الطبيعة كما يراها الفلاسفة

الطبيعة كما يراها الفلاسفة

ما مكانة الإنسان في الطبيعة ونصيبه من الحرية؟ باسم من يكون الإنسان مالكًا للطبيعة؟ على مفترق طرق الفيزياء والميتافيزيقا والعلوم وعلوم الدين، لم يتوقف مفهوم «الطبيعة» عن إثارة الخلافات والنقاشات الفلسفية، التي تجدّدت اليوم بسبب المخاوف البيئية والاجتماعية. التقرّب من الطبيعة: هل يجب على الإنسان أن يغيّر من طريقة تفكيره في علاقته بالطبيعة؟ هل هي، في نظره، جنّته المفقودة التي ستغيّر من هويته؟ هل يجب أن يحميها بأي ثمن، وأن يتعامل مع الكوارث، وأن يعيد بناء أخلاقيات جديدة، وأن يبتكر مبادئ سياسية جديدة؟ الجواب يحتّم علينا أن نعيد تقويم القضايا الراهنة التي أصبحت مُلِحّة أكثر فأكثر.

منذ البداية، اهتمت الفلسفة بالطبيعة، وشكّلت مع الثقافة نقاشات خصبة، من أرسطو إلى هايدغر إلى ديكارت، على سبيل المثال لا الحصر. ولكن حركة التصنيع الهائلة في القرن التاسع عشر وما أفرزته من نتائج كارثية، انعكست سلبًا على الطبيعة. هذه النظرة الجديدة جعلت من الضروري إعادة طرح الأسئلة الفلسفية والأخلاقية التي يبدو أن تاريخ الأفكار قد وجد لها حلولًا.

أسئلة أبدية اليوم، الطبيعة والبيئة محور اهتمام الجميع، لكنها تسعى للاندماج في الخطاب السياسي بطريقة متماسكة ومنطقية. كحركة احتجاجية وتحررية -في فرنسا بالأخص- تفتقر الإيكولوجيا السياسية إلى القواعد النظرية، وتفضّل التصريحات الأخلاقية على العمل التشريعي، وتشكّك في كفاءة المؤسسات، وتستنكر أحيانًا بطريقة غير واقعية التقنية والعلوم والصناعة. لذلك سيكون من الضروري دمج البعد الإيكولوجي في الفلسفة السياسية الحديثة، وبخاصة في الجمهورياتية المتجددة، حتى تتحوّل حماية الطبيعة إلى «خير مشترك».

تَعُدُّ الإيكولوجيا الكلاسيكية الحاجات البشرية غاية، وتعطي بقية الأحياء وضعية الوسيلة. لكن الإيكولوجيا العميقة تذهب أبعد من ذلك من خلال مراعاة احتياجات المحيط الحيوي بأكمله الذي نتطور معه دون الاقتصار على الاحتياجات البشرية، وهو ما يزيل التفوق الممنوح للبشر.

ميزة العقل التي تفرد بها على سائر المخلوقات جعلت الفرد يتفوق على الكائنات الحية الأخرى، ويفرط في استغلال البيئة من دون تفكير. ولم يتساءل عن مستقبله إلا عندما أيقن أن الكوكب لا يوفّر موارد غير محدودة. ما الذي يعطي الإنسان كل الحقوق على الطبيعة؟ لماذا يسعى الإنسان لتدمير البيئة؟ هل لأنها فكرة راسخة في «طبيعته»؟ لكن الشعوب الأولى عاشت في «انسجام مع الطبيعة»، فهل يعود ذلك لأننا اليوم أكثر عددًا، ونملك تكنولوجيات أكثر تطورًا لتدمير الطبيعة؟ أم إنه حق مكتسب للإنسان؛ أنه متى أراد أن يستنزف بيئته الطبيعية ويدمرها فله ذلك؟

فلسفة الطبيعة

سُمّي الفلاسفة اليونانيون الأوائل، بفلاسفة الطبيعة لتركيزهم على العالم والظواهر الطبيعية. وعبر ملاحظاتهم عن الطبيعة، تبيّنوا أنها تتغيّر باستمرار. وخلصوا إلى وجود عنصر أساس وراء جميع التغيُّرات؛ لذلك أرادوا فهم العالم من حولهم بعيدًا عن الأساطير القديمة، وإنما عبر دراسة الطبيعة في حد ذاتها. وفي جميع الأوقات السابقة، سعى الإنسان إلى دراسة الظواهر الطبيعية. وفي اليونان القديمة، كان أرسطو أول من اهتم بفلسفة الطبيعة، ضمن تخصّص فلسفي يسعى إلى شرح العالم بمنهج عقلاني.

