عزت عمر يرصد حداثة حبيب الصايغ وولعه بالتجريب

عزت عمر يرصد حداثة حبيب الصايغ وولعه بالتجريب

يوقفنا الناقد السوري عزت عمر على عالم الشاعر والإعلامي الإماراتي الراحل حبيب الصايغ، وذلك من خلال كتابه «حبيب الصايغ.. وعي الحداثة وهاجس التجريب» الصادر عن مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، ضمن سلسلة أعلام من الإمارات، حيث يوضح عزت عمر مراحل تطور التجربة الشعرية لدى الصايغ من خلال ثلاثة فصول اشتمل عليها الكتاب، وقد حمل الفصل الأول عنوان «نشأته وأعماله»، وفيه رصد الأعمال الشعرية للصايغ التي بدأت بديوانه «هنا بار بني عبس.. الدعوة عامة» عام 1980م، وهو العمل الذي لفت أنظار الأوساط الثقافية إلى الحضور الكبير لشاعر جديد، ثم تلته دواوين «التصريح الأخير للناطق باسم نفسه» 1981م، و«قصائد إلى بيروت» 1982م، و«مياري ولامح» 1986م، و«قصائد على بحر البحر» 1993م، و«وردة الكهولة»، و«غد» 1995م، و«كسر في الوزن» 2011م، و«رسم بياني لأسراب الزرافات»، و«أسمِّي الردى ولدي» 2012م، وأوضح عمر في هذا الفصل أن الصايغ شغل العديد من المناصب المهمة، من بينها رئاسة تحرير جريدة الخليج، وإدارة تحرير مجلة «شؤون أدبية»، وإدارة الإعلام الداخلي في وزارة الإعلام والثقافة، ورئاسة اتحاد الكتاب الإماراتي، ورئاسة اتحاد الكتاب العرب، ونال العديد من الجوائز من بينها جائزة الدولة التقديرية للآداب عام 2007م، وجائزة تريم عمران (فئة رواد الصحافة 2004م، وجائزة العويس عام 2015م.

عزت عمر

قسم عمر تجربة الصايغ الشعرية إلى نوعين؛ الأول سمّاه «القصيدة الكتاب»، وقد خصص له الفصل الثاني، وفيه تناول بالتحليل النقدي ثلاث قصائد/ دواوين مهمة في تجربته، وهي: «هنا بار بني عبس.. الدعوة عامة»، و«مياري»، و«أسمي الردى ولدي»، موضحًا أن الصايغ تفرد من بين شعراء عصره بكتابة القصيدة الطويلة، لتأتي وحدها في ديوان شعري متكامل، على أن تفرد الصايغ الحقيقي ليس في الشكل الذي طرحه، وإنما في قوة التجربة التي بدت إشكالية من عنوانها؛ إذ جمع العنوان بين متناقضين في الزمان والمكان حسبما يوضح عمر «فكلمة «بار» تشير إلى مكان عصري يلتقي فيه الأصدقاء للمنادمة واحتساء المشروبات… بينما «بني عبس» تحيل إلى زمان القبيلة وحروبها غير المنتهية وفارسها عنترة بطبيعة الحال»، ص 45: «تشاغبني البيد في ذروة الوحدة العاقلة/ وزوادتي فوق ظهري/ وعمري نفق/ ظلام تمدد في الوقت في احترق/ ولا شيء سواي/ وظلي يراودني عن نقائي الجريح/ ويلفظ باقي الرمق/ فأبقى وحيدًا أجرجر كل ذنوبي التي سوف توجد/ هل أنا مشروع توبة؟». صـ 45.

مزج الأسطوري بالواقعي

أما القصيدة/ الديوان الثانية فهي «مياري»، وهو الديوان الرابع في تجربة الصايغ، والصادر عام 1983م، وفيه يمتزج الأسطوري بالواقعي، حيث «مياري الفائضة الأنوثة، والتي منها تتشكل الأشياء والعناصر والكائنات، والتي تحضر كأم كلية في وجدان الشاعر واللاشعور الجمعي باعتبارها رمزًا إحيائيًّا كونيًّا» ص 74، وجاءت القصيدة/ الديوان الثالثة في تجربة الصايغ بعنوان «أسمي الردى ولدي»، وهو الديوان الأخير في مشروعه الشعري، الصادر عام 2012م عن دار شرقيات بالقاهرة، وفيه يقدم الصايغ طرحًا إشكاليًّا جديدًا على مستوى الصورة الشعرية؛ إذ إن الشاعر يرى الموت ابنًا له، وذلك على نقيض المعتاد، إذ درجت المخيلة الشعبية على قول «ابن موت» كناية عن أن هذا الشخص كان منذورًا للموت في كل صفاته، لكن الصايغ يغاير الصورة ويقدم نفسه بوصفه الأب الروحي للموت، أو على الأقل يمنحه رابطة البنوة، وقد ربط الناقد بين هذا الديوان وبعض التجارب التي تحدثت عن المرض والموت في الثقافة العربية، وفي مقدمتها قصيدة/ ديوان «جدارية» للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، التي كتبها عن تجربته المرضية في أثناء إجرائه عملية القلب المفتوح.

