عبدالودود سيف في سرديته الشعرية الطويلة

عبدالودود سيف في سرديته الشعرية الطويلة

الإهداء، كعتبة للقول: في إهدائه ديوانه الشعري اليتيم المنشور «زفاف الحجارة الحجر» قال لي الشاعر عبدالودود سيف التالي: «العزيز قادري أحمد حيدر. إشارة تذكار لمجيئنا إلى ضفة هذا العالم من دون قبائل ولا أنساب». إهداء (مؤرخ بــِ6/22/1999) في مضمونه ممتلئ برؤية ثقافية وطنية تاريخية عميقة وشاملة، إهداء اختزل معنى وروح السجال الفكري/ السياسي المستمر في بلادنا منذ عقود طوال، إن لم أقل قرون، ويعكس حقيقة الأزمات السياسية والاجتماعية البنيوية، المتكررة على مستوى البناء الفوقي، وعلى مستوى السلطة. إهداء يمثل عتبة لقراءة جديدة للسياسة وللاجتماع الوطني، ففي كلمات لا تزيد على أصابع اليدين… قال كل ما يحتويه المعنى الخاص، والعام حول ما نسميه في بعض كتاباتنا بـِ«المشكلة اليمنية»، ففيه حديث ضمني عن الضرورة التاريخية للدولة العادلة/ الجامعة، وعن حقيقة المواطنة المفترض وجودها كرديف للدولة المدنية الحديثة من دون أن يشير إلى ذلك بكلمة واحدة.

إهداء يقدم فيه الشاعررؤيته الموجزة والمكثفة للمشكلة اليمنية، بلا إطار تنظيري/ أيديولوجي «ماهوي». إنها ثنائية الاستلاب التاريخية لمعنى وجودنا وحضورنا في الراهن، وفي التاريخ، ثنائية مصطرعة، ومتوحدة ومشتبكة معًا ودائمًا، يجمعها هم إقصاء الآخر، واستبعاد الآتي (المستقبل)، مختزلًا كل ذلك في ثنائية، بلا (قبائل ولا أنساب)، وهي الثنائية التي لا تزال لَعَنَاتُها تلاحقنا وتؤرقنا وتقضّ مضاجعنا، ثنائية لا تزال تنتج وعيًا حادًّا بالذات، وعيًا مقلقًا وقلقًا ومتوترًا تجاه الآخر، تجعل من عدم الاستقرار حالة مستديمة، وهوية ذاتية لمعنى وجودنا، وهنا يكمن جذر سؤال المشكلة اليمنية الذي أشار أو ألمح إليه من بعيد إهداء عبدالودود.

فعلى الرغم من معرفتي وعلاقتي الشخصية المباشرة والطويلة التي تمتد إلى نيف وأربعين سنة، إلا أنني أصدقكم القول: إنني لم أدرك من الإهداء سوى المعنى الظاهر والعام، ولم أَغُصْ عميقًا في باطن المعنى لنبوءة الشاعر، النبوءة الكامنة أو المحتجبة بين دَفَّتَيِ التاريخ السياسي والاجتماعي المهمل أو المسكوت عنه. بدأ لي -في حينه- وكأنني مستوعبًا لكلمات الإهداء بما يكفي من الفهم لجذر السؤال المغيب الذي يومئ إليه في العمق الإهداء/ العتبة، على أن السنوات اللاحقة أو ما نعيشه اليوم كشف لي أن وضوح المعنى كان لا يزال ضبابيًّا في ذهني، وفي عقلي التاريخي لاستيعاب وفهم جذر السؤال: «المشكلة اليمنية» الجذر الذي أشار إليه عبدالودود ببصيرة المثقف العضوي، والصوفي في تجلياته الذي يسبر أغوار الباطن ويذهب إلى الأقصى والأعمق من الفهم، وهو الذي يكتنزه بعمق عبدالودود في داخله، ويتجلى أكثر في شعره، وفي بعض نثرة.

