باروير سيفاك.. وريث المذبحة

باروير سيفاك.. وريث المذبحة

باروير سيفاك واحد من كبار شعراء أرمينيا. تحفر أعماله الشعرية في أعماق التراجيديا الأرمينية منذ بداية التاريخ، حتى ذروة الدم في مذبحة 1915م. تتوزع أشعاره بين ملحمية وتاريخية وحداثية، وتنبش في جذور الخراب الكوني، مع إيمان لا يتزعزع بقدرة البشرية على بدء حياة جديدة وسط الأنقاض. يكشف ديوانه «الإنسان في كف» عن شاعر يتمتع بحنان أمومي، يضع الكائن الإنساني في «راحة يده» كعصفور؛ ليتهجى له ومعه أبجديات الحب والجمال والأمل، دون نخبوية ولا تعالٍ ولا وعظ.

الشاعر عند سيفاك هو شجرة يستحيل اقتلاعها من الأرض، هو الشمعة والشعلة، وهو «محامي القضايا الإنسانية». كلمات مثل «الحق» و«الخير» و«العدل» التي يعتبرها كثيرون «عارًا فنيًّا» في أيامنا هذه؛ هي ركائز جوهرية في معجمه الشعري، وديوانه «ليكن نور» يمثل دعوة للمحبة والرحمة، في عالم الأقنعة والآلات التي تدهس المسيرة المتعثرة تجاه الحرية.

في حياة وأشعار سيفاك، يحضر الحب كخلاص مؤجَّل، وتعذيب دائم. كتاب «حب سيفاك الكبير» الذي نُشِرَ بعد رحيله، يضم رسائله إلى «سولاميتا»، المرأة الوحيدة التي أحبها دون أمل ولا ملل. يقول لها في رسالة: «مرَّ الربيع ولا أراكِ، مر الصيف ولا أراك، مر الخريف ولا أراك، الشتاء سيمر، ولن أراك. في أي فصل من السنة أراكِ؟ الخامس؟».

وفي رسالة أخرى للمرأة المستحيلة التي طالما ناجاها في قصائده باسم «زوجة سليمان»، يقول: «أنا مجروح. هذه ليست كلمات، إنها حقائق. أبكي. عاجز عن حبس دموعي. روحي حزينة. لا أعرف ما سيحدث لي إذا استمر ذلك. أريد شيئًا واحدًا من كل قلبي: الموت. بصراحة أريد أن أموت».

ومات

لم يَمُتْ حُبًّا ولا انتحارًا ولا مِيتةً طبيعيةً. لقي مصرعه يوم 17 يونيو 1971م إثر انقلاب سيارته، بينما كان في طريق العودة إلى يريفان. توفيت زوجته في الحادث، ولم ينجُ إلا طفلاه. كانت ملابسات موته مشبوهة، وهو ما أثار شكوكًا لدى أغلبية الشعب الأرمني حول تورط النظام السوفييتي في إخراس صوته إلى الأبد؛ بسبب انتقاده الدائم خلال سنواته الأخيرة للفساد في المؤسسة السوفييتية، رغم أنه لم يكن منشقًّا ولا ثوريًّا راديكاليًّا. لم يكن سوى شاعر يغني لأرمينيا «الشابة بين الجُدد، والعجوز بين الأقدمين».

سيرة حياة

باروير سيفاك

وُلد باروير جزاريان في قرية تشاناخشي الصغيرة، في منطقة أرارات في أرمينيا يوم 26 يناير 1924م. كان والداه قرويين متواضعين، ألحقاه بمدرسة محلية، تخرج منها مع مرتبة الشرف في عام 1940م، وانتقل بعدها للدراسة في كلية المعلمين بجامعة يريفان الحكومية. أنهى دراسته الجامعية عام 1945م، وبدأ الدراسات العليا في الأدب الأرمني في معهد مانوك أبيجيان بالأكاديمية الأرمينية للعلوم، وتزوج من مايا أفاجيان عام 1948م، وأنجب منها ابنًا أسماه «هراشيا».

بدأ سيفاك كتابة الشعر في الثالثة عشرة، ونشر ثلاث قصائد لأول مرة عام 1942م بتوقيع باروير سيفاك بدلًا من لقبه الحقيقي، وباقتراح من المحرر الأدبي روبن زاريان، الذي كان مولعًا بشاعر يُدعى سيفاك لقي مصرعه في الإبادة الجماعية للأرمن، وفكر في تخليد ذكراه باستخدام اسمه كاسم مستعار لفتى يبشر بموهبة استثنائية هو باروير جزاريان.

عام 1951م انتقل باروير سيفاك إلى موسكو للدراسة في معهد مكسيم جوركي للأدب العالمي، وهناك التقى نيللي ميناجاريشفيلي التي أصبحت زوجته الثانية، وأنجب منها ابنين هما «أرمن» و«كوريون».

بعد تخرجه عام 1955م، عمل سيفاك بالترجمة الأدبية في موسكو بين 1957- 1959م، وتمكن من نشر أشعاره وترجماته في الصحافة الأرمينية السوفييتية، ثم عاد إلى يريفان أواخر عام 1959م، وعمل باحثًا في معهد مانوك أبيجيان للأدب من 1963- 1971م. في عام 1966م نال درجة الدكتوراه عن أطروحة حول حياة الشاعر والموسيقار سيات نوفا، أحد رموز الفن الأرمني في القرن الثامن عشر، ونشرها في كتاب عام 1969م. شغل منصب سكرتير مجلس اتحاد كتاب أرمينيا من 1966- 1971م، وانتُخب عام 1968م عضوًا في مجلس السوفييت الأعلى في جمهورية أرمينيا الاشتراكية السوفييتية، وبمرور السنوات كرّس اسمه كأقوى صوت شعري أرمني حديث بين القراء الأرمن في جميع أنحاء العالم.

