نيكيتا مويسييف: استهلاك الموارد وتعقيد النظام المجتمعي، يجني على الاستقرار الضمني للأنظمة ويجعلها عُرضةً للخطر

نيكيتا مويسييف: استهلاك الموارد وتعقيد النظام المجتمعي، يجني على الاستقرار الضمني للأنظمة ويجعلها عُرضةً للخطر

لربّما جاز القول بأنّ مزاج الأرض كان، في غضون العصور الخوالي، من مزاج ساكنتها؛ إذ بقدر ما كانت تغدق هي، لأريحيّتها، من نعم ومكرمات كان قاطنوها الآدميّون، في المقابل، قنوعين، مهادنين، بحيث كان الإيقاع التفاعلي بين الطرفين متناغمًا، متصاديًا، لا نشاز فيه أو انحراف.. كانت هناك بضعة ملايين من البشر، مقارنة مع الانفجار الديموغرافي الرّاهن، معارفهم محدودة وكذلك وسائلهم متواضعة، إنتاجًا واستهلاكًا.. فعلًا كان البشر يلقون حتفهم، فرادى وجماعات، جرّاء الجوع والمرض.. لكن من غير أن يتبلبل، حتى لا نقول يتقوّض، ذلك الإيقاع أو يختلّ تناغمه وتصاديه، فلا شيء كان ينذر، البتّة، بتسمّم، نقول تسمّم، أوصال الأرض واختلال نواميسها المقنّنة وأنظمتها الثابتة التي بفضلها ترفل الكائنات في نعماء الحياة؛ الهبة التي لا تقدّر بثمن..

وكان لا بدّ للتطوّر الحضاري الحثيث الذي عرفته البشريّة، على مرّ العصور والحقب، أن يفاقم شراهة الإنسان إلى مغالبة حكمة الأرض استجلابًا منه لمعيش أفضل وأجود والنتيجة هي أنّه كان لا بدّ أن ترتبك الدّورة الطبيعيّة للأرض ويمسّ، سلبًا، جوهرها البيولوجي الصميم. هذا وإذا ما كان قد قيّض للأسلاف أن يكونوا في حلّ من وزر، بله جريرة، ما نعدّه، في وقتنا الحالي، وبشكل لا غبار عليه، تلوّثًا بيئيًّا ذريعًا قد لا يُبقي ولا يذر في المقبل من القرون، ثمّ إن نحن عرفنا، وذلك من باب الإلماع، أنّ ما أنتجته البشريّة، عبر ثورتها الصناعيّة الثانيّة، بل فقط بدءًا من نهاية الحرب العالميّة الثانيّة إلى الآن، ليحسب بأرقام فلكيّة تعادل أضعاف ما راكمه الأسلاف منذ فجر الحضارة (قرابة خمسة آلاف عام)، الثورة التي تجد عمادها في حقول معرفيّة مستجدّة كالسّيبيرنيتيقا والمعلوميّات والهندسة الوراثيّة وعلوم الفضاء…، وكذا الوتيرة الجهنميّة التي تتبدّل بها أنماط العيش والكساء والمعمار، ويتّخذها استيلاد الابتكارات والمستحدثات، من مثال ظهور، ودونما مبالغة، جيل جديد من الآلات والسيارات والحواسيب والهواتف الذكيّة…، على رأس كلّ حول، سيغدو في مقدورنا تلمّس ما يرزح تحته كاهل الأرض من منتوجات وبالتبعيّة، من نفايات أغلبها ملوّث، بالأحرى مسمّم للتّربة، كما للهواء والماء. صحيح أنّ المبلغ الذي بلغته جودة الحياة ورفاه العيش، في الغرب أساسًا، ليعدّ من المكاسب المهمّة التي حقّقتها البشريّة بفعل التحكُّم التكنولوجي الفطن في المكان والزمن فكان أن انخفض معدّل الجهد البدني وانقرضت أمراض وأوبئة وتمدّدت الأعمار البيولوجيّة للبشر كما تشكّلت حاجيّات واستمتاعات جديدة كلّ الجدّة ستمسي لبّ الكينونة، لكن أن تصير الكرة الأرضيّة إلى مكبّ أو مقبرة هائلة لنفايات- سموم قاتلة فإنّ هذا لَيَعْنِي، بلا مواربة، أن الجنس البشري أوشك على زواله العاجل أو الآجل ومعه سائر الكائنات الحيّة.

إذن، وحيال ما تتعرّض له توازنات الأرض العضويّة من تجريف ماحق، وفي أفضل الأحوال من خدوش مشينة، من عبث مستهتر بسيماها الصميمة.. إزاء ما تتشرّبه من ألوان التلويث، أو صنوف التسميم، كان محتّمًا أن تتبلور ردود أفعال تنديديّة، تنمّ عن وعي شقيّ بالمعنى الفلسفي، سيّان لدى محافل أو لدى أفراد، تترجمها حركات وتيارات، مؤتمرات وتظاهرات، تصدر في شعاراتها عن رفض صارم للمنحدر الدراماتيكي الذي تهوي إليه الحياة البشريّة وتتّخذ مقام استباق كفاحي، ومن ثَمَّ، لكارثة بيئيّة ماحقة. من هنا، وفي شهر نوفمبر 2019م، كمثال حديث على ردود الأفعال هاته، سيُبادِر، بوازع من مسؤوليّتهم الأخلاقيّة، ما يفوق عشرة آلاف من العلماء، من تخصّصات مختلفة ومن أنحاء العالم، إلى التوقيع على تقرير تشاؤمي، عن الآخر، يشبّه الوضع البيئي الراهن للأرض بحالة طوارئ مناخيّة تستدعي موقفًا سياسيًّا شجاعًا من طرف المجموعة الدوليّة ومعالجات تقنيّة تَحُدُّ من آثار التدهور التي تُفرَز عنها الطبيعة عامًا بعد عام.. من هنا، وقبل هذه البادرة بعقود، كان ميلاد جمعيّات الخضر، هنا وهناك في مختلف أرجاء العالم، التي سيتحوّل بعضها، في الغرب بدرجة أولى، إلى أحزاب سياسيّة مشاركة في حكومات (مثال المناضل البيئي الألماني، يوشكا فيشر الذي سيؤسّس رفقة رودولف دوتسكه حزب الخضر الألماني ويتقلّد منصب وزير الخارجيّة ونائب المستشار في حكومة الاجتماعيّين الديمقراطيّين برئاسة غيرهارد شرودر، ومثال أنطوان فيشر، المناضل البيئي الفرنسي، الذي سيترشّح باسم الخضر لرئاسيّات فرنسا عام 1988م)؛ ليكون التتويج الأكبر لهذه الجمعيّات هو ميلاد منظّمة «السلام الأخضر» التي ستعرف بمواقفها وتدخّلاتها الجذريّة وذلك في مرمى إنقاذ البيئة وتغدو بمنزلة سلطة رمزيّة عالميّة عابرة للقارّات.