ومن هنا أهمية قراءة الظاهر والباطن في شعر عبدالودود، وفي نثره وهو ما لم يُقارَبْ حتى اللحظة، ولا يزال شعره بِكْرًا عصيًّا على القراءة النقدية المعمقة في كل ما نشر عنه على قلته، إن لم أقل محدوديته التي تصل حد العدم في القراءة لذلك النتاج البديع الذي أسهمنا كمؤسسات ثقافية، بقدر ما أسهم الشاعر نفسه -بصورة أو بأخرى- في عدم بذل الجهد لنشر عدد من أعماله الشعرية لتصل إلى يد القارئ، التي قد تصل إلى ما يقارب ستة أعمال (دواوين) شعرية لا تزال محفوظة في (سيديهات) منذ أكثر من عشر سنوات في انتظار النشر، وقد وعدني أكثر من مرة بتسليمي نسخًا منها للاطلاع عليها. لقد حاولت في هذا المدخل المفتتح لأقول بعض الخاص والعام فيما أشار إليه المعنى الظاهر، وبعض من المعنى العام/ الباطن للإهداء في حدود ما يسمح به المقام والمقال.

شعرية عصية

ما سأكتبه في هذه السطور عن وحول الصديق والشاعر عبدالودود سيف بن سيف الزغير، لا علاقة له بالنقد، ولا بالفكر النقدي، أو النقد الثقافي، هي فقط ليست أكثر من تداعيات ذاتية ثقافية وجدانية (إخوانية نثرية معاصرة)، أشير مؤكدًا ذلك حتى لا أحمِّل ما أكتبه (القراءة) فوق طاقة ما تحتمله سطوري/ كتابتي، من كونها تذكار محبة، تذكار تحية واجبة، تاركًا أمر التناول النقدي المعمق لشعر عبدالودود -الذي تأخر كثيرًا- لأهل الاختصاص، وهو الذي أسهم يراعه النقدي في إضاءة عدد من الأسماء الشعرية، وفي الكشف النقدي عن بعض ملامح أو خصائص الشعرية اليمنية المعاصرة في أكثر من كتابة نقدية له، طيلة نيف وأربعين سنة منصرمة.

مبتدئًا تداعياتي الثقافية، بالإشارة إلى أن هناك من يرتدي الشعر إطارًا خارجيًّا، وهناك من يعيش الشعر كينونة حياة في تفاصيل ذاته، ذلك أول ما يجب أن أقوله وأنا أتحدث عن عبدالودود الشاعر. القصيدة لديه رهان على الذات، ومنصة لإطلاق رؤيته لنفسه وللوطن وللعالم… لا يرى نفسه والعالم من حوله، إلا من خلال وعبر القصيدة. يقف على رأس القصيدة ليثبت اسمه، ومن خلالها يعطي شرعية لمعنى الوجود من حوله. إنه الشاعر في البداية والتمام. وفي الإلماح السابق يكمن الفارق النوعي بين عبدالودود سيف، وأمثاله، وبين من يمتهنون الشعر حرفة وصنعة، بالتقيد ببحور الشعر، وقواعد الخليل بن أحمد، المكرس في حدود النظم الذي لا صلة له بمعنى وجوهر الشعر الخالد الذي يترك بصماته على جدار الروح وأعماق النفس على مر العصور.

عبدالودود سيف شاعر مدهش؛ لأنه يقول الشعر في مضمومة من رؤية فنية/ ثقافية، تاريخية، وإنسانية شاملة (شاعر/ مثقف)، شاعر ساحر بالكلمات، شاعر قابض على جمر اللغة، يعرف كيف يداعبها ويرقصها ويهندسها في البنية الداخلية لقصيدته، لتقول ذاتها كما هي تريد. في شعره يورطنا عبدالودود نحن غير المعنيين بالنقد الأكاديمي المنهجي، بقراءات احتمالية عدة بما يكتبه شعرًا هذا لمن يفهم أصول النقد، وروح معنى الشعر.

