أسئلة الشعر ومساءلة الثقافة

أسئلة الشعر ومساءلة الثقافة

الشعر تجربة عامة تنتج منها مشاعر تؤدي إلى بناء قصيدة، والميل بالشعر إلى المشاعر هو الأقرب إليه موضوعًا، لا معارف في الشعر بل هناك تجارب، يجد المرء نفسه فيها، على حاجة متحولة إلى الأمل وتطوير الانتظار، في حالات التعذر المنتشرة، الانتظار هو الرهان الأخير على الانفصال عن الحزن، والصبر درس حيال الهزيمة المحدقة بالكائن، الشعر الغلاف الوجداني لظرفي المكان. والقصيدة حدث الشاعر وحديثه عن آخر، قد يكون هو، والآخر هنا وفي حيز الشعر علامة، يكون كائنًا ماديًّا أو حسي، يزول وجودًا خياره فيه اللاخيار، ويغدو القدر توليفة سياسية – دينية. فالعالم يغدو المكان المتشعب من الفضاء الخارجي إلى حجرات المنزل. والمكان مخزن تاريخي ومجتمعي للتجربة، ويكون ملجأ القيم والأعراف المدينية القابلة للنقاش وغير المتصلبة كالتعاليم الصارمة النائية بدعواها وبادعائها عن منطقة الحوار ومحور الجدل.

هناك تهافت على تعريف الشعر، تعريف يقصي التجربة الشعورية والعامة عن الشعر، بوصفه حديثًا عن محنة منزلة على فرد في تجربة، التعريف أحد عناصر التوجه الأكاديمي إلى النص والتعرض له، ويبتعد بلا اعتراض عن الدخول في رحاب التجربة على سعة ضيقها، فالتجربة تناج عن تفاعل شعوري مع حدث في مكان ما وزمن ما، قد يكونان ظرفين غير ملائمين لحدوث ما يحدث، مثل حب، حزن، إقدام تراجع، خذلان خيانة، وفاء أو موقف. فنجد المشاعر لا ترتقي سلم النقد في صعوده نحو مقاربة النص وشرحه. فالتعريف يتحول إلى تصنيف للجنس الأدبي، فيحصر التعامل معه.

التعريف ليس معيارًا، قيمة الشيء بذاته، طبيعيًّا هكذا يجب، حيث إن الشيء يكتسب قيمته من الحاجة إليه، ومن الضرورة المفتعلة أحيانًا لاستعماله، قد تكون لعبة لغوية في مفاهيم تحولت إلى قيم اجتماعية صارمة، وهنا نرى أن الفعل هو الحقيقة، وليست الحقيقة الفاعلة تجريديًّا، أي بمعنى، الفعل اليومي للفرد، ومحيط مزاولة مشاعره، «الحب، البهجة، الألوان، والوقت المستحق للتمتع بأصوات الطبيعة، غناء الطائر، ونشيد الموج، العالم وطن الحواس، الحاسة صحة الصحيح، والإنسان الحساس»، أي هو الذي حواسه على استجابة إلى مؤثرات الطبيعية، رغم مؤامرات الوعي لجعله أداة في المشرع الاجتماعي ذي البعد الأحادي، الإنسان أرفع قيمة، ومنه تكون القيمة وله يعود التقييم.

إن احتواء الفضاء الخارجي وتحويله إلى مثال عن أحقية تعاليم منفردة بلا تفرد، تلك من دون سواها تعلن فروضها والإجبار عليها وتذنيب المساس بها وتجريم نقدها، وكأن العالم صمم على نموذج قابل لتطبيق فرائضها، والولاء نشدان العقيدة الواحدة، إن سحب العالم من الاختلاف والتنوع، الغرض منه احتكار الحقيقة، والتحكم بالصواب والسيطرة المتشعبة على مصادر الإبداع، وجعله غريبًا حد التحفظ عليه؛ صوتٌ واحد، زِيٌّ فكري موحد للحقيقة، لون يتحكم بالألوان.