وبالموازاة مع هذا، سيبرز أفراد ستكتسح سمعتهم، كحماة لسلامة الأرض ونقائها، العالمَ كله، من قبيل مرتاد البحار والمحيطات الفرنسي، الكومندان جاك كوستو.. والفرنسيّة كلير نوفيان، المدافعة، هي الأخرى، عن البحار والمحيطات والمناوئة للصيد الكهربائي لتصبح العدوّ الأول للوبيات الصيد وأرباب صناعة الأسماك في أوربا وأميركا (نالت جزاء نضالها المستميت جائزة غولدمان المضاهية لجائزة نوبل)، والمهندس المعماري المصري الشهير، حسن فتحي، صاحب كتاب «البناء مع أو من أجل الشعب»، الذي سيدافع عن استعمال موادّ طبيعيّة، صديقة للبيئة، في البناء مستوحيًا أساليب أسلافه النوبيّين في البناء (سينال جائزة أغاغان للعمارة)، والجامعيّة الكينيّة وانغاري ماتاي، الملقّبة بـ«امرأة الأشجار»، التي ستؤسّس حركة «الحزام الأخضر» في كينيا واشتهرت باعتراضها على تشييد ناطحات سحاب في متنزه الحريّة بالعاصمة نيروبي (نالت جائزة نوبل للسلام عام 2004م)، والشابة السويديّة، غريتا تونبرغ، التي سيكون منطلق ذيوعها العالمي هو وقوفها المداوم، كلّ يوم جمعة، قبالة البرلمان السويدي حاملة لافتة كتبت فيها «إضراب مدرسي من أجل المناخ» لِتُدْعَى إلى أكثر من جهة في العالم كمتكلّمة في شؤون البيئة، وكان حضورها قمّة المناخ التي عقدتها منظّمة الأمم المتّحدة خلال شهر سبتمبر 2019م، في مقرّها الدائم بنيويورك، وأيضًا اختيارها من لدن مجلة «التايم» الأميركيّة شخصيّة عام 2019م اعترافا دالًا من المنتظم الدّولي بشجاعتها وجرأتها.. ناهيك عن آل غور، نائب الرئيس الأميركي بيل كلينتون، الذي سيطلق مؤسسة للدفاع عن البيئة، وممثّلين سينمائيّين أميركيّين لامعين سيشكّل اعتناقهم السديد لقضايا البيئة قيمة مضافة لمكانتهم السينمائيّة المستحقّة، ومنهم جين فوندا، التي سيجري اعتقالها مرارًا لمشاركتها في تظاهرات مناوئة للسّياسة الأميركيّة تجاه البيئة، والمخضرم روبير ريدفورد والشاب ليوناردو دي كابريّو، الذي سيخصّص جزءًا مهمًّا من مداخيله لإنتاج أفلام وثائقيّة تستهدف التوعيّة بمشكلات البيئة ومعضلاتها، كما أنّه سيلقّب بالفارس الأخضر؛ وذلك من فرط شغفه بالشأن البيئي ومواجهته لكلّ مظاهر الإفساد، إن لم تكن الإبادة، التي تتعرّض لها أنظمة الحياة فوق الأرض، وكدليل على هذا السجال المحتدم الذي نشب بينه وبين الرئيس البرتغالي الحالي، جايير بولسونارو، وعمّمته الشبكات الاجتماعيّة إثر الحرائق التي داهمت غابة الأمازون قبل شهور.

تبرئة ذمة

من المحقّق أنّ من ثمرات هذه الهبّة العارمة انخراط الطّبقة السياسيّة العالميّة في تلابيب هذه الصّحوة وحرصها، كنوع من تبرئة الذمّة، على عقد ملتقيات عالميّة تنكبّ على مسألة البيئة (كان أوّلها هو مؤتمر جنيف عام 1979م، لتتلوه قمّة ريو دي جانيرو عام 1992م، وقمّة كيوتو عام 1997م، وقمّة باريس عام 2015م، وكوبّ مدريد عام 2019م).. تكريس يوم عالمي للبيئة للتحسيس بالمخاطر البيئيّة التي تتهدّد الجنس البشري.. إفراد الحكومة الألمانيّة لميزانيّة بمقدار مئة وخمسين مليار يورو لحماية البيئة في أفق عام 2030م.. التزام رئيسة وزراء نيوزيلاندا، جاسيندا أرديريك، بخفض الانبعاثات الكاربونيّة إلى الصفر بحلول عام 2050م.. شيوع حملات غرس الأشجار في بعض بلدان العالم (غرس مليون شجرة في الهند مثلًا).. تشجيع استعمال الطاقات المتجدّدة، كالشمس والرياح والماء..؛ وكذا الطاقات الخضراء (النفايات الزراعيّة والحيوانيّة).. الدعوة إلى السير على الأقدام، ولو لأيام محدودة، أو استعمال الدرّاجات الهوائيّة بدل السيارات ووسائل النقل العمومي (وللإشارة هناك ثلاث مدن آسيويّة (بكين، وطوكيو، وسنغافورة) تتصدّر، راهنًا، ترتيب المدن الصديقة للبيئة، بالنظر إلى قطعها لأشواط في هذا المجال.. ازدهار صناعة السيارات الكهربائيّة.