خيال وأسئلة فلسفية

في الفصل الثالث انتقل عمر إلى رصد النوع الثاني من دواوين الصايغ، وهو المجموعات الشعرية، حيث تتعدد قصائد الديوان وموضوعاته وحالاته الشعرية، وقد اشتمل التحليل النقدي على ثلاثة دواوين هي: كسر في الوزن- وردة الكهولة- رسم بياني لأسراب الزرافات، وذهب عمر إلى أن تجربة الصايغ شهدت العديد من القصائد القصيرة جدًّا، التي يمكن تسميتها «القصيدة اللمحة»، على غرار القصة القصيرة جدًّا أو القصة اللمحة، وهي تلك القصائد التي قدم من خلالها الشاعر صورًا شعرية قصيرة لكنها قادرة على إثارة الخيال والأسئلة الفلسفية التي عشقها الصايغ بحكم تخصصه الدراسي، ومن بينها:

غرق النورس/ فتأخرت الشمس عن موعدها/ خمس دقائق. ماذا تعني/ ولادة جدي جديد/ في بيت القصاب؟ نتذكر الشمعة/ وننسى عود الثقاب. ص 160.

ذهب عمر في خاتمة كتابه إلى أن الصايغ عاين تجربة الحداثة الشعرية لدى شعرائها الكبار أمثال السياب والبياتي وقباني وحجازي والملائكة ودرويش، وأنه كتب بعضًا من أعماله وفقًا لآليات ورؤى هذه المدرسة التي عرفت بمدرسة التفعيلة أو الشعر الحر، لكنه سرعان ما انتقل ليكون من بين أبناء تيار قصيدة النثر، فيبدع من خلال رؤاها وتجاربها وطموح أبنائها لخلق نص مغاير. وأكد الناقد السوري على أنه لا يعني بالحداثة مدرسة بعينها، لكنها تعني زمنًا ورؤية ثقافية توهجت في النصف الثاني من القرن العشرين، وأن الصايغ مزج في شعره بين الأسطوري والواقعي والمتخيل، واستفاد من المذاهب الفلسفية كالوجودية والعبثية والسريالية، كما استفاد من تراث الصوفيين الكبار أمثال جلال الدين الرومي، وفريد الدين العطار، وغيرهما، في نسج نص شعري قادر على إثارة الخيال والدهشة لدى قارئه:

«النمور التي شاركتني المعاطف والبرد/ والخطوات السريعة/ النمور التي أرضعتني حليب النحيب/ النمور التي آثرت دائمًا أن تغني/ مخافة أن يذهب الليل/ النمور التي سكنت بيتنا قبلنا/ النمور التي تتهاوى/ وتدعو ابن آوى/ النمور التي أيبست عشب جيراننا/ النمور التي أورثتنا الحتوف الرشيقة/ النمور التي أرهقتنا من النبش في ظلنا/ تقول لنا الآن شيئًا جديدًا/ وتتركنا في مهب الظنون». ص 193.

سينمائية سعودية اختارت البحر لترمز للمرأة المكبوتة شهد أمين: لا أخوض في التجارب المضمونة.. والفن لا يكتمل بلا مجازفة

سينمائية سعودية اختارت البحر لترمز للمرأة المكبوتة

شهد أمين: لا أخوض في التجارب المضمونة.. والفن لا يكتمل بلا مجازفة

الانفتاح السعودي الذي حدث عام 2018م للفنون والآداب، عزز من مثابرة جيل من السينمائيين السعوديين الذي كان يغامر، من دون حتى سند رسمي، في مجال تكتنفه الصعاب وعدم التشجيع داخليًّا. جيل طموح يتطلع إلى التعبير عن مواطنته وهويته السعودية، عن مجتمعه وقضاياه. من ذلك الجيل المخرجة السينمائية شهد أمين التي درست إخراج الفيديو في لندن، ثم عادت إلى السعودية لتعمل مخرجة مساعدةً في الإعلانات والأفلام الوثائقية، ثم ذهبت إلى نيويورك لتدرس كتابة السيناريو، وأخرجت الأفلام القصيرة، ومنها: فلم «نافذة ليلى»، ثم فلم «حورية وعين»، الذي فاز بجائزة أفضل فلم روائي قصير في مسابقة «أفلام الإمارات» المخصصة لمخرجي دول الخليج ضمن مهرجان أبوظبي السينمائي.

