كيف يؤجج تغير المناخ نيران الحروب؟

كيف يؤجج تغير المناخ نيران الحروب؟

على مشارف باغا سولا، وهي بلدة صغيرة في تشاد غير بعيدة من الحدود مع نيجيريا، يقع مخيم للاجئين يسمى دار السلام. وبخلاف المعنى الذي يحمله هذا الاسم فإن المنطقة المحيطة تمثل جحيمًا من الحرب، حيث تمتد عبر حدود أربعة بلدان، وهي تشاد ونيجيريا والنيجر والكاميرون، وأجبرت نحو مليوني شخص و0.4 مليون شخص على الفرار من القتال. إن السبب الأكثر وضوحًا لمعاناتهم يكمن في الأيديولوجية؛ إذ يريد الجهاديون في بوكو حرام إقامة الخلافة، والقضاء على آثام مثل التعليم على النمط الغربي وفرض شكل قاسٍ من الشريعة كنظام حكم وحيد. وتحقيقًا لهذه الغاية، قاموا بإشعال النار في القرى وقطع رؤوس عمال الإغاثة واستعباد الفتيات أو ربط أجسامهن بالقنابل.

إلا أن التطرف الديني ليس الوقود الوحيد الذي يؤجج نار الحرب، فالفقر عامل آخر؛ إذ ستجد بوكو حرام من الصعب جدًّا تجنيد جنود مشاة لو لم ير الشباب الجياع حمل بندقية كخطوة مهنية جذابة، ما يؤدي لإتاحة فرص للقيام بعمليات النهب. وثمة عامل آخر يتمثل في الحكومة القمعية وغير الفعالة، التي تمنح السكان المحليين القليل للتحمس من أجله والكثير من الشكاوى التي يستند إليها للقتال. جميع البلدان الأربعة مملوءة بمسؤولين وقوات أمن مفترسين وغير أكْفاء. ولكن إضافة إلى كل هذه العلل طويلة الأمد، يوجد عامل مفاقم نشأ بعيدًا، في البلدان الصناعية، ألا وهو تغير المناخ. قبل خمسين عامًا، كان يُمكن لمخيم دار السلام أن يكون عدة أمتار تحت الماء. ففي ستينيات القرن العشرين، كانت بحيرة تشاد سادس أكبر بحيرة للمياه العذبة في العالم، وواحة ومركزًا تجاريًّا في منطقة الساحل القاحلة، وجرى تشارك المياه والأراضي الخصبة من جانب المزارعين والرعاة والصيادين على حد سواء.

أما اليوم، فإن حجم البحيرة الشاسعة تقلص من 25 ألف كيلومتر مربع إلى النصف (انظر صورة الأقمار الصناعية). وفي المخيم، الذي تساعد وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة على إدارته، يتجمع أكثر من 12.000 رجل وامرأة وطفل تحت أي ظل يمكنهم العثور عليه ليحتموا من درجة حرارة تصل غالبًا إلى 45 درجة مئوية. لا يتوافر للمخيم أبراج حراسة أو جدران، ومقاتلو بوكو حرام لا يبعدون سوى بضعة أميال فقط. عبر الصحراء تنتشر مجموعة من الأقمشة المشمعة الممزقة والبقايا البشرية، ولأميال حولها، تنتشر الرمال البيضاء الحارقة مع أشجار النخيل المتناثرة والمليئة بأشواك بطول بوصة. أما علامات الحياة الوحيدة فهي الجمال التي تنقر على النباتات الجافة. ومع ذلك، فإن التهديد الأكثر إلحاحًا هو الحروب الأهلية، وليس الحروب بين الدول، وواحدة من أكثر المناطق ضعفًا هي الساحل، وهو قطاع جافّ أسفل الصحراء الكبرى. هناك، تكمن جذور العديد من الصراعات في التنافس على الأراضي الخصبة المتضائلة.