وعلى الرغم من هذه الجهود الحثيثة فإنّ مظاهر شتّى وعلامات مقلقة لا توحي بالاطمئنان الكلّي إلى مآل الكرة الأرضيّة والتفاؤل بسلامتها الحيويّة، ولعلّ مظاهر شتّى، مثل الانفجار الديموغرافي الذي يثقل على أديمها.. اطّراد انبعاثات ثاني أكسيد الكاربون المسبّبة للاحتباس الحراري وازدياد سخونة الأرض.. ملايين أطنان الموادّ المشعّة والطبيّة واللدنيّة التي تدفن في بعض دول العالم الثالث لقاء عمولات زهيدة.. حرائق الغابات الكبرى التي تمثّل رئة الأرض (الأمازون، والكونغو).. ذوبان جليد القطبين، الشّمالي والجنوبي، وارتفاع مستوى البحار.. تواتر الظواهر المناخيّة الحادّة (الأعاصير الموسميّة، تسونامي) وتأثيرها في البيئة والصحّة والاقتصاد وأيضًا في أسواق المال، والأسعار والأسهم والسندات.. زد على هذا أنّ هناك ما يناهز ثمانمئة مليون جائع ومئتي مليون نازح في ربوع العالم بفعل الحروب والتغيّرات المناخيّة.. وإذا ما استحضرنا، فضلًا عمّا ذكرنا، انسحاب الولايات المتحدة رسميًّا من اتفاقيّة باريس الأمميّة حول المناخ (نوفمبر 2019م)، وما سينعكس عنها من تفاقم للوضعيّة المناخيّة السلبيّة، أصلًا، وذلك بوصفها أوّل بلد صناعي في العالم، ومن أكبر المنتجين للطاقات الأحفوريّة وكنتيجة، ثالث أبرز ملوّثي الأرض (إلى جانب الصّين والهند) لنا أن نعدِّل من صورة ما مستهامة لأمّنا الأرض، لن تكون مبهجة على أيّ حال.

بالموازاة مع الصورة التي بسطناها عن المعضلة البيئية عالميًّا، وعلى العكس من فائض المعلومات التي تزوّدنا بها الأدبيّات الإيكولوجيّة في الغرب، لم نكن نعرف، لسنين خلت وبما فيه الكفاية، مجريات الموضوع البيئي في المعسكر الاشتراكي، سابقًا، أي فيما وراء الستار الحديدي، وتغيب عنّا مجمل التحليلات الفكريّة والنظريّة في هذا الباب، ومعها طروحات التنظيمات الأيديولوجيّة، وكذلك مختلف الإعمالات التي يتّخذها أصحاب القرار في الأحزاب الشيوعيّة الحاكمة.

وما من شكّ في أنّ اقتصاد الكفاف الذي استحكم في معيش النّاس، قياسًا إلى بذاخة الحياة ورفاهيّتها في الغرب، بما هي ثمرة لآليّة إنتاجيّة كاسحة تستنزف الموارد والطاقات، وتسيُّد منزع استهلاكي عارم، وما سيكون لذلك من أثر في الازدياد المهول لأكداس الأزبال والنفايات، ومن ثَمَّ إرباك الدورة البيئيّة السليمة والمسّ بنقاوة التربة والهواء والماء (حسبنا أن نعلم أنّ ما يتخلّص منه الأميركيّون سنويًّا من موادّ غذائية وصلبة وسائلة ولدنيّة…؛ تعرف طريقها إلى القمامة يعادل مليارات الدولارات).

أيضًا ما كان سيّان للتربية الصحيّة للمواطنين أو لأخلاقيّة الانضباط لقوانين المجال العمومي من مفعول في صيانة النظام البيئي وضمان سلامة الحياة، غير أنّ الغشاوة الملحميّة، بله الدعائيّة، لبعض المشاريع العملاقة (تحريف مجاري بعض الأنهار أو ردم بحيرات)، وتهلهل بعض التجهيزات الصناعيّة والعسكريّة، ممّا ستنجم عنه كوارث بيئيّة جسيمة ستكون لها تداعيات قاسيّة، ومنها، على سبيل الإشارة، كارثة انفجار مفاعل تشيرنوبيل النووي في أوكرانيا (يوم 26 إبريل 1986م)، الشيء الذي سيوجّه انتباه المسؤولين في المنظومة الاشتراكيّة، قبيل انهيارها، والمواطنين، وكذا الرّأي العامّ العالمي إلى جدّية المشكلة البيئيّة في دول المنظومة.

مع مويسييف يتنحى الخطاب السياسي

من هذا الضوء ارتأينا، تقريبًا للشاغل البيئي في روسيا على وجه التحديد، الاستئناس بهذه المادّة لأحد أبرز أساطين علم البيئة، عالم الرياضيات وعضو أكاديميّة العلوم السوفييتيّة والروسيّة المرموق، نيكيتا مويسييف (1917- 2000م) الذي تخرّج من جامعة موسكو ونال شهادة الدكتوراه من معهد ستيكلوف، ودرّس في الجامعة التقنيّة لموسكو وفي جامعة روستوف قبل أن يلتحق بمعهد موسكو للفيزياء والتكنولوجيا ويتولّى مسؤوليّة شعبة الرياضيّات التطبيقيّة. لاهتماماته البيئيّة، وبمخاطر الأسلحة النّوويّة، في المقام الأوّل، على الأجيال الآتيّة، سينشئ الفرع الروسي لائتلاف الخضر العالمي، ويصبح أوّل رئيس له موائمًا، هكذا وبمواظبة لافتة، بين مهامّه الأكاديميّة وبين أنشطته الإيكولوجيّة.

مع مويسييف يتنحّى جانبًا، مثلما سنعاين، الخطاب السّياسي أو الأيديولوجي المتخشّب وتتوارى النبرة البروتوكوليّة التي ترين على المؤتمرات والملتقيات أو اللغة النضاليّة الناريّة للجمعيّات البيئيّة، ويخلو المكان للنظر العلمي الحصيف، الذي تسنده الدراية العميقة وشسوع الأفق والمشاكسة الفلسفيّة الخلّاقة، كمدخل وظيفي ومنتج لمطارحة قضيّة البيئة وتملّك وعي رصين بأوجهها المتشابكة وامتداداتها المتراكبة. خارج بعبع الإحصائيّات والنِّسَب، إذن، وبمبعدة من قاموس المزايدة السياسيّة والابتزاز الأخلاقي، ممّا قد نلفيه في الأدبيّات الإيكولوجية في الغرب، يرتجع بنا مويسييف إلى جذورها الغائرة، أو نويّاتها الصّلبة، إن شئنا، متتبّعًا تمفصلات تاريخ المادّة والطاقة، توسّطًا بماهيّات التنوُّع والانتقاء والتطوّر…؛ ومقترحًا الإنصات إلى نبض الطبيعة وقراءة مؤشّرات روحيّتها الباطنة التي لا يطولها العبث أو العشوائيّة.. التأمّل المتواضع في قوانينها البيولوجيّة والفيزيائيّة الساريّة، التي لولاها لما كانت هناك كينونات ولا حياة.. لا مدنيّات ولا ثقافات… سبر أغوار سيرتها الكونيّة وأوفاقها الأزليّة التي يلزمنا احترامها وتوقيرها حفاظًا على نواميس وتوازنات لا يصيبها الاهتزاز أو التقادم، وهي النواميس والتوازنات التي تجعل من الكرة الأرضيّة محفلًا معجزًا لقارّات وبحار، لصحارى وجبال، لغابات وأنهار..؛ هي ما يشكّل المهاد الأنطولوجي لكائنات، منها الإنسان المخوّل، جزاء أفضليّته، للائتمان على هذا المهاد والحدب عليه بدل استنزافه وتخريبه.

