الثورة بين التنمية والحرية

الثورة بين التنمية والحرية

في تاريخ مصر الثوري الحديث، هناك صراع دائم بين التنمية والحرية. فمما لا شك فيه أنه تاريخ ثوري منذ محمد علي حتى الآن مرورًا بثورة عرابي، وثورة 1919م حتى ثورة 1952م، وثورة 2011م. وقد تجلى الصراع بين التنمية والحرية في ثورة 1952م. وبرزت التنمية بعد ثورة 1952م في الصراع بين الديمقراطية والثورة في اتجاهين: الأول لا ثورة من دون ديمقراطية وإلا تحولت إلى استبداد. ومثّل هذا التيار محمد نجيب أول رئيس جمهورية في مصر بعد القضاء على الملكية وخالد محيي الدين قائد سلاح الفرسان.

فالديمقراطية ترسيخ للثورة وتدعيم لها وضمان لاستمرارها. فالثورة نداء للحرية. والديمقراطية تحقيق لها. والتنمية الاجتماعية وحدها عن طريق النخبة العسكرية بلا ديمقراطية لا تستمر. بل قد تنتكص إلى عكسها إذا ما تحولت الثورة إلى ثورة مضادة. فإذا ما دخل الشعب كعامل ثالث مطالب بحريته فإن التنمية التي ينالها سرعان ما يفقدها؛ لأنها هبة من النخبة العسكرية وليست حقًّا مكتسبًا تعبيرًا عن حريته. وفي تاريخ مصر المعاصر ظهرت هذه العوامل الثلاثة: النخبة العسكرية، والديمقراطية، والشعب كعوامل محركة للمجتمع والتاريخ إذا ما اجتمعت معًا. فإذا ما تناقضت تأخر المجتمع وتأخر التاريخ إلى الوراء.

وتاريخ مصر الحديث تصديق لذلك، فقد وُلِّيَ محمد علي ولاية مصر بعد حركة وطنية عامة في مقاومة الاستعمار الفرنسي أثناء الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801م). ولم يكن الأتراك العثمانيون غرباء عن البلاد ولا المماليك بعد أن تمصروا وأصبحوا مواطنين مصريين. ثم نصّب العلماء والمشايخ والأعيان محمد علي واليًا على مصر 1805م. ولأول مرة في التاريخ يساهم الشعب في اختيار الحاكم. ثم جاءت الثورة العرابية والمناداة بالحرية والاستقلال. اشترك فيها الجيش والشعب. وكان الحزب الوطني يجمع بينهما. ففي هذه المرة اجتمع الشعب والجيش لمقاومة الغزو البريطاني لمصر. ولم ينجحوا في ذلك. واحتُلت مصر.

ثم جاءت ثورة 1919م بتحرك جموع الشعب ضد محتليه بقيادة الوفد المصري وبدعامة الحزب الوطني. وأفرج عن سعد وزملائه بعد اعتقالهم في مالطة، ثم في جزيرة سيشيل (سيلان). وكتب شعب مصر رسميًّا. وجمعت البطاقات في أن سعدًا وزملاءه يمثلون الوفد المفاوض المصري. وبالرغم من اختلاف أعضاء الوفد في لندن وباريس فإنه ظل يمثل مطالب مصر في الحرية والاستقلال. وفرضت الحماية على مصر 1914م. وتأجل بحث مطلب الاستقلال حتى انتهاء الحرب العالمية الأولى 1918م. واندلعت الثورة في 1919م. وحصلت مصر على دستور 1923م ومعاهدة 1936م التي تبيح للقوات البريطانية العودة في حالة الحرب مثل معاهدة 1954م التي تبيح لها العودة في حالة الضرورة القصوى. وانتهت ثورة 1919م إلى حكم الباشوات والإقطاع والقصر والإنجليز. فاستمر النضال من أجل الحرية والاستقلال في الأربعينيات حتى ثورة 1952م عندما اقتطف الجيش ثمار النضال الوطني في الأربعينيات وإعلانها في المبادئ الستة للثورة: القضاء على الاستعمار، القضاء على الإقطاع، القضاء على الرأسمالية، القضاء على الفساد، والحكم الديمقراطي، والتحقيق في موت الشهيد حسن البنا.

