«أُمّة على رِسْلِها» لمها الفيصل… تحليل رصين ونقد جريء

«أُمّة على رِسْلِها» لمها الفيصل… تحليل رصين ونقد جريء

كتاب «أُمّة على رِسلِها: تأملاتٌ من بلاد العرب» للباحثة مها محمد الفيصل، نظرات ثاقبة في جملة من القضايا التي تشغل الفكر العربي -والإنساني- اليوم، وسَعْيٌ إلى استشراف الآتي. تقرؤه فتقع في أَسْر تحليلاته الرصينة ونقده الجريء. يحاورك بأسلوبه السلس في الاحتجاج للفكرة تاركًا في نفسك صدًى وفي عقلك أثرًا، حتى إنِ اختلفتَ مع صاحبته في تصورها لبعض القضايا.

والجدير بالإبراز بدءًا، أن الباحثة مها محمد الفيصل -بهذا الكتاب وبما يبشر به من مسار فكري واعد- ساهمت في تغيير الصورة النمطية للمرأة العربية المبدعة التي لا يكاد إبداعها يتجاوز مجالات الأدب المتعارَفة، وثبتت قدميها في مجال طالما عد اختصاصًا ذكوريًّا، وهو التدبر في القضايا والاختيارات الكبرى للمجتمع بالنقد ورسم معالم البديل. طريقها إلى ذلك فَتْحُ حوارٍ وصَفته -بـ «خطاب عاقل خلاق» (ص 104)- ينضج هذه الاختيارات، ويكون فيه لصوت المرأة صدى، ولا سيما أنها القائلة عن كتابها هذا: «هذه الأوراق تسعى إلى أن تكون مبادرة نحو فتح الحوار عن الحضارة العربية، انطلاقًا من منظور أهل بلاد العرب. فهذا حقنا، وتلك مسؤوليتنا» (ص 141).

في منهج الكتاب

قبل أن نعرض لمحتوى الكتاب ولما يقدمه من أطروحات، نرى من الحري أن ننوه بالمنهج الذي اتبعته في مختلف الفصول. هو منهج علمي حجاجي يفيد من المداخل اللسانية والاجتماعية والتاريخية التي توفر حججًا قوية في الاستدلال على الفكرة. فقد أخضعت -بالانطلاق من «حفريات شديدة الدقة» وفق عبارتها- مختلف المصطلحات والمفاهيم المتداولة في الفكر العربي والفكر الإنساني لدراسة معجمية وإيتمولوجية تتبعت من خلالها التحولات الدلالية التي طرأت عليها. واستثمرتها في دعم مواقفها ومجادلة مواقف مخالفيها بالحجة والبرهان. ومن هذه الناحية جاء نقدها للمفاهيم وكشفها عما تبديه وعما تحجبه من دلالات، متفاعلين مع ما أقرته فلسفة الخطاب اليوم من أن «نظام المفاهيم يكرس رؤى أو مواقف فكرية مخصوصة»، وأنه «في مرآة اللغة يمكن أن نتعرف على رؤى الشعوب للعالم، وخاصة على تشكل ثقافتهم». وفي المدخل الاجتماعي، اعتمدت على معطيات وحقائق اجتماعية في السياقين العربي والعالمي متخذة منها شواهد حية على أطروحاتها، ومؤكدة العلاقة الوطيدة بين كتابتها والقضايا التي تشغل الوعي والواقع العربيين. أما المدخل التاريخي فقد أبدت من خلاله اطلاعًا واسعًا على تاريخ الشعوب التي عرضت لعلاقتها بالمجتمع العربي، وهو ما مكنها من نقض كثير من السرديات الزائفة والمتداولة التي شكلتها أيديولوجيا المركزية الأوربية خاصة.

في عنوان الكتاب ومباحثه

بالانطلاق من هذا المنهج الشامل والمتعدد المداخل، عالجت الباحثة جملة من القضايا والمسائل ذات البعد الحضاري العربي خاصة، والإنساني عامة.

وجاء عنوان الكتاب مختزلًا للتصور الذي تضعه الباحثة لنهضة المجتمع العربي، ولنجاة «الإنسان» من مآزق حضارة مادية كاسحة أضعفت أبعاده الأخلاقية والروحية السامية، وأضاعت بوصلته في الوجود. ففي قسمه الأول «أُمةٌ على رِسْلِها»، تبرز صورة أمة العرب وهي تسير -أو يجب أن تسير- في طريق تقدمها بتؤدة وتمهل حتى لا تقع في أخطاء الطموح المتسرع إلى تحقيق نتائج مادية عاجلة، قد تحقق فائدة سطحية، لكنها تزج بالإنسان العربي في متاهات خطرة تُضيع توازنه وتُفقده معنى وجوده.

و«الرِّسْل» في «لسان العرب»: من قولهم «افعل كذا على رِسْلِك، أي اتئد فيه. وفي الحديث: قال النبي على رسلكما، أي اتئدا ولا تعجلا، يقال لمن يتأنى ويعمل الشيء على هينته». ومن الدلالات المعجمية أيضًا للجذر «رسل»: «السعَة والخِصب ولين العيش»، وهي دلالات تتناسب مع النتائج الممكنة للتمهل والتدبر في إنجاز العمل. أما العنوان التفصيلي الفرعي وهو «تأملات من بلاد العرب»، فكلمة «التأملات» فيه تكشف عن طبيعة هذه الكتابة: إنها لا تنضوي شكليًّا ضمن البحوث الأكاديمية الموجهة إلى النخبة، بل هي -على عمق طرحها للقضايا- تتجه إلى شرائح ثقافية واسعة، وتُخرِج قضايا الإنسان العربي من برج عاجي حصرها فيه «المثقف الحديث»، إلى ثقافة التداول التي تؤثر في «إنسان كل الفصول». فالباحثة تكتب مستحضرةً واقعًا عربيًّا متأزمًا فشلت فيه كل الوعود الأيديولوجية، هو «هذا الجو المشحون، الممتلئ هزيمةً ودمارًا وبشائر لأكثر من فجرٍ كاذب، مصحوب بغياب تام للندم على عدم محاسبة النفس» (ص149). ويأتي ظرف المكان «من بلاد العرب» بكل ثقله الدلالي المتصل بخصوصية المكان في مختلف أبعادها، ليؤكد اعتدادًا بالذات، وحرصًا على تحقيق خيرها، مع الانفتاح على الآخر والسعي إلى رفع العلاقة معه من مستوى السلبية إلى مستوى المشاركة في التفكير وتحديد الآتي. لقد أتاحت «عبقرية المكان» للكاتبة إبداعَ تصورٍ منطلقه عربي-إسلامي وهدفه المساهمة في حل المآزق التي تردى فيها الإنسان العربي والإنسان الحديث عمومًا.

من حيث المضمون، يحتوي الكتاب على اثني عشر مبحثًا؛ كلٌّ منها يعالج جانبًا من قضايا الحضارة العربية في علاقتها بسائر الحضارات التي اتصلت بها تأثرًا وتأثيرًا. وفي مقدمة هذه الحضارات الحضارة الأوربية الليبرالية والمعولمة، التي صاغت نموذجًا «ماديًّا» للتقدم هدد جوهر الإنسان. وتضمنت هذه المعالجة اقتراحَ آفاقٍ للانعتاق تتيحها المنظومات القيمية والأخلاقية السامية التي يمثل فيها الدين معينًا لا ينضب. وهذه المباحث هي: «حضارة العرب وارتباك المرجعيات»، و«صناعة الفرد السيكولوجي»، و«الكلمة الحية والكلمة الشبح»، و«الثقافة الحية والثقافة الميتة»، و«الحاجة إلى حضارة»، و«ثقافة مرتبكة»، و«الأنسنة والفصام التأويلي»، و«أورُبا تلك الأميرة المخطوفة»، و«العرب هم ورثة العالم الهيليني»، و«مَن سرق مِن العرب حضارتهم؟»، «وحضارة عربية إسلامية»، و«العرب ترجمان الحضارات». ونظرًا إلى تكامل هذه المباحث وتقاطعها أحيانًا في عدد من القضايا، ونظرًا أيضًا إلى ما يقتضيه المقام من ضرورة الإيجاز، اخترنا أن نبرز من هذه القضايا ما هو محوري جامع، وبشكل تأليفي قد يفي بغرض التقديم.

