: «ظننت أنني، كالخليفة في ألف ليلة وليلة، وصلت في الوقت المناسب لأجد رجلًا كان يُضرب، وإذا بي أمام حكاية أخرى من حكايات ألف ليلة وليلة، حكاية المرأة التي مُسخت كلبة تُضرب بطوعها كي تستعيد شكلها الأول»(١٩).

أكثر من خمسة عشر مقطعًا توزعت بين تأثيرات في الراوي وتأثيرات في الرواية. هذه التأثيرات لها امتداداتها الثقافية داخل الذهنية الغربية وذلك ما اتضح عبر المقاربة مع الموسيقا والعمارة الهندسية وتناسق الأجسام والأثر النفسي بما هو أثر ثقافي مُترحل من ثقافة لثقافة ودال على الارتياح وانشراح الصدر، وهنا يمكن القول: إن كتاب «بحثًا عن الزمن المفقود» يدين بالفضل في ظهوره إلى كتاب «ألف ليلة وليلة»، الذي قرأه بروست، ثم نسيه، فعاد ليكتب حكاياته بلغته الخاصة الممتزجة بثقافته.


هوامش‭:‬

(١) مومسن كاثرينا، غوته وألف ليلة وليلة، ترجمة: أحمد حمو، مطبوعات وزارة التعليم العالي، سوريا – دمشق 1980م، ط1، ص89: لقد ألهبت الليالي خيال القراء الفرنسيين وتركتهم يحلمون بأجوائها السحرية الدافئة ولعل من مظاهر ذلك الأثر ما اعترف به الأوربيون أنفسهم من عظيم مكانتها عندهم، فلقد وصف (أويسترب) أهميتها بقوله: «فيما عدا الكتاب المقدس لا توجد سوى كتب قليلة حققت انتشارًا واسعًا وطافت العالم بأرجائه مثل مجموعة «ألف ليلة وليلة» لأنه يكاد يوجد في معظم البلدان المتحضرة من يقرأ هذا الكتاب بسرور مرة واحدة على الأقل في حياته».

(٢) مارسيل بروست، بحثًا عن الزمن المفقود، ترجمة: إلياس بديوي، منشورات الجمل، بيروت – بغداد 2019م، ط1، ج1، ص134.

(٣) مارسيل بروست، بحثًا عن الزمن المفقود، ترجمة: جمال شحيد، ج7، ص141.

(٤) محسن جاسم الموسوي، ألف ليلة وليلة في الغرب، دار الجاحظ للنشر، العراق – بغداد 1981م، د.ط، ص36: كل شيء خارق وعجيب، والهدف فيها هو إثارة عجب القارئ ودهشته.

(٥) مارسيل بروست، بحثًا عن الزمن المفقود، ترجمة: جمال شحيد، ج7، ص404.

(٦) شريفي عبدالواحد، ألف ليلة وليلة وأثرها في الرواية الفرنسية في القرن الثامن عشر، دار الغرب للنشر والتوزيع، الجزائر – وهران 2005م، د.ط، ص89: اكتسيت حكايات الليالي أهمية كبرى بانتشارها في العالم، فقد أثارت في نفوس قرّائها رغبة في معرفة الشعوب التي أنتجتها وحثتهم على السفر إلى بغداد ومصر والشام وإيران والهند.

(٧) مارسيل بروست، بحثًا عن الزمن المفقود، ترجمة: جمال شحيد، ج6، ص250-251.

(٨) مارسيل بروست، بحثًا عن الزمن المفقود، ترجمة: جمال شحيد، ج6، ص251.

(٩) مارسيل بروست، بحثًا عن الزمن المفقود، ترجمة: جمال شحيد، ج7، ص28.

(١٠) مارسيل بروست، بحثًا عن الزمن المفقود، ترجمة: جمال شحيد، ج7، ص203.

(١١) مارسيل بروست، بحثًا عن الزمن المفقود، ترجمة: إلياس بديوي، ج1، ص226.

