تجليات الطبيعة المتحركة في تجربة الشاعر علي جعفر العلاق

تجليات الطبيعة المتحركة في تجربة الشاعر علي جعفر العلاق

الشاعر المبدع علي جعفر العلاق أحد كبار الشعراء العراقيين الذين أثْروا الشعر العربي بأعمالهم التي تعالقت مع جملة من الوشائج والقضايا الإنسانية، ويميّز العلاق طاقات فنّيّة خلَّاقة ولغة شعرية مكثّفة؛ عميقة، هادئة، شفيفة، شجية، صافية، غنيّة بالمفردات والصياغات الجديدة؛ إذ نراهُ يتألق في بنائه الشِّعري، مغترفًا من مخياله المفتوح على رؤى إنسانيّة رصينة راقية، مثلما يتألَّق في دراساته النقدية، فهو شاعرٌ وناقدٌ مبدع متفرد صاحب رسالة جهيرة، لا يشبه إلا نفسه، شعرًا ونقدًا وإبداعًا، عاش حياته منحازًا إلى الإنسان في كل الأحوال، وقلقًا من بؤسه ومعاناته، ومسكونًا بالقلق وبأسئلة الوجود والحريَّة والتفاصيل الصغيرة التي ستظل تؤثث المشهد غيابًا وحضورًا متناوبًا.

منذ ديوان «لا شيء يحدث…لا أحد يجيء، بيروت، 1973م»، و«وطن لطيور الماء، بغداد، 1975م»، و«شجر العائلة، بغداد، 1979م»، و«فاكهة الماضي، بغداد، 1985م»، و«أيام آدم، بغداد، 1993م»، و«ممالك ضائعة، القاهرة، 1999م»، و«سيد الوحشتين، بيروت، 2006م»، و«هكذا قلت للريح، بيروت، 2008م»، مرورًا بـ«عشبة الوهم، القاهرة، 2010م»، و«ذاهبٌ لاصطياد الندى، عمّان، 2011م»، و«نداء البدايات، بيروت، 2013م»، و«حتى يفيض الحصى بالكلام، بيروت، 2013م»، و«عشبة الوهم، القاهرة، 2014م»، ثم «وطن يتهجّى المطر، بيروت، 2015م» وصولًا إلى ديوانه الصادر مؤخرًا عن دار فضاءات بعنوان: «طائر يتعثر بالضوء، عمّان، 2018م» راوَحَ العلاق بين الواقعي والخيالي، الآني والماورائي، الذاتي والموضوعي، الغريب والعجيب، الخفاء والتجلّي، الحركة والسكون، الزمان والمكان، الحقيقة والحلم، التاريخ والجغرافيا، موزّعًا جملة أفكاره بدرجات تتفاوت في عمقها لمعالجة الواقعيْنِ الاجتماعي والسياسي على أكثر من خمسة عشر ديوانًا شعريًّا، بأسلوبية فنيّة وجمالية رشيقة؛ تجعل من الكيان النصي للقصيدة كيانًا ذا خصب كثيف وعميق وحيوي.

وليس الكم الهائل من الإصدارات ما جعل علي جعفر العلاق أحد أهمّ الأسماء الشعرية العراقية والعربية، بل لأنّ أسلوبه منفرد ينبض بالحياة، ورؤيته للعالم رؤية شعرية خالصة، وجرأته وتحرره من القيود، وثورته ضد تقليدية الأساليب الشعرية السابقة ونزعتها المتفاصحة، باستعاراتها العتيقة، وتشبيهاتها الجوفاء، وتمرده، في نحو من الأنحاء، على هذا السائد بكل ما فيه من ضعف وصنعة، وإيمانه برسالة الشاعر النقية، وبما يميزه من تحليل عميق للمدركات الحسية، ولانسياب شعره وتدفقه، وفي الغالب جماله الحقيقي الذي يجعل منه قامة شعرية ونقدية ما يحتّم علينا وضع نتاجه على طاولة التشريح النقديّ.

إن تخصيص هذه الدراسة لقراءة ديوان «طائر يتعثر بالضوء»، ليس راجعًا إلى رغبتي في تحية الشاعر علي جعفر العلاق بمناسبة فوزه بجائزة «سلطان العويس» عن حقل الشعر لعام 2019م فحسب، بل راجع أساسًا إلى رغبتي في أن أحتفي بهذا الشاعر والناقد العربي الكبير الذي يحظى بعدد مدهش من المحبين، وأن أقف له إجلالًا، وقد كان ينبغي أن أقدم هذا الاحتفاء بتجربته منذ سنوات، فهو يستحق الكثير والكثير كشاعر مبدع وناقد رفيع المستوى.

