الدراسات الثقافية: إشكالية الفلسفي واليومي والهامشي

الدراسات الثقافية: إشكالية الفلسفي واليومي والهامشي

قد تكون الدراسات الثقافية مجالًا أكاديميًّا قائمًا على تحليل الظواهر والنصوص، وعبر تخصصات معرفية متعددة، لكن تمثلاتها لوعي الظاهرة الثقافية واشتغالاتها المتعددة، هو المجال الذي يجعلها أكثر فاعلية عبر ربط الممارسة الخطابية بالممارسة الدلالية، على مستوى التحليل والقراءة، وعلى مستوى تفحّص اشتغالها الوظائفي و«البضائعي» في الاجتماعي والسياسي والأنثروبولوجي للثقافة، أو ما سمّاها دورينغ «الثقافة المنتجة»، أو على مستوى تقويضها لنمطية المعيار في النصوص؛ إذ تتحول هذه النصوص إلى موضوعات قابلة للجدل والاختلاف والحفر والقراءة، مثلما هي قابلة للتداول والربح والخسارة، فضلًا عن دورها في تقويض المركزية الأدبية النمطية التي فرضت وجودها تاريخيًّا عبر ثنائية النص والمؤلف.

إعادة مقاربة فاعلية المؤلف هي إعادة نظر في ديناميات إنتاج نصوص مُعطّلة، ولأنساق مُغيّبة في تلك النصوص، وفي فاعلية المؤلف -الذي قتلته البنيوية- بوصفه مركزًا منتجًا للخطاب السياسي والنفسي والاجتماعي، بقطع النظر عن هوية هذا المركز وما ينتجه من نصوص رفيعة أو وضيعة، وهذا ما يجعلها أكثر استعدادًا لإثارة الأسئلة الإشكالية التي تُثار عند كلِّ حديث عن استئناف وظيفة المؤلف، ومقاربته عبر مجموعة من التمثلات الثقافية التي تطرحها النصوص الأدبية، على مستوى قراءة تعالقاتها المضمرة في المعارف واللغويات واللوحات والعلامات الفنية، وفي الثقافات الشعبية، أو على مستوى تعالقها مع النظريات الاجتماعية والاقتصادية والجنوسة ونظريات التواصل والاتصال.

فالنص في «الدرس الثقافي» ليس بريئًا، وليس عائمًا، إنه تمثيل أيديولوجي أو عصابي أو جنسوي لمجموعة من تلك التعالقات التي يمكن أن تُسوّقها المؤسسات النسقية المهيمنة، مثل السلطة والجماعة والطائفة والفحولة والأنوثة، أو وسائل الإعلام و «المجال العام»، أو تلك التي تُسوّقها التمثلات الثقافية على مستوى الأطروحات القارة لمفاهيم الخطاب والهوية والجنسانية والجندرية والعلاقة مع الآخر، أو على مستوى استعمالاتها في الهامشي والمخفي للجمهور وللفرد، وفي العلاقة مع المرجعيات الأنثروبولوجية والبنى السياسية والنفسية والتشكلات الاجتماعية، وبمستويات علاقتها بالسلطة والثروة والجنوسة والقيم والمقدّس، فضلًا عن علاقتها بسرديات الأنماط الثقافية، بوصف الثقافة هنا مجالًا لتجاوز الحقائق الموضوعية التي يرفضها التاريخانيون الجدد.

وبقدر اهتمام الدراسات الثقافية بمقاربة الموضوعات «الهجينة» التي قوضت مفهوم التعالي والنخبوية، و«الأدب الرفيع» فإنها في المقابل ليست بعيدة من الفلسفة، بوصفها مجالًا أكاديميًّا، لها ارتباطها بشبكة من المفاهيم والأفكار، التي من شأنها أن تجعل مقاربة أية ظاهرة ثقافية مجالًا للتوظيف الفلسفي، مثلما هو اشتغالها في التعاطي مع «المضمرات المتحكمة في النصوص الأدبية بوصفها جزءًا من الممارسة الثقافية؛ إذ تفترض لهذه الدراسات إجراءات تحليلية ونقدية تخص نظامها النسقي، ومقاربات تمثيلية تنطلق من نظر الدراسات الثقافية إلى أنواع من النصوص ضمن إطار الممارسة الثقافية، أي العمل والإنتاج وتجليات الحياة اليومية للكائن البشري التي تتأثر بأبعاد اقتصادية وبالطبقة والعرق والجنوسة والسياسة والحاجة والرغبة».

فاعلية الدراسات الثقافية تكمن في طابعها اللاتخصصي، الذي يُعنى بالمسكوت عنه في الثقافات المتعددة، وبتمثلاتها اللاأدبية المجردة، وبالأهمية التي تتركها معالجاتها الثقافية على ما هو نسقي في النظر إلى النصوص، أو النظر إلى تفسير الظواهر، وإلى القضايا التي تتطلب بحث انشغالات في التحليل، والدراسة، والإحصاء، وبالهوية والجندر، وفي ثنائية المركز والهامش، وفي تمثلات الآخر الثقافية وغيرها. واللاتخصص هنا لا يعني فشل الدرس الأكاديمي أو المنهجي، أو التوظيف المعرفي حتى المؤسسي، بقدر ما يعني قدرة هذه الدراسات على أن «تدمج مناهج وموضوعات بحث واهتمامات مهنية متعددة».

