حول الكتابة والأدب.. التقنيات لا تصنع كاتبًا ولا مثقفًا

حول الكتابة والأدب.. التقنيات لا تصنع كاتبًا ولا مثقفًا

لم يكن الكاتب العربي يومًا أمام تحدٍّ مشابه للتحدي الذي يعيشه اليوم. تحدٍّ لواقع يضجّ بالتقدم التقني والزحمة الهائلة من مواقع التواصل الاجتماعي. لكن في الوقت نفسه واقع أقل ما يوصف به أنه محبط لنا كأننا عالقون وسط نفق لا نرى في نهايته أي بصيص نور.

تحدٍّ يطرح أسئلة كثيرة وسط دوّامة فَقَدَ معها الكاتب بوصلة قراءة الواقع بأدوات تعلمها أو اعتاد عليها. العالم يتغير كذلك الاقتصاد، والمجتمعات تبتكر كل يوم أنماط علاقات فرضها الواقع وفرضتها مواقع التواصل الاجتماعي. أدوات قراءة فقدت معناها إزاء واقع جديد، وتغيرات سريعة من المستحيل اللحاق بها. قد يقال إنها مسألة أجيال، وإن من ينتمي إلى جيل مواقع التواصل الاجتماعي لا بد أنه يتمتع بعلاقة مع العالم حوله أكثر واقعية من الجيل الذي سبقه. قد يقال إن جيل ذلك التقدم الحديث يتمتع بمعرفة لن نستطيع نحن اللحاق بها. لكن الحقيقة غير ذلك.  قد يُعلّم التقدم التقني الناس كيفية استعمال التقنيات إلا أن مساهمته في تطوير تفكيرهم ومقاربتهم أو تحليلهم للواقع الذي يعيشونه لا يُعوّل عليها أبدًا. إذ إن المعرفة التقنية لا تصنع كاتبًا ولا مثقفًا، بل تصنع بأفضل الأحوال خبيرًا تقنيًّا. يكفي أن نسأل تلك الجيوش من الشباب الذين يعملون موظفين نشيطين في مواقع الفيس بوك وغوغل كم كتابًا يقرأون في السنة، أو فيما إذا قرأوا قصيدة واحدة هذا العام لندرك مدى الهوّة بين الثقافة والمعرفة الإنسانية من جهة وبين الخبرة التقنية الحديثة من جهة أخرى.

التقنيات لا تصنع كاتبًا ولا مثقفًا، بل السؤال الإنساني وهمّ المعرفة الإنسانية هما بداية الطريق لأي فكر أو أية كتابة. فضلًا عن أن تلك التقنية التي ذكرت لا تساعدنا على ابتكار بدائل وحلول للمشكلات السياسية والاجتماعية نعاني منها، بل قد يصبح التطوّر التقني في بعض المجتمعات سلاحًا بيد السلطات لمنع المثقفين والأدباء من قول الكلمة الحرة، كذلك لِكمّ الأفواه والسيطرة على عقول الناس ومراقبتهم. هذا لا يعني على الإطلاق أن نقف في وجه التطور التقني، ولكن أن نعي ونعمل على أن يكون ذلك التطور في خدمة الإنسانية وقضاياها، وفي خدمة الثقافة والأدب والفن وحرية التعبير والتسامح واحترام الآخر.

لكن إزاء واقعنا هذا يبقى سؤالنا إلى أين؟ ما مستقبل الكتابة؟  لا بد أيضًا أن نتساءل وبقلق عن مكانة القراءة في العالم العربي، وعن مصير دور النشر والكتاب والترجمة. لا يخفى علينا تراجع عدد القراء في العالم العربي. يكفي النظر إلى ما يجري في مدننا الشرق أوسطية منذ أكثر من عقدين من الزمن، ونرى مدى الدمار الهائل ليس فقط في العمران، بل والأهم في التماسك الاجتماعي، وفي الثقافة والتنمية المستدامة ومظاهر التقدم المبنية على مؤشرات الأمم المتحدة للتنمية.