التنمية الملحّة

أتت الديمقراطية ضمن المبادئ الستة. وانتظر الناس والمثقفون تطبيقها. بل شاهدوا المعركة بين أنصار الديمقراطية مثل نجيب وخالد محيي الدين وأنصار التنمية المباشرة خوفًا من أن تتحول الديمقراطية إلى تعددية حزبية، واختلاف بين الآراء وتتأخر التنمية الملحّة مثل الإصلاح الزراعي، والسد العالي، والتصنيع، وتأميم قناة السويس، وتحديد إيجار المساكن أو التمصير. فالثورة لا تتحمل الخلاف في الرأي وليست مهيأة للانتظار.

وبدأ الخلاف بين أنصار الديمقراطية والثورة، والتنمية والثورة يشتد على مدى سنتين (1952- 1954م) حتى قُضي على الاتجاه الأول بعد محاولة اغتيال عبدالناصر، وإعفاء محمد نجيب من رئاسة الجمهورية وإبعاد خالد محيي الدين سفيرًا أو ملحقًا عسكريًّا في ألمانيا. ومنذ ذلك الوقت استعذبت الناس الإنجازات العملية للثورة من دون الحرية والديمقراطية. وامتلأت السجون والمعتقلات بأنصار الديمقراطية مرة من الإخوان، وأخرى من الشيوعيين. فإذا ما أراد النظام تقوية نفسه فإنه يفرج عن الإخوان ويبقى الشيوعيون في السجون أو يفرج عن الشيوعيين ويبقى الإخوان في السجون. وإذا ما خاف من كليهما استبقى كلا الفريقين في السجون قبل أن يهربوا إلى الخارج حيث الحرية.

والسؤال الآن: هل تستطيع الثورة أن تستمر في البقاء من دون حرية أو ديمقراطية؟ هل يمكن أن تبقى الإنجازات الاجتماعية الثورية من دون حرية؟ إن التجربة المصرية تبين أن الثورة بلا حرية سرعان ما تنقلب إلى ثورة مضادة. صحيح أن الناصرية أيضًا كان ينقصها الدفاع عنها. فلما انقلبت إلى ثورة مضادة لم تجد أحدًا للدفاع عنها. وإلى الآن نظرًا لغياب الحرية لا يستطيع أحد أن ينادي بالعودة إلى الإنجازات الثورية في العهد الناصري. بل لا يستطيع أحد أن يفتح فمه الآن في أي موضوع مثل عدم الحديث في الدين والسياسة في الجامعات والنقابات والاتحادات وكل التجمعات الاجتماعية.

والآن هل يمكن أن يتجدد الحراك الاجتماعي في الوطن العربي؟ لقد جرّبنا الثورة من النخب العسكرية مثل ثورة 1952م، كما جربنا الثورات عن طريق الشعوب الثائرة المتفجرة مثل ثورة 1919م التي انتهت إلى حكم الإقطاع، وثورة 2011م التي انتهت إلى الصراع التقليدي بين العسكريين والإسلاميين بعد انتخاب الإسلاميين ديمقراطيًّا وفشلهم في الحكم بمفردهم من دون بقية التيارات السياسية، وتجربة الجمع بين النخبة العسكرية والنخبة الوطنية أي بين العسكريين مثل عرابي والبارودي، والمدنيين مثل أعضاء الحزب الوطني الذي كان يجمع بين العسكريين والمدنيين.

هل هناك عوامل لم تدخل الساحة الثورية؟ يجيب المثقفون بأن المجتمع المدني ما زال خارج الحلبة. وهو المجتمع الذي يضم الاتحادات والنقابات والهيئات الاجتماعية بالرغم من تنظيمهم وفكرهم. وقد حدث ذلك من قبل في ثورات السودان والجزائر ولبنان. فقد ثار المجتمع المدني السوداني ضد المحتكرين الدائمين للسلطة، العسكريين والإسلاميين. وكذلك في الجزائر. وفي لبنان ثار المجتمع المدني ضد الطائفية، سُنّيّ، شيعيّ، والعرقية، عربيّ، أرمنيّ، كرديّ. وسرعان ما وقع المجتمع السوداني من جديد في يد العسكريين. ولم تظهر لدى اللبنانيين نتائج الثورة باسم المواطنة. والخوف أن يكون الواقع أشد من التمني. والأمر مفتوح للعراق، للمواطنة العراقية التي يندرج تحتها العراقي والكردي. ولليمنيين، للمواطنة اليمنية التي يندرج تحتها السنة والشيعة، الشوافع والزيدية. والأمر كذلك للمواطنة السورية التي يندرج تحتها النصيريون وبقية الطوائف السورية. والمجال مفتوح أيضًا للمغرب العربي، للأمازيغ والعرب. فالعروبة قادرة على احتواء العرقية.