اللاتخصصية في الدراسات الثقافية هي مجال إجرائي، لتيسير عملها في مفاهيم التعدد والتنوع، وفي إقامة علاقات فاعلية وحرة مع تخصصات مجاورة، لها علاقة بالسياق الذي تفترضه «علاقات معقدة وحميمية مع الدراسات الأدبية والدراسات الإعلامية». وحيث تصطنع مجالات عمومية، أو حتى منصات لمقاربة اشتغالات أكثر انفتاحًا في تمثيل الظواهر، وأكثر تعبيرًا عن المتغيرات التي قاربتها اشتغالات النقد الثقافي، على مستوى النصوص، أو على مستوى الكشف عن النسق المضمر الذي غيبته السلطة والمقدس والقوة والفحولة، ليحضر «تمثيلًا» لما هو زائف وسطحي ومخادع، أو ما هو استعاري ومجازي في النصوص والوقائع والصراعات.

ثورة مست جوهر الإبستمولوجيا

وهذا ما جعل مجال الدارسات الثقافية أشبه بـ«ثورة» مسّت جوهر الإبستمولوجيا العربية، ولا سيما تلك الدراسات التي تخصّ الدراسات الأدبية، وأطروحات المناهج التقليدية؛ إذ باتت عارية أمام كشوفات النقد الثقافي، لتعريتها من المركزيات الأيديولوجية والجمالية والبلاغية، وصولًا إلى الاشتغالات التي بدأت تقارب الدراسات الشعبية ووسائل التواصل الاجتماعي، والتليفزيون، والإعلانات والاستهلاك، فضلًا عن الدراسات التي تخص موضوعات أكثر إشكالية مثل «النسوية وما بعد الاستعمارية والتاريخية الجديدة»، بوصفها منصات نقدية تقوم على إعادة قراءة أنثروبولوجية وإبستمولوجية للتاريخ، وأنساقه الأدبية، ولسردياته ونصوصه، فضلًا عما يتعلق بطبيعة «الهويات السردية» التي تضطلع اليوم بأدوار نقدية مهمة في النظر إلى المرجعيات النصوصية للصراع، والتمثيل، والعلاقات، ولكل ما أنتجته في المجال التداولي، وفي صياغة مفاهيم لم تعد عمومية، ولا بريئة، مثل الأنا والآخر، والفحولة والأنوثة، وما بعد الكولونيالية، والنمط، والهيمنة.

إذ تحولت تلك المفاهيم إلى مصدر للتخيل السردي، حتى لتوصيف التخيّل المفاهيمي، ولا سيما أن تاريخ الأدبية العربية كان في كثير من متونه، تاريخ تزييف ومحو وإرجاء، وأن أطروحات فلسفية مثل النسوية في هذا السياق ما كان لها أن تكون لولا الضغط المنهجي الذي بات يهدد التاريخ والنص في آنٍ معًا؛ إذ «أصبح يمثل «وسيطًا منهجيًّا» يمر ويتداخل من خلاله معظم العلوم الإنسانية كالأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا وفلسفات اللغة والسيميائيات ومناهج الشعرية والإستطيقا، إضافة إلى فلسفات العلوم والإبستمولوجيا ومباحث الوجود والأنطولوجيا منذ أرسطو إلى يومنا هذا».

وهذا ما يجعل سعي الدراسات الثقافية إلى مقاربة تلك النسقيات ينطلق من فكرة تعدد منصات إنتاج الخبر والمعلومة، بوصفه «منصة أو مجالًا لمواجهة المركزية». وهو نسق تتغذى فيه المشاعر والمواقف عبر شرعنة الفروق، تلك التي ينتعش فيها أيضًا الاختلاف والصراع والعنف، لتبدو كأنها تعبير عن وجود أنماط تسعى إلى تقويض ما هو أيديولوجي في المركز القديم، المركز الاستعلائي الذي كرسته هيمنة وتاريخ والاستعمار، والذي سيجعل الدراسات الثقافية مجالًا للمقاربة الحرة، ولأنسنة فكرة التقويض، بوصفها ظاهرة ثقافية، ولا سيما ما هو خبيء في اللغة والعلامة والظاهرة، التي تجعل من أطروحات ما بعد الحداثة فضاءها المفتوح والمحتدم، الذي يتجوهر حول الفكرة النقدية لذلك التقويض، عبر النزوع إلى اللاتمركز، واللاتخصص.

فضلًا عن استدعاء الأطروحات المفتاحية لخطاب ما بعد البنيوية، بوصفها مجالًا لإنتاج خطاب لا متعين، وقائم على فاعلية النقد، بما فيه نقد التمركز والاستهلاك والعنف والاستبعاد والحرب والتسلح النووي والعنصرية وغيرها، إضافة إلى نقد فكرة «موت المؤلف»؛ إذ عمدت الدراسات الثقافية إلى صياغة ممارسات خطابية تقوم على عملية إعادة إنتاج المؤلف، بوصفه ذاتًا، وقارئًا، وفاعلًا اجتماعيًّا وأنثروبولوجيًّا، بحيث تكون اللغة والعلامة التي ينتجها، وسائط أساسية في المشاركة والاندماج والتعدد وفي الحصول على المعرفة، وحيث يكون لقاؤها مع «فكر دريدا القائم على فكرة تقويض المراكز، بما فيها المركز الميتافيزيقي، وعدًا بزعزعة التمركز اللوغوسي، لصالح ما يكتب المؤلف، والوقوف عند نقاط لا حدّ لها من التقاطع، ولكن النقطة الأعمق والأبعد غورًا هي تأكيد استبعاد الحلم الطوباوي بالمجتمع العقلاني الذي كانت الحداثة تحلم به، والذي لم تتخلص ما بعد الحداثة من أضغاث أحلامه تمامًا».