دور النشر والخراب

لم تنجُ دور النشر من هذا الخراب المستمر إن في بيروت أو في دمشق أو في بغداد أو في صنعاء، على رغم ما تقوم به تلك الدور من جهد جبّار كي تبقى على قيد الحياة، وكي تستمر في النشر وفي إصدار الكتب وبخاصة الكتب الأدبية وتحديدًا الرواية على رغم الوضع الاقتصادي، وعلى رغم غياب السياسات الثقافية في تلك البلدان. وسط هذا الوضع يبحث الناشر عن ترجمة للرواية المنشورة لتوسيع دائرة القراء، وإخراجها من حيّزها المحلي الضيق الذي يزداد محدودية بتضاؤل عدد القراء في العالم العربي.

إذا سلمنا جدلًا أن الكتاب العربي يُنشر بانتظار ترجمته إلى لغات عالمية فهذا أيضًا لا يدعو إلى التفاؤل إذا علمنا أن نسبة الترجمة من العربية إلى اللغات العالمية ضئيلة جدًّا مقارنة بالترجمة من اللغات أخرى. مثالًا على ذلك، وصلت الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية في السنتين الأخيرتين إلى أكثر المستويات هبوطًا بحيث لا تتجاوز نسبة ١٪ من إجمالي الترجمات إلى اللغة الفرنسية، مع العلم أن الترجمات من اللغات العالمية (أميركية إنجليزية أوربية ولغات أخرى) تصل إلى حوالي ٩٠٠ عنوان كل عام. هنا فقط أتحدّث عن الترجمة إلى الفرنسية والتي يقوم بدعمها سنويًّا المركز الوطني للكتاب عبر تقديم مساعدات مالية لدور النشر الفرنسية لتغطية كلفة الترجمة. في دراسة حديثة أظهرت أن الترجمة من العربية إلى الفرنسية تحظى بمساعدات لا تتعدى ال ٢٪ من قيمة المساعدات التي يقدمها المركز المذكور للترجمة من اللغات الأخرى.  هذا يعني أن عدد طلبات المنح المقدمة من دور النشر لترجمة كتاب من اللغة العربية قد تضاءل. تبقى الترجمة العربية إلى الفرنسية هامشية جدًّا، إذ تكاد تصل ترجمات أربع أو خمس روايات عربية إلى الفرنسية كل عام.

لكن هل اللغات الأخرى لها الوضع نفسه مع الترجمة؟ بالطبع لا. ما زال الأدب الأميركي في صدارة الأعمال التي تترجم إلى الفرنسية تليه ترجمات أميركا اللاتينية والإسبانية وبعض الترجمات من أوربا الشرقية. تأتي اللغة العربية – ويا للأسف – في درجة متأخرة بين حوالي ٣٠ ترجمة من ٣٠ لغة تقريبًا بينما تتم سنويًّا ترجمة مئات العناوين الأميركية والإنجليزية إلى الفرنسية.

 تراجع الفضول المعرفي

لا بد أن نسأل هنا عن تراجع الفضول المعرفي الذي كان يدفع بالعالم الغربي إلى قراءة الأدب العربي. الفضول الذي كان يرى في أدبنا وثيقة اجتماعية تساعد القارئ الغربي على فهم واقعنا الاجتماعي. لقد ضعف الفضول إن لم يغب بالإجمال، إذ بات القارئ الغربي يفتقد الرغبة في فهم مجتمعاتنا المستعصية لأسباب عدة. نستثني من ذلك المستشرقين والأكاديميين الغربيين الذين ما زالوا يدرسون أدبنا ويكتبون عنه أبحاثًا لا يقرأها سوى النخبة المتخصّصة. قد يكون طغيان الفكر الشمولي التعميمي لدى العالم الغربي إلى جانب صعود اليمين السياسي سببًا من الأسباب، بحيث إن الكاتب العربي يعلم أن نصه سيمر بين يدي الرقابة وبالتالي يغدو ملزمًا برقابة ذاتية ليحمي كتابه من مصادرة السلطات له. إننا في زمن المقاربة الثقافية الواحدة والمسطحة لسياسيي العالم العربي وصعود التزمت الديني. أمور لا شك أوصلت الاهتمام بالثقافة وتشجيع الأدب والقراءة في المدارس والمجتمع إلى مستويات متدنية. ما يجري في عالمنا يشبه كرة الثلج، غياب السياسات، والتشدّد الديني، والرقابة، وعدم رصد موازنة للنشاط الثقافي والأدبي، وغياب السياسات التعليمية لتشجيع القراءة ولدعم الكاتب وحماية حرية الرأي. كلها عوامل سياسية كارثية أوصلتنا إلى ما نحن عليه حاليًّا.