مبحث المرجعيات

في مقدمة قضايا الكتاب، قضية العرب ومسألة المرجعيات، التي أبرزتها الباحثة في معادلة «المصالحة مع النفس والتخلص من الاغتراب». فقد حللت مظاهر الاضطراب الذي حل بمرجعيات الانتماء في المجتمع العربي المعاصر، معيدة إياها إلى ما قام به دعاة التغريب من محاربة المرجعيات الموروثة الضامنة لتوازن المجتمع ماديًّا ومعنويًّا، ومِن تَبَنٍّ غير مشروط لمرجعيات أيديولوجية وافدة في معظمها. وبينت كيف تسببت هذه الأيديولوجيات في تحول مسألة الانتماء من إطارها الطبيعي والفطري (الأسرة والقبيلة الرشيدة) إلى إطار مصطنع أيديولوجي هدد التوازن الاجتماعي وقيم التعايش السلمي. فالجماعات المؤدلجة- من قبيل تلك التي تلتزم بالأيديولوجية القومية أو الشيوعية أو أيديولوجية الإسلام السياسي (الذي تعدُّه الباحثة عن صواب «تجليًا حداثيًّا محضًا في أبشع صورة، وإن تغلف في مفاهيم مثل الخلافة، ولبس العمامة» ص 89)- تفرض فكرًا واحدًا منغلقًا أساسه التشبث العنيد بالحقيقة التي ترسمها أيديولوجيتها. وفي المقابل تمثل الوحدات الطبيعية -مجسدةً في القبيلة الرشيدة- إطارًا جامعًا يضمن التوازن في العلاقات ولا يقضي على التعددية الفكرية داخله، فضلًا عن كونه يضمن «الإذعان الداخلي لنسق أخلاقي موروث» لا يتعارض مع القوانين الوضعية للدولة؛ بل يعضدها محققًا التناغم بين مرجعيتَي العرف والقانون.

ونبهت الباحثة إلى أن الخطير في غلبة المرجعية الأيديولوجية هو تأسسها على أنقاض «الأسرة والدين والقبيلة والوطن» من حيث سعيها إلى بتر الذاكرة الجمعية وإلغاء الحاضر من أجل تكريس أطروحات جماعاتية ضيقة رافضة للتنوع. وعندما يصبح الإنسان رهينًا لها، يصبح أيضًا مرجعًا لذاته ولرغائبه، وينفلت من عقال التوجيه القيمي السامي الذي يوفره الحس الديني والحكمة المتوارثة داخل البنى الطبيعية للمجتمع (الأسرة والقبيلة الرشيدة). و«من لا يعرف تاريخه يشبه تمامًا الذي يفقد ذاكرته، فكيف لمن فقد ذاكرته أن يبني نسقه القيمي إذًا؟» (ص 218)، كما تقول الباحثة.

من هذا المنظور نادت بـ«وجود مرجعية فكرية أصيلة متينة، ذات بناء أخلاقي روحي مقنع، وتجليات ثقافية حضارية رصينة، كان يمكن أن يكون لها الدور المؤثر في كبح جماح نشوة التغلب للمادية العالمية الحديثة، على الأقل في بلادنا العربية» (ص 115). وأوضحت في إطار دراسة لسانية-اجتماعية، كيف يفرض المثقف المؤدلج لغةً تحدد دلالات الكلمات والمفاهيم التي تشكل وعي الإنسان الحديث، وكيف يجعلها سطحية وجامدة ومنافية «للمرجعيات التقليدية». وهذا ما يمثل «الكلمة الميتة» في تقديرها، في مقابل «الكلمة الحية» ذات الدلالات العميقة الراسخة في الذاكرة، وهي تلك التي تحيل على لغة الوحي ولغة الشعر «المستقاة من أنساق ثقافية عتيقة». وتنتهي الباحثة إلى أن الأنساق اللغوية تعكس رؤى كونية متنوعة، وإلى أن اللغة الأم تحتوي على «أنساق فكرية بديعة وعبقريات متوارثة»، والتفريط فيها -إما بإهمالها أو بالهجرة إلى لغة أخرى- هو تفريط في هذا العمق والثراء الدلاليين اللذين يختزلان تجربة ثقافية-اجتماعية فريدة.

مبحث القيم

وقد أَوْلَت الباحثة المسألة القيمية اهتمامًا خاصًّا رفع كتابتها إلى مصاف الفلسفات الأخلاقية المعاصرة التي افتتحت مفهومًا اجتماعيًّا جديدًا هو «المجتمع المابعد-علماني» الذي يتضافر فيه العقل والدين من أجل مصلحة الإنسان والخير العام، والذي ينظم الحوارُ العلاقاتِ بين مكوناته. فقد تحدثت كثيرًا عن المفاهيم الحديثة المحددة للإنسان ذي البعد الواحد، وهو البعد المادي-الجنسي، وبينت حدودها وأخطارها في مقابل المزايا العديدة التي توفرها «الثوابت الدينية الأخلاقية».

من هذه المفاهيم مفهوم الفرد السيكولوجي، وهو ذاك الذي يعطي زمام وجوده «للحلول العلاجية السيكولوجية» ويستبعد الحلول الدينية التي تسمو به من حضيض المادة و«البهيمية». وقد حللت مفهوم الفردية الغربي الذي يحيل على «فردية سياسية مصطنعة نمطية» ومخالفة للفردية «الطبيعية الثرية والحقيقية»، وبيّنت ما ينتج عنه من انفلات «الحرية» من كل الضوابط القيمية، ومن إضعافٍ لإمكان «اندماج الفرد في مجتمعه»، ومن إلغاءٍ للمجتمع أمام بروز الفرد و«تأليه الذات». وفي غياب ضوابط رشيدة للحرية قد يصل الأمر إلى التحرر من الطبيعة البشرية نفسها (مثال ذلك مسألة التحول الجنسي)، وإلى إلقاء الإنسان في الضياع وفي اللامعنى اللذين يوقعانه في دوامة الدمار والتدمير الذاتي. على هذا الأساس أبرزت دور القيم في تهذيب سلوك الفرد وخَلق تناغم بينه وبين محيطه الاجتماعي، وبخاصة إذا ما كان لهذه القيم عمق روحي وتاريخي يضمن التوازن المطلوب في الإنسان فردًا ومجتمعًا.

في خصوصية المكان والثقافة

تظل قضية العلاقة بين العرب والغرب، القضيةَ «المزمنةَ» التي شغلت -ولا تزال- الفكرَ العربي؛ لذلك عادت إليها في أكثر من سياق من كتابها، بحس جديد، ومن زاوية جديدة، زاوية «المتأملة» الثابتة القدمين في «خصوصية المكان» الذي تشدها إليه قوة الانتماء. فجاءت معالجتها توليفةً ذكيةً بين الاعتداد بالذات والانفتاح على الآخر انفتاحًا نقديًّا يرد صلفه ويفضح ادعاءاته من ناحية؛ ومن أخرى، يعترف له بما حقق من إنجازات ويقاسمه التفكير في إيجاد حلول تحقق خير «الإنسان» من منظور «بلاد العرب».

فقد بينت خطورة التجربة الليبرالية الديمقراطية الغربية التي تهيمن -عن طريق تقنيتها المعولَمة- على المجتمعات التقليدية التي يمكن أن يصل فيها الأمر إلى «سلب الفرد تاريخه وحريته ورشده، بل ومقدرته على التفكير» (ص 67). وحللت باقتدار التحولات الدلالية لمصطلحي «ثقافة» و«حضارة»، كاشفة عما يحجبه مفهوم «الحضارة» من خصوصيات السياق التاريخي الغربي الذي أنشأه والذي يجب أن ينسب استعماله في الحديث عن بقية الثقافات.