فقط عودوا إلى «زفاف الحجارة للبحر»، إلى بعض من قصائده التي ساهمت في نشرها في أعداد من مجلة «الثقافة»، حين كنت عضوًا في هيئة تحريرها، في تسعينيات القرن الماضي، هذا لمن يفهم، ولمن يقرأ ويكتب في النقد الأدبي. أما أمثالنا ممن تجبرهم توريطات الحياة، وبعض الأمور الذاتية/ الشخصية، للخوض في هذا المضمار الصعب (كحالي في هذه التداعيات)، فإننا نجد أنفسنا نتسمر متوقفين عند باب ما قبل العتبات، أمام شاعر، وشعرية تكاد تكون عصية -على الأقل حتى الآن- على التناول، إلا لمن قد يمتلك أدوات نقدية تجرؤ على اقتحام أبواب الحصون المنيعة، حتى لا أقول المستحيل. في تقديري -وهذا يدخل ضمن تداعياتي الذاتية الثقافية- أن عدم المقاربة النقدية الرصينة، الكاشفة لشعر عبدالودود سيف في سرديته الشعرية الطويلة التي تمتد منذ بداية السبعينيات حتى اليوم، يدخل في باب الحاجة إلى أدوات نقدية استثنائية، تخرج عن المألوف، وتدخل إلى صميم قلب الانعطافة الشعرية التي أحدثها ويمثلها شعر عبدالودود، وبخاصة في أعماله المنشورة خلال الخمس عشرة أو العشرين سنة الماضية، وفي القلب منها «زفاف الحجارة للبحر» وغيرها من القصائد التي تقدم خريطة شعرية جديدة، تجمع بين لغة تجعل من اليومي والاعتيادي، معنى غير مألوف، وكأنه الاكتشاف البكر للكلمات، وتجعل من السهل ممتنعًا، ومن المستحيل ممكنًا، ومن بسيط الكلمات لغة حية متفجرة، بعد شحنها بمعانٍ ودلالات لغوية/ فنية فكرية وتاريخية عميقة، كاشفة وفاضحة لأكثر من دلالة ثقافية وحياتية، مسكوت عنها.

بدأت حديث التداعيات الثقافية الوجدانية وكأنني أقول: إن الشعر وُجِدَ في عبدالودود أولًا، وُجِدَ قبل اسمه، قبل كيانه الفيزيقي التكويني، ولذلك هو الشاعر أولًا، وبعدها تأتي مختلف التسميات حول معنى اسمه. بعدها يأتي عبدالودود الاسم والمسمى، عبدالودود الصديق، عبدالودود الناقد، ففي البدء كان الشعر، وكان الشاعر. ففي مقام الموهبة، وفي حضرتها، تعلن القصيدة معه عن نفسها، بكل ما تحمله من هيبة وفخامة وجلال، وذلك ما يقوله عبدالودود الشاعر عن نفسه وعن البلاد/ والناس في الشعر.

شاعر مهموم بالناس والحياة من دون ادعاء وبلا زعيق القول الزائف؛ لأنه متوج بالموهبة الخلاقة، وممتلئ بالتاريخ قراءة وثقافة ورؤية، ولذلك يأتي شعره مكللًا ومجللًا، وحافلًا بكل تلك الصفات التي تجعل من العادي والبسيط والاعتيادي نصوصًا شعرية في غاية الجمال، نصوص لا يتذوقها إلا صوفي عضوي سالك، يتربع على عرش مملكة الكلمات/ المعاني… شاعر يقف على سدرة منتهى الإشراق والتجلي والعرفان، وكأنه الشعر، طريق العارفين إلى الناس وإلى الله.

إن صدق وعمق شعرية عبدالودود إنما تحكيها قصائده، التي حقًّا أعجز عن فهم المعنى البعيد والعميق لها، ناهيك عن مقاربتها نقديًّا، قصائد على عمقها والأغوار البعيدة لمعانيها ودلالاتها الفنية والجمالية، إلا أنها مع ذلك -في تقديري- جعلته قريبًا من ناس كثيرين في ساحة الوطن الثقافية، وبخاصة مع من لا يفهمون مثلي في النقد، ومع من لا يعرفونه حتى شخصًا، إلا من خلال ما قاله شعرًا أو نثرًا، أو نقدًا، ذلك أنه في شعره يقول السهل الممتنع في كل حين. وفي كل هذه المجالات الإبداعية التي اشتغل بها وعليها عبدالودود: الشعر، والنقد، والتاريخ والثقافي، والتاريخ السياسي الاجتماعي، كان ولا يزال يمتع الروح، ويبهج النفس، ويذكي جذوة العقل بالجديد المفرح والمنعش والمدهش.

ظاهرة غير قابلة للتكرار

عبدالودود سيف ظاهرة شعرية وثقافية غير قابلة للتكرار، هو في كل ما يعلنه عن نفسه كتابة، هو كتابة على الكتابة، وشم على جدار وبنية الشعر اليمني المعاصر.