هنا حوار مع شهد أمين حول تجربتها في السينما.

● كيف كانت بداياتك الإخراجية مع السينما؟

لقد بدأت في تجربة الأفلام منذ كنت في التاسعة، ومنذ ذاك الحين كنت أحلم بدراسة السينما، وفعلًا درست صناعة الأفلام في لندن، وتخصصت أيضًا في كتابة السيناريو، بعد ذلك، في لندن أيضًا. تابعت صناعة الأفلام الخاصة بي، وأنا أعمل كمساعد مخرج. وبعد أفلام قصيرة ناجحة تمكنت من صناعة أول فلم روائي طويل.

● على الرغم أن أحداثه الخيالية لا ترتبط بمدة زمنية محددة، فإن فلم «حورية وعين» تناول قضايا معاصرة نسجت أحداثها بين ما هو واقع وخيال في الوقت نفسه، بأسلوب رمزي مدهش، فما مصدر هذه الواقعية السحرية التي تحققت لك؟

أردت أن أروي قصة من أعماق الشخصية نفسها، وأردت أن أستعين بلغة بصرية بحتة وهي اللغة ذاتها التي من خلالها اكتشفت سحر السينما. وأردت أيضًا أن يكون لفلمي طابع عربي ويحمل موروثًا عربيًّا في ناحية الصور. لقد اعتمدت كثيرًا على الصورة الشاعرية في سرد القصة وفي الخوض في القصة.

● فلم «سيدة البحر» جاء بطريقة مغايرة عن الطرق المعتادة سينمائيًّا. كمخرجة سعودية لماذا تحرصين على طرح الأفكار غير المألوفة؟

قبل أن أقوم بتصوير وكتابة شيء دائمًا أفكر. ما الجديد والمغاير فيما أطرحه. أنا لا أحب أن أخوض في التجارب المطروحة سابقًا، أو في التجارب المضمونة. الفن عندي لا يكتمل من دون شجاعة ومجازفة، وهذا ما أتطلع إلى رصده عندما أرى أو أقرأ أيّ جديد. وبالطبع أحب التمسك بهذا المبدأ في أعمالي.

● تؤمنين بأهمية السينما البصرية، بالنظر إلى علاقتها الوثيقة بالهوية الشرقية. فأين تبدو العلاقة بين الشرق والصورة سينمائيًّا وإنسانيًّا؟

أمامنا الكثير حتى نستطيع التحدث عن سينما تمثلنا نحن، وتعبر عن اختلافاتنا وهيئتنا الموحدة في آنٍ معًا. من أصعب الأسئلة التي تطرح علي، سؤال الهوية والسينما، الهوية والفن في شكل عام. ولكني أومن أن صانع السينما نفسه يجب أن يكون صادقًا مع نفسه ومع تجربته الحياتية. فالتعامل مع القصة بصدق هو من الطرق الأولى التي قد تصنع فلمًا يعبر عن هوية صانعه ويمثل جيله، ولعلي أخبرك ههنا بأنه بعد مشاهدة كثير من النساء لـ«سيدة البحر» ذكرن لي أن حياة «الشخصية الرئيسية» تشبههن بشكل مذهل.

● أنت تؤمنين بأن الأفلام ليس ضروريًّا أن تحمل قضايا، إذن، كيف عبرت عن رؤيتك وتجربتك الحياتية؛ كمخرجة سينمائية؟

أعتقد أن صناعة الأفلام في حد ذاتها هي رحلة في البحث عن الذات. وهذا ما أحاول أن أفعله عندما أكتب قصصي. أحاول دائمًا أن أسأل أسئلة لا أملك لها جوابًا. أو أن أحفز نفسي بطريقة غير مباشرة من خلال قصصي.