وفي الفيزياء، يوفّق أرسطو بين نهجين: تحديد الموقع في العالم العقلاني والتفكير في التغيير المتأصل في الطبيعة. هذا العمل، الذي عدَّه هايدغر «أساس الفلسفة الغربية»، يؤصل في الواقع للنهج الميتافيزيقي للطبيعة. فعلًا، إن معرفة الطبيعة لأرسطو لا تتمثل في معرفة العناصر (مثل البارمينات أو الفيزيائيين: الماء، الأرض، النار والهواء)؛ بل المبادئ الأولى: الأسباب الجذرية. في هذا الصدد، يتعلق الأمر بالميتافيزيقيا؛ لأن المنهج يتمثل في البدء بما هو أولًا بالنسبة لنا، المعطى المحسوس والإجماليات التي تُقَدَّمُ لنا، لاكتشاف «الأول» بالطبيعة، إنه يتعلق بتجاوز معرفة الطبيعة كما تُقدَّم لنا، لمحاولة تحديد أسسها.

وقد كتب هذا الفيلسوف العظيم في العصر اليوناني الكلاسيكي عددًا من الأطروحات حول الطبيعة، التي لا تزال تحظى ببعض الاهتمام. تقاليد المعرفة التي كانت مبنيّة، زمن المدرسة القروسطية، على أرسطو وما يسمى بالفلسفة الأولى (أو الميتافيزيقية)، بينما في البداية، كانت الميتافيزيقا هي الفلسفة الثانية أو «ميتا» وتعني في اليونانية «ما بعد»، التي عارضها ديكارت، ولا سيما لوك ومؤسسو الفلسفة الوضعية، الذين ألقوا باللوم على المتمسّكين بالتقليد لعدم اهتمامهم بما يكفي من الملاحظات الفلكية على حركة الكواكب (غاليليو). ورغم ذلك، تتضمن فلسفة أرسطو بالتأكيد عددًا من المفاهيم المثيرة للاهتمام اليوم: على سبيل المثال، فهي لا تجعل المنطق مقتصرًا على الاستنتاج النقي، بل إنه يشمل أشكالًا أخرى مثل الاستقراء.

بين الفلسفة والعلوم

في العصور الوسطى، انضمّ توماس الأكويني إلى هذه المدرسة من خلال التوفيق بين فلسفة أرسطو والتقليد المسيحي. ظلت النظرة الأرسطية سائدة حتى القرن السابع عشر، عندما بدأ التشكيك في نظرية مركزية الأرض بفضل ملاحظات غاليليو. ورغم ذلك، كان تنظيم المعرفة، حتى ذلك الوقت، مختلفًا تمامًا عما هو عليه اليوم، بوصف أن الفلسفة والعلوم عنصران مترابطان بشكل وثيق. مع غاليليو، أصبح العلم الحديث مستقلًّا، وقد نأت الفلسفة بنفسها عن العلوم الطبيعية، ثم اقتصرت الفلسفة على دراسة العلوم في الجانب الفلسفي فقط، وليس العلوم الطبيعية. وكانت النتيجة اختفاء شبه كلي للفلسفة الطبيعية، وفي الوقت نفسه الدراسة الفلسفية للظواهر الطبيعية.

لكن الدراسة الفلسفية للبيئة الطبيعية ولمكانة الإنسان فيها قد عادت للظهور مجددًا، بشكل آخر، في النصف الثاني من القرن العشرين، من اللحظة التي ظهرت فيها أولى علامات الأزمة الإيكولوجية العالمية التي نشهدها اليوم.

إلا أن فلسفة الطبيعة التي أضعناها منذ مدة طويلة، والتي لا تزال تثير الحنين إلى الماضي تعد قصة الأولين. يتعلّق الأمر بعلم الكونيات الذي كان يطرح تصوُّرًا عن مفهوم الطبيعة (كونها في صيرورة) ويرتبط بمفهوم إلهي (الكائن الذي لا يتغيّر). انهارت هذه الكوسمولوجيا عندما كشف العلم الحديث عن فكرة الإنسان الوهمية عن الكون وتطويره، بشكل عملي؛ لمعرفة بالظواهر الطبيعة.

علم البيئة والأخلاق البيئية

كان الفكر الإيكولوجي، أو علم البيئة، دومًا مليئًا بعدد من التيارات والمذاهب. في الستينيات والسبعينيات، في الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، طوّر الفلاسفة نظرياتهم وأَضْفَوْا طابعًا رسميًّا على مفهوم الأخلاقيات البيئية، تحت تأثير مفكري القرن العشرين، وربما أيضًا كردِّ فعلٍ على أخلاقيات الإنسان التي اعتقدوا أنها غير مكتملة أو غير كافية.