قلت: إن ما أسطره يدخل في باب التداعيات الثقافية الذاتية، تحية من صديق إلى صديق عمر، تعلمت منه الكثير، صديق اتفقنا واختلفنا، هي من كانت ترافقنا ولم نتفارق. وظلت محبة الصداقة توحدنا وتجمعنا وتشير إلى ضرورة إكمال الطريق الذي بدأناه معًا -وإن كان له فضل السبق إلى ذلك الخيار والاختيار- أقصد اختيار الطريق الذي جمعنا، ولا يزال يشدنا إلى أرومة الآتي الذي يجب أن يكون، وأن نكون في قلبه، فاعلين ومشاركين في صنعه. كم أغبطك عبدالودود، فقد كنت الشاعر الذي يليق به الشعر، وبه ومعه يستوى الشعر متصاعدًا إلى ذرى سماء القول .. يستوي مستقيمًا على إيقاع مملكة الكلمات النبيلة. 

فمع ميلاد كل قصيدة يكون عبدالودود، هو هو، مضاف إليه جديد الشعر في صيرورة تجلياته الإبداعية، ولذلك هو مهجوس ومسكون بالشعر حتى الثمالة، وإن بدا أنه -أحيانًا- مجافيًا له.

في علاقتي المحدودة بالشعر قراءة واطلاعًا، لم أرَ وأقرأ لشاعر في حجم ومكانة وموهبة عبدالودود سيف -في بلادي اليوم على الأقل- باستثناء قلة من هو على شاكلتهم، ومن هم على مثاله، وعلى رأسهم شاعري اليمن الكبيرين؛ الدكتور عبدالعزيز المقالح أطال الله في عمره، وأعطاه الصحة، وعبدالله البردوني رحمة الله عليه، وعبدالرحمن فخري ومحمد حسين هيثم، رحمة الله عليهما، وكوكبة من السالكين ذات طريق العارفين. فالشعر مع عبدالودود كائن حي يتحرك في صورة إنسان، ويحرث في أرض الكلمات ليقول لنا: أنا الشاعر، وكفى.

في بداية الثمانينيات وأنا شريد في سوريا ولبنان، ومعي في رحلة ذلك المنفى الإجباري: عبدالودود سيف، وعبدالباري طاهر، والاقتصادي المصرفي عبدالله العلفي، طرق صباحًا باب منزلنا المشترك أنا وعبدالودود، شاب في مقتبل العمر، يحمل في يده، كما يبدو ديوانه الأول، في حال فرح يخفي حياء الشاعر/ الإنسان، فيه إهداء للأستاذ الشاعر عبدالودود سيف، شاب عرفت من اسمه أنه عماني، وكان ذلك هو سيف الرحبي، الذي أدرك باكرًا وهو في مقتبل الشعر ماذا يعني عبدالودود في فضاء الشعر اليمني والعربي. كانت تلك إضاءة مهمة، من شاعر حقيقي، صار يغطي مساحة واسعة من الحضور في الشعرية العمانية والعربية.

عبدالودود الصديق والشاعر، يذكرني دائمًا بما يجب أن يكون، من دون أن ينبس ببنت شفاه، فقوله النادر مُوحٍ وعميق، وصمته شبه الدائم أبلغ من الكلام، يقول ويختصر بكلمات معدودة، كل تاريخ الكلام، ليقول لنا: في البدء كانت الكلمة، كان الشعر، كانت الصداقة. على عشقه للوحدة، وحبه للعزلة/ الاعتزال، فهو ممتلئ بالمكان، ومزدحم بالتاريخ. حاضر في عمق سيرة الناس والتاريخ، وهو ما تقوله قصائده، ففيها الاختصار والاختزال المكثف لهموم الناس والحياة من دون أن يدعي أو يبوح صارخًا، أنه يتحدث عنهم أو يقول ما يقوله باسمهم.

إنه ظاهرة شعرية يمنية وعربية، حال شعرية ذاتية وإنسانية مميزة لم تجد من يلتقطها ويتفهمها بالدرس العميق، ظاهرة قالت وكشفت القليل/ الكثيف العميق عن نفسها، وعن الإنسان في بلادي. وأنا على ثقة أن الزمن والتاريخ سينصفانه إن لم يكن في الزمن القريب والمنظور، ففيما سياتي من الأيام. أستطيع القول: إن شعره يختزل المعنى الواسع والعميق لقول «النفري»: «كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة»، ومن هنا كما يبدو صعوبة وإشكالية قراءته نقديًّا. فيما أكتب وأسطر من تداعيات ثقافية ذاتية وجدانية عنه، فقط للاعتراف بأن للصداقة معه مذاق آخر، فهو يقول بالممارسة الممتنعة عن القول/ البوح: إن الصداقة تقود للالتصاق بجذر المحبة، وإن من لا يصونها ـالصداقة- غير جدير بأن يكون وفيًّا لأي شيء، بما فيه الوفاء للقيم والمبادئ والإنسان. وأنا هنا، لا أقول له: أنت عطر شعريتنا اليمنية المعاصرة. فذلك من باب تحصيل الحاصل، ولكنني أقول له: أنت بعض ما تبقى من شجر الصداقة… الصداقة التي تكالب عليها تعب السنين وأرق ما تبقى من العمر.