(١٢) مارسيل بروست، بحثًا عن الزمن المفقود، ترجمة: إلياس بديوي، ج2، ص533

(١٣) مارسيل بروست، بحثًا عن الزمن المفقود، ترجمة: جمال شحيد، ج1، ص134: (يتساءل موروا): ما عسى أن تكون موضوعات سيمفونية «بروست» العظيمة؟

(١٤) مارسيل بروست، بحثًا عن الزمن المفقود، ترجمة: إلياس بديوي، ج1، ص379.

(١٥) مارسيل بروست، بحثًا عن الزمن المفقود، ترجمة: إلياس بديوي، ج5، ص277.

(١٦) مارسيل بروست، بحثًا عن الزمن المفقود، ترجمة: إلياس بديوي، ج2، ص352.

(١٧) مارسيل بروست، بحثًا عن الزمن المفقود، ترجمة: إلياس بديوي، ج5، ص283.

(١٨) مارسيل بروست، بحثًا عن الزمن المفقود، ترجمة: إلياس بديوي، ج3، ص453.

(١٩) مارسيل بروست، بحثًا عن الزمن المفقود، ترجمة: جمال شحيد، ج7، ص165-166.

أتوضأ نصري وأنهزم

أتوضأ نصري وأنهزم

ينفتح الباب بشكل مباغت، داخلُه يصرخ بقوة: متى ينتهي هذا اليوم؟ زميلاه في الغرفة تكاد أعينهما تسأل: ما بك؟ سرعان ما تنطفئان وتعودان إلى الأوراق المتراكمة، ثمة عمل يكفي لسنة، آخر ما يشغلنا متقلب المزاج هذا؟!

يلقي بثقله على الكرسي، يبدأ فتح الأدراج، واستخراج رزمة ملفات، الأهمية للتواريخ القديمة، هذا من شهر، التالي من بضعة أيام، التالي معاملة متوقفة منذ ثلاثة أشهر، … أسبوعان، التالي التالي التالي، حياته تختصرها ملفات متراصّة، عليه الانتهاء بأسرع ما يستطيع، يقوم بترتيبها حسب التواريخ، الملف الأول يعود لبداية العام، سينتهي منه ثم ينتقل إلى الذي بعده، وهكذا.

طلب لنفسه: كوب قهوة بدون سكر، (يؤكد عليه) بدون سكر. مزاجه ليس في أحسن أحواله، تأخر البارحة في النوم، والد زوجته يعاني مشاكل صحية ما استدعى بقاءها إلى جواره، انشغل مع الأولاد، أخذهم إلى الشاطئ كي لا يسببوا إزعاجًا، يحب الأطفال إنما ليس إلى حد أن يصبح أمًّا ثانية، يعترف: لا أجيد التربية!

ببطء، يقرأ ملاحظة دوّنها بخطه: يجب مراجعة الفواتير واحتساب قيمتها التي ينبغي أن تتطابق مع خانة المصاريف، يرفع الورقة ويضعها جانبًا، يقلب الصفحة ليجد الحساب النهائي: ثلاثة وثلاثون مليونًا وأربع مئة وسبعة وخمسون ألفًا تكلفة الإنشاء مع مواد البناء، الفواتير موجودة بعدها مباشرة، يقلب الصفحة ويمد يده باتجاه الآلة الحاسبة.

يقترب عامل الخدمة ويضع الكوب بهدوء: قهوة بدون سكر. شكره ثم عاود دفن رأسه بين الفواتير، يحسب الأرقام عبر الآلة الحاسبة، النتيجة مختلفة، يحك رأسه، لا يدري أين أخطأ! يعيد الحساب، تأتي النتيجة مختلفة، يفقد هدوءه، مضت ساعتان ونصف أجرى الحسابات وما زالت غير متطابقة، يشعر بالاختناق، سيقوم بالحساب مجددًا، ربما أخطأ في الحسابات الداخلية، تسع مئة وعشرون ألفًا مبلغ لا يتبخر؟!