تقول الباحثة: «إن مغزى تناول هذين المصطلحين هو لأهميتهما في تشكيل نظرة أورُبا لنفسها ولغيرها» (ص 78). إنها نظرة حضارة مادية لا دينية تروم الهيمنة على «الآخر». وفي هذا الإطار قدمت كيفية الانتقال من عالمية الكنيسة إلى عالمية «الحضارة»، ومن التبشير الكنسي إلى التبشير بالحضارة (ص74)، مبينة أن ما سُمي «بوحدة المسار الحضاري الإنساني» يظل قرين الحضارة المادية الغالبة التي لا هدف لها إلا تحقيق «الفردوس الدنيوي». وكشفت عن النتيجة الحاصلة من وراء هذه العولمة، وهي كيف أن الحضارة تقتضي «تسطيحًا مبرحًا، بل وأحيانًا، إلغاءً لكل من حقيقة الجغرافيا واللغة والتاريخ والدين والذاكرة الجمعية لجميع هذه الثقافات المنضوية تحت تلك الحضارة التقنوعلمية»؛ لأنها تفرز مجتمعًا حديثًا لا دينيًّا يعاني «اللامعنى».

إلى جانب هذا البعد المُعولم في الحضارة، تناولت الباحثة بالدرس بُعدَها التقني، من حيث تأثيره في الثقافة السائدة خاصة. تقول: «لا توجد أي تقنية إلا ولها أثر على المسار الثقافي. بل يمكن القول: إن الوسيلة التقنية، في ذاتها وابتداعها وتقبلها في أي مجتمع، ما هي إلا نتاج لتحول فكري وأخلاقي» (ص56). ولما كانت مرجعية هذه الثقافة محدودة بأفق الإنسان، فإنها ثقافة محدودة ميتة، أي لا تعدو مرجعيتها أن تكون «من وحي أرضي، أفقي التمدد، كجثة هامدة.. وهذه تختلف عن مرجعية الثقافة الحية التي هي من وحي علوي رأسي».

نقد السرديات الغربية

غير أن هيمنة الحضارة الأوربية لم تكن تنهض بها التقنيةُ وتبعاتُها فحسب، بل كانت تنهض بها أيضًا سردياتٌ تُعلي من شأن مقوماتها الثقافية والدينية. هذا ما كشفت عنه الباحثة وهي تتصدى بالنقد لصناعة السرديات أو ما سمته بآليات «صياغة تاريخ فكري كامل» (95). فقد كشفت عن الخلل الذي يعتورها بأن عرضتها على المعطيات التاريخية والحقائق اللغوية، مؤكدةً أن «المقصد من هذا التناول لتاريخ الفكر الأوربي هو لعرض بعضٍ من التصورات التي بفضلها تشكل فهمنا لأنفسنا ومكانتنا في مصاف الأمم» (ص 104).

ومن المغالطات التي كشفت عنها، المغالطة المتعلقة بارتباط الإسلام بالعنف؛ إذ لم تَكتفِ بردّ هذا الاتهام الموجه إلى حضارة العرب، بل عكست الهجوم وأبرزت ما يسعى إلى السكوت عنه أصحابُ هذا الاتهام من «نقائص» في حضارتهم. تقول: «وما نسمعه اليوم من اتهام للحضارة الإسلامية بالعنف والقتل باسم الدين ما هو إلا نوع من الإسقاط التاريخي. فالكنائس الشرقية والمسلمون لم يوجدوا تنظيمات قضائية تشريعية مثل تلك التي أطلق عليها اسم محاكم التفتيش» (ص 88).

تقول: «ليس القصد هنا لومهم؛ لأن الغرض من هذا الطرح ليس في عرض خطاب مظلومية، ذلك الخطاب العاجز الذي يمثل الطرف النقيض لتحاور اللوجوس العاقل الخلاق. اللوم هو، في واقع الأمر، لوم أنفسنا، فكيف وصل الأمر إلى أن بات كثير من الشعوب التي، كان للعرب فضل كبير عليها، تأنف اليوم من ذكر ذلك، على أقل اعتبار، من باب الأمانة العلمية» (ص 105). ومن خلال بنية استدلالية متكاملة، تخلص الباحثة إلى ضرورة اعتراف الحضارة الأوربية بالدَّيْن الحضاري العربي، واعترافها بـ«الإرث العربي الإسلامي المنبث في عروقها» (ص ص 122- 123)، ليس لأن العرب هم وريث حضارة الإغريق والعالم الهيلينستي (ص133) فحسب، بل لأنهم أصحاب إنجازات علمية وحضارية تشهد بها وقائعُ التاريخ ووثائقُه.

ومن المغالطات أيضًا، تلك المتعلقة بإخراج العرب من المسار الحضاري للغرب عن طريق إنكار دورهم في نقل الثقافة الإغريقية، وإنكار الدور العلمي للعواصم الإسلامية التي مثلت منارات شمل نورها المجال الحضاري الغربي. فهذه المغالطة تتجاوز استتباعاتُها مسألةَ التأريخ ومدى صحته، إلى بث الشك في قدرة العرب اليوم على النهضة العلمية. وقدمت الباحثة في المقابل، أدلة عديدة على الحضور البارز للعرب وللثقافة العربية في منطلق الحضارة الغربية، رادة على دعاوى المتعصبين من الأوربيين وغيرهم، ومحملة في الوقت نفسه العربَ مسؤوليتهم على ما آل إليه أمرهم من الزج بهم في خانة السلبية.

من هذا النقد، وهذا الاعتداد بـ«الذات»، وهذا الاعتناء بالبعد الحضاري لـ«الآخر» الغربي، يتبلور إيمان الباحثة بقدرة المجتمع العربي على أن يحتل له مكانًا «تحت الشمس»؛ وذلك بالسير -بخطى ثابتة- في نهج لا يستنسخ بالضرورة اختيارات الحضارة المادية، بل يصوغ نموذجًا حضاريًّا مستلهمًا من «عبقرية المكان»، ويُثري من سائر النماذج ويُثريها في الوقت نفسه.
تقول: «حينما نحاول فهم ظاهرة الحضارة الغربية المادية الحديثة، غالبًا، لا نبحث في حقيقة جذورها الفكرية ومكوناتها العرقية. هذه التجربة الإنسانية، التي يمكن القول: إنها متميزة من كل ما سبقها. ولا يخطر ببالنا أنه قد يكون لنا -نحن العرب- منطق ومنطلق حضاري مواز ومختلف، وذلك على الرغم من التجاور الجغرافي والتداخل الحضاري والتقاطع الفكري. ومن الممكن لنا أن نثري، بل وأن نساهم في خلق توازن في مجال التجاذبات الفكرية
والحضارية» (ص 114).

إن ما قامت به الباحثة في هذا الكتاب من تثبيت الثقة في الذات وفي ماضيها، من شأنه أن يُعزز إرادةَ الخروج من الأزمة والنهوض نحو المستقبل. فالثقافة القوية بتراثها تمتلك من شروط الاستمرار والتجدد وتحقيق الإضافة ما يؤهلها لبناء حضارة بقدر ما تحافظ على الخصوصي المميز للأمة، وتتفاعل مع الإنساني المشترك أخذًا وعطاءً. غير أن هذه الثقة في الذات تظل في حاجة إلى أن تستند إلى وعي نقدي بالماضي يميز بين عوامل الدفع إلى الأمام وتحقيق أهداف الأمة ومقاصد الدين السامية، وبين عوامل الشد إلى الوراء التي لا يفعل بعثُها اليوم إلا أن يُعمق الأزمة في «بلاد العرب». وعلى الرغم من تصريحها بأن «مجرد طرح مفهوم مراجعة الماضي، بغرض الوصول إلى سردٍ مناسب، قد يبدو أمرًا مستحيلًا» (ص 149)، فإننا ننتظر منها أن تخوض في هذا المستحيل.

مفهوم «التعددية» وتجديد الخطاب الديني

مفهوم «التعددية» وتجديد الخطاب الديني

في ضرورة التجديد

تبدو المراجعة النقدية لإدارة التعدد والتنوع في مجتمعاتنا اليوم، وللدور الذي يمكن أن يؤديه خطاب ديني جديد، ضرورةً ملحّة تقتضيها الأزمات القِيَمية التي تجلّت في أشكال مختلفةٍ اختلافَ السياقات الحضارية: ففي السياق الغربي تسببت الأزمة التي خلفتها حداثة «البعد الواحد» unidimensionnelle في افتقاد الإنسان المعاصر «للمعنى»، وفي الزج به في صراع الثنائيات الإقصائية: «العقلي» بديلًا من «الديني»، و«النفعي» بديلًا من «الأخلاقي»، و«الاستقطاب» بديلًا من «التعدد» المشروع. لكن -بفضل المراجعة المستمرة التي يقوم بها الفكر الفلسفي «المابعد حداثي»- ظهر تصور جديد رفع الوصم عن «الديني» وراهن عليه في دعم قيم «الخير العام»، وأكد أن العقل العلماني بانفتاحه على الدين يكسب ثراءً ويتدارك ما ينقصه، وأن الدولة إن لم تستمع إلى كل الأصوات بما فيها صوت الدين، ربما تتسبب في حرمان المجتمع من مصادر ثمينة تضمن المعنى والهوية. هكذا اعترف الفكر «المابعد علماني» للخطاب الديني بدور قِيَميّ متميز، نقله من التهميش إلى احتلال مكان ذي بال في إثراء القيم الهادفة إلى إعادة الاعتبار للإنسان.