وعليه، فإن علي جعفر العلاق في هذا الديوان يقدم تجربة شعرية ذات ملامح خاصة لاعتماده على أدوات توافرت لها أسباب النضج الفني، بما فيها من تماسك في الرؤى ومنطلقات تعبيرية تمثل حال متفردة في التجربة الشعرية العربية المعاصرة، والناظر في «طائر يتعثر بالضوء» من ناحية فنية سيجد أن الديوان يشكل ثورة مباغتة ضد الشعر المصطنع السائد، وانتقالًا فجائيًّا إلى البساطة المتناهية في الموضوع والأسلوب، وهو يشكل امتدادًا لتجربة الشاعر في نضجها وانفتاحها وسعة آفاقها، فالشاعر ينتقل من سياق إلى سياق يجترح دروبًا للخلاص، محتفظًا بحزنه النبيل، وأشواقه الغامضة، وممسكًا بناصية القصيدة كمحاربٍ قديم، وهذا ما نراه جليًّا في قوله:- لا يشاركني قصيدتي غير نَسْرٍ/ كم هتفتُ به لكي يطيرَ/ فلا يقوى/ هتفتُ به لكي يحطَّ/ فلا يرضى…. «طائر يتعثر بالضوء، قصيدة: خيط الكلام، ص12».

يمكنني القول: إن هذه القصيدة نتاج للأحاسيس لا للتفكير، ولا يقدم الشاعر في هذه القصيدة فلسفته بشكل مجرد، بل يقدمها لنا على أنها تجربة ذاتية خاضها وعايشها، ثم عبّر عنها في أسلوب شعري ابتعد فيه إلى أقصى حد من الزخرفة والمجاز، وهي تمثل الشاعر في بحثه عن الكمال المثالي، فهي ثمرة عبقرية؛ إذ يَهَبُ الشاعرُ الأشياءَ رُوحَها الخاصةَ، فيلبسها معاني الحياة، وهو يجابه الكون وحيدًا يحاول تفهمه من دون اللجوء إلى قيم فلسفية أو دينية مقبولة اجتماعيًّا، مما يجعله ينوء بثقل العبء الذي يحمله، ولكن هذا العبء ذاته هو علامة تميزه.

محاكاة الراهن الاجتماعي

وتبين القراءة الأولية لديوان «طائر يتعثر بالضوء» أن الكون هو المركز الذي يدور في فلكه معظم هذا الشعر، وأن الحقيقة تظل ناقصةً إن افتقرت إلى الجمال والشكل الفني، ولهذا اختيرت صورة الطبيعة وتجلياتها في قصائد الديوان لتكون مدار البحث، باعتبار الطبيعة من أهم ما عوّل عليه الشاعر العلاق لمحاكاة الراهن الاجتماعي بكل أبعاده، ولمحاولة إيجاد تفسير للعالم والعلاقات والأشياء وإيجاد معنى لما يحدث، ويصرّح العنوان بالغرض الشعري الذي يندرج ضمنه النص، وهو وصف الطبيعة في إحدى لحظاتها الزاهية وفتراتها التي تصطبغ فيها كل العناصر بالحياة والحركة.

من هنا فإن القراءة الأولى للديوان تنبئ بأننا أمام شاعر يستخدم اللغة استخدامًا خاصًّا، يعكس خصوصية الشاعر في تأليف بعض المعاني، وبناء بعض الصور، وتلوين الأساليب بطريقة طريفة ومجددة تدل على امتلاك لناصية اللغة، وتمكن من دروب التعبير واقتدار على استدعاء المخزون الشعري العريض وتوظيفه بشكل أكثر إبداعًا، كرمز للتعبير عن أنماط أخرى من التجربة الإنسانية.

فهو ينتقي من معجم اللغة مفردات الحياة والذات ويكسوها أرديةً جديدةً، ويخلع عليها عواطفه، متماهيًا مع الأشياء المحيطة به؛ ليؤثث منها عالمه الشعري، فاللغة في يديه طيعة، والصورة مجسدة، والموسيقا منسابة، وهو يُكثر من استخدام كلمات الطبيعة بحمولة إضافية تعطيها دلالات وأبعادًا رمزية، تغذي الفكرة التي يريد تمريرها للقارئ.