يسحب نفسه إلى الخارج، يستقل المصعد إلى الطابق الأرضي، يخرج من البناية الشاهقة، للشركة أذرع أخطبوطية في جميع المناطق، هنا المركز الرئيس، تدار العمليات عن بعد، اتجه بيده صوب جيبه، التقم سيجارة وصار ينفث الدوائر الدخانية في الهواء، واحدة لا تكفي، التقم الثانية، ذهنه مشغول بالحسابات الخاطئة، ظل يعيد على نفسه الخطأ؛ تسع مئة وعشرون ألفًا أين يمكن أن تختفي؟ فكَّر في الاتصال بالمدير المسؤول عن قسم المحاسبة، أبعدها عن رأسه؛ سيُسمعه كلامًا قاسيًا، ويتهمه بالتقصير والتكاسل، «آهٍ من المديرين، يظنون الموظف لا يجتهد في إنجاز عمله، إلا بالتهديد والوعيد، كم هم مخطئون!» قرر تأجيل الاتصال لحين الانتهاء من المراجعة الكاملة للفواتير، وإذا ظهر فيها خطأ لن يلومه بعدها.

بدل الاتصال بمديره قرر الاتصال بصديقه؛ ليذكّره بموعدهما: صباح جميل! صباحك أجمل. موعدنا بعد الانتهاء. لم أنسَ يا صديقي، لكن لماذا الاهتمام الكبير بهذا الموعد؟ أهناك ما ستخبرني به؟ لا شيء، اشتقت لك فقط. (يضحك علي ويجيب): أنا أيضًا مشتاق لك (يعض على أسنانه في نهاية الجملة): أنا في الأسفل أحتاج وقتًا للتفكير في الأعداد الكثيرة التي تمتلئ بها الفواتير، ألا تودّ مشاركتي؟ الهواء هنا منعش! ألتقيك على الموعد.

عاد إلى مكتب المحاسبة، وفتح الباب بهدوء، وجد زميليه منهمكين في الحسابات، تذكر أنه لم يحيهما: صباح الخير يا رفاق. يرفعان رأسيهما: صباح الظهيرة (في وقت واحد)، ينظر إلى الوقت؛ الحادية عشرة، استغرق وقتًا في الحسابات الأولى وما زال أمامه الكثير، يجلس على الكرسي، ويدفن رأسه داخل الملف، يسحب فاتورة، ويقوم بحسابها وحدها، يتأكد من مطابقة الأرقام للناتج النهائي، عشرات الفواتير قام بجردها وتنظيمها، الوقت يمضي سريعًا دون أن يشعر، رنّ الهاتف في جيبه، استخرجه ونظر إلى المتصل: علي عبدالواحد الصافي.

أهلا بك يا صديقي.

علي: أين أنت؟

عادل: في الملف! أقصد في المكتب.

علي: (يضحك برشاقة) «بعَدما انتهيت؟» نسيت الموعد؟

عادل: (بضيق) كم الساعة الآن؟

علي: الرابعة يا رجل!!

عادل: (يصدم رأسه براحة يده) كيف لم أنتبه! دقائق وسألاقيك عند البوابة.

علي: لا تتأخر.

عادل: سآتي حالًا، ( يسمع صوت علي يُنهي المكالمة).

وهذا الملف كيف أنتهي منه؟ استلّ ورقة بيضاء وضعها عند الفاتورة التي وصل إليها، سيعاود فتحه غدًا، أما الآن عليه أن يخرج!!

عند البوابة اتفق مع صاحبه أن يلتقيا أمام منزله، سيترك سيارته، وينطلقان في سيارة واحدة، اجتازا الشوارع الفاصلة بين الشركة والبيت، وصلا تقريبًا في وقت واحد، لا تعتبر الساعة بين الرابعة والخامسة من ساعات الذروة والازدحام، لهذا لم يستغرقا وقتًا طويلًا، أوقف سيارته، وترجل منها، ثم صعد مع صاحبه ومضيا؟!

جائع (يقول عادل)، بالتأكيد فلم أتناول شيئًا منذ البارحة (يجيب علي)، في الزاوية مطعم للوجبات السريعة (عادل)، يهز رأسه موافقًا، يطلبان وعادل ينظر في ساعته، تشير إلى الخامسة إلا ربعًا، سنأكل في الطريق، يصعدان إلى السيارة وينطلقان باتجاه حلبة صراع القطط، سنصل قبل انطلاق المباراة، أمامنا ساعة لبدئها.