وإذ يصدر مويسييف في تحليله عن اعتناق علمي مجرّد يلجأ، أجرأ منه لهذا التّحليل، إلى لغة علميّة خافتة، تلقينيّة، لكنّها موخزة تستحثّ الإنسان الجمعي آخذة بيده إلى مظانّ النّشأة الأرضيّة، سيروراتها الكبرى وتحوّلاتها العظمى، وذلك في مرمى إدراكه لموطئ قدمه أو، بالأصحّ، محلّ إعرابه في تضاعيف آليّة كونيّة جبّارة، ورؤوم دفعة واحدة، تتطلّب من الإنسان، أوّلًا وأخيرًا، استسعاف ثقافته، بما هي امتيازه الضارب، أو حكمته والتموقف، دونما هوادة، في لبّ مأزق حيوي، وحضاري قاسٍ، يمتُّ بِصِلَة إلى الموقف نفسه الهاملتي الحدودي «أكون أو لا أكون، تلك هي المشكلة» الذي صاغه وليام شكسبير باقتداره المسرحي المعهود. أمّا المادّة إيّاها فهي، في الأصل، عبارة عن حوار أجراه معه ل. ريزنيتشينكو ونشرته مجلّة «العلوم الاجتماعيّة» الروسيّة، ع 1، 1988م.

على غير العادة سيكون مويسييف هو مفتتح الحوار الذي أجري معه لتتوالى بعد ذلك أسئلة ريزنيتشينكو مردوفة بأجوبتها المقتضاة: «لعلّ تعديل إستراتيجية تنصبّ على تسخير المؤهّل العلمي والتّقني المتعاظم يعدّ مهمّة ذات شأو بعيد، ويستدعي تحقيقها إطلاقًا سريعًا بدءًا من الآن. وعلى مدى تنامي هذه الإستراتيجية لن يكون في مستطاعنا غضّ الطّرف عن تشييدات لأطروحات أكثر رحابة، وكذا جملة من الاستخلاصات، يعثر فيها على أنفسهم لا الباحثون في علوم الطبيعة أو علماء الرياضيّات، والاقتصاد، والاجتماع، والنّفس…؛ أضف إلى ذلك تصوُّرات الفلاسفة، بل حتى حدوس الشعراء».

إستراتيجية خالصة للطبيعة

● بناء على ما فات أن قلتموه ضمن حوارنا السابق (انظر دوريّة Znanié – Sila ، ع 3، 1986) فإنّ الغاية من النّمذجة الشاملة تستوجب، إن كان لي أن أستوعب الأمر جيّدًا، إنضاج إستراتيجية تعكف، مخفورة بمشترطات التقدّم العلمي والتّقني، على تطوّر البشريّة وتكون مطابقة، إلى أقصى حدّ ممكن، لـ«الإستراتيجية الخالصة» للطّبيعة. أفلا ترون، وبوجه مطلق، نوعًا من التناقض في هذا؟ ذلك أنّ إستراتيجية العقل تفيد وظيفة الغايات المزمع تحقيقها، أي، وبمعنى ما، هل يعد المستقبل محض شيء مأمول والحال أنّ الطبيعة تجهل هذه الغايات وتعمل جاهدة ليس «من أجل» وإنّما، وببساطة، «لأنّ»، وأيضا لكون مآتيها لا تتحدّد بناء على المستقبل أو بمراعاة النهايات بقدر ما هي مرتهنة إلى الماضي ارتهانها إلى العلل. كيف يمكننا، على ضوء هذا، التوفيق بين «من أجل»، التي تنزعون إليها، وبين «لأنّ» التي تصدر عنها الطبيعة؟ إنّ إستراتيجية الطبيعة لهي، يقينا، بمنزلة استعارة بديعة، لكنّ السؤال هو: أيشيّد العلم بمساعدة الاستعارات؟

الظّاهر أنّ سؤالكم المطروح يعدّ، في الصّميم، تنويعًا على الاستفهام الأبدي حول العقل، الموجّه إليه هو ذاته والمتّصل بمكانته في العالم. ولأنّ الإجابة عن هذا السؤال لا تستقرّ داخل «القوالب» المحسومة بقدر ما تعتمد على مستوى بعينه من التفكير في الموضوع، على فكرة أصليّة تسطّر سبيل التحرّي عن إجابة ما. لنتدبّر، إذن، نحن أيضًا هذه المشكلة انطلاقًا من السقف الحالي للمعارف المتعلّقة بالطبيعة وبفكرة التّنظيم الذّاتي. أفلم يخامركم كوننا نعيش في عالم لا مرجّح وبشكل لا يصدّق؟ ليس فريدًا أو معجزًا وإنّما غير مرجّح أو، وبأوفى ما يمكن من الدقّة، أقل رجحانًا أو احتمالًا إلى حدود قصوى، وذلك من وجهة نظر الديناميكا الحراريّة.

إنّ الفيزياء الحديثة ستثبت أنّ المادّة كانت راضخة لتحوّلات توليديّة ذاتيّة، لكن غير متوقّعة، (ننعتها أيضًا بالعرضيّة) ليس فقط على صعيد اللاتناهي المتضائل، وهكذا استُكشِفَتْ، مؤخّرًا، على المستوى المايكروسكوبّي، حالات حيث يتوقّف مجرى مسطرة عن التحدّد بناء على حالات سابقة. وبتعبير آخر هناك حركات (علل) تؤول إلى حساب الكمّيات الصغرى يكون في مقدورها، في حالات كهاته، وهي بمنأى عن أن تكون نادرة، فرز كلّ المضاعفات المتخيّلة.