إلى ابني

سواء معي، أو بدوني، يا حبيبي، ستكبر،

بمساعدتي أو دون مساعدتي، يومًا ما ستفهم،

الطريقة التي يجب على المرء أن يعيش بها في الحياة، والطريقة التي يجب أن ينظر بها إلى الحياة،

الأشياء الرخيصة في هذا العالم، والأشياء التي لا تقدر بثمن في هذا العالم.

لا أسامح ولا أحترم أولئك الذين وعظوني،

لقد أحبطتني دائمًا، يا بني، المواعظ السطحية والعميقة.

وإذا كنتُ، يا حبيبي، أقرأ الآن درسًا لك،

فذلك لأنه في كثير من الأحيان، يكون لدى المرء طريق واسع،

بينما السنون لديها طرق أوسع،

والطريق الذي اختاره لنفسه، ليس له أي تأثير يُذكر.

ربما مثلي ستكون محاطًا بهذا:

في كثير من الأحيان كلما نظرت حولي، شعرت بالغيرة من أولئك الناس،

الذين يسيرون في الحياة بسهولة -كما لو كانت طريقًا مفروشًا بالرمل،

دون أي حاجز أو جدار، مثل مسطرة مستوية ومستقيمة،

مدرسة، وبعد رنين الجرس، شخص ذو نفوذ،

ثم مكان آمن دافئ… لا يمكنك العيش بهذه الطريقة!

أنا لا أريد أن تكون حياتك مفروشة بالرمل.

لا تمر فوق طريق ممهد، عليك رصف الطريق!

عش بسلام دائم مع الحب، ولكن لا تفر من المعاناة.

إنها تزيل غبار العين من العين، تنظف الروح من صدأ الروح.

الإنسان لا يموت من المعاناة، إنه يصبح أقوى،

وفيما بعد، حين يتعافى القلب، سيتحمل الآلام بسهولة أكبر.

آه، احذر النواح! والدك لم يتحمل قط أولئك الذين ينوحون

فمن الأفضل، يا بني، أن تتبلل عيناك بالدموع الحارقة

وتستمر في طريقك الخاص، مع أنه مفروش بالأحجار،

إذا كانت روحك تتوق للخير والرحمة والحب،

لن تتعب، ستمشي، وتصعد إلى قمة الجبل.

لأن الإنسان يحتاج إلى روح، لا أجنحة.

يجب أن تكون كريمًا في كل شيء، هل هناك كريم مات من الجوع؟

لا يمكن إنكار الحقيقة- لماذا السكوت على الأكاذيب؟

لكن هناك ناس حولنا، ينحنون أمام خصومهم عندما يحتاجون،

يصرخون عندما يحتاجون، يخرسون أو يبتسمون عندما يحتاجون،

يمدُّون أيديهم عندما يحتاجون… لا تكن غرًّا في الحياة،

افهم، لا تنسَ أبدًا يا بني:

الكريم فقط هو الذي لا يتغير مهما كانت الظروف،

له وجه أبيض، لا سبعة أو ثمانية أقنعة ملونة.

لا تشكُ؛ ستتذكر؟ «أيام الفشل.. تجيء وتروح»

لا تشكُ. إذا كنت فعلت الخير، ووصلت إليه بنفسك

لا تشكُ، ولا تقرأ الحياة كما لو كانت مجرد كتاب،

تمامًا مثل كتاب، بعيدًا عن ذاتك، كأنك تقرأ عن رجال غرباء.

كن فخورًا دائمًا، لكن لا تكن مغرورًا (المغرورون تافهون،

والدك يستخدم هذه الطريقة لفرز الأذكياء من الحمقى).

كن فخورًا دائمًا مثل والدك، لعدم تخريب منزل أي شخص،

لعدم وأد كلمة طيبة، لعدم سجن أي فكرة حسنة،

إن مشيت مستقيمًا في حياتك، ستفهم في كثير من الأحيان،

أن البضائع التافهة ملقاة

في السوق للرعاع التافهين،

وأنت لست تافهًا، وليس لديك نقود مزورة.

أنت لا تزال صغيرًا. لا تعرف حتى الآن، كيف يجب أن ينظر المرء إلى الحياة.

أنت لا تزال صغيرًا. عندما تكبر، وتصبح ناضجًا،

نصائحي لك ربما تبدو قديمة جدًّا وغير مجدية،

ربما في الحياة لن يكون هناك جراح أو عثرات.

آه، ليحرسك الرب! أنا لا أحلم بأي شيء آخر في هذه الحياة

(العميان فقط، يا بني، كما تعلم جيدًا، يشتهون زوجين من العيون).

نصائحي، اعتبرْها قديمة… فالزهرة تموت بنفس الطريقة،

عندما تتحول على الشجرة في الصيف إلى ثمرة ناضجة.

من أجل النور القادم، أنا جاهز لأحترق الآن،

من أجل حقيقة الغد، اعتبرني اليوم كذبة.