طابور ممتد، يقطعان تذكرة الدخول، ينحرف عادل شمالًا إلى جهة يعرفها، يدخل مبنى، ثمة لوحة تعريفية معلقة، مكتوب فيها بخط صغير: مكتب الخدمات المساندة. الناس يخرجون من العدم، ازدحام شديد، يراهنون على القط الأبيض، شاهدوه مرات ومرات ينتصر على القطط الأخرى، واثقين من فوزه، اليوم سيحصلون على مضاعفة أموالهم، قَطع ورقة مراهنة، دفع مبلغًا محترمًا؛ يُمَنّي النفس بشراء هدية للأولاد وأمهم.

علي: يبدو المبلغ كبيرًا؟ هل أنت واثق من فوز الـ…قط؟ أجابه: فاز في جميع المباريات السابقة، حتمًا سيفوز اليوم، سترى كمية الأرباح عند مغادرتنا، متأكد لا تريد المراهنة؟ علي: لا أراهن على القطط، «من الممكن أن أراهن على البشر، أما القطط، لا أمان لها يا صديقي!» عادل: البشر أيضًا لا أمان لهم، من الممكن أن ينهزموا في أي وقت، على الأقل القططُ لا تعرف الخداع، أما البشر فبارعون فيه، لنذهب ونأخذ موقعًا مناسبًا قبل امتلاء الحلبة.

يتلقى اتصالًا فيفسح المجال لصديقه كي يختار موقعًا يمكنهما من الرؤية الواضحة، بينما ينشغل بالإجابة: ليلى. ترد: أهلًا حبيبي، اشتقت لك. علي: أنا مشتاق أكثر. ليلى: ما كل الفوضى التي أسمعها؟ يرد: مشغول الآن، أنا برفقة عادل. ليلى: حبيبي، لا تتأخر كثيرًا، سيزيد شوقي إليك. يرد: حسنًا. أقفل الهاتف، وبحث بعينيه، في الزاوية، جلس بجواره، الحلبة أمامهما، الحاجز الزجاجي يمنع وصول البشر إلى داخلها، لا يسمح إلا للقطط.

هل أخبرت رباب قد تتأخر في العودة؟ (علي)، في بيت أبيها، مريض بعض الشيء (عادل)، ماذا به؟ (علي)، يشكو من ارتفاع مفاجئ في درجة الحرارة مع إغماء متكرر والطبيب يُفضل ذهابه إلى المستشفى لإجراء الفحوصات (عادل)، سكت قليلًا ثم أكمل: تعلم عناده! علي: كبار السن عنيدون، ويميلون للحساسية المفرطة، لا تخبرني. عادل: رباب والأولاد معه.

 صوت المذيع الداخلي يرحب بالمشاهدين، الصراع اليوم بين البطل القط الأبيض الضخم في مواجهة المتحدي القط الأسود، القط الأبيض فاز في جميع مبارياته السابقة، لم يخسر أي صراع، القط الأسود قادم من الخارج، تم ترشيحه من قبل اتحاد القطط لينافس القط الأبيض، ستبدأ المعركة بعد قليل، القط الأبيض الضخم يصل الحلبة أولًا (تنطلق صيحات التشجيع وتملأ الصالة)، ثم يأتي القط الأسود (صيحات التشجيع أقل من الأولى بشكل ملحوظ)، يتخذ القطان وضعية الهجوم، كلّ في زاوية، يعود المذيع ليتحدث: الصراع حتى النهاية شعار اتحاد القطط، المنسحب يُشطب اسمه، ويُمنع من المشاركات المستقبلية، كما أن صاحبه سيدفع غرامة مالية، تنفتح الحواجز التي تمنع القطط من الوصول إلى وسط الحلبة، يتواجهان وتبدأ المعركة.

 في الأثناء يخفق قلب عادل، يراقب ما ستؤول له النهاية، القط الأبيض يدور في الحلبة التي يعرفها جيدًا، والتي شهدت انتصاراته المتكررة، هجم على القط الأسود بصورة مفاجئة، الذي انزاح إلى اليمين متفاديًا المخالب، عاود الهجوم ثانية ونجح في إصابته، القط الأسود ليس متمرسًا في القتال، سيخسر (يحدث عادل نفسه)، ينتفض القط الأسود ويهجم على القط الأبيض، يصيبه ببعض الخدوش.