● تقول الديناميكا الحراريّة، على نحو لا غبار عليه، بأنّ عالمًا يقع فريسة لحركات عرضيّة مولّدة ذاتيًّا، فعليّة أو مرجّحة، لا محيد له عن التحوّل إلى سديم منتظم، غير أنّ عالمنا، رغمًا من الوضوح، بله البيان الديناميكي الحراري، يتلامح موجّهًا، بما يكفي، وأكثر من هذا يوالي تطوّره وتعقّده. إنّ هذا المسلسل يتّسم، فوق الحدّ، بالكونيّة ممّا يمنعنا عن توصيفه بالمصادفة السعيدة أو عدّه نوعًا من كسب في اليانصيب الديناميكي الحراري، ومن ثمّ أفليس من الملائم التوكيد على أنّ الأمر يتّصل بتمظهر لنظام عامّ جدًّا وهناك آليّات كونيّة، أيًّا كان أمرها -قوانين- تحوّل الحركة السديميّة للمادّة إلى تطوّر موجّه يسير من الأكثر بساطة إلى الأزخر تعقيدًا، وبعبارة موازية أليس جائزًا القول بأنّ الطبيعة تسعى، بطريقة ما، إلى مستقبل بعينه؟

صائب جدًّا، على أنّ الفكرة ليست بمستجدّة تمامًا ما دامت تحضر ليس ما عدا لدى أرسطو بل نلفيها، على نحو جدّ مبكّر، في الأنظمة الأسطوريّة الأكثر تنوّعًا. لربّما الشيء المستجدّ في مفهوم التنظيم الذاتي للمادّة هو أنّ مصادر هذا التوجّه لا يُنَقَّبُ عنها خارج عالم المادّة بل في نطاق المادّة نفسها، في آليّات حركتها.

وعليه فما الخواصّ وما الآليّات التي بوسعها أن تطبع المادّة وترسّخ فيها، وهي في حركيّتها، توجيهًا كهذا؟ هنا لا بدّ من الإقرار بأنّ الإجابة عن السؤال كانت قد ضمّنت، أصلًا، وهو أمر فائق الجدوى، في الدراسة الداروينيّة العميقة للمسلسلات التطوّرية، فالوراثة والتنوّع والانتقاء هي المبادئ الأساسيّة ستشدّ بتلابيب أيّما واحد من هذه المسلسلات.

طبعا تظلّ الفكرة التي نرتّبها لمسلسلات التطوّر، التنظيم الذاتي للمادّة، أكثر اكتمالًا ممّا حصل زمن داروين، لكنّ المفاهيم ثلاثتها تزوّدنا بمحمول مختلف وأكثر عمقًا. لقد تحدّثنا، ضمن الصيغة الأكثر عموميّة، عن التنوُّع في صلته بالحركات العرضيّة للمادّة، ولو أنّ هذه المزيّة ليست مطلقة تمامًا مثلما أنّه ليس أقلّ وضوحًا؛ لكون الحالات السابقة لنظام مادّي هي ما يحدّد، بدرجة أو بأخرى، المستقبل وتشتغل عليه، ولكون بعض الخاصّيات، تشكّل سمات للنظام، تمارس النّيابة، غصبًا عن سائر التغيّرات، بل إنّ التحويرات نفسها يمكنها، بمجرّد اكتمالها، أن تستديم وتستمرّ، وهو ما نتقصّده من الوراثة، بالتحديد، ضمن الصيغة الأكثر عموميّة.

فالحركة البينيّة للوراثة والتنوّع تنسلُّ من رحمها تلاطمات مركّبة، علل موضوعيّة مسطّرة -قوانين- تجعل بعض التحويرات في حكم المتعذّر، وأخرى قليلة الاحتمال، في حين يكون الزوال مآل فئة ثالثة، وإن بالنسبة لمعظمها، في مقابل إتاحتها البقاء لأقلّية من التحويرات. إنّ وجود هذه القوانين غير قابلة للدحض أو التشكيك، والسبب هو أنّنا سنحيا، من دونها، في عالم بلا توجُّه وغير متوقّع على وجه الإطلاق، وللتنويه فإنّ عمل القوانين والمبادئ إيّاها يتحقّق، تدقيقًا، في العنصر الأخير من الثلاثيّة الداروينيّة، ألا وهو الانتقاء. حسبنا أن نفترض وجود آليات انتقائيّة يجعل عملها تثبيت التحويرات التي ترتقي معها درجة التنظيم أكثر رجحانًا، وهذا بهدف تفسير توجّه التطوّر بوصفه «نتاجًا» لاختيارات مفعمة، والحالة هذه، بمضمون واقعي، إلى منتهى الحدود، لا ينساق إلى تنابذ ما مع مقتضيات العلوم الطبيعيّة، ومنه لنحاول، من هذه الزاوية، التأمّل في نسق مبادئ هذا الانتقاء وآلياته سيّان منها تلك التي تشتغل في ثنايا الطبيعة أو تلك التي توظف في رحاب المجتمع.

انتقاء سمته الثبات

وهكذا فإنّ فعل كلّ القوانين الطّبيعيّة والمجتمعيّة المستحكمة في دواليب العالم وارد تمثّلها بحسبانها انتقاء سمتُه الثباتُ؛ إذ يجري اختيار الممكن من داخل المتصوَّر، وهذا الاختيار يتمّ في إطار قوانين نيوتن، وفي إطار التباري بين- الأجناسي، هذا من دون أن نعدمه فيما يخصّ الموازين الأساسيّة للاقتصاد، بمعنى أنّ جماع الأنظمة الديناميكيّة «تختار»، وعلى نحو مستديم، وفيما يهمّ وضعنا، أي الكائنات البشريّة، فإنّ النتيجة الملموسة لـ«الاختيار»، وهو ما يستوجب أكثر، منذورة للرجحان. وممّا لا جدال فيه أنّه لما بعد الأوان أوان مباشرة صنافة مفصّلة للآليّات المتنفّذة في هذا «الاختيار»، بحيث إنّ هذه الأخيرة سوف تستدرج وصفًا عاليًا لجميع المسلسلات التي تكتنفها الطبيعة وكذلك العلوم التي تدرسها، ومع هذا فلا مناص لنا من تعيين نموذجين اثنين لهذه الآليّات. الأوّل يمكن تسميّته، اتفاقيًّا، بآليّات آيلة إلى نموذج حصل وإن وقع تبنّيه وإبرازه توسّطًا بالمبادئ الداروينيّة للانتقاء الطّبيعي ويعدّ الرجحان خاصّيتها الجوهريّة كما أنّ النظام قيد التنامي لا يكتسب في خضمّ فعلها، أي آليّات هذا النموذج، أيّما مكسب غير منتظر، جديد عمقيًّا. أمّا النموذج الثاني للآليّات إيّاها فيخضع لنظام مختلف بالتمام: مفاد هذا أنّ عامليّته لا تنقضي إلى ضرب من تكتّل بطيء للتغيّرات بقدر ما تنتهي إلى طراز من إعادة بناء حثيثة. فالنظام قد يتحمّل تغيّرات ما لمّا تتعدّى الحمولات التي يرزح تحتها عتبة حرجة وغير مأمونة الشيء الذي يصادر منه استقراره ويموقعه، على نحو من الأنحاء، في نقاط تقاطعيّة لعديد من أقنية التطوّر المتاحة، وهو ما يدعى، في الرياضيّات، نقاط تفريع أو تشعيب. وعليه فنحن نثمّن آليّات التّفريق تلك ومن غير الوارد، مسبقًا، التصريح بأنّ أيًّا من «أقنية التطوّر» الممكنة سيكون محلّ اختيار من لدن النظام وكذلك تعيين المسار الذي سيسلكها حالما يقع تخطّي نقاط التقاطع. لكن هناك أمر مؤكّد وهو أنّه في استقلال عن التنويع المختار يكون، أي النظام، مسوقًا إلى التطابق مع ضرب من «هيئة قوانين» للطبيعة تتمتّع، وبشراسة لا تنكر، بتراتبيّة ما.