المؤامرة على المعنى والإطاحة بالبيان

الشعر اليوم يحاكي الخطاب المطروح من جهة الحركات السياسية، وخصوصًا تلك التي تتخذ الدين عمقًا جهاديًّا لتحقيق الحاكمية التي تنشدها، فاللغة أحد مكونات هذا الخطاب الديني، وتزيينها بادعاء البلاغة والنزوح إلى البديع والاستغاثة بالرنين الصادر عن السجع الظاهر أو المتخفي في ثنايا الجملة، وبذلك يظن البعض أنه باتباعه أسلوبًا كهذا ينتصر إلى خطاب دينه، ويدعم مرتكزات الهوية التي استأثر بها الدين بعد خطاب القومية.

العقيدة بالتشدد تتحول إلى عقدة، واسعة الأذى، وبخاصة في المساحات الذهنية التي تمتد إليها وينمو تأثيرها، ويلحظ إعلاميًّا ومنبريًّا، صعود قصائد الحنجرية والتحميسية عبر الخطابة الموزونة وبالاعتماد على رنين الكلمة، والرهان عليه في كسب المتلقي. تصبح اللغة غاية بذاتها، وتتصعب وظيفتها في التفاهم وإيصال المعنى، ويشكل ذلك رغبة رجوعية في اجترار ما نشأ عليه الشعر الغابر من مدح وهجاء ومفاخرة بالذات القبيلة، الذات التي غدت قومية وتغدو اليوم دينية، ولا أثر بل محو أثر التجربة الشعورية في حياة الفرد البالغة التعقيد والشقاء الشائع، وتهميش المشاعر والتحفظ على العواطف، والانتقاص من الحب وإحاطة الرغبات بالشبهة وتفظيع الخشية من الميولات الإنسانية، فالإنسان رقم في قائمة الفجيعة، لا ليس إنسانًا له الحق في كيف ما يريد وكيف أن يكون. خلاف لذلك يمارس عليه العنف ويجرد من حقه في خياره، إنه مشروع ضحية أو مشروع شهيد حسب مشيئة النص الديني وإرادة العرف الوطني.

يتحول الشعر من تجربة حياة عامة إلى عملية صنعة لغوية؛ كي يسهل احتواؤه والتحكم في وظيفته. وهذا التوجه يسود اليوم في العراق، بعد أن كان العراق رائدًا للحداثة، أصبح مرتدًّا عليها، ويحدث هذا بالاستناد إلى مخلفات الخطاب القومي وإرث الحرب، ومن بقايا النزاعات والانقسامات على الحقائق. ويلحظ صعود المنبرية والحنجرية ونموها عند عدد من شعراء مغاربة أيضًا، كما يجري تسويغه، من نافذة البلاغة ومن بوابة الانتماء، فاللغة بوابة الانتماء القومي، ويرون أن اللغة من أبرز تجليات الخطاب الديني.

ولتثبيت هذا المصنف الشعري المجتر، وجعله عادة ثقافية، استحدثت مهرجانات شعرية وأعدت برامج المسابقات الشعرية الجارية في المنطقة الإعلامية الخاضعة إلى الخليج العربي، وترصد لها الأموال والمشاهدة عبر القنوات الفضائية، ومن أشهرها، شاعر المليون، وأمير الشعراء، ومسابقة الأدب النبطي، وحكر الجوائز المالية على اتباع الاتجاه المبارك من الدولة الراعية والمتوافق مع برامجها المقرورة… أي تمنح إلى الكتاب المؤازرين للمشروع الرسمي وللمقرر الدراسي، للثقافة الممنهجة. هناك كاتب صديق كُلِّفَ رسميًّا، من جهة طرف في جائزة في كتابة رواية تتمحور حول شخصية اشتهرت بمكافحتها الغرب الاستعماري، ونال عليها جائزة بالغة المال، وهذا يؤيد من بعيد ما يذهب إليه مشروع الخطاب المطروح في شرعية مجاهدة الغرب الآخر الكافر.