 الصراع سجال، يرفضان الاعتراف بالهزيمة، نقط الدماء تتناثر على أرضية الحلبة، مشاهدة الدماء النازفة تزيد من شراستهما، يصطدمان ببعضهما، يغرس القط الأسود مخالبه في رقبة القط الأبيض، فيُصدر أنينا عاليًا، لكنه يعاود النهوض ويهجم بكامل قوته، يطيح بالقط الأسود بعيدًا وصوت أنينه يتعالى، يسمعه الجمهور فتزداد شهية الانتصار لديه.

 الحلبة تصبح ساحة لتفريغ الضغوط النفسية، القطان يتصارعان حتى النهاية، الجمهور شدَّه منظر الدماء النازفة، صرخ بأعلى صوته تشجيعًا على المواصلة، نصف ساعة كانت كافية لينتقم القط الأسود، استطاع هزيمة القط الأبيض، وانتزاع البطولة منه.

 الجمهور الحماسي الداخل إلى الحلبة، أمّل النفس بفوز ساحق يحققه قطه النجم، وها يراه متكوِّمًا على نفسه دون حراك، انتهت المعركة؛ خرج القط الأسود منتصرًا، أعلن ميلاد بطل جديد للحلبة، خرج الجمهور خاسرًا للمال الذي دفعه في المراهنة!!

 خاسر وسعيد، الناس ينصرفون وهم يتحدثون عن خسارة مفاجئة مُنِيَ بها القط الأبيض على يد القط الأسود، لا يستطيعون تفسير الأشياء، يرونها كدورة الحياة، نجم صاعد، آخر هابط، لا بد للنجوم من يوم تهبط فيه عن المنصة، وتتوارى خلف الجدران، ليُفسح المجال لآخرين، ينتظرهم مستقبل باهر، المستقبل الآن ملكُ القط الأسود، الأموال التي خسروها في رهانهم، واثقون من استعادتها، ولو بعد حين، سينتصر القط الأسود لهم، ويجعلهم أثرياء، عليهم الانتظار لبعض الوقت؛ حتى تتحقق أحلامهم، خسروا معركة، لكنهم لم يخسروا الحرب، كانوا إلى جانب القط الأبيض طوال الفترة الماضية، ساندوه، وراهنوا عليه، مراهناتهم أكسبتهم المال، الكثير من المال، الآن بعد انقلاب المشهد والهزيمة المفاجئة، خسروا الأموال التي ربحوها، بل أكثر منها، خسروا مدخرات جمعوها طيلة حياتهم!!

 خاسرون نعم، تعساء كلا، راهنوا بكل أموالهم ومدخراتهم، انتظروا الفوز، ولا شيء غيره، تفاجؤوا بالهزيمة، أصابتهم صدمة عصبية، لا يستطيعون استرداد أموالهم، الخسارة جزء من اللعبة، «المجازفة رهان الحياة؛ إما أن تربح كل شيء أو تخسر كل شيء، لا توجد بقعة في المنتصف»، يستطيعون عبرها استعادة أموالهم، لم يعتبروا ما حدث نهبًا، إفقارًا، سرقة، اعتبروه مجرد حادث عابر، مثله مثل الكثير من الحوادث. أحلامهم المستقبلية تضاءلت وتبخرت، تحولت إلى رماد، أحرقوها في المراهنة، دون أن يستطيعوا الإفصاح عن ذلك، سيلومهم الآخرون حين يسمعون الخبر، من الأفضل إمساك ألسنتهم، وعدم البوح بأسرارهم لأحد، ولا حتى زوجاتهم، فالزوجة تمتلك لسانًا مثل البقية!!

 لم تكن السعادة الوقتية لتستمر، سرعان ما انقلبت إلى بكاء، يحاولون استعادة ماضيهم الجميل، أموالهم المفقودة، كرامتهم المهدرة، قيمة الإنسان تحددها أمواله، كلما نقص رصيده البنكي تضاءلت قيمته، كلما ارتفع رصيده تضخمت ذاته كأحد الجبابرة، المشهد في الخارج يبدو قاتم السواد، كأن القط الأسود ألقى لونه على الجمهور، باتوا يشبهونه في اللون، أحلامهم البيضاء استحالت للون الليل الفاحم، البكاء يتصاعد في أكثر من زاوية، عليّ يراقب المشهد بتشنج، بصره يتنقل بين الناس وبين صديقه، كأنه ينتظر منه التكفير عن ذنوبه، والبكاء أمام الإله، الذي لم يكن في ذلك الوقت سوى مكتب الخدمات المساندة!!