الدراسات الثقافية ووسائل الإعلام

دراسة الخطاب الإعلامي في الدراسات الثقافية تفترض مقاربة مفهومية جديدة لتوصيف هذا الخطاب في السياق وفي النسق، وفي التعاطي مع مجالات مفهومية أخرى فاعلة ومشاركة ومستهلكة مثل الجمهور ووسائط الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقاته المتعددة، فضلًا عما يتعالق مع المجال التداولي للثقافة الشعبية، والمظاهر التعبيرية للجسد عبر فرجة الأزياء والموضة والعطور ورياضات الملاكمة وجمال الأجسام والمصارعة والتايكوندو وكرة السلة والقدم وغيرها، حتى مقاربة قضايا حساسة مثل الدراسات النسوية والعرقية، فضلًا عن الاهتمام بالموضوع الجندري والأنثروبولوجي للثقافة.

إن توصيف النتاج الثقافي عبر هذه التعالقات يتبدى من خلال الممارسة، والتلذذ بتلك الفرجة المفارقة، التي تتحول تحت ضغط الاستهلاك إلى مقترحات لصيغ سيميائية، ولا سيما «التمثيل» بوصفه إنشاءً لمجال تداولي يقوم على أساس استعمال المادة الثقافية عبر إعادة النظر في مفهوم «الاستهلاك» ذاته.

فهدا المفهوم لم يعد قرينًا بنمطية تداول السلعة، بل تحول إلى قيمة رمزية لها توصيفها ومجالها ووسائلها، وبالأخص في صياغة الرسالة الإعلامية، فالخبر السياسي لم يعد نصًّا مجردًا وحياديًّا وقائمًا على توصيف حدثٍ ما، بل أضحى مرتبطًا بمصالح مجموعة، لها مواقفها ومزاجها وسياساتها وعواطفها ونمط إعلانها، وأن تمثيلها لتشكيل الخبر يعطيه بعدًا يتسم بالانحياز القائم على الرفض والقبول، فالحيادية والقياسية لم تعودا مقبولتين في الدراسات الثقافية.

لقد لعبت وسائل الإعلام دورًا خطيرًا في التقويض والتزييف، والترويج، وهو ما جعل علاقاتها بالدراسات الثقافية أكثر حساسية، ولا سيما في مجال التعاطي مع فكرة الاستهلاك السلعي كوجه عمومي، الذي بات أكثر اشتباكًا مع الاستهلاك الثقافي، والاجتماعي، والرمزي، بما فيه استهلاك الصورة، بوصفها أنموذجًا لترويج السلعة/ المعنى، ولإبراز القيم الشعبوية، والاحتجاجية، حتى يوميات التظاهر، والعنف، ونزعات التمرد والصخب، بدءًا من حركة البيتلز في الستينيات، وحركة بيت الشعرية في أميركا، مرورًا بجماعة راقصي الروك آند رول في بداية السبعينيات، والحركات الطلابية عام 1968م في باريس، والحركات العمالية في بولندا، وانهيار المنظومة الشيوعية عبر صناعة صورة «انهيار جدار برلين» التي كان للخطاب الإعلامي حضور أيديولوجي، وإعلاني فيها، وبما جعل من البروباغندا واحدة من أكثر المجالات تعالقًا في الدراسات الثقافية، وصولًا إلى وظيفة الصورة في إبراز أعمال العنف في الولايات المتحدة بعد مقتل فلويد ذي الأصول الإفريقية على يد الشرطة الأميركية.

الثقافوية البصرية للإعلام تحولت إلى وظيفة صناعية، وإلى نوع من الرأي العام، لصناعة البراديغم السياسي والفحولي، حتى قيل: إن الصورة هي المجال الأبرز في التأليف، والتسويق، وإن تلك الصورة «تساوي 1000 كلمة». مجال تأليف الصورة هو إعادة إنتاج لصورة المؤلف ذاته، المؤلف الأيديولوجي والشعبوي والعنصري والثوري والطائفي والقومي، الذي جعل صنعة هذا التأليف لا تنفصل عن السياسة النسقية للإعلام الذي تقوده الدول والجماعات.

التمرد على المكوث داخل السردية هو العلامة الفارقة في إعادة تأليف «المجتمع الثقافي» الذي يفترض وجودًا مغايرًا للسلطة، والاقتصاد والمكتبة، والسوق والقانون والحريات، وصولًا إلى وجود الصناعات الضدية، تلك التي تشتغل عبر وسائل الإعلام، والتواصل الاجتماعي، وعبر الإعلان والترويج للاستهلاك السلعي، أو في إشاعة وجود تلك السلع المادية والرمزية داخل نسق يخضع إلى سرديات جديدة تقودها مؤسسات السينما والتليفزيون والإنترنت والبروباغندا، حتى الإعلانات التي تروّج للمسابقات والمنافسات الرياضية والأزياء والموسيقا وأفلام البورنو، تلك التي تعمل على صناعة الرسالة والوسط والنجومية، وتحفز غرائز التلقي عند الجمهور، وصولًا إلى صناعة «مواجهات مُتخيّلة» وأنواع من الترفيه والمتع، التي تُسَوَّق عن طريق المشهورين، وتخلق حولها «خطابًا، نظامًا خاصًّا من اللغة، وأفعالًا لغوية محتملة، تخلق الهدف الذي تصفه بالقدر نفسه الذي تسجل فيه وصفًا موضعيًّا له».