بحثًا عن نظام لأولويّات تفاؤليّة

الطبيعة لها أن تستدخل، جرّاء حادث اتّفاقي، تقييدات حصريّة إضافيّة مرتبطة بالمقصديّة الطبيعيّة للنظام العضوي، أن تتدبّر انضباطها الذّاتي: توازنها وتمامها؛ لنقل إنّ الأمر يهمّ، في العمق، مجموع اشتراطات وتطلّبات تبقى دلالتها نسبيّة -أي تلك التي تخصّ كلّ واحدة منها- وتتنوّع بحسب الحالات. فأيّما كائن حيّ؛ كلّ ساكنة، كلّ جنس، فإنه يبحث، بمعنى ما، عن نظام لأولويّات تفاؤليّة؛ إذ «يقرّر» بصدد أيّ وظيفة يجب وضعها في الصدارة ويعوّل عليها، وبخصوص الانتقاء الطبيعي -الأكثر أهميّة للمصافي التي تعمل لفائدة فنّ الحياة- فإنّه، هو نفسه، يقوم بترسيب تلك التي تتأكّد سلبيّتها، وبشكل رديء، في حساب الأولويّات، وينقصها التكيّف الجيّد مع محيطها. هذا وبقدر ما أنّ نظامًا حيًّا لا يؤخذ به، ضمن اختلاف من منظور مادّي، في شقّ مسار مستحسن فإنّ حظوظ الحفاظ على الانضباط الذّاتي تتدنّى بقوّة بسبب الانزياح عن هذا المسار. لكن كيف لنا أن نحدّد المستحسن في دائرة حضور تعدّدية، ولربّما لا نهائيّة، للمعايير التي لا يفلت بعض منها، بالتأكيد، من التناقض أو التجافي، زد على هذا تغاير أهمّيتها على مدار الوقت.

لعلّ ما يستلزمه، حيويًّا، تدبير الانضباط الذاتي، على ضوء الحيثيّات الموصوفة، لهو تحريف الهيئة، نقصد الاقتدار على تحوير الوضعيّة ليس بداع من الفعل المباشر لمسلسل فيزيائي- كيميائي كيفما اتّفق (مثل الصّخر الذي «يتغيّر» بمفعول زلزال أرضي أو الغابة لاندلاع حريق)، وإنّما بفضل تقدّم، بحافز من محض الاقتراب من هذه الأفعال الخطيرة أو المرغوب فيها؛ وعلى هذه الشاكلة يظهر، في الطبيعة الحيّة، مبدأ انتقائي يتبدّى مهمًّا، إلى أقصى الحدود، بالنسبة لنا، أي الأفعال السابقة. فإلى وقت معيّن كانت هذه الأفعال السابقة، على سبيل المثال ردود أفعال مشروطة، تفي، وبشكل ملائم، بما عليها من مأموريّات «حساب» الأولويّات، والتكيّف مع المحيط، لكن توجد، ولو داخل محيط قارّ نسبيًّا، حدود تصاب فيها مهمّة متابعة الاختصاص بالضّرر أكثر ممّا تستجلب منافع تذكر. عندما لا تكون الآليّات، من الصنف التكييفي، في مستوى تأمين قدر من التفاؤل، بله تأمين الطبيعة نفسها، مثلما حاسب مجرّب، سنلاحظ كون البقاء في هذه الطريق يتحسّن أكثر من دقّة درجة الحلّ، يرخي عنان معادله لـ«منهجيّة مونتي كارلو»(١)، وحيث تكون مضاعفات الآليّات التفريعيّة غير متوقّعة، مخمّنة ليس أكثر، ضمن أغلبيّة الحالات التي لا مفرّ منها، لكنّ الطبيعة لا تأخذ في الحسبان، إلا قليلًا، جانب الكلفة، ومن ثَمَّ، حسبه أن يؤدّي، نقصد البقاء، متأخّر حساب المجازفة، أحيانًا، توسُّلًا بكسب ما.

● قلتم «كسب» ؟ أهي طريقة في الكلام أو الموقف؟ هل «كسب» فرس الماء شيئًا ما مقارنة مع جنس الحيوانات المتموريّة، المعروفة ببساطتها؟ أم هي، بالحريّ، استعارة أخرى؟

ليس السؤال، قطعًا، من البساطة. فأنا تناولت الحديث قائلًا ما قلته «من وجهة نظر» الطبيعة. فإن كان مبدأ الحدّ الأدنى من التلف كونيًّا حقيقة، وإذا كان التعقيد الذي يشرطه، ارتقاء درجة التنظيم، ومغالبة السديم الديناميكي الحراري، وباختصار كلّ ما ندعوه تطوّرًا ملازمًا، فعلًا، للطبيعة، فإنّ أيّ اجتياز، كيفما كان شأنه، يمثّل، إذن، مكسبًا غير قابل للاعتراض بالنسبة للطّبيعة، بل يلوح بوصفه خطوة جديدة تُحَقَّقُ في مضمار جرأة إستراتيجيتها، لكن ماذا بخصوص الأنظمة المنذورة للتعقيد؟ فيما يعنّ لي أنّ المسألة لمن الاستعصاء بمكان، هذا إن لم أقل بأنّها مجانبة للصواب.

من الجليّ، إذن، كون التطوّر يعدُّ أحد مضاعفات الانتقاء، وهذه الحيثيّة كافية لذاتها حتى نستوعب أنّ الأنظمة لا تتنامى سوى عبر «جهازها المناعي»، وفي إطار هذا المنظور يتيسّر علينا إدراك حظوة الأنواع «المحافظة»، الأرضة مثلًا، بنصيب من الامتياز. وفيما يهمّ الأنواع التي «اختارت التطوّر» ما يطرح تقويم الأمر، في حالتها، مشاكل عويصة.