وإلى أن نلتقي. لأنني لا أحب كلمة الوداع، لا أجد ما أقوله لك أخي وصديقي الجميل بعد هذه التداعيات الوجدانية التي هي أقل القليل مما تستحقه من تقدير ووفاء لعشرة عمر جميلة خطوناها و خططناها معًا في الداخل وفي الشتات الذي لا تزال لعناته تلاحقنا… لا أجد ما أقوله لك سوى أنني أعشقك شاعرًا، وأحبك صديقًا، وأفتخر بك كاتبًا وناقدًا، وأعتز بك إنسانًا. يكفي أنك طيلة هذه الرحلة المديدة من العمر كنت أنت أنت، كنت ذلك الصديق الشاعر الذي لا يقول ما لا يلزم من القول، حين يكون الكلام من ذهب.

الثقافة والحوار المفتوح

الثقافة والحوار المفتوح

يرى الشيخ «التبريزي» أن الغاية من دراسة الرياضيات والعلوم الوصول إلى المعلوم، مستندًا في ذلك إلى ما يقوله الشيخ الصوفي جلال الدين الرومي: «إن العلم إذا لم يجردك من نفسك فالجهل خير منه» وهذه العبارة بمنزلة رؤية ثقافية علمية وإنسانية رفيعة.

 اليوم ونحن نروم الدخول -والعالم قاطبة- إلى رحاب «الروبوت واقتصاد المعرفة» والعلم كقوة إنتاجية جبارة ونحو مدائن القرن الحادي والعشرين، ما أحوجنا إلى تمثل الإسهامات والإضاءات الإبداعية العقلية والفكرية والثقافية لمخزوننا التراثي المعرفي –العقلي، العلمي العربي والإسلامي المشرق في صورته الإبداعية، والكفاحية ليكون عونًا لنا في المشاركة الفاعلة في صنع الخيارات المستقبلية الآتية، ولتجديد إسهاماتنا العلمية– الإنتاجية التنموية والفكرية والثقافية على مختلف الأصعدة في ضوء روح العصر وعلى درب المعرفة والعلم في ظل التحولات الإنسانية المطّردة والتدويل العاصف لاقتصاد المعرفة، وفي سياق التدويل الكوني للرأسمال، حتى يتسنى لنا في ضوء كل ذلك الشروع في تحديد انتقالاتنا الواقعية من المجهول إلى المعلوم ومن الخرافة والتقليد والإتباع إلى جنائن العقل والاستنارة والعلم.. أي العلم الذي يجردنا من ذواتنا الناقصة ولا يغيبنا عن وجهنا الخاص، العلم الذي يغتني دومًا بغنى وثراء عطاءات الحياة، وفي الوقت نفسه لا يفصلنا عن الآفاق العلمية والمعرفية والثقافية الإنسانية، كما حاول الإشارة إلى ذلك الشيخ جلال الدين الرومي، فنجد أنفسنا في دائرة الجهل وإعادة إنتاج التخلف والعزلة وضمن إيقاع حلبة رقص الأزمات الدورية المجنونة والتآكل الداخلي.

إننا بحاجة ماسّة إلى أن نتصالح مع أنفسنا ومع من حولنا، وأن نتماثل إيجابيًّا مع ما يفرزه جدل الحياة والواقع الموضوعي من تنوع وتعدد واختلاف كما قالها الشهيد/ أحمد حسن الحورش، شهيد الحركة الدستورية اليمنية المعاصرة 1948م، في وجه ظلامية وانغلاق البنية السياسية الذهنية والفكرية الإمامية الاستبدادية عندما أعلن أن «من تصارع الآراء تبزغ الحقيقة» ومن المختلف يتناسل أجمل مؤتلف. وبتعبير آخر، علينا أن نتعود أن نقبل ما تطرحه علينا الحياة موضوعيًّا من تعدد وتنوع بروح نقدية ديمقراطية؛ لأن الاختلاف والتناقض والصراع الإبداعي كحاجة جارية في جدل حركة الواقع أبدًا لن تتوقف كصيرورة إنسانية تفرض وجودًا ووعيًا لحقيقة التنوع والتعدد والاختلاف في سياق حركة الأشياء: الثقافية، الوعي والفكر، كمتغيرات اجتماعية ثقافية إنسانية دائمة لا يمكن لأية نزعة إرادوية ذاتية إلغاؤها أو تجميد حركة تحولاتها، أو إجبار عناصرها المتنوعة على الذوبان في الواحد «الكل» أو توحدها القسري في الآخر الثقافي أو السياسي بأي حال من الأحوال.