الجمهور والدراسات الثقافية والفلسفة

تمثل الفلسفة خلفية مؤسسة لأية معرفة أو دراسة، فهي مجال إنتاج المفاهيم، وهي القوة التي تعزز فعل المعرفة، وتؤصّل مجاله الفكري، وأحسب أن اهتمامات الدراسات الثقافية ليست بعيدة من المرجعيات الفلسفية؛ إذ كانت الأكثر حفزًا على السجال في مجالات المعرفة والدرس والخطابة، مثلما لعبت دورًا مهمًّا في تأطير قاموس هذه الدراسات، ولا سيما ما يتعلق بالإبستمولوجيا بوصفها المعرفي أو بوصفها الاستعمالي التي يطلق عليها نيتشه أنها «جيش متحرك من الاستعارات والمجازات».

إن الانشغال بما هو فلسفي، أي ما هو مفاهيمي يدخل في إطار تأهيل الدراسات الثقافية لأن تُكَوِّن فعلًا نقديًّا ومعرفيًّا، ولأن يكون دورها مؤثرًا وفاعلًا على مستوى تأهيل مفهوم الثقافة ذاته في إنتاج المعنى، وفي تأهيل السياق، وفي إعطاء الجمهور مجالًا عامًّا للمشاركة، ولصياغة الرأي والموقف والتواصل.

إن الجمهور قوة تعرّض واسعة، ومجال لاختبار الخطاب، مثلما هو قوة استهلاكية وتداولية كبيرة لقياس ذلك التعرّض وذلك الخطاب، ولأنماط تعاطيه مع منصات إنتاج السلع الثقافية، بما فيها التليفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي والميديا والإعلان، وعبر المؤسسات التي تصنعها الحكومات، أو القوى المهيمنة، التي يدخل بعضها في سياق التنافس، أو في سياسة فرض الإخضاع والقمع والإكراه، فضلًا عن أنّ اهتمامات الجمهور لم تعد بعيدة من الدراسات الثقافية.

وهذا دفع بعض الباحثين إلى الاهتمام بثقافات «الأقليات» وثقافة الأدب الشعبي، وبثقافات السجن والمنفى وبموضوعات اليومي، وإلى توسيع مقارباتهم الثقافية عبر معالجة المسلسلات التليفزيونية، والأزياء، والروايات البوليسية، والرياضة وألعاب الفيديو والشخصيات الشعبوية مثل مادونا ومايكل جاكسون، وأنماط الاستهلاك مثل الطعام والعادات والمقاهي والأغاني والحقائب كما يرى جونثان كولر.

العنف بين خطاب الشعر واحتفاء اللغة

العنف بين خطاب الشعر واحتفاء اللغة

العلاقة بين الشعر والعنف ليست علاقة محكومة بالتعارض أو بالتوافق، بقدر ما هي علاقة محكومة بالوظائف والخيارات، وبالأهداف التي تؤدي إلى إبراز ما هو أيديولوجي أو تمثيلي عن وظيفة سياسية أو اجتماعية، أو عن مظاهر تستوعب التوتر أو التفريغ النفسي، أو للتعبير عن موقف نقدي أو عن رؤية تبحث عبر حمولاتها الرمزية والقناعية عن معنًى خبيء تحت مهيمنة اللغة وبلاغتها التعبيرية، وهذا ما يجعل الكتابة الشعرية مرهونة بطبيعة التناقضات التي يعيشها أو يشتبك معها الشاعر، بوصفها تناقضات صراعية محكومة بمرجعيات سياسية أو اجتماعية أو نفسية أو أيديولوجية، وهي حافلة في تاريخ شعرنا العربي، وفي علاقة شعرائنا مع المجتمع أو مع السلطة أو مع الحزب والجماعة.

العنف في اللغة هو دال على «الخرق» و«التعدي» كما يقول ابن منظور؛ إذ هو «الخرق بالأمر، وقلة الرفق به، وهو ضد الرفق، عنّف به، وعليه يُعنّف عنفًا، وعنافة وأعنفه وعنّفه تعنيفًا، وهو عَنِيف إذا لم يكن رفيقًا في أمره، واعتنف الأمر أخذه بعنف»(1) لكنه في السياق الاصطلاحي تجاوز اللغة ليتموضع في سياقات متعددة، بعضها رمزي، وبعضها إجرائي، وبعضها استعاري فاعل في متون الخطاب الشعري، وكما أنّ لهذه السياقات مرجعيات تاريخية وسياسية وعصابية ولغوية، فإنّ لها أهدافًا معروفة في أغراضها وفي تعبيرها عن مواقف وأغراض معينة، حتى في التعبير عن أنماط ثقافية يدخل «الشعر» في توصيفها، وفي تأطيرها، أو في هدمها وإزاحتها، وهو ما أشار إليه أدونيس في أنّ وظيفة الشاعر هي التجاوز، وهي وظيفة ليست بريئة، ولا آمنة؛ لأن مفهومها يتعالق مع مواجهة السائد والنمطي، وأنّ دعوتها تعني تبني فكرة الهدم وإزاحة الأقنعة، بمعنى التحيّز إلى الأسئلة الكبرى، وإلى ما يصفه بصناعة «الاضطرابات والزلازل الثقافية».

يدخل هذا التوصيف في سياق نظرته الشعرية للتاريخ وللواقع وللقيم؛ إذ إنّ مفهوم العنف الثقافي لدى أدونيس هو مفهوم متعالٍ، أنطولوجي، ينطوي على وعي إشكالي لمفهوم التاريخ، وعلى فكرة تقويضية لما تكرّس من أنماط خطابية سائدة في الشعر وفي النقد والفكر، وفي الكثير مما تمثله «الهوية الشعرية» التقليدية تاريخيًّا وبنائيًّا؛ لذا عمد أدونيس إلى اجتراح مجال سسيوثقافي لتبرير وتسويق أطروحاته لمفهوم العنف في الشعر، وعلى أساس عدم انفصاله عن مفهوم التجاوز ذاته، وعن طبيعة ذاته المهووسة بالتمرد، والرفض والمغالاة أحيانًا بوعي إشكالي له مرجعيات غنوصية أو صوفية.