يبقى ولحسن الحظ عدد من الأدباء العرب الذين وجدت أعمالهم طريقها إلى الترجمة وصارت معروفة لدى القرّاء الغربيين. بنى بعضهم بفعل الزمن علاقات مهنية جيدة مع دور نشر غربية وما زالت كتبهم تُترجم وتُقرأ. إلا أن أغلبية الأدباء وبخاصة أدباء الألفية الثالثة لا تجد كتبهم في الغالب طريقها إلى دور النشر العالمية وبالتالي تبقى في حيز اللغة العربية فقط. لا بد أن نذكر أن الجوائز العربية قد ساهمت في نشر الرواية العربية وفي ترجمتها خاصة إلى الإنجليزية بفضل التعاون بين دور نشر إنجليزية وإدارة الجوائز العربية. لكن وصلني من أكثر من كاتب عربي حازت روايتهم على جائزة ووقّعوا عقد ترجمة مع دور النشر الغربية المتعاونة مع القيّمين على الجوائز، إلا أنهم لم يروا كتبهم مترجمة، ولم يصلهم أيّ مقال عن الترجمة في الصحافة الغربية.

لا شك أن الجوائز العربية التي تُمنح سنويًّا للأدباء الفائزين تقدم لأعمالهم فرصة للترجمة دون أن يكون هناك أي معلومات دقيقة حول نسبة بيع أو نسبة قراءة أعمالهم التي ترجمت.

آن أوان الإجابة عن أسئلة تتعلّق بالكتابة المرتبطة بحرية التعبير كشرط أساس لها، وأن نعمل على وضع سياسات تعليمية تحمي الكتابة، وتشجع الشباب على العودة إلى القراءة وبخاصة قراءة الأدب الذي هو مرآة حقيقية لواقعنا الإنساني، وحافز أساس لتطوير هذا الواقع.

الكتابة خارج المكان والإقامة في بيت اللغة

الكتابة خارج المكان والإقامة في بيت اللغة

من أكثر الأسئلة التي تردني إلى فعل الكتابة نفسها سؤال يدور حول الكتابة والمكان، وفيما إذا تأثرت كتابتي الإبداعية وغير الإبداعية بتغيّر المكان. سؤال لا بدّ أيضًا من أن يعيدني إلى ذاكرة الأشياء والصور والأشياء الصغيرة التي رحلت معي في أماكني المتعددة ولم تتركني. في عام ٢٠١٥م أنهيت رواية «خمسون غرامًا من الجنة»، وكانت المرة الأولى التي أنجز فيها رواية خارج لبنان. كنت قبل ذلك أعتقد أن الكتابة في أمكنة بعيدة من المكان المألوف شبه مستحيلة؛ إذ إنها ستزيد من جروحات الروح ومن الشعور باللّامكان، أو تبقينا «خارج المكان». الآن بعد ٤ سنوات وأثناء كتابة روايتي الجديدة صار بمقدوري القول: إن العلاقة بين المكان والكتابة تأخذ كلّ مرّة شكلًا جديدًا. الآن أستطيع القول: إن الكتابة تصبح هي البيت، مهما تغيرت ملامح البيت الظاهرة. تحتل الكتابة مكان البيت الأول، أو لنقل تحتل مكانه، وتصادق الأرق المتنقل حين الانتقال بين مكان وآخر بين قطار وآخر، بين طائرة وأخرى.