صراع على الموارد

في مالي، على سبيل المثال، تصاعدت الصراعات على الموارد بين المزارعين والرعاة مع ارتفاع عدد السكان إلى درجة التطهير العرقي. فر محمدو سليمان، وهو من رعاة الفولاني، من قريته العام الماضي عندما هاجم رجال الميليشيات من جماعة دوجون العرقية. يقول السيد سليمان: «لقد كانوا أصدقاءنا منذ زمن أجدادنا، ولكن في يوم ما من العام الماضي، جاؤوا مدججين بالبنادق والمناجل الآلية، وقطعوا الأيادي والأذرع والأعضاء التناسلية، وأخذوها»، وأخبروا القرويين أنه إذا لم يغادروا، لن ينجو أحد. سوف نقتل الجميع». لذلك «هربنا إلى الأدغال». في بعض الأحيان، يبالغ المدافعون عن البيئة والكتابُ المتحمسون في تبسيط العلاقة بين الاحترار العالمي والحرب، فهي ليست أبدًا السبب الوحيد. غير أن عددًا من الدراسات يشير إلى أنه من خلال زيادة تواتر وحدة الظواهر المناخية القاسية، بما في ذلك الفيضانات والجفاف، يجعل نشوب الصراع أكثر احتمالًا مما هو عليه. ففي تحليل استخلاصي أُجرِيَ في أوائل عام 2010م، وجد سليمان هسيانغ، الذي كان في جامعة برينستون، ومارشال بيرك، آنذاك في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، «دعمًا قويًّا» يُثبت وجود علاقة سببية بين تغير المناخ والصراعات (يشمل كل شيء بدءًا بعنف الأشخاص إلى العنف واسع النطاق)، حتى إنهما حاولا قياس العلاقة، زاعمين أن كل ارتفاع في درجة الحرارة أو هطول شديد للأمطار بمقدار تباين معياري واحد زاد من وتيرة العنف بين الأشخاص بنسبة 4 ٪ والصراع بين المجموعات بنسبة 14 ٪.

يقدم التاريخ أمثلة عدة على تغير المناخ الذي يُغذي نار الفوضى؛ إذ وجد فحص للسجلات الصينية على مدى ألف عام أن الغالبية العظمى من العصور العنيفة سبقتها نوبات من الطقس البارد، ويجادل الفريق الذي يقف وراء الدراسة أن انخفاض درجات الحرارة قلل الإنتاج الزراعي، وهو ما أثار معارك على الأرض والغذاء. ويرى بعضٌ أن الحرب الأهلية الأخيرة في منطقة دارفور بالسودان هي أول صراع حديث ناجم عن تغير المناخ. في عام 2007م، جادل برنامج الأمم المتحدة للبيئة بأن التصحر وتضاؤل هطول الأمطار جعلا إمدادات الغذاء والماء أقل أمنًا، وهو ربما ما ساعد في إشعال نار التمرد الذي قمعته حكومة السودان بحملة إبادة جماعية واغتصاب جماعي.

ومع ذلك، مثلما لا يمكن لأحد أن يكون متأكدًا من أن أي إعصار منفرد لم يكن ليحدث لولا الاحترار العالمي، لا يمكن للمرء أن يثبت أبدًا أن حربًا معيّنة ما كانت لتحدث من دونه؛ إذ تتضافر القوى البيئية بطرائق لا يمكن التنبؤ بها مع الجشع البشري والانتهازية والقسوة – وأحيانًا مع الجوانب الفُضلَى من الطبيعة البشرية أيضًا، فالقوى البيئية نفسها معقدة. يعد الصراع الدائر حول بحيرة تشاد أيضًا قصة متشابكة الخيوط، ويمكن إرجاع جذوره إلى الجفاف المميت الذي حصل في السبعينيات والثمانينيات. لقد ألقى كثيرون باللوم في هذا الجفاف على الانبعاثات الصناعية من الغازات الدفيئة. غير أن النماذج المناخية تشير إلى أنها لم تلعب في الواقع دورًا كبيرًا في الجفاف، حيث يعزى الفشل المتكرر للأمطار الموسمية إلى انخفاض درجات الحرارة في شمال المحيط الأطلسي، وهو ما دفع الأمطار إلى أقصى الجنوب، كما كان البرد في حد ذاته ناجمًا عن مزيج من العوامل الطبيعية والبشرية، ولا سيما تلوث الهواء فوق المحيط، وهو تذكير لافت للنظر بأن انبعاثات الغازات الدفيئة ليست الطريقة الوحيدة التي قد يغير بها النشاط البشري المناخ.

الأشياء تتداعى

على الرغم من كل هذه التحفظات، من الواضح أن تغير المناخ يمكن أن يلعب دورًا في تغذية الصراعات. ترتفع درجة حرارة الساحل بمعدل 1.5 مرة عن المتوسط العالمي بسبب انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وفي المستقبل، تشير معظم النماذج إلى أنها ستشهد أمطارًا أكثر تطرفًا وأقل قابلية للتنبؤ بها في مواسم أقصر. وفي منطقة ما زال معظم الناس يزرعون فيها أو يثبتون طعامهم بأنفسهم، فإن ذلك قد يجعل الملايين من الأشخاص يائسين ومضطربين.

