أعمارُنا ومَعنانا عن أمجد ناصر

أعمارُنا ومَعنانا عن أمجد ناصر

بِمَ نقيسُ أعمارنا؟

وأيُّ ميزانٍ دقيق يصلحُ لأن نعرفَ، من إحدى كفتيهِ، جدوى وجودنا؟

ومَن الأمثلُ في إصدار الأحكام على معنانا؟

هي ثلاثةُ تساؤلاتٍ تحيطُ بكلِّ كائنٍ كالخلايا، كالنسيج، بصرف النظر إنْ هو على وعيٍ بها أم غافلٌ عنها، ومن خلالها يمكن أن نكثفَ كينونته الفردية. وحسبي أنَّ أمجد ناصر، أو يحيى النميري النعيمي، قد أدركَ هذه الخلايا، وحاكَ خيوطَ هذا النسيج، وعبرَ تلك التساؤلات، وكُلُّهُ وعيٌ بضرورة أن يُقاسَ عُمره بكم ما أنجزَ- وهذا ما قامَ به، وكان زاخرًا على نحوٍ متدفق، ونَوعيًّا بكلّ المعاني. غيرَ أنَّ «الكم والنوع» وحدهَما، في حالته، لا يكفيان؛ لأنَّ سؤال جدوى هذا الإنجاز الشعري/ الإبداعي/ الكتابي ليس مُنبَتًّا عن سيرورة صاحبه في مسيرة حياته، ولعلّ هذا الاندغام ما يميّز سيرة أمجد ناصر.

إنَّ اكتمالَ مفهوم «الجدوى» لديه مرتبطٌ كُليًّا بأفعاله الملتزمة برسالةٍ سامية، وليس ثمّة ما هو أسمى من رسالة، أو «الواجب الرسولي» بالأحرى، حيال تحرير الإنسان من ربقة ما يقيِّدُه، مهما كانت طبيعة هذا القيد. ولقد كانت سبيكة الكتابة النوعية على الورق، مدغومةً بالممارسة الحياتية في سياق الفعل من أجل التحرر والتحرير (وفلسطين عنوانها الأكبر)، تشكّلُ ذاك الميزان المَجازي الذي رَجَحَت إحدى كفتيه لصالح صاحبه. فانطلاقًا من تاريخ وجغرافيا «الدساكر» –المفردة التي شاعت في كتاباته للدلالة على التجمعات السُّكانية عند أطراف الصحراء- من المفرق، إلى الزرقاء، إلى عمّان، ثم إلى بيروت فقبرص فلندن، حملَ أمجد ناصر ذاكرة المكان/ الأصل/ الـ«هُنا»، ووزعها على تلك المدن «هناك» في شخصه، ونثرها في نصوصه ليصونها من النسيان. فللمدن علاقات ملتبسة تعقدها مع الكاتب، أي كاتب من أولئك المتحررين بالكتابة ومن خلالها من أمثاله؛ إذ «… الكاتب غريب في كلّ مكان، ووطنٌ واحد لا يكفيه، ولا جغرافية العالم تحتويه، بكتابته يتّسع الكون، ويصبح محتمل الإقامة للحزانى والمحرومين، وله هو؛ كي يحتمي من الوحشة والتكرار ونفاد المعنى وشُحّ الإنسان» –بحسب ما كتب المغربي/ الباريسيّ أحمد المديني، في كتابه السِّيَري «من سيرة ذات: فِتَنُ كاتب عربي في باريس»، فهل كان حال أمجد ناصر في علاقته مع المدن، الأولى حيث المنشأ، و«الغريبة» حيث أنشأَ علاقات ذات أغوارٍ إنسانية، ورسمَ خريطةً واسعة وعميقة قِوامها لغة خاصة به، وأنجزَ نصوصًا فارقة تخصّه وحده، هو حال المديني في صلته بباريس؟ أعني، أكانت صِلته بـ«لندن» صِلة الأخير بباريس.. مثلًا؟

ما تركه لنا من كتابات تجافي التوافق، وتؤكد الاغتراب. وذلكم سؤال يستوجب التدقيق والوقوع على الاختلاف بينه وبين كتّاب عرب سواه، وجدوا في «المدن الغريبة» ذواتهم.. أو، على نحوٍ أدقّ: عثروا لرئات أرواحهم على متسع لم يجدوه في مدنهم الأولى. غير أنّ المسألة في طرفها الأخير (رئات الأرواح الحُرّة)؛ فإن أمجد ناصر لم يترك لنا ما ينفيها عن تجربته.

طافَ طويلًا، وعاشَ أوقاتًا مديدة، وأقامَ في أماكن مختلفة، لكنه عادَ إلى «مبتداه» وأوّله وحَطَّ فيه: الأردن، الدسكر المُسمّى «المفرق»! عادَ إلى الحضن الصحراوي الحار، إلى الأُم ليرقد إلى جانبها رقدته الأخيرة.. كما أوصى.

* * *

مَن هو أمجد ناصر؟

هو يحيى النميري -كما نشر في بداياته، وهو يحيى النعيمي- كما سُجِّلَ في وثيقته الرسمية، قبل أن يتحوّل إلى ما باتَ يُعرف نهائيًّا – على أغلفة كتبه، وفي داخلها، وفي حِلّه وترحاله.

أردنيّ الذاكرة والمَنْبَت، عُروبيّ الحُلم بالتحرر، فلسطينيّ المكابدة والتشتت، إنسانيّ الأفق والمَسْعى.

هكذا سُبِكَت شخصيتُه واستوت،

وهكذا ستُكتَبُ سيرتُه وتُفحَص نصوصُه،

وما كان نصّه «الأخير»/ المرثاة، الذي رفع فيه «الراية البيضاء» أمام موته الحتمي القريب؛ إلّا كتابة لافتة ليس من قارئ أو كاتب فَطِن وحاذق يمكن أن تفوته حيوية الروح التي كتبته، وكم هي متسعة ورحبة الأبعاد الرؤيا المتفجرة في وفرة المجازات، والصور الشعرية المفارقة والمجلوبة من أعماق روحٍ هي «طَلْقَةٌ» حقًّا، وهي «صافيةٌ» صفاء مياه تتدفق من نَبْعٍ احتضنته صخرةٌ ملّستها أمطارُ السماء.

أمَّا مَن الأمثل في إصدار الأحكام على معناه؛ فالإجابةُ ستكون هناك، هناك لدى مَن يقرؤون إنجازاته الثرَّة الوفيرة، قُرّاء اليوم/ الحاضر وقُرّاء الغد/ المستقبل: شعرًا مجددًا مغامرًا، نثرًا مثقفًا أنيقًا، روايةً احتفلت بكلٍّ من الأرض والإنسان والتاريخ والفن، وأدبَ الرحلة على نحوه الأدبيّ الصافي ورؤيته الحضارية، واستعاداتٍ حميمة لفصولٍ من السيرة، ونصوصًا متفلتة..

إنها كتاباتٌ حُرَّةٌ كما هي حُرَّةٌ روحُهُ؛ إذ طلعت منها! ولهذا السبب تحديدًا، كان أن نُقِلَت إلى غير لغة، حاملةً معها أنفاسَ صاحبها.. وإنّه مِنّا، ونفتخر.

قبل أقلّ من شهر [من رحيله] نالَ جائزة الدولة في تقديره مبدعًا أصيلًا،

وغدًا، جائزة كلّ قارئٍ يشهدُ على هذا الاستحقاق، ويؤكد هذه الجدارة.