معايير الانتقاء، داخل الطبيعة الحيّة، ستتّسم بالتنابذ وضمن أكثر من علاقة. ومن بين العديد من التناقضات ربّما الأكثر عموميّة، وجذريّة في آنٍ معًا، لهو، فيما أرى، الآتي: فمن جهة أنّ قوانين التطوّر لا تتوانى عن «إرغام» الأنظمة الحيّة على التطلّع، باستمرار، إلى الاستعمال، الأقصى فاعليّة، للطاقة الخارجيّة، على التحوّل إلى تنفّس الأكسيجين، وعلى البحث الدّؤوب عن الغذاء…؛ وتلك التي توفّق إلى ذلك تضمن امتيازات إضافيّة يعتدّ بها في إطار التدافع بين- الأجناسي. ومن جهة أخرى فكلّما كان النظام متحلّيًا بالتعقيد امتلكَ محدّدات تثبيتيّة، وأولى من ذلك تتوافر له فرص اقتراف خطأ في حساب الأولويّات، أو أن يلقى ذاته في صلب مفرق تفريعي، والحال أنّه سبق أن أشرنا إلى كون المجازفة الهائلة لا تنفكّ عن أيّ تفريع أو تشعيب كان، ومن هنا أوليس لائقًا بنظام يتشبّث كثيرًا بذاتيّة انضباطه، باستقراره، أن يزهد في كلّ تعقيد مفرط، مجاوز للحدّ.

حلول غير مبتذلة

إنّ نجاعة استعمال الطاقة ستزيد، لمرّة أخرى، بعشرة أضعاف في الوقت نفسه الذي كانت واردة فيه المخاطرة بارتكاب خطأ في التقدير، مخاطرة اعتماد مخرج غير ملائم ولا يفي بالغرض، ذلك أنّ فعلًا صادرًا عن تروٍّ لن يجدي، وحده، نفعًا، الأفعال اللّاواعيّة الانعكاسيّة لمّا تزل أيضًا غير ذات مردود (الأنواع المجبولة على ردود أفعال غير مجدية سيكون مآلها الخمود). لِنُشِرْ، بكلمات أخرى، إلى أنّ إمكانيّة إيجاد حلول غير مبتذلة سيلزمها، بقوّة الأشياء، أن تحصل على الثمن المستحقّ توسّلًا بمزيد من المخاطرة بارتكاب خطأ، لكن ما أدرانا، أين ينتهي الحلّ غير المبتذل وأين يبدأ الخطأ؟ إنّ الثمن المؤدَّى لقاء جدول الأسعار الممطوط للإمكانيّات لم يكن أقلّ ارتفاعًا بما يعني، ودونما التباس، مخاطرة أكبر بكثير بتفريعات غير مرغوب فيها. لكن كان من المحتّم المرور من هنا: فمنذ الانطلاقة سيجد نوعنا نفسه مكرّسًا لوجود على درجة من القساوة، ومن ثم وحدها الحلول غير المبتذلة هي ما يمكن أن يضمن له المحافظة على البقاء، أي استعمال أكثر نجاعة للطاقة، وهو ما يمثّل تهديدًا للانضباط الذاتي، ما دام الوسيلة الوحيدة لتدبير أمر البقاء، إن على نحو أفضل أو أسوأ، وللعلم فهذه الجدليّة الضارية سوف تكلّف الانضباط الذاتي وبالتبعية الحياة، أسلافنا أكثر من مليون فرد.

● تودّون القول.. القدماء؟

كلّا، فلقد قلت الأسلاف؛ ذلك أنّ من حالفهم التوفيق إلى إيجاد تواطؤ معقول، واجتازوا حدّ شفرة الحلاقة، هم من سيصبحون أسلافنا. إنّ كفاءة تخزين لا محدوديّة الشكل المنتزعة من صلب وضعيّة ملموسة، من جوف فعل ملموس، لسوف تفتح أمام سلفنا إمكانيّة متعاظمة لخلق أشياء لم يكن لها وجود في محفل الطبيعة، اجتراح تنويعات وأشكال تنتظم معها المادّة، التي لم تقوَ، بسبب ضعف صارخ لعامل الرجحان، على المرور، اتّكالًا على ذاتها، عبر مصفاة الانتقاءات، إضافة إلى كونها غير مطابقة، في لبّها، لقوانين الطبيعة. فالكائن الموهوب بالعقل سيمتلك القدرة، عن الآخر، على جعل تنويعات ما للتطوّر ممكنة، تنويعات لم يكن قائمًا، قط، تحقّقها في مساق تحريض الآليّات الانعكاسيّة البسيطة، ولا مشاحة في كون هذا المعطى سيشكّل إشارة إلى الدنوّ من حافة الخطر، التي سيتوقّف فيما وراءها الانضباط الذاتي، وترغم إثره الكائنات المعنيّة، بعناد لا لَبْس فيه، على تغيير السلوك. وعليه فلن تسمح الآليّات إيّاها للإنسان بتعمير أرجاء الأرض التي يخيّم عليها مناخ بارد: وعمليًّا فلا واحد من الثدييات البشريّة أو القرديّة يستقرّ، من تلقاء ذاته، خارج جهات مداريّة أو شبه استوائيّة، على الأقلّ؛ واهتداء بملاحظة جدّ مواتية لكوزما بروتكوف(٢) فـ«إنّ الإنسان، محرومًا من لباس قد تكسوه به الطبيعة، كنوع من إحسان أو إكرام، سيتلقّى قريحة الخيّاط من السماء»، كما سيستحكم في النار، الشيء الذي سيسمح له بالتكاثر، فعليًّا، في كلّية مساحة الأرض.