وفي السياق العربي، تحول الفشل في إدارة التعدد والتنوع إلى أزمة مزمنة، أوضحُ مظاهرها تواصلُ التنافر بين مكونات المجتمع العقدية والمذهبية والعرقية، وتواصلُ الصراع التقليدي بين خطاب ديني كلاسيكي ثابت على إرادة الهيمنة على كل المجالات معتقدًا أنه وحده القادر على تحقيق المصلحة العامة، وبين خطاب علماني كلاسيكي ثابت على إقصاء الدين من الشأن العام، غير آبه بقدرة الخطاب الديني على توجيه قسم مهم من المواطنين.

والطريف أن الفكر العربي السريع التأثر بالمستجدات الفكرية في الغرب، تناسى هذه المرة التوْليفة الخلاقة التي أوجدها الفكر «المابعد حداثي» للتكامل والتعاون بين «الديني» و«العلماني» من أجل «الخير العام». ولعل الأمر عائدٌ إلى ضعف المراجعات وغياب النقد الذاتي في كل من الخطابين. ونهتم في هذا المقال بالنظر في جانب من شروط تجديد الخطاب الديني وتأهيله لدور أخلاقي يتفرد به دون سائر الخطابات، وهو القدرة على التأثير في وعي «المواطن» المؤمن وترسيخ قيم التعددية في ضميره، من أجل تأهيله للعيش المشترك
والممارسة الديمقراطية.

والجدير بالملاحظة بدءًا أن عدم اهتمام الخطاب الديني المعاصر بتطوير مقارباته، تسبب في عدم تخليص «النص الديني» من التوظيف الأيديولوجي الرافض للتعدد والمشحون بدعوات التدافع والتناحر، وهو الأمر الذي ساعد على تأبيدِ التمييز التفاضلي بين الإنسان والإنسان في المجتمع العربي، وتواصلِ التشريع الأصولي لفكرة العنف والصدام الحتمي بين الأديان، وبين المذاهب، وبين الثقافات. صحيح أن الخطاب الديني الجديد الصادر من المؤسسات الدينية التابعة للدولة، حريص على الرد على أفكار الصدام بين مكونات المجتمع، لكن دائرة تأثيره ما زالت محدودة بحدود العلاقة المتوترة بين المواطن العربي والدولة، وبحدود الرصيد الهزيل من التمثل النقدي للتراث الديني. ونظرًا إلى أن الاعتراف بالتعدد، وما يقتضيه من ضرورة العدالة الاجتماعية والممارسة الديمقراطية، هما شرطا القضاء على أسباب التنافر الاجتماعي وخلق الاندماج اللازم لأية تنمية، فإنه من المهم أن نراهن على تجديد الخطاب الديني اليوم، وعلى إكسابه مقومات النجاح في المساهمة الجادة في الفعل التنموي.

في مفهوم «التعددية»

يمكن النظر في كيفية حضور مصطلح «التعددية» في المعاجم العربية المعاصرة، من الكشف عن عامل من عوامل الضعف الذي يعانيه هذا المفهوم في الثقافة المتداولة. ففي الوقت الذي تعتني فيه المعاجم في سائر اللغات العالمية بالتوسع في عرض مصطلح Pluralisme وتطوره الدلالي، يتواصل إهماله في المعاجم العربية العامة والمختصة. ويعكس هذا النقص المعجمي والمفاهيمي أزمةً في تعامل الفكر العربي مع جانب مهم من المفاهيم الكونية التي يختزلها مصطلح «التعددية».

وتفيد التعددية تصورًا يشرع لوجود مشترك وعادل للمختلفين في الآراء وفي العقائد وفي المذاهب وفي السلوك، وفي الأعراق، وغيرها… ولها أبعاد عدة: فلسفيًّا، ودينيًّا، واجتماعيًّا، وسياسيًّا. ويعكس كل بُعْد منها تنوع الذوات البشرية وتنوع نوازعها، والجامع بينها هو أنها ائتلاف بين «خصوصيات» كل منها في حاجة إلى الأخرى ليحصل الوعي بوجودها. من هنا تتحول التعددية إلى ضرورة وجودية، وإلى مصدر إثراء وإبداع دائمين: ترى حنا أرندت أن المجتمعات التعددية تفضل نكهة التنوع في جميع أشكاله، على أن يحكمها التماثل الباهت. والديمقراطية تعددية أو لا تكون. ولا يعني قبول التعددية تخلي القابل بها عن قناعاته والدفاع عنها والعمل على نشرها، بل يعني أن عليه أن يمتنع عن فرض قناعاته على غيره بأي وسيلة من وسائل الإكراه.

التعددية إذن، هي إطار للتفاعل الإيجابي بين الذوات المتعددة حتى تستطيع أن تتعايش وأن تبني مجتمعًا يكون فيه «الاختلاف» سببًا «لائتلاف» خلاق. ولِضعف هذا المفهوم في الثقافة العربية المعاصرة، وتواصل انعكاساته المتمثلة في التنافر بين «المختلفين» في المجتمعات العربية، كان لازمًا أن تتضافر كل الخطابات في بحث أسباب هذا الضعف، وفي ترسيخ ثقافة التعدد.

«التعددية» بين الخطاب الديني التقليدي والجديد

لا تكاد دلالات «التعدد» في الخطاب الديني التقليدي تتجاوز حدود «الفتنة» ومتعلقاتها. إنها كما جاء في المعاجم: «اختلاف الناس بالآراء، والكفر، والابتلاء، وما يقع بين الناس من القتال، والقتل والحروب والاختلاف الذي يكون بين فرق المسلمين إذا تحزبوا». وتوافقت مع هذه الدلالات المواقفُ التي عبر عنها الخطاب الفقهي القديم والمتمثلة في عدّ الاختلاف شكلًا من أشكال الانحراف عن الحقيقة ووجهًا من وجوه النقص غير القابلين للتدارك إلا بالقضاء على أسباب الاختلاف نفسها؛ وذلك إما عن طريق إجبار المختلف على التماهي مع «الذات»، أو عن طريق إقراره بالدونية وبالتبعية لها. ولذلك كان حرص هذا الخطاب على محاربة التعدد مبررًا، لِعدِّهِ وضعًا مُشكِلًا ومخالفًا للصورة المثالية التي يرسمها لمجتمع خاضع لسلطة «الواحد» في كل الأبعاد، وكانت حربه لكل المغايرين لاختياراته تحت اسم الدفاع عن «المعتقد الصحيح»، ومشروعية «العنف المقدس».

ولو نظرنا إلى الكم الهائل من النصوص التي تدافع عن هذا التصور وتستدل عليه بتأويلات دينية موجهة وانتقائية، وإلى ما تتمتع به من إعادة إنتاج مستمرة، لوقفنا على سبب مهم من أسباب التهميش الذي يعانيه مفهوم التعددية اليوم، وعلى سبب التعثر الذي يلاحَظ على تناول هذا المفهوم في الخطاب الديني الساعي إلى التجديد. وسنكتفي بالإشارة إلى نموذجين من هذه النصوص: واحد قديم، تصورُه للتعدد والاختلاف متوافق مع ثقافة عصره المحكومة بالصراع «المشروع»، والثاني معاصر وتقليدي، يوهم بالانفتاح على ثقافة العصر، لكنه لا يفعل إلا أن يعيد إنتاج التصور القديم.