● ما الفرق بين الأفلام القصيرة والأخرى الطويلة من وجهة نظرك كسينمائية، وأيهما يحظى بإقبال جماهيري أكثر من الآخر؟

في الواقع أعتقد أن الفلم الطويل أكثر جاذبية للجمهور، وأما من ناحية القيمة فالفلم القصير أو الطويل يحظيان بالأهمية ذاتها.

شهد أمين تتسلم جائزة عن فلمها «سيدة البحر»

السيريالية والواقع

● اخترت عالم البحر ذلك العالم الغامض ليرمز إلى المرأة المكبوتة، بوصفها موضوعًا يحظى باهتمام العالم، فكيف عبرت عن فلسفة الكبت بتلك الطريقة غير المألوفة؟

مهما كان هذا العالم الذي اخترته سرياليًّا فهو بالنسبة لي واقعي جدًّا؛ إذ إنني حاولت أن أكون صادقة مع قصتي وجعلتها أكثر شخصية.

● يسعى المخرج السينمائي إلى الحوار والجدل بعد عرض فلمه، فما أهمية الحوار حول مضمون العمل السينمائي بالنسبة للسينمائي؟ وأين يكمن دور الناقد السينمائي؟

أجمل ما يستطيع فعله الفلم هو خلق الحوارات وخلق أفكار جديدة.

● ذكرت في أحد حواراتك أن الجرأة هي أساس صناعة الأفلام؛ فإن لم يكن السينمائي جريئًا، فليبحث عن مهنة أخرى. عن أي أسلوب من الجرأة تتحدثين؟

الجرأة في طرح القصة وفي طريقة الطرح، وفي صدق صانع الأفلام مع نفسه وشخصياته التي يكتبها. لم أقصد بذلك الجرأة التي تخدش الحياء، بل قصدت تلك الجرأة التي يستطيع الصانع التعبير بواسطتها عن لغته الخاصة.

● هل تؤمنين بمصطلح «سينما المرأة»؟ وهل ترين أنها الأقدر على التعبير عن قضاياها؟

أعتقد أننا في حاجة إلى قصص ترويها المرأة عن نفسها؛ لأنها هي التي تعيش تجربتها في الحياة أولًا وأخيرًا، ولكني مع ذلك لا يمكن أن أنكر معرفة بعض الرجال وكتاباتهم عن المرأة بطريقة صادقة وصريحة.

الانتصار للحياة

● ما الرسالة الإنسانية والمعنوية التي قدمتها في «سيدة البحر»؟

أعتقد أن أهم ما يقوله فلم «سيدة البحر» هو أهمية الانتصار للحياة. تجربة الحياة هي تجربة خاضتها لتثبت لقريتها أن الحياة والحب أهم من الكره والموت. وأن نعمة الحياة أكثر قداسة من أي شيء آخر.

● يقال: إن المرأة السعودية تخطو ببطء نحو عالم السينما، فما تبريرك لذلك التباطؤ في حقل السينما؟

الأهم هو سرد قصص تتقدم بنا ولا ترجعنا إلى الوراء.

● كيف يمكن للسينما الإسهام في خلق جيل سينمائي سعودي، يسهم بدوره في تعزيز الوعي الاجتماعي ودعم الاقتصاد الوطني؟

أعتقد أن السينما في حد ذاتها ثقافة. هي فن يشجع على التفكير ويغذي الثقافة العامة، وفي إمكانه أن يخلق هوية إنْ نميناها بالطريقة الصحيحة.

●كيف تسهم الجامعات خاصة والتعليم عامة في مواكبة التطور السينمائي، وتخريج أجيال متخصصة سينمائيًّا؟

أتمنى البدء بتدريس السينما في المدارس. فنحن في حاجة إلى جيل يتربى على اللغة البصرية واللغة الأكثر شاعرية.

● حدثينا عن مشاريعك السينمائية خلال المرحلة المقبلة؟

هناك الكثير من الأشياء التي أعمل عليها، وأتمنى مشاركتكم بها لاحقًا إن شاء الله.