محنة التلقي: الاحتفاء بالظلام وتمجيد العزلة

شاعر يعد مرجعًا مهمًّا في الحياة المخطوفة اجتماعيًّا وهو طرف في تشكيل الوجدان المؤيد لمشروع القبلية الرسمية:

السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ

في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ

وهو يرجح السيف على الكلمة، ويمضي في مديح الرمح، وهناك من يذهب إلى أن الحق بالسيف فقط، والعاجز عنه يستغيث بالكلمة، النبي المسلح أشرف من النبي الأعزل، سيف على رقبة يردع الرأس عن فكرة، فحد السيف هو الأسمى في الدعوة، وليس سمو الدعوة بحد ذاتها.

وشاعر آخر يفوز بنصيب فائق من الدراسة والمرجعية، وهو الذي يشرع شعريًّا إلى قاعدة إهانة الإنسان على أساس عرقه ولونه، بصرف الأهمية عما بلغ فيه موقفه من ارتقاء، أما المكانة فأبدي حيالها تحفظي الجمالي على تعبيرات الوجاهة، البطولة، وهي تحتاج إلى مراجعة وإلى إعادة تقييم، فالإنسان العادي هو الأرفع مكانة، وذلك في كفاحه من أجل الحب والعيش وفي مواجهته للشقاء وتجاوز الإصابة بنوبات الحزن، ليس هناك حزن بل إحزان. نعود إلى الشاعر الذي اكتسبت صفة العظمة صنعته الشعرية، من دون مساءلته ذوقيًّا عن أبيات شعرية تحولت إلى أمثلة وأمثال شعبية، في النظر إلى الشخص المغاير عرقًا ولونًا.

أكلما اغتـال عبد السـوء سيـده

أو خـانه فلـه في مصـر تـمهيد

صار الخصـيُّ إمام الآبقيـن بـها

فالـحر مستعبـد والعبـد معبـود

العبـد ليس لـحر صالـح بـأخ

لو أنه فـي ثيـاب الـحر مولـود

لا تشتـر العبـد إلا والعصا معـه

إن العبيـد لأنـجاس مناكيــد

وإن ذا الأسود الـمثقوب مشفـره

تطيعـه ذي العضـاريط الرعاديـد

إن امـرأً أمَةٌ حبلـى تدبـــره

لمستضام سخين العين مفؤود

من علـم الأسود المخصيَّ مكرمـة

أقـومه البيـض أم آباؤه الصيـد

أم أذنـه فـي يد النخـاس داميـة

أم قـدره وهو بالفلسيـن مـردود

أولـى اللئـام كويفيـر بـمعذرة

في كل لـؤم وبعض العذر تفنيـد

وذاك أن الفحـول البيض عاجـزة

عن الجميل فكيف الخصية السـود

هذا الشاعر عندما كان المنصب مدينته المنشودة، طمّاع مناصب، وحين لم يفز بمنصب في بلاط معين، قصد بلاطًا آخر لا على التعيين، وهناك توّج الفشل مسعاه، فعاد قادحًا مجدفًا، ويسرت إحكام بناء أبياته، الفرصة السريعة للتعبير الموثق من عند شاعر عظيم الشأن الشعري يحتقر العبد، وكأنه يؤسس قاعدة للحكم. كل ما تريده هذه الأبيات العنصرية، يعد قذفًا بحق البشر سود البشرة، والذين ما كانوا رقيقًا بطبعهم ولا بسعيهم ولا بإرادتهم، إنهم ضحايا الغل التاريخي والسوء الجغرافي، والتكوين الجنيني، إنهم ضحايا العقائد المتعالية على تحريم الرقيق.

وهذا الشاعر هو المؤسس الفعلي لمفهوم أن مجد الشاعر يمر عبر البلاط ويبجل بالمنة المالية، وتحول هذا الجري نحو الرشوة المتبادلة، الشاعر يرشو الحاكم بقصيدة، والحاكم يرشوه بالمال والوعد. وخرج علينا الأكبر عربيًّا متوجًا بقصائد مديح لا تميز بين طاغية وسواه، فمرضاته بوابة المجد.