وقصائد الديوان لها سمات مميزة سواء من ناحية المضمون أم الشكل، أما من ناحية المضمون فهي تعالج العواطف الإنسانية المباشرة، أما من ناحية الشكل فيميزها الإيقاع الدرامي السريع والانتقالات الفجائية. وهذا ما نستطيع أن نستشفه من هذا المقطع الدال من قصيدة «سألتها أن تقود الليل من يده»:- محنتي حُلُمٌ/ يموتُ فيَّ ليبقى../ محنتي لغةٌ خرساءُ/ لا تسعُ القتلى../ وليس لها إلّا الحنينُ/ إلى اللاشيء../ ذي لغتي/ شريكتي في ابتكار الوهمِ../ أُرهِقُها بما أحمِّلها/ من وحشتي../ وبما يُلقي على حُلُمي/ من حزنهِ الشجرُ… «طائر يتعثر بالضوء، قصيدة: سألتها أن تقود الليل من يده، ص46».

ويمكننا في ديوان «طائر يتعثر بالضوء» أن نتابع الافتراق بين الرؤية التي تسعى التجربة إلى طرحها واللغة التي تقدم بها هذه الرؤية، فهناك غرابة ومحاولة لتقديم عالم مركب، ولكن ذلك يتم من خلال لغة فنيّة مركبة ذات نكهة مميزة وصياغة نحوية سلسة وشديدة المنطقية لها جمالها الخاص، ويوظفها توظيفًا حداثيًّا من خلال استخدامه للمفارقة الفنية، وهو ما عبر عنه بقوله: لا تقومي إلى النومِ../ ما زالَ في الليلِ ما نشتهيهِ../ وما زالَ في القلبِ ما لمْ نقُلْهُ../ لنا قمرٌ/ يترقّبُ جلستنا كلّما مرَّ/ حتى يُتِمَّ نميمتَهُ للرعاةِ الوحيدينَ../ في الليل ينمو حنانُ يديكِ/ وينضجُ يُتْمي الذي/ لا ارتواءَ لهُ… «طائر يتعثر بالضوء، قصيدة: ما زال في الليل ما نشتهيه، ص15-16». هكذا يتحقق عبور لغة الشاعر إلى جوانية قارئها، فهو يريد أن يتخذ من اللغة المحملة بالرمز وسيلة لأنسنة الأشياء، فيغدو فعل التعبير والبوح الهادئ الأسيان، هو النشاط الإنتاجي الأكثر حيوية، ويظهر هذا التواشج العميق بين الشعر والحياة في ملفوظات الشاعر الحميمية والعاشقة التي تخترق الديوان، وتلك قيمة كبرى لا يقدر عليها سوى شاعر ذي إمكانات خاصة.

إن قصائد العلاق مكتوبة بأسلوب شاعرٍ خلَّاق مغرم بربط المعاني بعضها ببعض، يحلم بأن يفجر من الصمت لغة تجعل من العدم ممكنًا، ويصيغ قصائده بغرائبيّة باذخة وبحسٍّ شاعري مرهف وعاطفة صادقة، ولغة رمزيّة، تجريديّة، متدفقة، عاجّة بالألغاز والأحلام، تحمل بين جوانحها انبعاثات سرياليّة. يقول في قصيدة «حتى يثورَ الهواءُ على ذاته»: عاليًا/ عاليًا/ أيتها الشّجرة../ أوقدي لليتامى ثيابًا من الخوصِ../ من وحشة الأنبياء ومن جوعهم../ واتركي لحفيفك أن يرتوي/ من كآبتنا../ حرّكي/ بيديك هواءَ المدينةِ/ هذا الرتيب../ المملّ/ اذهبي/ عاليًا../ واغرقي في تجاعيدِه/ الشّرِسَة../ عاليًا/ عاليًا/ في الهواء المملّ/ إلى أنْ يثورَ الهواءُ على ذاتِهِ/ ويفجّرَ ملءَ امتدادِ الضحى/ جرسهْ… «طائر يتعثر بالضوء، قصيدة: حتى يثورَ الهواءُ على ذاته، ص67- 69».

