ما التنمية في دولة التنوير العربي؟

ما التنمية في دولة التنوير العربي؟

ما التنمية؟ تراني أعتقد أن تنمية الأشياء تعني الانفتاح عليها، وذلك تواصل وجودي معها من جانب الإنسان بغية تفسيرها وكذلك تأويلها، بما يضعها في مستوى أفضل لشيئيتها، نسبة إلى شيئيتها، في كينونتها، وكذلك نسبة إلى غيرها.

وقد تتخذ تنمية الشيء طابعًا شيئيًّا نسبة إلى تحوّلات الأشياء وهي في عالم موضوعي من دون تدخُّل الإنسان فيها؛ فعلى سبيل المثال ربما تتعرّض الأشياء، كالجمادات في الطبيعة على سبيل المثال، إلى تحوّلات الحرارة والبرودة وضوء الشمس والقمر وتتأثر بهما وغيرهما من بقية العوامل التي تحيط الأشياء في الطبيعة.

وقد تكون تنمية الأشياء الموجودة في الطبيعة الفعل الذي يقوم به الإنسان نفسه بذاته وإرادته عندما يعتني بها تواصلًا منه معها ليجري عليها تحويرات، ومثال ذلك تطويع الحديد في صناعة أدوات معيَّنة يستخدمها الإنسان في حياته اليومية. وقد تكون التنمية تمتد لتشمل الإنسان ذاته بوصفه موضوعةً في فرديته أو في عموميته المجتمعية والكونية.

ومن هنا تأتي فكرة التنمية لدى الدولة أنها تنصرف إلى تنمية الفرد والمجتمع؛ لتحقيق أهدافها وأهداف الإنسان والمجتمع التي لا بد أن تكون متراصة في خطاب واحد، وهو مؤشِّر اختلاف من دولة إلى أخرى؛ إذ توجد دولة -كما هي تجربة العراق ما بعد 2003م- ترى التنمية فيها تصادر موجودية الإنسان عندما تأخذه إلى متاهات الاستحواذ المتطرِّف والقمع والمسخ والموت المنظَّم على نحو سلبي عبر برامجها التنموية، في مقابل تنمية دولة ما تعطيه الأمان وتوفر له سبل الصحة والرفاه والحرية على نحو إيجابي وعبر برامجها التنموية التي تعمل بها.

دولة الإنسان

وبإزاء التوجُّهات السلبية في التنمية التي تلجأ إليها الدولة في عالمنا المعاصر، ومنها الدولة العربية، ترانا نبحث عن خطاب إنقاذي يُصحِّح مسار مثل هذه التوجُّهات السلبية، ونحنُ نراه في «الخطاب التنويري» لكون «التنوير الإنساني» ينتصر للإنسان فهو شأنه وغايته وكذلك وسيلته في آن واحد. وماهية التنوير تتهيّأ عندي «في عالَم إنساني وجودي أنطولوجي فيها للإنسان دور المركز من حيث الغاية والوسيلة… إن مرام التنوير الإنساني هو استعادة الإنسان من وباء النسيان».

وفي ضوء ذلك، إن التنمية السلبية كما هي في خطاب وممارسة الدولة، إنما تسعى إلى نسيان الإنسان بوصفه إنسانًا، بمعنى تحويله إلى مجرَّد كائنية بشرية غريزية تستهلك معطيات الحياة ولا تقول ذاتها الإنسانية بحسب الحق الإنساني الذي لها، وكذلك بحسب حقوق المواطنة التي لهذه الكينونة، وأيضًا بحسب حقوق الهويّة الوطنية خاصتها، وهي حقوق تعمل تنمية الدولة العرجاء في العالم العربي على مصادرتها بأساليب عدّة لغمطها، وجوهر هذا الغمط إنما يقوم على نسيان الإنسان بوصفه إنسانًا وجعله لقمة سائغة للصوصية الدولة الشائعة في مرحلة الاستعمار المتجدِّد.

وفي مقابل ذلك، ولكي تتخلّص تنمويّات الدولة من سلبياتها ونتخلّص نحن من شِدّتها وسَوْرتها؛ بل من غلواء وحشيتها ضد الإنسان ونحن في العراق جرّبنا وحشيّة الدولة الحاكمة، لا بدَّ أن تتصف بأنها «دولة إنسان» فتغيِّر المبنى والمعنى على السواء، بمعنى أن تتصف التنمية فيها على نحو حقيقي وواقعي بأنها تنمية للإنسان عبر استرداد الإنسان لذاته الإنسانية في كل برامجها التنموية قولًا وعملًا، وجعلها تصبّ في هذا الاتجاه على نحو متناغم لتحقيق الغاية الإنسانية من خطابها، وكل ذلك لا يتحقق إلا بجعل التنوير الإنساني خيارها ومأواها وبؤرة انطلاقها التداولي، لكنها، وكما يبدو، لا تفعل ذلك كما يشي سلوكها التنموي، وتلك محنة من محن التنمية في عالمنا الثالث.

اقتصاديّات الظلام

إن «التنوير الإنساني» لا يتعارض مع نظام الدولة وطبيعته إلا إذا كان -هذا النظام- ظلاميًّا مستميتًا بهذر عتمته. وسواء كان النظام إسلاميًّا أم ليبراليًّا، فإنهما إذا كانا يقدِّران الإنسان بوصفه قيمة إنسانية، ويأخذان ذلك في الحسبان في رؤية الدولة ذاتها إلى التنمية بحيث تنتصر للإنسان ولا تعاديه حتى تصبح دولة الإنسان، فإنهما لا خوف منهما ولا خوف عليهما.