 ذهب انتظاره هباء، لا يزال صامدًا، صامتًا لا يتحدث، حاول التخفيف عنه: الله يعوض .. نظر إليه بعين ذئب جريح، لا يريد شفقة، هذا اختياره، قراره، ووحده من يتحمل النتائج، لم يشأ عادل أن ينطق تلك اللحظة؛ حتى لا تصاب علاقتهما بشيء من فتور، أزاح عينيه جانبًا وهو يقول بحشرجة: أين السيارة؟

 لم يستغرب موقف صديقه، طالما عرفه قويًّا عند حدوث مشكلة، ولمراعاة شعوره فضَّل ألَّا يبادر بالحديث، سيترك له الحرية، إذا تحدث معي سأرد، هبطت دمعة مختبئة على وجنة عادل، لحسن حظه صديقه مشغول بفتح باب السيارة فلم يلاحظها.

 ماذا سيقول لزوجته وأولاده، اهتدى للحل؛ لن يتحدث أمامهم، سيتظاهر كأن شيئًا لم يحدث، والحياة ستستمر، عادل هو عادل، سيخفي آثار جريمته، فعلٌ اعتاد عليه، أتقنه لدرجة عدم اكتشاف أحد لما يدور في رأسه، خصوصًا في منزل العائلة، هل يمكنه الإفلات بجريمته كما في المرات السابقة؟ هذا ما سيكتشفه!!

 يُخرج الـ«وينستون» لينفث أحزانه وآلامه ويحولها إلى رماد، كطائر الفينيق يمحو تاريخه الأزلي بإشعال النار في جسده قبل أن يقوم من الحريق شابًّا ليكمل الحياة المقدرة له… العلبة فارغة، يصاب بصدمة أخرى كأن الحياة التي فتحت ذراعيها واحتضنته خلال الأيام الماضية، طردته من الجنة، يتحدث ناحيتي محاولًا اصطناع ابتسامة عريضة: «حلقي نشف»، أبتسمُ في وجهه، مركزًا النظرات على عينيه، لاحقتهما دون فائدة، مصرّ على الهروب بمشاعره، اكتفينا بعلبتي «كولا»، بينما جدد مخزونه من الـ«وينستون»، ثم انطلقنا.

 السكوت رفيق ثالث، لا همس ولا حتى نأمة، هدوء تام، ليسا في مزاج الصدام، لا يرغبان بخسارة علاقة أو إضعافها، اتفقا على هدنة غير معلنة، وجدا أن: «السكوت صوت لا يعلو عليه صوت آخر، بعض الأحزان تغسلها الدموع، إنما كل الأحزان يخفيها السكوت»، يمكن الوصول إلى داخل الإنسان عبر حديثه، بعد أن يختار البوح بمشاعره، في حال فقد الرغبة لن يعود كما ألفناه، سيصبح من الصعب فهمه، الألم الذي يعتصره بسبب خسارته الفادحة، يجعلني لا أعرف كيفية التصرف معه، صديقي القريب من قلبي، بيني وبينه سنوات من علاقة حميمة؟!

 أخرج لسانه من سجنه، تمتم ببضع كلمات، لعن الحظ العاثر، لماذا اختارته الحياة ليكون أحد ضحاياها، لماذا الآن مع مرض والد زوجته، والظروف الصعبة التي يمر بها؟ عبثًا يحاول إلقاء اللوم على القدر، القوى الخفية إله لا يراه، لعله شيطان! من يدري؟ مؤكد أن «القدر وحده لا يستطيع فعل شيء، نحن من يصنع القدر، قراراتنا هي التي تصنعه، أما هو فمجرد لفظة نتعلل بها ونصبّ عليها إخفاقاتنا!».