إن صوت الشاعر في هذه القصيدة يختلط بصوت الطبيعة؛ إذ إن الشاعرَ يَهَبُ الأشياءَ رُوحَها الخاصةَ، فيلبسها معاني الحياة، بل يجعلها وكأنها أشخاص تتحرك، فهي تفرح وتحزن وتتألم وتحس بالبهجة أيضًا، ورغم صعوبة تحليل الأثر الذي يولده هذا الشعر فإنه يبدو واضحًا أن الشاعر يصف عالم الطبيعة الذي يوجد خارج ذاته، ويمضي إلى معناه العميق بحثًا عن انسجام خفي وأسطوري يؤازر على استيعاب واستقبال وتمثل تناقضاته وخط متغيراته، وهذا الجزء من القصيدة متداخل نسمع فيه أصواتًا مختلطة كأنه نشيدٌ رعوي، ويمكن القول: إن ارتباط الدال بالمدلول والرمز بمحتواه في هذه القصيدة هو ارتباط شبه كامل مما يجعل التفسير والشرح أمرًا عسيرًا.

الشاعر العلاق خلال تسلمه جائزة العويس الثقافية في دبي

استثمار فاعلية الرموز

وفي تجربة الشاعر علي جعفر العلاق تتجسد الطبيعة عبر مستويات متعددة تتوزعها سياقات وتأويلات متباينة تتصل اتصالًا وثيقًا بمجرى الرؤية العامة وتحولاتها، أو المواقف المتولدة عنها وتوجه عمليات استثمار فاعلية الرموز وتصريف أبعادها، كما في قصيدة «عيون المها»؛ إذ إن موضوعها الأساسي هو أحاسيس وآراء شاعر يعيش في عزلة عن الناس، ولكنه يسمع أيضًا موسيقا الإنسانية الهادئة الحزينة، فالعلاقة هنا ليست علاقة تضاد بسيط بل هي علاقة عنصرين يكمل الواحد منهما الآخر، من خلال طرح أسئلة وجودية تتعلق بماهية تجوال الشاعر على الأرض، وعلى هذا النسق الصياغي يقول في هذا المقطع الشعري، الصادق، والجريء، الذي يأتي بمنزلة الحكمة والنصح والوعي بحقيقة الأشياء: وكلَّما أوغلْتُ في الغابة/ قالتْ ليَ الغابةُ:/ لا تلتفتْ../ فربّما في آخر الرحلةٍ ما يُشتهى../ فيا لها من وحشةٍ/ يا لَها.. «طائر يتعثر بالضوء، قصيدة: عيون المها، ص13».

وعلى الرغم من التركيب اللغوي الكثيف والمدهش لهذه القصيدة إلا أنها في تتابع صورها وأحداثها تشبه الحلم إلى حد كبير، فهي قصيدة رؤيوية شمولية متداخلة مصنوعة من مواد أولية ذات أبعاد لغوية وتخيلية، تتشابك فيها الصور والمشاهد المتناقضة والحافلة بالتوتر والاضطراب والتنوع وتتجاوز فاعلية الذات الداخلية والعالم الموضوعي الذي يستقي منه الشاعر رؤاه، ونسمع فيها أصواتًا مختلطة ليس لها إيقاع مميز، فكل شيء في هذه القصيدة مثقل بالصور، وهذا ناجم عن أن الشاعر حاول أن يتحدث عن نفسه مباشرة ولكنه آثر أن يرتدي قناعًا شعريًا رقيقًا يبدي أكثر مما يخفي، في صيغ تعبيرية، تتذبذب حركتها بين الثبات والتحول، والانكفاء والانتشار، وهذا ما انسجم مع المقصد العام للنص.

إن سؤال الزمن في هذه القصيدة يأتي مشوبًا بالخوف على المكان العراقي الذي ينأى ويبتعد، فيما يشبه احتكامًا إلى دلالات متقاربة أو متباعدة تمنح القصيدة بهاءها السحري الأسطوري الخاص الذي يحتويها، ويستدعي حضورها أو سلطانها كفعل أو رمز حي يحيا في الداخل محتميًا بدفئه، وهو ما يرسخ واقع الجدل الذي يغلف جوهر حركية القصيدة، ويحكم حقيقتها، لنقرأ له خاتمة هذه القصيدة المعبرة والدالة: لا الريحُ تمضي بي/ إلى هُوّةٍ../ لا خمرةُ النومِ عراقية/ لا خطوةُ البدءِ ولا المنتهى../ لا الكرخُ يدنو، لا عيونُ المها/ تضيءُ دنيايَ.. «طائر يتعثر بالضوء، قصيدة: عيون المها، ص14».