فلا حياة للفكر والثقافة والإبداع من دون الاستقرار السياسي والاجتماعي وبعيدًا من أجواء السلم الأهلي المدني والمناخ الإنساني الحر غير المقيد، على طريق التنوير العقلي وتنمية شروط الإبداع وترسيخ فلسفة الإنسان الحر في الوعي الاعتيادي والوجود العام للناس، وذلك بالحفاظ على المقومات الجوهرية للمواطن ككائن إنساني من دون ضغوطات الطقوس والشعائر الكلية الجبرية المطلقة؛ ذلك لأن التعارض أو التناقض الحقيقي إنما هو قائم في واقع حياة الناس وما تجلِّي حوارات الرؤى المختلفة والأفكار الحاصلة في أذهان الناس وتعددها وتباينها، إلّا انعكاس واقعي لمدارات الحوارات المؤصلة في جذر الواقع الموضوعي.. البرامج والسياسات والأهداف المتنوعة والمتشابكة.

علينا اليوم، وبعد كل ما مر بالوطن وما يمر به اليوم، الإقرار بتنوع مكونات المجتمع وبالتالي تنوع وتعدد مفردات وأدوات المعرفة والفكر والثقافة وأشكال الوعي المختلفة، وأن قوة حضور هذا الخطاب الفكري الثقافي، أي الآخر، إنما هو مرهون بمدى قدرته على الاستجابة الموضوعية للتحديات والتعبير عنها معرفيًّا وثقافيًّا. وهنا يأتي دور المثقف الإبداعي العقلاني النقدي، وبمدى اقترابه الواعي من أسئلة الحياة والعصر. وهو ما يحدد الفاعلية الفكرية والثقافية للاتجاهات والتيارات المختلفة التي تصطرع على الأرض بصورة إبداعية وديمقراطية من دون محاولة اغتيال ثراء أسئلة الحياة بالإجابات المطلقة الجاهزة والنصوص الميتة؛ لأن حضور مثل هذا التفكير إنما يأتي ليسحق ويدمر عناصر وملامح الرؤى العقلانية، والحركية المجتمعية المدنية التي إذا ما أتيح لها النمو والتطور الطبيعي، فإنها حتمًا ستخلق أشكالًا ووسائل تجليها الإبداعي في الواقع.. المهم السماح لبذور وشروط مؤسسات الثقافة، والمجتمع المدني بالوجود وأخذ دورها في الواقع، في مقابل الانتشار الكثيف لأدوات المجتمع السياسي –أي الدولة- في شكلها العسكري أو صيغة الحزب الواحد أو «القيادة التاريخية».