يمثل النموذجَ الأول، الراغب الأصفهاني في كتابه «الذريعة إلى مكارم الشريعة»: فهو يرسم طبوغرافيا للاختلاف عمادها «العقيدة» و«المذهب» و«الجماعة» بين حقيقةٍ مطلقة، وانحرافٍ خطير عنها. ويرى أن هناك اختلافًا مشروعًا وآخر غير مشروع، توضحهما أربعُ مراتب: المرتبة الأولى هي الاختلاف بين «الأديان النبوية» والمعتقدات الإلحادية حسب رأيه. وهذا يراه اختلافَ متنافيين لا وجه للجمع بينهما. المرتبة الثانية هي الاختلاف بين أهل الأديان النبوية، حسب عبارته. وهذا الاختلاف أقل حدة عنده. المرتبة الثالثة هي الاختلاف داخل الدين الواحد في الأصول: «كالاختلاف في الكثير من صفات الله تعالى وفي القدر وكاختلاف المجسمة». وهذا -كما يقول- «جارٍ مَجْرى آخذيْن وجهة واحدة ولكن أحدهما سالك للمنهج والآخر تارك للمنهج، وهذا التارك للمنهج ربما يبلغ وإن كان يطول عليه الطريق». المرتبة الرابعة هي الاختلاف في «فروع المسائل كاختلاف الشافعية والحنفية»، وهذا «جارٍ مَجْرى جماعة سلكوا منهجًا واحدًا لكن أخذ كل واحد شعبة غير شعبة الآخر»، وهذا اختلاف محمود في نظره.

تعكس هذه المراتب الأربع للاختلاف، عقليةً مسكونة بمركزية ثيولوجية تصنف «الآخر» وفق حظوظه في الاقتراب من عقيدة «الأنا». لذلك وفق هذا المنطق -يُعَدّ الاعتراف بالتعدد والتنوع، وبتعايش متساوي الحظوظ بين الجميع، من قبيل «المستحيل التفكير فيه»؛ وتكون علاقة «الحرب» هي المتحكمة في الجميع وفق عبارة ابن قيم الجوزية «اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية»، وهي المقسمة للوجود الاجتماعي إلى مواقع متقابلة إن لم تكن متقاتلة فعليًّا، فهي في حكم «المتقاتلة»؛ لأنه لا مجال للتعدد والاختلاف، بل كل المجال «للواحد الصحيح» الذي يوجب على «حامل الحق» أن يلغي أو أن يخضع الجميع من أجله.

ولئن ظل الإلغاء مطلبًا صعب التحقق؛ لأن الواقع الاجتماعي والعقدي متعدد بطبيعته ولا يمكن اختزاله في أحادية موهومة، فإن خطورته تكمن فيما يحدثه خطاب من هذا القبيل، اليوم، من تأثير في نفوس المؤمنين حاملًا إياهم على رفض التعدد والاحتراز من الذي لا يشاكلهم. فهو خطاب كان متناسبًا مع عصره ومع أفق التفكير السائد فيه، لكن استحضاره اليوم أو إعادة إنتاج أفكاره، ستؤدي إلى إحداث نشاز كبير، المسؤول عنه ليس الخطاب الأصلي، بل الخطاب المقلد له المكتفي بالسير على خطاه على الرغم من اختلاف الرهانات من عصر إلى آخر.

محمد عمارة

النموذج الثاني يمثله محمد عمارة في كتابه «التعددية: الرؤية الإسلامية والتحديات الغربية». يشرع عمارة في هذا الكتاب الصغير للتعدد إسلاميًّا، معتمدا مقاربةً «تراثية» تمجيدية تخاطب الوجدان أكثر مما تخاطب العقل والضمير. واكتفى فيها بالعموميات دون أن يغوص في المعالجة النقدية لكيفية حضور التعددية في إسلام «النص»، وإسلام «التاريخ»؛ ولكيفية حضوره في غرب «الاستعمار»، وغرب فلسفات التحرير و«الحقوق الكونية». فانتهى إلى الحكم للمسلمين فيما عدّه ميزة لهم، وهو قبولهم بالتعددية؛ وإلى الحكم على الغرب عامة متهمًا إياه برفض التعدد وبالتجني على غيره. وتصل به المقاربة الوجدانية، إلى عدّ اليهود والمسيحيين العرب «عملاء» للغرب، و«ثغرات بدأت منها جهود الغزو الفكري والتبعية الحضارية والتغريب». فهو يتهمهم جميعًا بالخيانة الحضارية بسبب الاختلاف في الدين، متناسيًا أن قانون التأثر والتأثير يتجاوز العقيدة إلى السياسة والاقتصاد والثقافة عامة.

إن هذا الكتاب المخصص لموضوع التعددية، لا يعدو أن يكون إعادة إنتاج للتصور القديم للتعدد القائم على مركزية «الذات» في علاقتها بغيرها. ولئن كانت المقاربة الوجدانية المنحازة، مبررة بالنسبة إلى «مسلم» العصور الوسطى، بمحدودية المشترك الإنساني وغلبة الصراع بين العقائد، وبين المذاهب، وبين الأعراق، فإنها لم تعد كذلك بالنسبة إلى واقع المسلم المعاصر المحكوم بإجماع كوني على منظومة القيم الإنسانية، وبالتنافس في توفير شروط العيش المشترك.

شرط الوجود البشري

من هنا غدا تأسيس خطاب ديني جديد يطور سُبُلَ إقرارِ التعدد والاعترافِ به شرطًا للوجود البشري وتجليًا لحكمة إلهية، رهانًا دينيًّا تنويريًّا، ورهانًا تنمويًّا للمجتمع في مختلف أبعاده. ومن مقومات هذا الخطاب، التمثل النقدي لموضوع التعدد في التراث الفقهي، والتفاعل إيجابيًّا مع روح العصر وثقافته. وهي مقومات يساعد على توافرها تجديدُ المقاربات المنهجية المعتمدة: فقد غدت الاستفادة من المكاسب التي حققتها علوم الإنسان والمجتمع ضرورة يمليها الانتماء إلى العصر. فالمناهج والمفاهيم التي توفرها اللسانيات الحديثة، والأنثروبولوجيا، وتحليل الخطاب، وعلم الأديان المقارن، وغيرها.. من شأنها أن توفر أدوات تحليل قادرة على الكشف عن تاريخية الأحكام والمواقف التي تنهض بها خطابات فقهية صيغت في ظروف تاريخية محددة، تختلف بالضرورة عن ظروف عصرنا. وذلك عن طريق تفكيك الأبنية الخاصة بهذه الخطابات، وتأويل وظائفها، والوقوف على دوافع كتابتها، بشكل يسمح بتنسيب «حقائقها». إنها استجابةٌ لمشكلات ومشاغل متناسبة مع واقعٍ مضى، ولا معنى لمواصلة الاحتكام لها في حاضر المجتمع وفي مستقبله؛ بل كل المعنى لخطابٍ ديني جديد يساهم في نسق تطور المجتمع، ويضمن الإضافة الحافظة لكيانه، والضامنة لقدرته على إثراء المشترك الإنساني.

إن الخطاب الديني الجديد في انطلاقه من مبادئ: التعدد حكمةٌ إلهية غايتها التعارف والتعاون بين البشر، والتعدد حكمةٌ اجتماعية سبيلها التكامل الضروري لاستقامة الاجتماع البشري، والتعدد حكمةٌ فلسفية قائمة على أن «الخاص» لا تُفهم خصوصيته إلا بمغايرته للمتعدد من حوله، يمكن له أن يبدع تصورًا للعيش المشترك ينهل من «الإسلامي» الخالد، مثلما ينهل من «الإنساني» المعاصر. وعندما ينخرط هذا الخطاب في المنظومة المعرفية التي صاغتها علوم «الإنسان والمجتمع» اليوم، سيتميز بشكل واضح عن الخطاب الديني التقليدي المنخرط في منظومة معرفية ماضية أصبحت ناشزة عن قيم العصر. حينئذ، يمكن أن نتحدث عن دوره الناجع في ترسيخ قيم التعددية في ضمائر المؤمنين وعقولهم، وفي التأسيس للثقة في جزء مهم من مكونات الهوية الحضارية، وهو الدين، وفي تعزيز إرادة النهوض نحو المستقبل.


هوامش:

(١) Jürgen Habermas, Qu’est – ce qu’une société «post-séculière»?, Gallimard/ Le Débat, 2008/5- n° 152 & L’Avenir de la nature humaine, Paris, Gallimard, 2002

(٢) انظر المعجم الوسيط، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، 2004م؛ المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، القاهرة، مكتبة مدبولي، 2000م؛ معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، تونس، دار الجنوب، 2004م.