وبقدر ما عمد بعض إلى اصطناع وظائف وسياقات محددة للتجاوز في الشعرية، تخص المعارضة أو الترويض، فإن ذلك لا يعني تجاوزًا على الوظيفة الضدية التي أراد لها أدونيس توصيفًا محددًا، ومرجعيات محددة، بل إنّ التعبير عنها، وفي عديد كتاباته الشعرية، كان يُعدُّ تمثلًا لمواجهة ضدية لذلك الترويض، وعبر منح الشاعر قوة فائقة، وغواية الكتابة عن سحرية المختلف، وعن الانحياز إلى ما هو عميق، وأحيانًا مسكوت عنه في التاريخ والسيرة والرؤيا، مقابل استكناه حمولات دلالية لهذه الكتابة؛ إذ يجد في الحرية أفقًا، وفي الرؤيا شغفًا، وفي مقاربة السري والغامض انشغالًا عميقًا لتوظيف لعبة القناع الشعرية، وعبر شخصيات وأسفار وأحلام وأفكار، تتبدى فيها بلاغة الجسد، وسرانية الهوية، وفحولة الفكرة، وهي أقنعة تمثيلية غائرة لفكرة العنف التي حفل بها ديواننا الشعري العربي.

المتنبي وظاهرة العنف الشعري

يقوم العنف في الشعر على نفي الآخر، عبر تهميشه أو هجوه، أو التقليل من شأنه، وقدحه بالشتائم أو بالصفات المعيبة، أي أن هيمنة الذات الشعرية تكشف عن علاقة مُلتبِسة مع ذلك الآخر، وعن ممارسة عنفية استعارية تتضخم فيها الهوية وخطابها، ويخضع فيها الآخر إلى سلسلة من النعوت المخفية خلف توريات وإشارات يفقد من خلالها وجوده الرمزي، مقابل حضوره المشوّه والوضيع.

وفي شعر أبي الطيب المتنبي تبدو هذه الظاهرة واضحة وجلية، حتى يمكن القول بأنه «شاعر العنف» الأبرز في شعريتنا العربية، في مفارقته وفي نظرته، وفي خطابه، حتى في نظرته للأحداث والشخصيات الكبيرة والصغيرة. المتنبي يمجّد الحرب كعلامة للقوة والانتصار والفخر، مثلما يمجد السلطة كعنوان لإدارة تلك الحرب، ولصناعة المجد فيها، كما أن المتنبي يُمجّد الشخصية، ويُمجّد الممدوح، وكلاهما لا ينفصل عن ظاهرة السلطة، ولا عن قيمتها الاجتماعية والرمزية، ولأنّ «البيئة العربية أنتجت وعبر عصور من الزمن ثقافة فيها كثير من العنف، والعربي يميل أحيانًا إلى إثبات شخصيته المُقنّعة والعصابية من خلال مظهر العنف»(2).

أَيَّ مَحَلٍّ أَرْتَقِي                 أَيَّ عَظِيمٍ أَتَّقِي

وَكُلُّ مَا قَدْ خَلَقَ الْ                 لَاهُ وَمَا لَمْ يَخْلُقِ

مُحْتَقَرٌ فِي هِمَّتِي                 كَشَعرَةٍ فِي مَفْرِقِي

إن تضخّم وتعالي الذات الرائية، تعني الرغبة العميقة في محو الآخر، وفي تمثيل لغة العنف الرمزي كواسطة توصيفية لهذا المحو، وبكل ما يحمله من دلالات اجتماعية أو طبقية، أو عصابية، وبوصف هذا العنف كمحتوى سيميائي، أو عصابي يؤسس من خلاله الشاعر موقفًا، أو علامة لوجوده، ولشخصيته التي تمثّل مرجعية ما، أو حضورًا ما.. ولعل قصيدته الأنوية المعروفة في مدحها وغلوها تكشف عن ميلٍ مركب لظاهر هذا العنف التعبيري والسيميائي، في سياقه كفضاء للتعبير عن القوة والسلطة والغلبة، أو في سياقه للتعبير عن وظيفة الذات في مركزيتها، وفي سياق دورها في الحرب، وفي السلم، فهو يستخدم أدوات الحرب ذاتها للإشارة إلى تلك المركزية، ولعلاقة ذلك مع رغبته في أنسنة العنف الرمزي والدلالي، ولمخاطبة الآخر الذي يبغي محوه أو إخراجه من دائرة الفعل.

فحين يقول:

الخيل والليل والبيداء تعرفني                 والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ

ما أبعدَ العيبَ والنقصانَ مِن شَرَفي                 أنا الثريا وذانِ الشيبُ والهرمُ

فإنه يستدرك ما يمكن أن تؤديه اللغة في بلاغتها، وما يؤديه الشاعر في موقفه، مثلما هي توكيد على أنّ وظيفة الشعر التي يحوزها، هي نظيرة لوظيفة الحرب ووظيفة السلطة في التعبير عن سمو الذات الشعرية، وعن رفعتها، وعن قياسها إزاء خصوم أرادوا النيل منه ومن كبريائه؛ لذا كانت قصيدة الحرب هي قصيدة عنف رمزي دفاعي عن الذات، وعن السياق الذي تتشكل فيها شخصية الفارس والشاعر والبطل.