أما قصيدة «شمسٌ على آخر الشجرة» فهي دعوة لاكتشاف الذات واستكشاف تحولاتها ومواجهة انعكاساتها، وقد جاءت القصيدة مكثفة وقصيرة وذات بناء شعري متين ينزع للتأمل، وعبّرت عن محاولة الشاعر خلق نوع من التناظر الجمالي بين ما يستطيع أن يستشفه من مضامين مستقاة من مفردات الطبيعة بكل أبعادها، وبين ما يطرحه من رؤى عبر قصيدته لمحاكاة الراهن الاجتماعي بكل أبعاده جماليًّا وفكريًّا. وهذا ما يمكن أن نلحظه في قوله: صعدا/ ناصعين/ إلى آخرِ التلِّ../ لم يجدا في انتظارهما/ غير ذكرى القطيع الذي رعياهُ../ وما كانَ من رفقةٍ/ في زمانٍ مضى../ أصْغَيا../ حُلْمٌ تتلقّفُهُ جوقةٌ/ من ذئابٍ ومن سَحَرَةْ../ ثَمَّ شمسٌ تجفُّ/ رويدًا.. رويدًا../ على آخرِ الشجرةْ.. «طائر يتعثر بالضوء، قصيدة: شمسٌ على آخر الشجرة، ص5- 6».

والمتأمل لهذا النص الشعري سيكتشف أن هناك إصغاءً واضحًا لوطأة الزمن، وأن الذات الشاعرة تنظر إلى الكائنات بفلسفة وتأمل لتصل إلى معناها ودلالتها العميقة، فالفرح الأصيل ثمرة رؤية عميقة، وضمن تحولات هذه البنية الجدلية فإن التفاصيل الحسية والروحية يمكن العثور عليها عبر تدفُّقات شهقات الخيال، مُسقِطًا إياها على واقعنا المعاصر لإكسابه دلالات جديدة وفق منظور خاص؛ لأن فهم النص وتأويله يختلف من قارئ إلى قارئ، ومن زمانٍ إلى زمانٍ آخر.

الترابط العضوي وحركية الوجود

إن الاهتمام بديمومة الحركة أو ديمومة الحياة في القصيدة، يكشف عن الترابط العضوي القائم على حركية الوجود عبر المنظور التشكيلي الذي يستمر في قصائد الديوان؛ إذ جسَّد الشاعر حركة الأفعال عبر ملامح بدائية مفعمة بالروائح التي تبعثها الأشياء، مثل: «القطيع، الذئاب، القبائل، الفأس، الناقة، الحطب، النسر، الغابة، الكرخ، عيون المها، الليل، جمر الغضا، حفيف القصب، الأسلاك الشائكة، الملك الضليل، القطاة، الشيح، الخريف، المطر، عيون القطا، اليباس، النجوم، الصفصاف، الصحراء، ريح جرداء، العراء، الأنهار، البراكين، الرعاة، الغزلان، الهواء، لحاء الشجر، الموج، الضوء، الحصى، الخيول، الندى، النيران»، ثم حاول أن يُطَعِّم تلك الأجواء بأشياء أثيرة لديه مثل: «السَّحَرَة، الحوت، الناقة، عيون المها، الكرخ، جمر الغضا، أباريق من فضة، حفيف القصب، الملك الضليل، البئر، العراق، سفن الأنبياء، المُعلّقات العشر، الخليفة الأحمق، عصا الترحال، عويل الأمهات» وهي مفردات ذات قيمة جمالية ساحرة استقاها الشاعر من ثقافته الشرقية ولم ينسَ أن يمنحها نوعًا من الإثارة والتركيب اللغوي الكثيف والمدهش، كما حاول الشاعر الاستفادة من الأبعاد اللونية لتلك الأشياء مع اهتمام خاص باللون «الأبيض»، وهذه الخلفية النصية هي المسؤولة عن إنتاج المعنى.