يغطي مفهوم الأخلاقيات البيئية المفاهيم والمبادئ التي لا تزال غير متجانسة، ولا يبدو أنها تحظى بقبول شامل ومتجانس في البلدان الأنغلوساكسونية واللاتينية. وفي العالم، تغيّرت مع التيارات مثل الإيكولوجيا العميقة، النسوية الأخلاقية، الإيكولوجيا الاجتماعية والسياسية. في فرنسا، كشف كتاب لوك فيري عن عدم مصداقية تلك التيارات التي يُشبِّهُها المؤلف بالسلطوية المناهضة للإنسانية، التي أبطأت من انتشار هذه التفاعلات، ولكنها ظهرت تحت أشكال مختلفة، وكانت أحد دوافع بعض الأطراف الفاعلة في الاجتماعات السياسية التي نُظِّمتْ في فرنسا في شهري سبتمبر وديسمبر 2007م، لهدف اتخاذ قرارات طويلة الأمد بشأن البيئة والتنمية المستديمة. تهتم هذه المذاهب، بوصفها مكملة أو غير مكتملة، في معظمها بفهم أو تفسير، المصادر الأولية، ومبرّرات الأسباب المختلفة لتدهور البيئة بسبب نشاط البشرية.

وفي الوقت الذي يشهد فيه الفهم العلمي للنظم الإيكولوجية توسعًا، فإن مؤيدي الفكر الإيكولوجي وبعض الفلاسفة اهتموا بهذا الموضوع بشكل متزايد؛ لفهم سلسلة الأسباب والعواقب. يركّز هذا التفكير على النظم الطبيعية التكيفية، من المقاييس الجينية إلى تلك المتعلقة بالمحيط الحيوي، مع دمج البشر وتأثيراتهم بالإضافة إلى أنماط تفكيرهم وعملهم. ومع الأخلاق البيئية، يميل الفيلسوف إلى إعادة تعريف علاقة الإنسان بالطبيعة من خلال أخذه في الحسبان التصوّر العالمي والترابط بين جميع الأنشطة المحلية.

الفكر الإيكولوجي

فكر علم البيئة -حتى في مجاله العلمي- هو في الغالب فكر أخلاقي يُعَرَّف على أنه مجموعة من المعرفة البيئية القابلة للتطبيق. إنه يسعى إلى حل مشكلات معينة للثقافة، في علاقتها بغير الإنسان، في علاقته بالأوقات القصيرة والطويلة للجينات والتطوّر. وهو يقترح إعادة التفكير في علاقة الإنسان بالطبيعة من وجهة نظر فلسفية. من الحقائق، يهتمّ الفكر الإيكولوجي بالتلوث البيئي والأزمة البيئية ويُقرّ بمدى خطورتها. إنه يسعى لفهم جذور الأزمة، وربما بشكل أعمق من التفسيرات الاقتصادية للاستغلال المفرط وغير العقلاني للموارد المتجددة ببطء.

إنه يتطوّر وفق سياق يكون فيه الفكر الإيكولوجي والخطاب الإيكولوجي أكثر حضورًا في الثقافة، وفي وسائل الإعلام وفي عمليات صنع القرار والبناء. الأخلاقيات البيئية تقرّ بالأنظمة التطورية للعلم وتتعامل مع التلوث الفعلي. كما يهتم كثيرًا، أكثر من الحقائق وما وراء الأسباب، بالأيديولوجيات والأزمات. وفي بيئة تَشغَلُها الإيكولوجيا أيضًا، توجّه الأخلاقيات البيئية الخطاب نحو المعنى العميق لأعمالنا. وتعطي أهمية كبيرة لطريقة التفكير أكثر من الموضوع الذي يجري التفكير فيه، وهذا يمكن أن يؤدي إلى تعديل أساليب تصرفنا مع البيئة.

اليوم أصبحت دراسة الأسئلة الفلسفية التي تطرحها البيئة والعلوم البيئية ضرورية أكثر من أي وقت مضى. واستنادًا إلى النقاش الفلسفي بين القدامى والمعاصرين، يمكننا مواصلة التحليل من خلال طرح تساؤل مزدوج: تساؤل أخلاقي بشأن البيئة، وقيمتها الجوهرية أو الآلية، وتبرير سياسات المحافظة التي ستسمح بالتطرق للنظريات الأخلاقية الأساسية للبيئة. وتساؤل معرفي حول العلوم البيئية، مع التركيز بشكل خاص على التنوع البيولوجي، تعريفه، وقياسه، ولكن أيضًا على علم البيئة ودور النماذج الرسمية في هذا العلم.


المصدر: مجلة Question De Philosophie، يونيو 2018م.