إن الميل الموضوعي المعاصر إنما يأتي مؤكدًا أهمية وجود مؤسسات الثقافة، والمجتمع المدني، ولكنه حتى الآن وفي هذه الحدود، لا يزال وجودًا محاصرًا ويتقدم ببطء شديد وعلى استحياء، وعلى الجميع (مثقفين ورموز مجتمع مدني)، الانتصار للخيار الثقافي على السياسي المهيمن؛ ليحرز الثقافي تقدمًا ملموسًا على عناصر التقليد والثبات والأيديولوجية المصمتة، التي تكبح وتعوق إمكانات تكون وحضور البنية الثقافية التعددية بمختلف مستوياتها، على طريق الحوار، وليس التجاور في المكان: حوار وصراع بين القديم والجديد على الصعد كافة، ونحو خلق مجتمع متوازن المصالح ومتبادل المنافع المجتمعية، وعلى قاعدة الأمن الأهلي والسلام الاجتماعي العام الذي يسمح ويتيح بفسحة طيبة للتجديد والحداثة والاستنارة العقلية التي ترفض الاحتماء بقلاع التفكير الجاهز والنمطية الفكرية المغلقة على ذاتها، والتي لا تقبل باحتجازها ضمن إيقاع مدارات الحوار العنيف أيًّا كان مصدره ومسبباته؛ لأن ما سبق لا يعني في الواقع سوى تكريس نموذج النرجسية الفكرية والثقافة الواحدية التي يحاول المجتمع السياسي أن يفرضه علينا بقوة الحرب، وبقوة سلطة الأمر الواقع. وإذا لم يكن للمثقف الإبداعي الديمقراطي دور حقيقي وملموس في مثل هذا الأوضاع، فلا أعتقد أنه يمكن أن يكون له دور في مستقبل أيامنا الآتية. إن على المثقف أن يشير إلى كل ذلك، رغم عوامل الانكسار والإحباط، وأن يتحرك بقوة فعل الكلمة لتحطيم وتفكيك إحباطات الواقع التشاؤمية، بتفاؤل الإرادة العظيم في داخله؛ للارتفاع بالوطن إلى مستوى العشق الوطني التام على طريق تجاوز أشكال التجلي الناقصة للحياة البائسة التي نعيشها اليوم، ويغطي وجهها طغيان صوت الحرب.

إن تفاؤل الإرادة في عقل المثقف النبيل، وجميع محبي الحياة سيجعلهم يتمكنون بوحدتهم من الانتصار لإرادة الحياة، والبدء يكون من تحرير سؤال الثقافة عبر مشروع ثقافي إبداعي ديمقراطي. إن العشق الذي نتطلع إليه وتهفو إليه الرغائب المكبوتة إنما هو «مدرسة للمساواة والتآزر والإنصات للآخر.. إنه الكشف عن الذات عبر ذات الآخر والكشف عن ذات الآخر عبر الذات الخاصة. إنه كشاف للأقنعة التي يمكن لأي إنسان أن يرتديها ولمستوى استبطانه للنزعات الاضطهادية والأنانية الاستغلالية التي هي من صلب العلاقات والهياكل السائدة. ومن هنا فإن الخطر الذي يشكله العشق على التعفن العام القائم هو احتمال تكونه كمدرسة اجتماعية» (عبداللطيف اللعبي- كتاب الرهان الثقافي الطبعة الأولى-1985م، دار التنوير للطباعة والنشر ص 84) مدرسة إضافية تسمح للفرد، وانطلاقًا من ممارسته الأكثر تفردًا، أن يبدع مجتمعًا خاليًا من النواقص القاتلة والمدمرة للآفاق السلمية الممكنة لتطور الوطن والحياة.

فالعشق والحب والسير برغبة عارمة وصادقة نحو الامتلاء الحق بكل ما هو جميل، هو الطريق كما يقولون نحو الإقبال على القارة الجديدة، والتعلم من مدرستها، إنه إعادة اكتشاف للبشرية بكامليتها وسيره نحو الحضارة الجديدة التي نأمل اليوم أن تكون رحلتنا صوبها، وأن تأتي فصول كتابنا القادم مغزولة بجهود كل اليمانين. فالمشاريع الكبيرة العظيمة السامقة التي ما برح الوطن يراوح التقدم نحوها لن تتأتى إلّا بالرؤى الحالمة الثقافية، والقامات الديمقراطية، والإنسانية النوعية.. القامات المديدة السمو والتألق التي تشرئبّ نحوها الآمال والأعناق، والتي تعمم في الواقع الحياتي الملموس معنى الوطن والدلالة الرمزية الكلية لمفهوم اليمن. وتجسد في الممارسة روح المبادرة والحوار الديمقراطي التام على انقاض الحرب الجارية، وعلى قاعدة سياسة المصالحة الوطنية الشاملة كشكل من أشكال التفكير النوعي الجديد الذي يطرح نفسه بديلًا لكل أشكال التفكير القديمة، أيًّا كانت حيثياتها، ومسبباتها ومصادرها.

فالوحدة الحقيقية على المستوى، الوطنيّ أو الإقليميّ أو القوميّ أو حتى على المستوى الفكري – الثقافي الخاص، لا تتخذ أشكالها الواقعية الإبداعية إلّا في إطار التنوع والتعدد والتباري المدني السلمي على أفضلية العناصر أو الخيارات التي تستحق البقاء والاستمرار كصيرورة معرفية ثقافية إنسانية.