ويحتاج التشكيل الجمالي في ديوان «طائر يتعثر بالضوء» إلى تأمل، فالطبيعة في الديوان كائن عام، يستبدل الشاعر معطياته على امتداد الديوان في تباديل وتوافيق عشوائية، ولا بد في كل قصيدة أن نجد على سبيل المثال واحدة من الكلمات التالية: «الشمس- القطيع- القبائل- الحطب- الغابة- الريح- الليل- الرعاة- الشيح- الرمل» وهذا أمر يشي بخصوصية التجربة، فهو يفتت عناصر الطبيعة ويعيد صياغتها من خلال رؤية شعرية ذات نكهة شرقية متأثرة في الوقت ذاته بالإنجاز الشعري الأوربي الحديث، أو ما يعرف بــ«الشعر الرعوي»، وربما يكون هناك ارتباط بين إقامة الشاعر علي جعفر العلاق لسنوات في بريطانيا وبين هذا النمط الشعري الذائع الصيت في أوربا.

إن الشاعر علي جعفر العلاق يتمتع بوعي حادّ، ويمتلك رؤية شمولية، وهو شاعر يحتفي بالطبيعة ويفرد لها مقعد الصدارة في مشهد قصيدته حيث تحضر عناصر الطبيعة في كل سطر شعري عنده كما تتداخل عنده عناصرها مع مشهد الذات والأنثى، ولسنا تقريبًا بإزاء تجربة شخصية مع امرأة محددة؛ إذ يوجه الشاعر خطابه في قصيدة «ما زال في الليل ما نشتهيه» إلى امرأة يدعوها إلى مشاركته تجربته الشعورية الوجدانية، ومؤشرات توجيه الخطاب إلى هذه المرأة واضحة في قوله: «لا تقومي إلى النومِ- لنا قمرٌ- بُحتُ إليكِ بما لم يقلْهُ أحد- مددْتِ يديكِ إلى ليلنا الوثنيِّ- لنقُمْ دافئينِ إلى ليلنا- كي يكون لنا وحدنا- سنعودُ إلى ليلنا الحرِّ ثانيةً».

أما في قصيدة «نهرُ الغياب» فهو يتحدث عن اللهفة القديمة التي تفنى ثم تحيا من جديد، ويستحضر الأنثى المراوغة التي تجمع ما بين النقيضين «الحضور» و«الغياب» بما يرمزان إليه من دلالتين مختلفتين جذريًّا، وهو خطاب يفتح أفق التواصل مع المرأة على مصراعيه، ومن يدرس قصائده سيجد بوضوح أنه يستخدم في أغلبها مفردات تدل على المرأة، الأنوثة، الحنين، الحزن، الحيرة، الأغاني، الغياب… إلخ، في انتظار ما سيكون، وما يدلل على ذلك، قوله في قصيدته «عكّازٌ في الظلام»: «ربّما ستكونينَ حزني/ الذي لن يجفَّ/ حنيني الذي لن يخفَّ/ التفاتي الذي لن يكفَّ/ تكونينَ أغنيةً تتقاذفني/ بين كَرخٍ وشامْ/ وها أنذا/ بعد عشرينَ كارثةً../ أتعثّرُ بالضوءِ من حيرةٍ/ ثم أرمي بعُكّازتي/ في الظلامْ… «طائر يتعثر بالضوء، قصيدة: عكّازٌ في الظلام، ص24».

وتعبر تجربة العلاق الشعرية عن شوق للتواصل مع الكون، مع الطبيعة، مع التاريخ القديم، مع الإنسان، وفي قصيدة «غموض» وهي قصيدة رمزية غامضة بعض الشيء نجد أن الشاعر يوظف الصورة لزيادة التأثير الانفعالي، ولننظر مثلًا إلى هذا المقطع الشعري: حين التقيته مصادفةً/ كان يتّكئُ على شجرةٍ وحيدة/ وقد ربطَ إليها ثلاثين قرنًا/ من الغموضِ والكسلِ العاطفيِّ القديم../ هَممْتُ أن أسأله… «طائر يتعثر بالضوء، قصيدة: غموض، ص29-30».

هكذا يقرأ الشاعر بفلسفة وتأمل سيرة الوجود والكائنات، مبتعدًا بذلك من التفاصيل اليومية التي تغلّ الخيال الخلاق، فالقصيدة تتحدث عن الذبول والانكسار والاغتراب وعن جفاف ينبوع الحياة، وهي تؤسس سياقها من خلال استعارة بعض المفردات الحاضرة في جسد القصيدة كالغموض والكسل العاطفي، والبؤر الاستعارية المتناثرة فوق هذا الجسد، تستمد دلالتها وإيحاءاتها وتمثّلاتها من خلال هذا السياق.