 ينطق بعد صمت استنزف روحه، لا يمكن لحادثة ما أن تغتال علاقته مع صديقه، ينظر إلى عداد السرعة: السرعة قاتلة. ينتبه إلى الصوت القادم، ويعجز عن الفهم، هزّ رأسه لطلب التوضيح! أنت تسرع يا صديقي، نظر إلى عداد السرعة، ثم رفع رجله عن «دواسة البنزين» فبدأت السيارة تخفف من اصطدامها بالهواء.

 يسترق النظر، يشاهد السيارات تقتل الإسفلت، يحس بالناس، هم أيضًا فقدوا أموالهم، ربما أكثر مما فقد، لا يمكنه إعادة الزمن إلى الوراء، مضى ومن المحال أن يعود، «وحدهم الأبطال الخارقون يعيدون كتابة التاريخ، أظننا في زمن لا يتواجد فيه أي بطل خارق؟!» سابقًا المنتصر يكتب التاريخ روايته ونظرته للحدث، اليوم تغير الحال فالتاريخ ليس تمجيدًا للمنتصر، نعم سيكتبه للأجيال القادمة، لكن الرواية المضادة ستفضحه وترافق سيرته، نحن في زمن صعب فلا يمكن إخفاء الأسرار، الآخرون ينظرون إلينا ويشاهدوننا كصفحة في يدهم، لا مفرّ من الإقرار بالهزيمة أمام التكنولوجيا! هي التي تجلب السعادة إلى قلوبنا، وهي التي تنشر أسرارنا وتفضحنا على الملأ، لا فائدة من دفن رأسي كالنعامة، سأرفعه إلى الأعلى، سأتحلى بشجاعة تكفي لقتل فيل، سأخبر زوجتي بخسارتي، ليس الوقت مناسبًا! أدرك ذلك، والدها مريض ونفسيتها محطمة، أحتاج ضمة حب تمحو أحزاني، ربما بعدها أنام بهدوء!!

 قدّر الإله لنا أن نخسر فخسرنا (يتوجه بالكلام إلى صديقه)، ينتظر للحظات ويبتلع ريقه، ثم يكمل: وضعتُ ما لدي من مال في مراهنة خاسرة، اكتشفت متأخرًا أننا «لسنا أكثر من دمى تحركها أيدٍ خفية لا نراها، المصايب التي تقع على رؤوسنا لسنا مسؤولين عنها، إنها تحدث فحسب، دون أن يكون لنا دور في توجيهها أو افتعالها»، صحيح أني خسرت اليوم، لكني لم أخسر بسبب أحد، القدر لم يقف إلى جانبي، ربما لأني لا أنتمي إلى الأخيار الذين ينتصرون في النهاية.

 (يتحدث بعد توقف): سأعود إلى حياتي وأمارسها بطبيعية، لن تشكل الخسارة حاجزًا بيني وبين الحياة، ما زلتُ أرى الأشياء الجميلة، أمتلك عينين كالبقية؟! (يفتعل ابتسامة مزيفة، حينما يراها عليّ يرد عليها بابتسامة مماثلة، لثانيتين وهما ينظران في عيني بعضهما البعض قبل أن يرتبك عادل وينفجر ضاحكًا كأنه يريد إفراغ أحزانه، يبادله عليّ الضحك وإنْ بصورة أقل، فليس معتادًا على الضحك بوحشية مثلما يفعل صاحبه)، كلاهما يريد إيصال رسالة إلى صاحبه، رسالة عادل: «الحياة ستستمر وهي أجمل من أن نتعثر بالخسارات التي تشدّنا ناحية الحزن والانكفاء على الذات، أنا أقوى من كل أحزان العالم، سأخرج من معطفي الأسود، وأرتدي الفرو الأبيض، سأقفز على حزني وأساي؛ لأرى الوجه المشرق في الأيام القادمة»، أما رسالة عليّ: «يا صديقي مهما مررت بظروف صعبة، فتذكر أن لديك قلبًا إضافيًّا، قلبًا مزروعًا في جسد شخص آخر، يستطيع مساعدتك في تجاوز المصايب، وإذا كنت ستعيش حزنك السرمديّ، من الأفضل أن تستبدل بقلبك الضعيف الحزين قلبي، يا صديقي سنذهب إلى الإله، نتضرع إليه، أن ينقل قلبينا من مكانهما، أنت تأخذ قلبي وأنا آخذ قلبك، حينها سنتوحد وستزول أحزانك، فالبهجة في قلبي تتسع لسكان العالم أجمع، فما بالك بك أنت، أنت الذي أعتبره أعز سكان العالم؟!».