وبدلًا من الإشادة بالحرية ووصف جمالية الحياة فيها وجعل جمالها والابتهاج به الدليل الطبيعي على الإرث الكوني للمواطن في وطنه وحقه المشاع في ثرواته وما فيه كحق أصيل وطبيعي وبلا مسوغ سلطوي قانوني وليس منة مخلوعة عليه، لكن هذا الشاعر يفخر بالظلام ويعتز بغمرته، ناكرًا على الظالم جميله عليه، في توفير زنزانة يمارس فيها ميوله الشهوانية حيال الظلام. فهذا الميل الشعري إلى الظلام يتحول إلى
نشيد قومي:

يا ظلام السجن خيم

إننا نهوى الظلاما

ليس بعد الليل إلا

فجر مجد يتسامى

في غياب الكلمة يحضر السيف، نعم العدو لم يعد إنسانًا وليس كفوًا للتفاوض الجمالي من أجل تناصف الوجود بإنصاف، فالعالم لنا ولا وطن له فيه، إنه مشروع ميت ونحن نسرع في دفنه، إكرامًا لنا وليس له. وفقًا لحقنا فيه تقام شراكتنا، التضحية والدم من تجلياته، جثث وأشلاء، دخان ودمار. وعلى الشاعر أن يعبر عن امتنانه للسجان الذي وفر له الزنزانة ليمارس فيها حبه مع الظلام الذي طالما وقع سجينًا في هواه.

الحصار التقليدي للحداثة

تواجه الحداثة بادعاء الخروج على الثوابت، ما الثابت إن لم يكن متحولًا، ولا يحمل القدرة على التحول، أو الدعوة إليه، وهذا هو ادعاء سياسي بمسحة قومية ودينية، فالحداثة هي بوابة المعرفة غير المشروطة، والمعارف إنجاز بشري ومن حق البشر الاستفادة الذهنية منها، وتفعيلها كمصدر للتفكير، الحداثة تقوم على الحرية الفردية، وتدعو إلى حق الفرد في الاختيار وتدعو السلطات إلى الحفاظ على حق الإنسان العادي في الخيار، وبناء على ذلك، يُطْعَنُ في الحداثة بوصفها إنجازًا غربيًّا، وهي كذلك بالفعل، فالحداثة الغربية لها إسهامات واضحة في تشكيل المشهد اليومي العربي، تبدو باللباس من بنطلون الجينز إلى الاحتفاء بتناول الوجبات السريعة، وبوسائط النقل الحديثة البالغة السرعة قياسًا، الإنترنت الحدث الأعظم، والموبايل، ووسائل الاتصال الاجتماعي، على ما يظهر أن كل شيء مرحب به حد الاستعمال، المفاخرة والتواصل، فيما يُتَحَفَّظُ تقليديًّا على الحداثة الغربية؛ بسبب تأسيسها الفكري الذي من مقوماته صيانة كرامة الفرد بوصفه مبادرًا وخلاقًا، والمبادرة والإبداع يخرجان على تعريف الجماعة الرسمي لهما، وكذلك الآليات الديمقراطية، ونصيب الفرد المتاح في الحصول على المعرفة ودوره في صناعة القرار الذي يتعلق بمصيره الفردي، فالحداثة تولي أهمية عملية وعلمية لأهمية نصيب المواطن في القرار، الحداثة مرجعها المستقبل وتمثلاته، وتمجد الشك بوصفه حافزًا على الكشف، وتخضع الصواب للاختبار لتقدير صلاحيته.

الحداثة في الدنمارك

أقتطف نصوصًا شعرية من أنطلوجيا الشعر الدنماركي، وأود التنويه، بالحرية الفكرية التي يحياها الشاعر الدنماركي أسوة ببقية الأفراد، لا قيود على التعبير، ويتناول ما يشاء من الموضوعات، من دون توجس، يريد أن يكون هو كما هو وليس نسخة من آخر ومسخًا لجماعة، وصديقنا الشاعر بيني أندرسن شاعر الدنمارك الأبرز ينتقد الشخصية الدنماركية، ويذهب إلى القول: لماذا يحب الدنماركيون السويد أكثر من السويديين؟ لأنهم يعتقدون أن السويد أراضٍ دنماركية، ولماذا يحب السويديون الدنمارك أكثر من الدنماركيين؟ لأنهم يعتقدون أن الدنمارك أراضٍ سويدية، ولاقي النص والشاعر ترحيبًا من كلا البلدين وناسهما. هنا نصان الأول للشاعر الدنماركي هنرك نوربرانت والثاني للشاعرة ميته موستروب، ترجمة مي جلبي ومنعم الفقير:

منذ الأمس

أصبحت عجوزًا منذ الأمس

وغرفتي لا تفتأ

تنفصل عني. الأثاث متآكل

وأشياء جمعناها

تشمخ كجبل

يصعب عليّ تخيل السعادة كمفهوم

عندما أطرح عليّ ذلك

أكون بين مناظر طبيعية كهذه

أقبلُ أن لا وجود للجواب.

وأنظر حولي. وأنا سعيد بوجودي هنا.

* * *

كليوباترا كنغ سايز

أنا أدخن سيجارة مصرية

وأقرأ قصيدة بالسويدية

أفكر بالحب شيرليك

والقليل بالسيجارة وكليوباترا كنغ سايز

كانت كليوباترا جميلة، كانت تتجمل بماكياج

زئبق وسلفات النحاس

هناك دخان في فمي أوكسيد الحديد

على شفتي وولاعتي حمراء

مثل فمي أو ماذا؟

(واللسان ….: أحمر

لسانك في أحمر

والولاعة ليست من العقيق

والخلاصات الجيدة سيئة

كالضمير

يمكن للمرء أن يخبو وأن يلمع قليلًا

وأن يتزين أكثر على سيجارة يشعلها

ماذا أفعل؟

حتى إني أشك في كل شيء

بكل تأكيد

لكن ينتابني الشك

ماذا أعرف عن الحب

لا شيء ولا أكثر

أجمّل وفاة صغيرة

وأرقص كجثة حزينة، أجمّل وفاة صغيرة

وأرقص كجثة حزينة

من أجلك – وأنت الذي لم تأت

تقوم الحداثة مما تقوم عليه على مكانة الإنسان العادي وتمجيد الضعف البشري لدى الأفراد، والنظر إليهم في حالات الحب، أو عند الحزن المستشري والمتنكر له بفرح مستعار أو مأجور خشية الاتهام بضياع وقلة المهارة، وتقصير رسمي، النص الحداثي ينشغل بمساءلة الشقاء، وبتعقب الجهد العبثي لسد احتياجات وفرتها الحياة عبر ما صممتها عليه الجماعة، والجماعة هي الأداة الشعبية في تطبيق الأحكام الأخلاقية ورعاية القيم الرسمية وفقًا لقواعد الحكم ومصالحه، وهذه الجماعة تريد الفرد بطلًا من أجلها لا من أجله، على الرغم من توالي التعاسة عليه، وتمضي إلى جعله شاهدًا صامتًا على تزييف السعادة والغش في المبادئ، فالكائن آلة حية في المصنع الاجتماعي. والفرد بحد ذاته لا قيمة له، يكتسب أهميته من قيم الجماعة ونزاعاتها؛ إذ لا قيمة لحريته ولا دمه مقابل إعلاء فكرة أو حقيقة تجريديتين، فالحقيقة أهم بكثير من المؤمن بها أو المعارض لها. الأثر والاختبار معيارا قبول حقيقة ومقدمة لطرحها على طاولة الجدل.