بلدان متطورة وبرابرة

منذ البداية سيوجد الإنسان في الصميم من وضعيّة درّاج: فلغاية الحفاظ على توازنه سيتوجّب عليه تدوير الدواسات طوال الوقت، وأيّما توقّف سيجعل السقوط وشيكًا. فهو، بوصفه نوعًا، سيحوز، في ضوء الانتقال إلى آليّات جديدة، منطقةً ذاتيّةَ الانضباطِ في مدرج تطوُّرِه على مدى مئات الآلاف من السنين، وفي أثناء الطريق بين أولى نيران الخشب وبين المفاعل النووي سينضوي «الإنسان العاقل»، وبمنتهى الطمأنينة، إلى معقل نشاطه الجوهري؛ أن يستغلّ، بالكامل، موارد البيئة. والحقّ أنّ دراماتيكيّة هذا التصادم لم تختفِ، لكن ستناط بالتباري عبر الاستيطاني مأموريّة «امتصاصه» والحدّ من غلوائه، أي بالمجموعات، الثقافات والحضارات، ومع ذلك سيزداد هذا التصادم مضاء لا يضاهى على هذا الصعيد التاريخي للتنظيم الذاتي للأنساق المجتمعيّة. فالدرجة الواسعة، بل التي لا تتوقّف عن المزيد من الاتِّساع، لاستهلاك الموارد، وكذا تعقيد النظام المجتمعي، لممّا يجني، غالبًا، على الاستقرار الضِّمني للأنظمة، ويجعلها عُرضة للخطر، وفي هذا الباب، ما الدُّول والحضارات التي أُزِيحتْ ليس من طرف جيران أكثر رقيًّا وإنّما من قبل «برابرة»، ومع ذلك كان التأخُّر أمرًا جسيمًا، حيث إنّه في مقابل كلّ غزوة بربريّة كان هناك عدد من الاعتداءات التي تشنّها بلدان متطوّرة على الأقاليم الهامشيّة المتأخّرة.

غير أنّه، وبفضل التنوّع الضّمني للبشريّة، لم تكن كلّ التّهديدات تهمّ، على شاكلة ما قلنا، سوى المجموعات المحلّية، بل حتى حقبة متأخّرة لم يقع، البتّة، وجود النّوع موقع خطر بسبب من استنزاف الموارد، بينما اليوم ليس بمستطاعنا، أبدًا، «العَفْس على دوّاسة الدرّاجة»، مثل سابق العهد، في حلّ من الانتباه إلى علامات التحذير. فهي، أي العلامات، تنذر بأنّ التسوية الشاملة التي استُحدِثَتْ لمصلحة النظام في كلّيته، وذلك منذ مئات الآلاف من السّنين لَهِي قِيد الانقضاء، وبأنّ الوقت قد حان، ثانية، لمواجهة القضيّة نفسها، المثنّاة والمتأبّدة، ألا وهي: كيف يمكن التوفيق بين استغلال أكثر فاعليّة للموارد وبين الحفاظ على التوازن.

وفقا لمعطيات منظّمة الأمم المتّحدة لا تستغلّ البشريّة غير نزر يسير من المئة من الموادّ المستخلصة من البيئة، وعلى مدى مئة عام تضاعفت بنحو مئة مرّة كمّية الطاقة الضروريّة لإنتاج طنّ من القمح. وبصرف النظر عن هذا تتوافر تكنولوجيّات تسمح، في عدد من الدوائر، بالحصول على نتائج جيّدة وبتكاليف، تمسّ الموارد الخارجيّة، أقلّ على نحو واضح: خطاطات جدّ اقتصاديّة للسّقي، تكنولوجيّات بسعر منخفض فيما يخصّ الطّاقة أو الموادّ الأوليّة، وتوصيفات أخرى قد تسيل الكثير من المداد، لكن، ويا للحسرة، لا تبدو هذه التكنولوجيّات، بناءً على معايير راهنة، مفضَّلة، وهو ما يحرمها من المرور عبر مصفاة «الانتقاء الطبيعي» للاقتصاد خلافًا للأفضليّة التي هي من نصيب تكنولوجيّات أخرى، أكثر فاعليّة، لسبب مختلف.

● ما هذا السبب؟

إن نحن تكلّمنا بلغة الخطاطة فهو ذاك الذي يتّصل بالاستهلاك؛ إذ المراد هنا هو التكنولوجيّات التي تضمن مردودًا في الحدود القصوى وتسمح بالحيازة، أكثر ما يمكن، على «خيرات استهلاكيّة» انطلاقًا من تكاليف متدنيّة فيما يخصّ العمل، ولعلّ هذا ما يدعونا إلى تسجيل أنّ إنتاج هذه الخيرات لا يعقل اتّخاذه، في حالات شتّى، متّخذ استغلال ناجح للموارد الخارجيّة، بل، وفي أحايين كثيرة، فإنّها، أي الخيرات، لا تعضّد، بالمرّة، مهمّتنا المرتبطة بصيانة الانضباط الذاتي.

● ما هي، إذن، قدرة هذه الخيرات، وعن أي طريق تلتمّ أطراف الرّغبة في تملّكها؟

استئناسًا بما سبق أن بسطناه سيحصل الإنسان، حال تخطّيه للضرورة القصوى، من بين ما استحصله من قرائح، على أهليّة القيام باختيارات لا عقلانيّة، ويعد التعلّق بخيرات بعينها (ومنها أنّ الوجهة الجوهريّة هي إرواء ظمأ الفرد أو الدولة إلى الحظوة الاعتباريّة) أحد تمظهرات هذه الأهليّة. لهذا يبقى من المُلِحّ، في وقتنا الحالي، إعادة التفكير في كامل نسق معايير الانتقاء الذي يتوجّب، من الآن فصاعدًا، أن يتمركز حول القيم الحرجة لمحدّدات المحيط الحيوي الراسخة، وما كان من قدرة نوعيّة ما على التطوّر أو أخرى على تقريب بعضها من بعض أو المباعدة بينها، ومن ثمّ فيا لشديد حاجتنا إلى نماذج شموليّة لها قابليّة التحوّل، بالنسبة للإنسانيّة، إلى ما صارت إليه، في وقت ما، آليّات الفعل السابق، بالنسبة للأنظمة الحيّة: إلى مصدر لعلامات التحذير من مداناة حدود ساحل الانضباط الذاتي، الاقتراب من معارف تؤول إلى هذه الحدود.


هوامش:

١. تقنيّات للاحتمالات تحيل على ألعاب القمار التي اشتهرت بها إمارة مونتي كارلو، ابتكرها نيكولا ميتروبّوليس، عام 1947م؛ ليتعرّفها العالم، عام 1949م، من خلال مقال مشترك بينه و بين ستانيسلاف أولام. (المترجم).

٢. في الأصل هي كنية سيتقنّع بها بعض الكتّاب والشعراء الروس موقّعين، هكذا، مقالات ومحكيّات وأبياتًا شعريّة هجائيّة…؛ نشرت في منابر صحافيّة، في خمسينيّات و ستينيّات القرن التاسع عشر، ريثما يستعيدها منهم صاحبها الحقيقي، الذي عاش بين 1801 و1863م، و ينشر بها أعماله. (المترجم)