عوامل الحراك الاجتماعي

وباستخلاص عوامل الحراك الاجتماعي نجد أنها أربعة: أولًا- النخبة العسكرية بصرف النظر عن مدى انتشارها وأولويتها مثل محمد علي، وعرابي. فقد كان محمد علي جنديًّا ألبانيًّا في الفرقة العثمانية التي أتت للدفاع عن مصر ضد الحملة الفرنسية. وكان أحمد عرابي ضابطًا في الجيش المصري ممثلًا للحزب الوطني. ثانيًا- النخبة الإقطاعية التي حكمت مصر بعد ثورة 1919م واختفاؤها بعد ثورة 1952م، وظهورها في ثوب الطبقة الجديدة، وصعودها على أكتاف النخبة العسكرية حتى الآن، حتى أصبح الجيش نفسه ممثلًا للإقطاع الجديد، وشركات الإنتاج وقطاع الأعمال.

ثالثًا- النخبة الشعبية من الأعيان والعلماء وكبار التجار التي نصّبت محمد علي واليًا على مصر والتي اختفى دورها تحت الحكم العسكري الذي عدَّها منافسة له في الحكم، ومعارضة له في السياسات. رابعًا- النخبة المثقفة من الطلاب الذين قاموا بهبات وانتفاضات ثورية ضد النخبة العسكرية مثل الهبّة الطلابية ضد اتفاقية الجلاء في 1954م التي تسمح بعودة الجيش البريطاني في حالة الضرورة القصوى، والهبّة الطلابية في مارس 1968م ضد الأحكام القضائية المخففة على أحكام قادة سلاح الطيران الذي كان سببًا في هزيمة 1967م، والانتفاضة اليسارية ضد غلاء الأسعار في يناير 1977م، والاعتصام الطلابي في ميدان التحرير ضد تأخر معركة تحرير الأرض المحتلة في سيناء. والاعتصام الطلابي في جامعة القاهرة ضد الغزو الأميركي للعراق 1994م.

فالسؤال إذن: لماذا هذه الوحدانية في الحكم؟ لماذا اتبعت الثقافة السياسية هذا الحديث الذي يشكك في صحته ابن رشد وهو «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. كلها في النار إلا واحدة. هي ما عليه أنا وأصحابي». فهو حديث ضد الاجتهاد. وهو المصدر الرابع للتشريع. وضد حديث «للمخطئ أجر وللمصيب أجران». فله أجر الاجتهاد. لقد اختير هذا التصور الأحادي للحكم بالسياسة وأفرز الاستبداد، وهو ضد الديمقراطية. لذلك ظل الحاكم على مدى التاريخ العربي الإسلامي خائفًا من الانقلاب عليه، وأن يتحول من القصر إلى السجن، ومن السجن إلى القصر. ولم تعرف الجماهير الشعبية أين الحقيقة.

ووقفت بقية النخب المدنية عاجزة عن أن تفعل أي شيء. كذلك وقفت بقية النخب الاجتماعية في المجتمع المدني عاجزة إلا من تبرير من وافق هواها. أما النخبة الدينية فقد بقيت في السجون تضرب النخبة الحاكمة بعضها بالبعض الآخر. الإفراج عن الإسلاميين إذا كان الخطر من اليساريين أو الإفراج عن اليساريين لصد الإسلاميين بعد أن أصبحت النخبة العسكرية هي الدائمة تخشى من هذا الفريق أو ذاك.

ويظل السؤال قائمًا: لماذا أحادية الحكم؟ وما المانع في الحكم الائتلافي؟ وما أحوج الوطن العربي إلى هذا الحكم الائتلافي حيث تتعدد فيه الرؤى والاختلاف في الرأي بدلًا من الحروب الأهلية بين الطوائف.