ظاهرة التكريس في الشعر العربي

يعاني الشعر العربي ظاهرة تكريس الشاعر والنص، وبناء عليه يتحول الشاعر إلى مثل ونصه إلى قاعدة، ودخل الإعلام إلى مجال الشعر، وظهرت ندوات على الهواء تستعرض النص وتشيد بالشاعر إلى البعد النقدي، وغلبت الإشادة، والاستشهاد بجمل شعرية مباشرة، لما تحمل من مضامين تعبر عن التوجه الرسمي في مواجهة الأخطار المتتالية بأشكال ودواعٍ مختلفة، ويُحْشَد الرأي حيالها، والحياة كلها تصبح رهينة، والآمال مخطوفة، والطموحات معلقة. أما الأخطار موضوع الصراع والجدل فلا يكون الجهل والفقر من بينها. وهكذا يغدو الشعر والفن الناطق الإبداعي باسم المشروع السياسي، ورفعت شعارات الفن الملتزم، دور الفن في المعركة، فغدا الفن برنامجًا إعلاميًّا للحماسة وللتعبئة، وتعلو فيه النبرة وتتصاعد مفردات لخطابة على وقع رنين الكلمات وسجعها، وقد استفاد بعض من الشعراء من شهرة ملحنين فانتشر نصهم واسمهم. وذلك يحدث في ظل تعثر النقد وعدم الإفساح له في أن يشغل دور الوسيط. انتشر عرف أن قصيدة هؤلاء الشعراء هي القاعدة وشهرتهم هي الوسيلة لتلقي الشعر، ونشهد أن شاعرًا يعيش على مجد سالف لقصيدة فيتبوأ المناصب والجوائز والأمجاد الرسمية، فالناقد يحسب أن في تناوله شاعرًا منهم يجعله ناقدًا معروفًا. ومنهم يكون وبمدح نصوصهم يعترف به ويؤسس لموقع في الحياة الثقافية.

النقد يستمد أدواته من النص الذي حدث التعارف على أهمية تأثيره، فنجد بيانًا سياسيًّا لمنظمة يتحول إلى قصيدة أو شعارًا مباشرًا يتحول إلى مطلع شعري، والشاعر، الكاتب، المفكر والفنان في العالم العربي يستمد وجوده الإعلامي وتأثيره لا من شعره كنهج فني محض، بل من موقف أو تصريح يشاكس فيه في الدين والسياسة، والشعراء العرب أسماؤهم أشهر من قصائدهم، إلا فيما شذ عن ذلك. فأصبح الشعراء المكرسون، حتى إن شعراء ثاروا عليهم، وبعد حين شهرة الكفاية، عادوا ليستمدوا استمرارهم من محاباة هؤلاء الشعراء حتى لو كان الطريق إلى ذلك التخلي عن رفاق النص والمساهمة الصامتة في دثرهم.

إن البهرجة الإعلامية لهؤلاء الشعراء جعلت من شعراء تالين يظنون أن بروزهم على قائمة الشعر يتعلق بتقليد أولئك موقفًا وشعرًا. إن سعة انتشارهم قد أغرت الكثيرين، ويسري اعتقاد على الشعراء الملحقين بهم، أنهم يزاولون الشعر الكامل إعلاميًّا والموصى به رسميًّا، ولم يقتصر اتباع الشعراء على محاكاة الشكل والجملة والإيقاع، بل امتد إلى حد تبني موضوعاتهم، وموضوع الشاعر هو رؤيته وموقفه.

الشعر الآن والحقيقي منه يعاني تخلف النقاد عنه، وانصراف الإعلام عنه، فالإعلام أصبح أداة تعبئة وشحن، يتشبه بذلك بالخطاب السياسي الذي يبحث عن أنصار وناخبين عبر الإغراء بالوعود، ولا ينشغل هذا الخطاب بحماية حرية الفرد الشخصية، والاعتناء بأمانيه، ولا معنيًّا بالحب والعواطف، والشقاء المترامي، والأحزان الناجمة عن خلل التكافؤ في مستوى العيش، ولا العناية بالفرح واحتواء تدهوره، وصيانة حق الفرد في الضحك. فالمشروع السياسي يقوم على توسيع الهوة وإذكاء الصراع، وتصنيع الأزمات؛ الأخلاقية منها والاجتماعية والاقتصادية.

ومن هنا ندعو إلى نقد يستند على استخراج أدواته النقدية من النص موضوع النقد، ويتوجه إلى ذاكرة تجريبية، تنفتح على الاحتمال، ويستند النقد على استقدام معطيات المستقبل، ليكون المستقبل هو المرجع وليس الماضي.