يُطلِق العرب اسم الكريهة على الحرب، ويمقتونها بأشدّ الصفات بغضًا، لما تتصف به من عنف عمومي، ولما تتركه من آثار فاجعة، لكنها تظل في شعرية المتنبي، ورغم عنفها الفضائي الأخلاقي والميداني لاستحضار القوة، ولإدامة السلطة بالثراء والغلبة والسيطرة على الآخرين، ورغبته في استرضاء رموز السلطة عبر صناعة الخطاب، أو المدح، أو المجالسة، أو المناظرة، وهي أغراض سعى إليها المتنبي وبقصدية واضحة.

علاقة المتنبي بالحرب هي الوجه الآخر لعلاقته بالسلطة؛ لأنها تُغذي وتحفز مشاعره المكبوتة بالانتصار الذي يعشقه، ويتماهى معه، ويجد فيه المجال النفسي للتنفيس عن مكبوته، وللتعبير عن أوهام قوته وعن تعاليه، وعن كراهيته للآخر. كما أن علاقته مع «سيف الدولة الحمداني» كانت علاقة إشباعية، تتداخل فيها عوامل الإانتصار المادي في الحرب، والانتصار الرمزي عبر أبّهة السلطة وأثرتها وخصوصية تلك العلاقة في إشباع غرائزه وتوقه، فضلًا عن جانبها التعويضي لعقدة الفقدان التي يعانيها المتنبي، التي تجعله أكثر ميلًا للعنف الشعري، بوصفه عنفًا إشباعيًّا، وللغلو في مدح سيف الدولة الذي يصطنع عبره المجد، والانشداد إلى الحرب بوصفها طريقًا للسلطة وللانتصار الذي يعشقه نفسيًّا وماديًّا.

“فخاض بالسيف بحر الموت خلفه                 وكان منه إلى الكعبين زاخره

حتى انتهى الفرس الجاري وما وقعت                 في الأرض من جيف القتلى حوافره

كم من دمٍ رويت منه أسنته                 ومهجة ولغت فيها بواتره

وحائن لعبت سمر الرياح به                 والعيش هاجره والنسر زائره

أدونيس والعنف في الشعر

العودة إلى أدونيس ترتبط بسجال ثقافي ومفاهيمي، يخصّ مفهوم الحداثة بوصفه التجاوزي والثوري والعنيف، مثلما يخصّ مفهوم الفحولة بوصفه الثقافي والمهيمن والمركزي، وهو ما تحدث عنه الناقد عبدالله الغذامي في منظوره للنقد الثقافي وللأنساق التي تحكمه، وأنّ ما كرّسه أدونيس طوال نصف قرن هو تمثيل فائق الخطورة لتلك الفحولة، ولعنفها اللغوي والرمزي والجسداني.. عندما يقول أدونيس: إنّي «قاتل القمر أنا، قاتل العنقاء المشعوذة» فإنه يُلمّح إلى رفض إرث طويل من الخرافات والمعتقدات المهترئة. وحين يستصرخ نيران «فينيق» إنما يتطلع لبعث عالم جديد يتخطى العالم المتفسخ الهرم(3).

أحسب أن هذه المجاهرة هي تمثيل لفكرة العنف عبر أسطرته، فالقمر والعنقاء والفينيق كلها رموز أسطورية، وأن قتلها الاستعاري يعني التعبير عن تلك الفحولة، وعن فكرة القوة التي تستدعي القتل بوصفه قناعًا للعنف، لفرض رؤية متعالية للعالم، عبر إحياء رموز ذكرية مؤسطرة، أو لها حضور متعالٍ في الميثولوجيا والتاريخ العربيين، مثل الخضر، أو أوديسيوس، أو جلجامش، مهيار الدمشقي، النفري، الحلاج، ابن عربي وغيرهم.

«أعلو وأفكّر في التشبيه وأنأى/ لا أحتاج إلى ذروات/ شغفي أن أتواطأ مع أمواج مع كلمات/ لا أملك إلا أن أقتلها/ في عادة وجهي».

هذا المنظور الأدونيسي اقتربت منه الناقدة خالدة سعيد في نظرتها للعنف، بوصفه القوة التي تفرض سيطرتها على رمزية الموت والضعف، ففي مطلع مقالتها: «النفي، الغربة، الوحدة، الحرمان، الاضطهاد، اللامنطقي، عبودية المكان والزمان، الموت الفاجع- تلك رايات عصرنا؛ فيرفع اليأس لواءه، ويرقص الرعب في كلمات الشعراء. يقطع الشاعر الحديث الأسباب بين سفينته والمرافئ، ويسلم أشرعته لريح الضياع»(4) مقاربة الحساسية الشعرية عند أدونيس تضع القارئ أمام لعبة قاسية لمواجهة التاريخ وعنفه الأيديولوجي والعصابي واللغوي، الذي تتمثله القبيلة والفحولة والإطار، وأن مفهوم العنف الشعري لديه ينطلق من طبيعة تلك المواجهة، عبر نقد فكرة «النحن، الأمة الجمهور والجماعة. نقد باسم الأنا الخارجية، الانتماء، السياسة القومية»(5).