تتنبأ النماذج المناخية أنه مع ارتفاع متوسط درجات الحرارة على مستوى العالم، ستصبح المناطق الجافة أكثر جفافًا وستصبح المناطق الرطبة أكثر رطوبة، مع مزيد من التطرف وزيادة التباين. إن الفقر يجعل من الصعب على المزارعين التكيف، كما أن تجربة شيء جديد أمر محفوف بالمخاطر دائمًا، وقد يكون كارثيًّا لأولئك الذين ليس لديهم مدخرات للتعويل عليها. وفي مناطق النزاع، قد يكون المزارعون الذين كانت لديهم الوسائل لزراعة كثير من المحاصيل المختلفة قادرين على زراعة محصول واحد فقط؛ إذ ينتهي المطاف بكل بذورهم في سلة واحدة. أمل على شواطئ بحيرة تشاد، فخلقت مصادمات عنيفة بين القوات الحكومية وجماعات المعارضة المسلحة مناطق محظورة على المدنيين، كما يقول تشيترا ناجاراجان، الباحث في تقرير أديلفي، الذي قضى عامين في إجراء المسوحات في جميع البلدان الساحلية الأربعة.

المكون المميز

إن الصراع في حد ذاته يجعل الفقراء أكثر فقرًا وأكثر عرضة لتقلبات المناخ المتغير. وخوفًا من التعرض للقتل، لا يستطيع الرعاة نقل قطعانهم إلى أماكن بها ماء ونباتات؛ إذ يقول السيد كوندي التابع لمفوضية اللاجئين: إنه لم يعد بإمكان الصيادين الذهاب إلى البحيرة العميقة للصيد، فالقوات الحكومية تمنعهم، وما زالت بوكو حرام تتجول خلسة، كما أن المقاتلين يسرقون محاصيل المزارعين، وكل ما يمكن للمزارعين حصاده هو الخشب الذي يبيعونه كوقود. وفي تطور مرير، يؤدي القيام بذلك إلى تسريع التصحر، وهو ما يسهم بدوره في زيادة تدهور الأرض.

والسؤال المطروح هو: في ظل أي ظروف يمكن للضغوط البيئية أن تميل ميزان السلام الهش نحو العنف، وكيفية الرد عليه؟ يمكن للحكم أن يحدث الفارق، حيث تجد البلدان الفقيرة أو الخاضعة لحكم سيئ صعوبةً في التعامل مع تغير المناخ، وبخاصة عندما يكون لديها، في كثير من الأحيان، مؤسسات ضعيفة. تواجه كل من هولندا وبنغلاديش تحديات بيئية متشابهة: السواحل المنخفضة والفيضانات المتكررة التي ستصبح أكثر تواترًا وأكثر تطرفًا مع ارتفاع مستويات سطح البحر، إلا أن هولندا لديها الوسائل السياسية والتكنولوجية والمالية للتعامل معها؛ في حين أن بنغلاديش الأفقر بكثير، قد لا تتوافر لها. لا يوجد شخص عاقل يتوقع قيام حرب أهلية هولندية بسبب تغير المناخ، أما في بنغلاديش، فإن خطر وقوع مثل هذا الصراع ليس تافهًا.

صَنَّفَ آرون وولف من جامعة ولاية أوريغون ومعاونوه 2606 حالات نزاع دولي وتعاون بشأن المياه بين عامي (1948: 2008م). في 70 ٪ من الحالات، تتعاون البلدان. ويأتي أكبر خطر لنشوب صراع عندما تقوم دولة واقعة على مجرى الأنهار ببناء الهياكل التحتية، مثل السدود، من دون التوصل إلى اتفاق حول كيفية تخفيف وقع التأثير على المناطق الواقعة في المصب. يُبنَى كثير من هذه السدود لأن تغير المناخ يجعل المياه أكثر ندرة، أو بسبب الابتعاد من الوقود الأحفوري نحو الطاقة الكهرومائية، أي ارتباط ثانوي بتغير المناخ.

قد يختلف الأكاديميون حول الأسباب المحددة للنزاعات الماضية، ويطورون نماذج معقدة للتنبؤ بالأزمات المستقبلية. ولكنْ هناك إجماع على أن التوترات ستزداد بسبب تغير المناخ، وبالتالي احتمال إراقة الدماء والصراع، بدوره، يجعل من الصعب الاستعداد لتغير المناخ أو الاستجابة له. كيف يمكن للمرء التوفير ليوم ممطر (أو جاف)؛ إذا استمر المسلحون في سرقة مدخراته أو حرق محاصيل الحبوب الخاصة به؟ يتذكر صالح إيساكا، أحد كبار السن في القرية التشادية، عندما اعتاد شعبه على رعي الآلاف من الحيوانات على الأرض التي يوجد بها الآن معسكر دار السلام. قبل ثلاث سنوات، شن بوكو حرام هجومًا بأسلحة آلية وسرقوا جميع الحيوانات، وكذلك النساء والأطفال. يقول إيساكا، وهو يشير بإصبعه إلى المسافة الجافة: «إننا الآن نعاني، والجو أكثر حرًّا من ذي قبل… كل شيء قد مات.»


المصدر: https://www.economist.com/international/2019/05/25/how-climate-change-can-fuel-wars