(٣) Qu’est- ce que la politique?, Seuil , 1995

(٤) Bernard Guillemain, Tolérance, Encyclopædia Universalis

(٥) ابن منظور، لسان العرب.

(٦) دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، 2007م.

(٧) نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 1997م.

إسهام المفكرة – الباحثة العربية في الفكر العربي المعاصر

إسهام المفكرة – الباحثة العربية في الفكر العربي المعاصر

«إسهام الباحثة-المفكرة العربية في الفكر العربي المعاصر»، ليس مجرّد عنوان لهذا البحث وتوضيحًا لإشكاليّته، بل هو شهادة على دخول الفكر العربي المعاصر منذ مطلع هذه الألفيّة في مرحلة جديدة تختلف عن المراحل السابقة التي كان فيها الشأن الفكريّ شأنًا رجاليًّا بامتياز، والتي كانت فيها مساهمة المرأة في الإنتاج المعرفي لا تكاد تتعدّى الإبداع الأدبي شعرًا ونثرًا. فأن يكون الإنتاج الفكري للمرأة موضوعًا للبحث، معناه أنّه تنامى كمّيًّا -ونوعيًّا أيضًا- بشكل أصبح فيه موضوعًا للدرس والتقييم. وما يمكن أن نقوله في شأنه بدءًا هو أنّه سمح بتجاوز الاختزال التقليديّ لإبداع المرأة في الأدب والنقد -حيث تظهر شاعرةً أو روائيّةً أو ناقدةً- ليُبِين عن «إبداعها» في المجال الفكريّ.

زهية بن جويرو

في هذا المجال تظهر الباحثة ذاتًا مفكّرةً تضطلع بدور المثقّف الذي يتبنّى قضايا مجتمعه ويساهم في تحليلها وإعادة النظر فيها بتفكيك المسلّمات المتكلّسة وصياغة تصوّرات جديدة تتفاعل مع المكتسبات القيميّة المعاصرة ولا تقطع مع الخالد من القيم الماضية. وعلى الرغم مما نلمسه من تصاعد الإنتاج الفكري «للمثقّفة» العربيّة وتنوّعه، فإنّنا لا نجد دراسات مخصّصة له تقييمًا وإثراءً، على غرار ما حظي به إنتاجها الأدبي(١). فالمكتبة العربيّة اليوم تزخر بالدراسات التي تناولت إسهام المرأة المبدعة في القصّة والشعر والرواية والسيرة الذاتيّة وغيرها، التي تناولت أيضًا إسهامها في النقد الأدبي. ونحن نشيد بهذه الدراسات؛ لأنّ الفضاء الإبداعي عمومًا يكتسي، علاوة على أهمّيّته الروحيّة الجماليّة، أهمّيّة قِيَميّة اجتماعيّة بوصفه الحاضنة التي تتشكّل فيها القيم الجديدة- قيم التغيير نحو الأفضل. لكنّنا نلفت الانتباه إلى أهمّيّة التعامل النقدي مع كتابات المرأة الفكريّة، تحليلًا وتقييمًا؛ لأنّنا نفترض خصوصيّةً معيّنةً لما تنتجه هذه الذات المفكّرة التي تتحمّل أكثر من غيرها تبعات الفشل العربي في التحديث والنهضة(٢).

أن تكون المرأة إذن مفكّرة تتفاعل مع قضايا مجتمعها تحليلًا وتفكيكًا وبلورةَ بديل، فاعلٌ جديد نقدّر أنّه مؤهّل لأدوار نقديّة تكشف عن طبيعة الأفكار والمسلّمات التي تعمل على تأبيد علاقات اللاتكافؤ بين مكوّنات المجتمع، والتي تحول دون إحداث تغييرات جدّيّة في اتّجاه التوافق مع منظومة القيم المعاصرة. وكان متوقّعًا أن ينتصر هذا الفاعلُ الجديد لتغيير الوضع السائد وينادي بإطلاق قوى التغيير والتحرير الكامنة في المجتمع. وجاءت مساهمة المرأة –وفق تقديرنا- إثراءً للفكر العربي، ودعمًا للبعد النقديّ فيه، بفضل ما تحتوي عليه من وجهات نظر ومواقف جريئة أحيانًا، وباعثة على انطلاق حوارات تُنضج الاختيارات الكبرى التي يمكن أن يسير فيها المجتمع العربي.

وبحثنا هذا ملتزم بحدود معلومة، لا يدّعي الشموليّةَ ولا يعِد بها، وسنركّز من خلاله في نموذج يمكن أن يكون منطلقًا للدراسة والمقارنة ببقيّة النماذج العربيّة لاحقًا، وهو النموذج التونسيّ. وما دعانا إلى هذا التركيز أنّ الكتابات التي سندرسها، متقاربةٌ في المنهج وفي الرؤية النقديّة إلى درجة حوّلتها إلى ظاهرة فكريّة، وأنّ صاحباتها مجموعة من الباحثات أخذن بناصية المعرفة الحديثة ووعيْن الإشكاليّات الفكريّة التي تطرحها الأصوليّة الدينيّة والأيديولوجيّات السياسيّة الكلاسيكيّة. هنّ جامعيّات ينتمين إلى ذات الاختصاص وهو «الحضارة العربية الإسلامية»(٣)، الاختصاص الأكاديميّ الذي يهتمّ بدراسة القضايا الفكريّة والسياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة المميّزة للمجتمع العربي الإسلامي ماضيًا وحاضرًا، والذي يعتمد مقاربات تضع المنتج الثقافي العربي الإسلامي في سياقاته المعرفيّة والتاريخيّة، وتحلّل آليّات تفاعله معها، والوظائف التي قام بها. وعلى هذا الأساس طوّر هذا الاختصاص مناهج قراءة النصوص وتأويلها بالاستفادة ممّا أقرته علوم الإنسان والمجتمع. وجمع بين النقد البنيويّ الذي يعتني بالمقوّمات اللغويّة للنصّ وفق كيفيّة تشكيلها، والنقد التاريخيّ الذي يشرح الظروف المحيطة بإنتاج النصّ وتأثيرها في مضمونه الفكريّ. ومن شأن هذه المناهج أن تحرّر فعل القراءة والتأويل من الأحكام الماقبليّة والإكراهات الأيديولوجيّة التي تحكّمت –ولا تزال- في جانب مهمّ من الفكر العربي المعاصر، وعمّقت عجزه عن صياغة البدائل الناجعة والجامعة.

نقد المواقف التي أصبحت عقبة في طريق التقدم

جيهان عامر

أمّا القضايا التي استأثرت بالاهتمام في إنتاج المرأة الفكريّ، فهي قضايا تهمّ حاضر المجتمع العربي الإسلامي مثلما تهمّ ماضيه، إيمانًا بأنّ بناءَ مستقبل أفضل مشروطٌ بتكريس وعي تاريخيّ لا يقطع مع الماضي، ولكن، لا يرتهن به. والقاسم المشترك بين مختلف الكتابات الممثلة لهذا الإنتاج، هو نقد المواقف والرؤى التي أصبحت عقبةً في طريق التقدّم الضروريّ للمجتمع، وفي طريق إبداعه لحداثة عربيّة متفاعلة مع الحداثة الكونيّة أخْذًا وعطاءً. وسنقف أساسًا في هذه الدراسة -نظرًا إلى التزامها بالحدود التي ذكرنا- عند القضيّة الأمّ التي التقت حولها هذه الكتابات، وهي قضيّة الاختلاف والتعدّد وكيفيّة إدارتهما. والجدير بالذكر أنّ هذه القضيّة تحتلّ مركز الصدارة في الفكر العالمي اليوم؛ لأنّها الأساس الذي يوفّر شروط الانتظام الناجع والعادل بين البشر داخل مجتمعاتهم وفيما بينها. ومساهمة المفكّرة- الباحثة العربيّة في معالجتها من شأنها أن تدعم قدرة الفكر العربي على إحداث التغيير المنشود في المجتمع. وجاءت هذه المساهمة نقديّةً رصينةً، تسائل البداهات، وتُشْرِع الأبواب على آفاق جديدة قد تساعد في إخراج الفكر العربي من الانسداد التاريخي الذي تردّى فيه.