لكن لا بد أيضًا أن نأخذ مسافة من الكتابة، لنراها من بعيد ولو قليلًا. ستبدو كأنها تقيم في مساحة تشبه مساحة أحلام ضامرة، في شوارع لا تشبهنا، رغم ذلك تحضننا وتجعلنا نحفر علاماتنا على حجارتها. لا ضير أن نجد أنفسنا أحيانًا نرسم في الهواء أو نكتب على سطح مياه النهر الذي يعبر مدينتنا الجديدة. حينها نقول: إنها قد تكون أمكنة عصيّة. لكنها عصية وجاذبة في آنٍ، أمكنة تتسع. ولا ندري حينها إن كنا نريد البقاء خارجها أو الدخول إلى قلبها. وإن دخلنا هل سيروي هذا الدخول عطش اشتياقنا إلى البيت الأول. بيت أول لم يبقَ على الأرجح منه إلا ما بقي في ذاكرتنا عنه. نشتاق إليه في الذاكرة ونعود إليه في الذاكرة أيضًا.

لكن الذاكرة باتت افتراضية تقيم على صفحات المواقع الاجتماعية، وتتجول بين أروقة جدرانها. ذاكرة عابرة تشبه حياة المقيم في عالم ليس بعالمه الأول. عابر هو أيضًا بين عالمين، مكانين، ذاكرتين، ثقافتين. بل بين عوالم وأمكنة. إنه في مكان الـ«ما بين».

مكان لا جهات له ولا زوايا، ومفتوح على كل الاحتمالات.

الهجرة، الإحساس بحضورك في بلد ليس لك، الكتابة في مجتمع يتقن ويكتب لغة غير لغتك، حتى لو كنتِ تُتقِنينَ لغة البلد الذي هاجرتِ إليه وصرتِ مقيمةً فيه. أن تكتبي بلغتك في مكان لا يفهم لغتك. أن تكوني دائمًا في مكانين اثنين أو بينهما وأنتِ تتحدثين مع كاتب لا يقرأ لغتك. تتساءلين من أين لك هذه القدرة على رؤية أين يقف الآخر وتتوقعين أن هذا الآخر يحتاج إلى خيالك ويفتقده. هذا المكان بين عالَمَين هو مكانك، بل بين عوالم عدة… هذا صحيح لكنه تميُّزُكِ. هذه الهشاشة هي تمامًا وطن قوّتك. تقولين: إن عليكِ أن تتمسكي بقوة بِنَصِّكِ. ثم تلك الشخصيات الموجودة في عالمك الأول ذلك الذي تفصله الجغرافيا عن مكان إقامتك الجديدة، ماذا تفعلين بتلك الجغرافيا وكيف تقرّبين المسافات؟

في هجراتنا القسريّة لأوقات ليست بطويلة وبانتظار انتهاء حرب، تغدو مسألة تعلّم أولادنا اللغة العربية مُلِحّة لنا. حينها يصبح التمسك باللغة كمن يتمسك بقشة نجاة أخيرة. في تنقلاتنا المتعدّدة نتعلم السفر بأقل ثقل ممكن. لكن التخفّف من الحقائب لن يمنع حملًا لا مرئيًّا يرافقنا أينما نرحل. المكان الجديد يحتاج إلى تعلّم. نُسافر خفيفاتٍ ونُبقي على لغتنا ملتصقة بنا وفينا كفعل وجود.

اللغة تسافر هي الأخرى. نحملها في حقائبنا وأوراقنا وذاكرتنا والكتب التي لا تفارقنا والأغنية التي تبقى في الرأس ونجد أنفسنا ندندن أولى كلماتها كلما عنّ لنا الغناء.

لكن هل تسافر متخفّفة هي الأخرى؟ أم نفقد بعضها أثناء رحلتنا نحو النهاية؟

بعد وقت من إقامتنا هنا في الغربة، نعلم أننا ما زلنا نحتفظ بسلاح منيع يحمينا من إحساس بالاقتلاع. إنها اللغة، لغتنا التي نحلم ونفكر بها، نحكي، نتذكر، ونكتب…!

لكن ماذا يبقى من لغتنا حين نكتب في هجراتنا؟ أو ماذا يضاف إليها؟ هل تبقى على حالها أم تعيش تجربة هجرة خاصة بها؟

أسئلة لا تنتهي بحاجة إلى وقت آخر للإجابة عنها.

(باريس ٦ أكتوبر ٢٠١٩م)