 ثانيتان فقط اختصرت الحزن الكامن في قلب عادل والكلام الكثير الموجود على لسان عليّ، ثانيتان فقط بإمكانهما فعل الأعاجيب إذا جاءتا في وقت مناسب ومكان مناسب، ستعتبران بلا قيمة في موقف آخر، أما هنا بين قلبين متعلقين ببعضهما البعض، القيمة بكاملها حضرت، ثانية غسلت الحزن وأخرجت الكلمات المريضة المختبئة في قلب عادل، تلك التي تسجنه في عالمها وتدفع به نحو حافة الجنون، ففقدان المال يعني صعوبة الحياة، عادل أخرج الأحزان المتراكمة في قلبه، وقذفها إلى الفضاء، ثانية أخرى التقط عليّ فيها أحزان صديقه وبدأ بغسلها وتجفيفها، ثم نشرها على الحبل، يعرفه منذ الثانوية، لن يتركه الآن، أنا معك يا عادل، لن أتركك أبدًا، المصايب التي تقع عليك، تقع عليَّ، أنا شريكك في الحزن، الخسارة التي داهمتك سنتعاون من أجل إبعادها، تستطيع طلب المال الذي تريد، شريطة أن تستعمله بحكمة، لن أدفع إذا كنت ستغامر وتراهن مرة أخرى، «يا صديقي المراهنة خدعة، يقوم بها الأثرياء للإيقاع بنا نحن البسطاء، يزدادون مالًا، ونزداد حزنًا»، لا عليك من السعادة العابرة على الوجوه، القلوب محترقة من الداخل، البكاء لا يتوقف في المنازل، الأسف والحسرة يجتاحان الجميع، أما السبب فمراهنة خاسرة، يا صديقي عُدْ إلى حياتك الطبيعية، تذكّر أن لك قلبًا آخر تعيش به، قلبًا يتواجد في جسدي؟!

 كان يومًا رائعًا! ( يقول عادل) رغم كل ما حدث.

 عليّ: لا نستطيع كتابة أقدارنا! (يبتسم)

 عادل: ( يبتسم أيضًا) أقدارنا مكتوبة منذ الأزل.

 علي: أقدارنا نكتبها نحن (تظهر أسنانه الأمامية) والظروف قد تساعدنا على تحقيقها!

 عادل: ينبغي أن نعيد كتابة أقدارنا إذن (يفتح فمه بابتسامة عريضة).

 علي: إذا كنت تستطيع! (يفتح فمه وتصدر منه ضحكة يحاول كتمها).

 عادل: ولِمَ لا، المحاولة لا تضرّ!

 علي: المحاولة لا تضرّ؟!

 يكمل: «الكثيرون يحاولون كتابة أقدارهم الخاصة، ولم ينجح منهم سوى قلة، إنهم العظماء يا صديقي»، وأنت… تبدو من العظماء (تنفلت الضحكة من شفتيه تقابلها ضحكة سعيدة من الجانب الآخر).

 عادل: وأنت، ألست من العظماء؟ (يضحك).

 علي: أنا صديق للعظماء لكني لست منهم (يضحك بنبرة عالية تقابلها ضحكة مماثلة من صاحبه).

 عادل: أشكرك على كل شيء يا صديقي (ينطق بها بعد فترة توقف للضحك).

 علي: نحن أصدقاء… صحيح؟ (يهزّ عادل رأسه موافقًا).

 يكمل: هكذا يكون الأصدقاء (ويتجه بعينيه إلى عيني صديقه) وإلا ما الفائدة من وجودهم؟!

 ينغلق المشهد أمام منزل عادل، ينزل من السيارة، يودّع صاحبه ويتمنى له ليلة سعيدة.


فصل من رواية جديدة صدرت حديثًا بالعنوان نفسه، عن دار إي في لندن.