هذا السجال لا علاقة له بشعرية أدونيس، ولا بمفهوم التجديد الذي يفترضه، عبر المجاهرة بالعنف اللغوي إزاء التاريخ، أو النمط، بل هو الأقرب إلى ما يمكن أن يمثله العصاب والعنف الأيديولوجي، وهي سمة غالبة في كثير من مناقدنا ومطارحنا الثقافية؛ إذ يلبس عنفها طابعًا خطابيًّا، يستعيد معه بعض الشعراء لغة القدح والهجاء والذم والتخوين، التي باتت أغراضًا شعرية لها حضورها عند نمط من شعراء القبيلة والجماعات والطوائف والحروب.

الجواهري… لغة الشعر وقاموس العنف

قاموس العنف في لغة الشاعر محمد مهدي الجواهري لا ينفصل عن بيئته الشعرية والوجودية، ولا عن مزاجه الثوري، ولا عن مرجعياته الثقافية؛ إذ حفل ديوانه الشعري الكبير بلغة صائتة تتسع للخطاب، للاحتجاج، ولتوهج الأنا التي تتسق عبرها العبارة والفكرة، فهو شاعر يستأنف وعيه الصاخب عبر الثورة، وعبر ما يراه محتفيًا به كنوع من التعالي، ومن التمثيل، ومن الرؤيا التي تتساكن في لا وعي قصيدته.

ألفاظ العنف في القصيدة الجواهرية هي ألفاظ هجاء واحتجاج ووعيد وسخرية، وهذا القاموس يكشف عن اضطراب حساسيته الوطنية، وعن شخصيته الصراعية، وعن استدراكه للغة العنف بوصفها لغة حمائية من جانب، ولغة مواجهة مع الآخر من جانب آخر، فـ«معظم صور العنف لديه كانت حسية حركية، عبّرت من خلال الأفعال التي استعملها عن إحساسه النفسي المتألم لحالة الشعب وما يعانيه من ظلم، مُتبنِّيًا بذلك قضاياه في النضال والثورة»(6).

الطابع العنفي والمزاج الحاد في قصيدة الجواهري له مرجعياته النفسية والثقافية والبيئية، وله ضرورته السياسية أيضًا، فالشاعر يدرك أهمية الموقف الشعري وفاعليته في أن يكون كناية عن موقف سياسي واجتماعي وأيديولوجي، وهو بهذا يجعل من الخطاب الشعري أكثر التصاقًا بالهمِّ العام، وبالحراك الشعبي، وفي رفضه للاستبداد والخضوع والرجعية وممالاة الاحتلال، فضلًا عن كون الجوهراي من أكثر الشعراء تعبيرًا عن ذاته المتعالية، الذات التي تدرك أهمية الاشتباك بين الشعري والنفسي، أو بين الداخلي والخارجي.

يتبجحون بأنّ موجًا طاغيًا                 سدّوا عليه منافذًا ومساربا

كذبوا، فملء فم الزمان قصائدي                 أبدًا تجوب مشارقًا ومغاربا

تستلّ من أظفارهم وتحط من                 أقدارهم وتشلّ مجدا كاذبا

أنا حتفهم ألجُّ البيوت عليهم                 أُغري الوليد بشتمهم والحاجبا

خسئوا، فلم تزل الرجولة حرة                 تأبى لها غير الأمائل خاطبا

والامثلون هم السواد فديتهم                 بالأرذلين من الشراة مناصبا

بمُمَلِّكِين الأجنبيَّ نفوسهم                 ومُصعِّدين على الجموع مناكبا

الحمولة الرمزية لألفاظ الهجاء والقدح هي تورية لألفاظ تحمل في ذاتها فكرة العنف، والرفض والاحتجاج، وهذا ما يجعل مفهوم العنف في قصائد الجواهري أكثر تمثيلًا لفكرة الشاعر العصابي الذي يجد في اللغة خطابه الإشباعي إزاء الآخر، وإزاء البراديغم التاريخي الذي يساكنه وعيًا وتقليدًا، ولا سيما روح المتنبي الصاخبة باحتجاجها وبأنويتها وبنزعتها للتمرد، فألفاظ مثل: «يتبجحون، كذبوا، انا حتفهم، خسئوا، هزء، عفر الجباه، الشتم، يستكلب، عذاب، دمار، خراب»(7) لا تعني فقط الانشداد إلى السياق فقط، بل تعني أيضًا تمثيلًا لقاموس شعري ظل يقاربه الشاعر، على المستوى التعبيري، وعلى المستوى الدلالي، بوصف أن هذه المقاربة هي توضيح لصورة الشاعر في أداء الفعل الشعري، والفعل السياسي، وكلا الأمرين لم ينفصل عند الشاعر؛ إذ ظلّ الجواهري يرى العالم من خلال التعالي الوجودي، ويمارس الوعي اليومي من خلال اللغة الفخمة، أو عبر قاموسها الشعري المحتشد بالقوة والقسوة والرفض:

تبًّا لدولة عاجزين توهموا                 أن الحكومة بالسياط تُدامُ

والويل للماضين في أحلامهم                 إنْ فرَّ عن حُلمٍ، يروع منام

وإذا تفجرت الصدور بغيظها                 حنقًا كما تتفجر الألغام

وإذا بهم عصفًا أكيلًا يرتمي                 وإذا بما ركنوا إليه رُكامُ

وإذا بما جمع الغواة خسارة                 وإذا عصارة كل ذاك أثام

هذه القصيدة التي استعاد فيها الشاعر «يوم الشهيد» حملت معها صورة الشاعر الذي يستعيد الحياة من خلال الموت، وعبر رفض صُوَر الموت، عبر إحياء مظاهر القوة والعنف الثوري، بوصفها دالة على إذكاء فكرة الوجود، ورفض سلطة القهر، ومواجهة قوة الظلم، وأحسب أن تناصه القرآني هو خير شاهد على وظائفية العنف الأخلاقي، و«العنف المقدس» في التعبير عن وعي تمثيل الصورة، وعن الاختفاء بالفكرة، حتى القصائد الحسية عند الشاعر الجواهري لم تحتفِ بالضعف، بقدر ما حملت معها فحولة وإيهامًا بنوع من استيهام القوة البلاغية، وبالاستعارات التي تستدعي صورة الشاعر العنيف والقوي والقادر على استدعاء الوجود إلى قصيدته.