ويلفت انتباهَ قارئ هذه الكتابات اعتناءُ الباحثات بمراجعة ما تكرّسه الدراسات التقليديّة من إعادة إنتاج للتصوّرات والمواقف المنتصرة تاريخيًّا، التي نجحت في التحوّل إلى مسلّمات لا تزال إلى اليوم تتحكّم في الوعي العربي. وتجلّت المراجعة في الكشف عمّا قامت به هذه الدراسات من حجب مزدوج للحقائق الفكريّة والتاريخيّة التي يساعد استحضارها على تجاوز مقولات التعصّب وإقصاء الآخر المختلف دينيًّا ومذهبيًّا وسياسيًّا وجندريًّا: «حجب أوّل مجاله المواضيع التي استُهلكت دراسةً وتفريعًا فتكلّست فيها المنطلقات والنتائج، بينما من الممكن تغيير المنطلق لاكتشاف أوجه جديدة وطريفة فيها، وحجبٌ ثانٍ مجاله مواضيع ظلّت أبوابها موصدة، إمّا بحكم العجز المعرفيّ عن فتحها، أو بحكم المنع السلطوي من فتحها»(٤). وجاءت مختلف الكتابات مقرّةً بالحقّ في الاختلاف عقديًّا وفكريًّا وسياسيًّا، موضّحةً الشروط اللازمة لممارسة هذا الحقّ. وكان لها دور كبير في تفكيك المواقف التي وظّفت النصوص الدينيّة، لتفرض أحاديّة في الفهم والتصوّر، ولتحارب التعدّد الذي تراه سببًا للفساد و«للفتنة». فتقضي بذلك على شروط الاعتراف المتبادل بين المختلفين، التي لا غنى عنها في إنجاح العيش المشترك. وقد تناولت الكتابات مستويات عديدة من الاختلاف: الاختلاف الفكري، والاختلاف السياسيّ، والاختلاف الجندري، والاختلاف التشريعيّ.

اعتنى قسم من هذه الكتابات بدراسة الاختلاف الفكريّ الذي وسم الثقافة العربيّة الإسلاميّة في المرحلة التأسيسيّة، والذي يعطي صورة عن طرافة الاختيارات التي أبدعها الفكر العربي الإسلامي في مرحلة التأسيس. وكشف من خلال التنبيه إلى المهمّش من المواقف في مواضيع حظيت بالاهتمام ماضيًا وحاضرًا، عن أنّ ما يُحجب من الأفكار ويصادَر لأسباب سلطويّة، قد يكون من الناحية المعرفيّة أهمّ وأنجع لخير الإنسان والمجتمع. من ذلك أنّ ما ساد من فكر خرافيّ لا عقلانيّ في تمثّل تاريخ الإسلام، حجب فكرًا آخر قريبًا من الواقعيّة والمعقوليّة(٥). ومن ذلك أيضًا أنّ ما ساد من فهم تشريعيّ حرفيّ للنصّ القرآني، غطّى على فهم آخر مغاير، قوامه التمثّل المقاصدي الذي يأخذ في الحسبان التطوّر التاريخي للمجتمع(٦). وتُعَدّ المشاركة البارزة للباحثات في مشروع العمل الجماعي المخصّص لتجليّات فهم الإسلام تاريخيًّا -وهو «الإسلام واحدًا ومتعدّدًا»- مظهرًا من مظاهر اهتمامهنّ بقضايا التعدّد الفكري، وبخاصّة ضرورة تجاوز الوعي المذهبي والطائفيّ الضيّق(٧). وعمومًا، أبرز هذا الضرب من الكتابات أنّ وراء الرأي «الرسميّ» المنتصر، آراءً أخرى لا تقلّ عنه أهمّيّة معرفيّة. وأثبت أنّ الاختلاف في المواقف والرؤى كان دائمًا ضامنًا للحيويّة ومصدرًا للإضافة ولإبداع الجديد، في حين كان التشابه -الناتج عن فرض الاختيار الواحد واللون الواحد- مصدرًا لتآلف باهت ومميت، وهو التآلف الذي غلب على مراحل مهمّة من تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة وأفقدها أسباب حيويّتها وتقدّمها(٨). ولا تزال مخلّفاته اليوم تعطّل التغيير والتحديث.

نفض الغبار عن المهمش

رجاء بن سلامة

وعلاوة على الاختلاف الفكري، حظيت مسألة الاختلاف في السياسات العربية الإسلاميّة باهتمام كتابات أخرى. وكان الهدف مراجعةَ بعض المسلّمات التي تحكم بأنّ المجتمع العربي الإسلامي لم يعرف إلّا الحكم الاستبدادي الموظّف لسلطة الدين. وأثبتت من خلال تفكيك السائد من النصوص، ونفض الغبار عن المهمّش منها، أنّ هذا المجتمع عرف أيضًا تجارب سياسيّة أقرب ما تكون إلى الحكم المدني الذي يتّبع سياسة تعدّديّة متسامحة، حَرِيّة بالاعتبار اليوم(٩). ولا يرمي هذا الإثبات إلى إسقاط معايير سياسيّة معاصرة على الماضي، بل هو يرمي أوّلًا إلى الكشف عن حقيقة التعدّد في الاختيارات السياسيّة الماضية، ويرمي ثانيًا إلى إعادة الثقة في الذات العربيّة، من خلال الكشف عن مؤشّرات استعدادها للتفاعل إيجابيًّا مع مكتسبات الحداثة السياسيّة.

أمّا مسألة الاختلاف الجندري فقد مثّلت صورة من اعتناء هؤلاء الباحثات بمواضيع ما زالت تشقّ طريقها بصعوبة -ولكن بخطى ثابتة- في الثقافة العربيّة المعاصرة. والاختلاف الجندري ليس مسألة جزئيّة تتعلّق بحقوق المرأة وبعلاقتها بالرجل، بل هي باب مُشرَع على دراسة مختلف القضايا النظريّة والعمليّة التي تتعلّق بالتنظيم الاجتماعي. إنّها منطلق «للبحث في طريقة تشكّل السلطة: سلطة المعرفة، وسلطة الثقافة، وسلطة الجماعة، وسلطة النظام»، ومنطلق أيضًا «لتحليل الأنساق والبنى للوقوف على طرق التبادل والتفاعل بين الأفراد»(١٠). ولئن كان مدار البحث فيها الكشف عن مظاهر التمييز التفاضلي بين المرأة والرجل في المجتمع العربي الإسلامي: طقوسًا، وهيئة، وسلوكًا ومنظومة قيميّة، فإنّ الدراسات تجاوزت ذلك إلى البحث في الأسباب الطبيعيّة والدينيّة التي يعتمدها الفكر السلطويّ لتبرير ذلك التمييز وتلك الفوارق: «إنّ مفهوم الاختلاف يحيل إلى حركة توليد الفوارق وإنتاج الامتيازات. وأرجع العلماء […] هذا الاختلاف إلى البدء وبحثوا له عن أصل وجعلوا له علّة إلهيّة وحكمة. وأوجد آخرون للاختلاف أصلًا في الفطرة والطبيعة فكان في نظرهم، بمنزلة الإرث البيولوجي المتوارث جيلًا بعد جيل»(١١). وكانت الغاية التي ترمي إليها هذه الدراسات هي تشريع التعدّد والتنوّع في مختلف مستوياته: «إنّ الجنس (أنثى/ ذكر) لا يبرّر التفوّق الاجتماعي ولا التهميش ولا الهيمنة. فاختلاف موقع كلّ من المرأة والرجل أو العرق أو اللون أو الدين أو الطبقة، لا يشرّع لقيام نظام تراتبي تمييزيّ»(١٢). وكان هذا التشريع مشروطًا بتفكيك أسس الهيمنة التي تصدر عنها آليّات التفكير السائدة، فنحن: «لا نعرف الآخر إلّا من خلال الصورة التي نسجناها له وركّبناها له في أذهاننا حتّى بات غير ما هو عليه في الواقع وبذلك خلقنا مسافة بيننا وبينه. فكيف يمكن للرجل أن يعترف بغيريّة المرأة، وكيف يمكن للمسلم أن يقرّ بغيريّة غير المسلم، والأمر بالمثل بالنسبة إلى علاقة المختلفين بعضهم ببعض؟»(١٣).