المترجم يخسر حين يحول الناشر الترجمة إلى وسيلة للتكسب

المترجم يخسر حين يحول الناشر الترجمة إلى وسيلة للتكسب

هل الترجمة خيانة؟ ما الذي سيكون عليه شكل العالم لو توقفت حركة الترجمة عن العمل؟ كيف يمكننا أن نعرف الآخر؟ كيف يمكننا أن نستوعب خبرات الشعوب وتجارب الأمم؟ كيف يمكننا أن نُصدِّر خبراتنا لهم؟ آلاف الأسئلة التي تواجهنا حين نفكر في الحديث عن الترجمة، ليس بوصفها فقط جسرًا للتواصل بين الجماعات البشرية، ولكن بوصفها علمًا وفنًّا، وقدرة على الاختيار، وخبرة تترقى بعدد السنين والنصوص، فما الصعوبات التي تواجه المترجمين؟ وما إشكالياتهم مع دور النشر؟ ولماذا أخفقنا في إقامة حركة ترجمة عكسية تعلن عن آدابنا وحضورنا في العالم الحديث؟ وكيف يمكن أن نضبط فوضى المصطلحات؟ هل يمكن أن يتوقف العالم العربي عن منافسة بعضه بعضًا، ويتعامل كثقافة واحدة تتحاور مع الثقافات الأخرى في العالم؟

أسئلة وتساؤلات تطرحها «الفيصل» على عدد من الكتاب والمهتمين

تفاوض بين لغتين

يوضح الشاعر والناقد الأكاديمي المغربي الدكتور صلاح بوسريف أن الترجمة أحد الموضوعات التي دائمًا ما كان النقاش حولها عصيًّا، ويقول: «كثيرون هم المفكرون والنقاد والباحثون في مختلف حقول المعرفة والإبداع الذين اعترفوا بخطر الترجمة، بل رأوا أن الترجمة من لغة إلى أخرى «خيانة» للغتين معًا، فدائمًا، هناك أشياء ما تضيع، وتفقد رواءها في عملية الانتقال هذه، وهنا، أريد أن أذكر بالعبارة التي اختزل بها إمبرتو إيكو ما يحدث في عملية الترجمة، باعتبارها «تفاوضًا» بين لغتين، وفي كلِّ عمليةِ تفاوضٍ يجري تنازل من قبل الطرفين المتفاوضين، كل لغة تتنازل عن شيء من كيانها التعبيري، خصوصًا في الإبداع، فأنت لا تستطيع ترجمة الإيقاع، أو نقله بنفس خصوصية اللغة التي تترجم إليها؛ لأن إيقاع كل لغة يختلف في جوهره عن إيقاع غيره من اللغات الأخرى، والعربية، هي في طبيعتها لغة مد، ولغة شفاهية، لغة غناء وإنشاد وإلقاء. الشيء نفسه يمكن قوله عن الصورة، والتركيب، وبناء التعابير والجمل. ومن ثم فالتفاوض وفق عبارة إيكو هو تضحية بشيء ما، وهو تقريب وليس نقلًا بالحرف والجملة والكلمة. فالترجمة تكون أساسية، بمعنى التقريب، وبمعنى الوقوف على بعض خصوصيات الفكر والثقافة التي نترجمها، مع فقدان خواص وعناصر ومكونات أخرى في الطريق، وهذه إحدى معضلات التفاوض».

ويرى بوسريف أن ترجمة الفكر والنقد تجعل المأزق مضاعفًا؛ «لأننا نكون بإزاء مفاهيم لها سياقاتها الثقافية التي ظهرت فيها، وهي مرتبطة بلغة دون أخرى، لذلك يحدث ارتباك في ترجمة المفاهيم واختلافها، كما في مفهومي «الإنشائية» و«الشعرية» مثلًا». ويلفت إلى أنه ليس هناك مفاهيم موحدة في العربية؛ «لأن الترجمة في عمومها، عندنا، هي مبادرات فردية، يقوم بها أشخاص، لا مؤسسات، حتى المؤسسات، إذا ما وجدت، فهي لا تستطيع أن تقنع الباحثين والنقاد والمفكرين بما تقترحه من مفاهيم، وهذا ما يجعل الترجمة عندنا تشبه اختلاف الألسن في برج بابل؛ لأن المفاهيم التي يستعملها التونسي، في اللسانيات أو في السوسيولوجيا والنقد الأدبي، غير ما يقترحه المغربي والجزائري، أو السوري واللبناني، وهذا ما يحدث بلبلةً، ليس في اللسان فقط، بل في الفهم وفي القراءة وفي مضامين المصطلحات، وفي نتائج البحث وما نبلغه فيه من تأويل، فالمفاهيم، كما يقول الدكتور محمد مفتاح، معالم، وحين تصبح الترجمة بهذا المعنى فإنها تفقد الاتجاه، بل تفقد القدرة على الإبانة والإفهام. وفي الغرب، طبيعة التراكم في الترجمة ووجود مؤسسات وتقاليد باتت عريقة في هذا الباب؛ مما أتاح تبني مفاهيم موحدة، وقد لعبت الجامعة هناك دورًا في شرعنة كثير من المفاهيم ومأسستها، ووضعها في سياق البحث العلمي، فضلًا عن المعاجم والموسوعات التي ساهمت في حل كثير من المشكلات، وهذه كلها عناصر لا نتوفر عليها، والجامعة لدينا بها هذا الارتباك وهذه البلبلة؛ مما ينعكس على البحوث والدراسات، وعلى توجيه الطلبة والباحثين، وعلى البحث العلمي ككل».