كان العراق قد عاش في نظام تنموي شبه اشتراكي لعقود ماضية، لكن هذا البلد، وبعد إبريل سنة 2003م، تحوَّل إلى نظام تنموي يستمدّ قوامه من رؤية مفروضة عليه من المحتل الأميركي، رؤية قوامها اقتصاديات السوق، وألاعيب صندوق النقد الدولي المخاتلة، وطموحاته الصهيونية المندسة ضمنه في أحيان عدّة تلك التي ترمي إلى إذلال الشعوب بلصوصيّة المحترف، فانقلب الحال ليصبح الإنسان العراقي في مواجهة نظام عابث بمصيره والمجتمع والدولة.

إن التنوير هو النور الذي يضيء الحياة ذلك الذي يصنعه الإنسان في الحياة، وهو لا يتقاطع مع النور الإلهي لكون، هذا الأخير، يريده هديًا للإنسان كما التنوير الإنساني يريد التنوير هديًا له ولنظرائه وللدولة والمجتمع في الحياة الإنسانية، لكن نظام الرؤية الاقتصادية في العراق يقع في تيه من أمره، ويبدو أنه متورِّط حدّ النخاع في إحلال وتكريس الظلاميّات، فلم تعد الرؤية الاقتصادية في العراق تعمل لصالح رفاهية الإنسان، ولا سعادته، ولا صناعة بارقة أمل للغد الآتي في مستقبله، ولا بد أن تقترن التنمية، ولا سيما تنمية الدولة، بالتنوير الإنساني.

ما هو متفق عليه أن غالبية اقتصاديات الدولة العربية فشلت في تمثيل أو إعادة بناء التنوير لصالحها بالمعنى الذي حدّدناه في ماهيّة التنوير بوصف هذه الأخيرة تعني عدم نسيان الإنسان، فالتنمية في عالمنا العربي هي مسخ لقيمة الإنسان في الحياة، ولا بد من تصحيح مسارها، لكننا نعيش خيبة كبرى في التجربة العراقية، على سبيل المثال، بعد التغيير في سنة 2003م، ولا سيما أن العراق دخل طائعًا في نفق السياسات الاقتصادية الاستعمارية الجديدة في مشروع «الشرق الأوسط الكبير» لسنة 2004م في ظل هشاشة الوطنية العراقية التي كرّسها السياسيون بالعراق الجديد، العراق الذي لا يريد أن يصغي إلى صوت التنوير الإنساني، وهو ما يكرِّس ظلاميّة تتضاعف رتبة كينونتها مع الأيّام وضحيتها الأولى هو الإنسان العراقي ذاته، ناهيك عن صور أخرى لظلم الدولة تجاه المجتمع ما يتعلَّق بضعف الخدمات اليومية العامة، وغياب تجديد البنية التحتية التي تواكب تطوّرات الديمغرافية النامية في العراق.

دولة التنوير

في مكامن رؤيتنا لمفهوم «ماهيّة التنوير» نفهم الإنسان بوصفه قيمة جوهرية في الوجود، ولا بد لهذا المكمن التنويري أن يأخذ طريقه في مبناه ومعناه إلى فلسفة الدولة في كل مرافق كينونتها، لتكتسب قيمة تنويرية في أفعالها من دون أن يكون لفظ «التنوير» باعثًا على قلقها ومخاوفها حتى إن كانت الدولة إسلامية المنحى؛ فثمَّ وهم خطير يعشعش في رأس الإسلاميين إذا ما تسلّموا زمام القيادة، ولا سيما قيادة دولة معينة، وهو تخوّفها من دلالات ملفوظ «التنوير» وشرائطه البنيوية والإنسانية؛ بل حتى من رسمه وشكله اللفظي، لكون هؤلاء يظنون وهمًا أن التنوير هو من باب الكفر والخروج من ملّة الإسلام، وهذا لا أساس له في رؤيتنا، فالتنوير لا يعلن، بقدر ما هو لا يضمر النوايا، عن كفره بالله.

إن التنوير الذي ندعو إليه يؤمن بالله خالق الوجود بكل مكوّناته، وأن الشخص التنويري لا يعادي الله بأي معنى، فمثل هذا عداء لا يليق به لأنه يبغي الخير للإنسان؛ بل يدعو إلى أن يكون الإنسان غايته ومحط عنايته؛ ذلك أن الإسلام، في الوقت ذاته، ما جاء إلا من أجل إعلاء شأن الإنسان في الوجود حتى إنه جعله خليفة له في الأرض.

ولعل ما قاله عزيز الحدادي في كتابه «العالم العربي في ضيافة العدميّة» نعده -نحن- منفذًا طيب الصوب والاتجاه؛ ذلك «أن العلاقة الجدلية بين الإنسان والله هي علاقة روحية لا يمكن أن تعرقل تطلّعات الإنسان إلى العيش في مجتمع متنوِّر وحداثي ومتقدِّم».

إن مناحينا هذه تجعل من الدولة دولة تنويرية، ومن النظام السياسي الحاكم النظام التنويري، ومن التنمية التي لهما تنمية تنويرية إنْ عزما وتطلّعا معًا إلى ذلك بتجاوز القصور إلى الرشد الفكري والحكمة والحرية والتعدّدية الحقة.