دراسة القضية التشريعية في بعدها الاجتماعي

ألفة يوسف

وإذا ما نظرنا إلى التوزيع العددي لكتابات هؤلاء الباحثات من حيث المواضيع، سنجد أنّ أكثرها مخصّص لدراسة القضيّة التشريعيّة في بعدها الاجتماعي. فقد درست هذه الكتابات الاختلاف بين المنظومات الفقهيّة القديمة، باحثة في مرجعيّاتها وفي وظائفها. ودرست كذلك علاقة الآراء الفقهيّة السائدة بشروط تحديث المجتمع العربي اليوم. وبيّنت كيف أنّ هذه الآراء التي نشأت في الماضي استجابةً لظروف تاريخيّة معيّنة، انقطعت علاقتها بهذه الظروف، وأصبحت تكتسي نوعًا من التعميم والإطلاق جعلها تلتبس بالنصوص الدينيّة التأسيسيّة وتتمتّع بسلطتها وباستمراريّتها. فكانت المناداة بضرورة التجديد وتحديث التشريع في المجتمع. وظهرت في هذا الصدد عناوين عديدة، نذكر من بينها تمثيلًا وليس حصرًا: «الوأد الجديد»(١٤)، و«مؤسّسة الإفتاء بين سياج المذهب وإكراهات التّاريخ»(١٥)، و«القصاص في النّصوص المقدسة: قراءة تاريخية»(١٦)، و«تاريخيّة التفسير القرآني: قضايا الأسرة واختلاف التفاسير: النكاح والطلاق والرضاعة والمواريث»(١٧)، و«نقد الثوابت: آراء في العنف والتمييز والمصادرة»(١٨)، و«حريّة المعتقد في الإسلام»(١٩)،و«حيرة مسلمة»(٢٠)، وغيرها.. وما فتئ عدد هذه الكتب يتزايد مساهِمًا في تطوير الجدل الدائر حول تحديث التشريع الاجتماعي في المجتمع العربي.

إنّ الكتابات الفكريّة النسائيّة -ما ذكرتُ منها وما لم أذكر- اختارت أن ترتاد طريقًا وعرة، تحفّ بها ردود الأفعال المتشنّجة الصادرة من عقول رافضة للحوار وللتجديد. ولئن كان بإمكانكَ ومن حقّكَ أن تختلف معها في أطروحاتها ومقترحاتها، فإنّك لا تستطيع فكاكًا من أصداء أسئلتها التي تظلّ تتردّد في وعيك. ولا تستطيع أيضًا أن تخالفها في هدفها السامي، وهو دراسة الشروط الكفيلة بتعميق الثقة في الذات، وبالتفاعل إيجابيًّا مع القيم الإنسانيّة الكونيّة: قيم الحريّة، والمسؤولية الفرديّة، والحقّ في الاختلاف، والمساواة، والعدالة، والديمقراطيّة.. لقد آمنت صاحبات هذه الكتابات بأنّ الطريق إلى نشر هذه القيم وإدخالها في ضمائر العرب والمسلمين، هي حثّهم على الانخراط في تفكير حرّ ومسؤول، يخلّصهم من الوصاية الفكريّة على عقولهم.


هوامش:

(١) قائمة هذه الدراسات غير محدودة، نكتفي بالإحالة على نماذج منها: محمود طرشونة، «الرواية النسائية في تونس»، تونس، مركز النشر الجامعي، 2003م؛ بوشوشة بن جمعة، «الرواية النسائية المغارية»، المغارية للطباعة والنشر والإشهار، تونس، 2003م؛ نزيه أبونضال، «تمرّد الأنثى في رواية المرأة العربيّة وبيليوغرافيّة الرواية النسويّة العربيّة (1885- 2004م)»، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، 2004م؛ حسين المناصرة، «النسويّة في الثقافة والإبداع»، الأردن، عالم الكتب الحديث، 2007م؛ محمد معتصم، «بناء الحكاية والشخصيّة في الخطاب الروائيّ النسائيّ العربي»، الرباط، منشورات دار الأمان، 2007م؛ نعيمة هدى المدغري، «النقد النسوي: حوار المساواة في الفكر والأدب»، منشورات فكر دراسات وأبحاث، الرباط، المغرب، 2009م؛ فاطمة حسين العفيف، «الشعر النسوي المعاصر: نازك الملائكة، وسعاد الصباح ونبيلة الخطيب»، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، 2011م.

(٢) لا تزال المرأة العربيّة تعيش وضع الضيم في بيئتها الاجتماعيّة والثقافيّة المحكومة بعلاقات الهيمنة التقليديّة. فقد ظلّت خارج دائرة الأطراف المهيمنة التي يعرّفها «بورديو» بكونها مجموع الفواعل الذين يشغلون عمليًّا مواقع التحكّم في كلّ مجال، من حيث كيفيّة عمله ومن حيث نظام الوسائل المعتمدة في إعادة إنتاجه. انظر:

Bourdieu Pierre, « Champ du pouvoir et division du travail de domination. in, Actes de la recherche en sciences sociales, 2011/5 (n° 190), p. 126-139.

(٣) يجدر بالذكر أنّ الجامعة التونسيّة التي أولت هذا الاختصاص ما يستحقّ من الأهمية في إطار اللغة والآداب العربيّة، كان لها فضل في بلورة هذا الاتّجاه، وكان للأستاذ عبد المجيد الشرفي –خاصّة- دور واضح في تأطير باحثين وباحثات أثروا المكتبة العربيّة بإصداراتهم.

(٤) ناجية الوريمي، «في الائتلاف والاختلاف: ثنائيّة السائد والمهمّش في الفكر الإسلامي القديم»، بيروت- دمشق، دار المدى، 2004م، ص ص 11- 12.

(٥) المرجع نفسه، ص ص 25- 108.

(٦) المرجع نفسه، ص ص 109- 214.

(٧) أشرف على المشروع الدكتور عبدالمجيد الشرفي، وساهم فيه باحثون وباحثات من تونس، وصدر عن دار الطليعة ببيروت. وفيما يلي أسماء الباحثات وعناوين كتبهنّ: آمال قرامي، «الإسلام الآسيوي» (2006م)؛ ناجية الوريمي، «الإسلام الخارجي» (2006م)؛ زهية جويرو، «الإسلام الشعبي» (2007م)؛ بلقيس الرزيقي، «الإسلام في المدينة» (2007م)؛ سهام الدبابي، «إسلام الساسة» (2008م)؛ جيهان عامر، «إسلام المصلحين» (2008م).

(٨) يمكن العودة إلى كتاب «حفريّات في الخطاب الخلدوني: الأصول السلفيّة ووهم الحداثة العربيّة»، لناجية الوريمي، المركز الثقافي العربي، 2015م.

(٩) ناجية الوريمي، «الاختلاف وسياسة التسامح»، المركز الثقافي العربي، مؤمنون بلا حدود، 2015م.

(١٠) آمال قرامي، «الاختلاف في الثقافة العربيّة الإسلاميّة: دراسة جندريّة»، بيروت، دار المدار الإسلامي، 2007م، ص 10.

(١١) المرجع نفسه، ص 935. ويمكن العودة أيضًا إلى: ناجية الوريمي، «زعامة المرأة في الإسلام المبكّر بين الخطاب العالم والخطاب الشعبي»، تونس، دار الجنوب، 2016م.

(١٢) آمال قرامي، «الاختلاف في الثقافة العربيّة الإسلاميّة»، ص 937.

(١٣) المرجع نفسه، ص ص 935- 936.

(١٤) زهيّة جويرو، «الوأد الجديد: مقالات في الفتوى وفقه النساء»، دار مسكلياني للنشر، 2014م

(١٥) زهية جويرو، «الإفتاء بين سياج المذهب وإكراهات التاريخ، دراسة في فتاوى ابن رشد الجد»، بيروت، دار الطليعة، 2014م

(١٦) زهية جويرو، «القصاص في النصوص المقدسة»، قراءة تاريخية، دار المعرفة للنشر، 2007م.

(١٧) نائلة السليني الراضوي، المركز الثقافي العربي، 2002م.

(١٨) رجاء بن سلامة، بيروت، دار الطليعة، 2005م.

(١٩) آمال قرامي، الدار البيضاء، دار الفنك، 1997م.

(٢٠) ألفة يوسف، سحر للنّشر، تونس 2008م.