شاعر المتاهة وشاعر الراية

هذه الثنائية هي عنوان كتاب الشاعر فوزي كريم الصادر عن دار المتوسط عام 2017م الذي حاول فيه تتبع يوميات «الشعر وجذور الكراهية» في القصيدة العراقية الحديثة، عبر استقراء مقاربات الشعر مع الأيديولوجيا والسياسة، وعبر علاقة الشعراء بسسيولوجيا الانتماء الأيديولوجي للعمل السياسي يساريًّا كان أم يمينيًّا، وعبر الترويج لفكرة العنف في سياقه الاجتماعي عبر الصراع الحزبي، أو في سياقه الاستعاري والرمزي عبر الشعر، ولا سيما في المرحلة الستينية من القرن الماضي، التي شهدت أخطر انقسام ثقافي وأيديولوجي في تاريخ الشعر العراقي.

اندفاع الشاعر نحو الأيديولوجيا لم تكن سوى اندفاعات لتبرير فكرة الثورة على الواقع، ولا سيما الأيديولوجيات التي حملت في خطابها نزوعًا راديكاليًّا نحو التمرد، والرفض، والبحث عن التجاوز، وبقطع النظر عن ما قاله الشاعر سعدي يوسف عن فوزي كريم بوصفه الشاعر الذي يضع «الأسطورة والتاريخ في موقعين متضادين، مقتربًا من رأي أوكتافيو باث، وإنْ كان باث أقل حدّة في التناول، إنّ (فوزي) لا يرى وراء التاريخ سوى الأيديولوجيا بينما الأسطورة جوهر»(8).

فإن ذلك لا يعفي رغبة الشاعر في أن علاقته بالأيديولوجيا هي علاقة وعي مضطرب، وحاجة إلى المواجهة والتفريغ النفسي والاجتماعي، وأنّ الشاعر ينتصر من خلالها على الضعف والخواء الذي يعيشهح إذ تعني الأيديولوجيا في هذا السياق تورية لاستدعاء وهم القوة، ولتسويغ فكرة العنف الذي تحتاجه أية ثورة، بما فيها الثورة الشعرية، والرغبة الحميمة في التجاوز.

كما أنّ تتبع الشاعر لجذور الكراهية في الشعر العراقي ليست بعيدة من التعالقات الأيديولوجية، ولا من البيئات الحزبية التي كانت تصنع خطاب العنف، وتسوغه، عبر أنماط خطابها الشعبوي، أو عبر ارتباطها بالسلطة أو بالمعارضة، أو بالأوهام، ولا سيما بعد عام 1963م حين صعد مدّ العنف السياسي والأيديولوجي بين فرقاء الأزمة، ليقابله صعود غير مسبوق للعنف اللغوي المتقنّع بالعنف الأيديولوجي، الحافل بالكراهية وروح الإقصاء والطرد، فكان الصراع الأهلي أكثر احتفاء بمرجعيات العنف، عبر استعادة الأنموذج التاريخي، أو القومي، أو اليساري، فضلًا عن الاحتفاء بمرجعيات من سماهم بـ«شعراء الراية» وهم شعراء مؤدلجون، وثوريون، وعصابيون للعقائد ولنوع من الأخلاق المعيارية، الذين يضجّ خطابهم الشعري بقاموس ألفاظ الكراهية والشتم، بوصفها جزءًا من مادة الشعر «وهذه المادة المبيتة يمكن أن تستبدل بأخرى نقيضة، أو تلغى حين تقتضي المصلحة ذلك، تمامًا كما ينتقل العقل المعتقل من حزب إلى آخر نقيض، ومن سلطة إلى سلطة، ومن مسلح برشاش إلى صوفي بجناحي جبرائيل دون رفة جفن، قداسة الفكرة لدى شاعر الراية يمكن الالتفاف حولها ومخاتلتها ما دام الإنسان عنده رخيص الثمن ولا يتسم بقداسة»(9).


هوامش:

1. ابن منظور/ الجزء العاشر/ دار صادر- بيروت/ ص304.

2. هيثم كاظم صالح/ استنطاق ظاهرة العنف/ دراسة في شعر أبي الطيب المتنبي/ مجلة أبحاث البصرة/ العلوم الإنسانية/ المجلد 37 العدد1، سنة 2012م.

3. بوادر الرفض في الشعر العربي الحديث، مجلة «شعر»، عدد 19، السنة 5، صيف 1961م، ص69.

4. ذات المصدر ص88.

5. جهاد فاضل/ جريدة الرياض/ ماذا يعني هجوم أدونيس على الغذامي/ العدد 13639 في 27 أكتوبر 2005م.

6. نجاة علوان الكناني/ ألفاظ العنف في قصيدة الهجاء عند الجواهري/ مجلة أبحاث البصرة- العلوم الإنسانية/ المجلد 37 العدد 4 سنة 2012م، ص21.

7. ذات المصدر ص25.

8. فوزي كريم/ شاعر المتاهة وشاعر الراية/ منشورات المتوسط/ ط1 2017م ميلانو/ إيطاليا، ص15.

9. ذات المصدر/ ص228.