عملية إبداع

المترجم السوري حسين عمر يرى من الصعب وضع الترجمة في خانة الفن فقط أو العلم فقط، ويقول: «لا شكّ في أنّ الترجمة من الفنون الإبداعية التي تتواشج على نحوٍ وثيق بالعمل الإبداعي المكتوب بلغة الأصل كما بلغة المقول الهدف. ولكنّ الترجمة محكومة أيضًا بضوابط وأصول علوم اللغة التي تتمّ منها وإليها. أيًّا كانت، الترجمة هي، قبل كلّ شيء، عملية خلق وإبداعٍ جديدة، وليست مجرّد عملية نقل ميكانيكية لنصّ من لغة المصدر إلى لغة الهدف. بالتأكيد، هذا لا يعني التخلّي عن روح النصّ المصدر، وإنّما وضع هذه الروح في جسد النص الهدف بطريقة إبداعية خلّاقة». ويذهب حسين عمر ليؤكد أن الترجمة هي حرفة، «تختلف فيها مهارة من يحترفها، ووسيلة نقل نصّ إبداعي من ضفة لغة المصدر إلى ضفة لغة الهدف، مع الأخذ في الحسبان أنّ لغة سكان الضفة التي يُحمَل إليها النصّ تختلف عن لغة سكان الضفّة الأولى. ولذلك، يجب أن يكون الهاجس الأوّل للمترجم هو بثّ روح اللغة المُترجَم إليها في النصّ وإضفاء جمالياتها عليه، وبذلك، تمنح الترجمة أفقًا جديدًا للعمل الأصلي، وهي وحدها الكفيلة بتحويله إلى نصٍّ عالمي».

فوضى المصطلح

من ناحية، يعتقد عميد كلية الألسن بجامعة بني سويف المصرية الدكتور أحمد الشيمي أن الفوضى تصيب أكثر ما تصيب ترجمة المصطلحات، وعزز كلامه بطرح أمثلة عدة، «حين ظهر مصطلح «genes» ترجمه عباس العقاد بـ«ناسلات» لكنها ترجمة لم يُقدر لها الشيوع، واقترح ترجمتين لمصطلح «identification» فترجمه «التلبيس» مرة و«التشخيص» مرة أخرى. ومعروف أن المترجمين العرب في العصر العباسي – رغم إنجازهم الكبير في الترجمة اضطربوا في ترجمة مصطلحي tragedy وcomedy حين ترجموه بـ«الهجاء» و«المدح»؛ لأنهم لم يركزوا في فهم معنى المأساة والملهاة لأسباب دينية، وقد اضطرب النقاد المحدثون في ترجمة بعض المصطلحات مثل «الهرمنيوطيقا» التي ترجمها جابر عصفور بـ«علم التأويل» وترجمها محمد عناني بـ«علم التفسير» و«الهرمنيوطيقا» أو «التفسيرية»، وترجم سعد مصلوح مصطلح formalism بـ«الشكلانية»، وهي ترجمة لم يُقدر لها الشيوع والانتصار على «الشكلية» التي يحبذها محمد عناني ترجمة لهذا المصطلح. كما نجد أن مصطلح historicism يُترجم مرة بـ«التاريخانية» ومرة أخرى بـ«التاريخية». وتتضح فوضى الترجمة في ترجمة مصطلحات نظرية القارئ، فنجد مصطلح implied reader الذي أطلقه ولفجانج إيزر؛ يترجمه بعضهم إلى «القارئ الضمني» وهي الترجمة الشائعة، وآخرون إلى «القارئ الموحى به» أو «القارئ المفترض» أو «القارئ المضمر». وانظر في الفوضى التي ضربت مصطلح affective fallacy الذي ترجمه سعد مصلوح إلى «خداع التأثير»، وترجمه آخرون إلى «المغالطة العاطفية»، و«المغالطة التأثيرية»، و«الوهم العاطفي»، ومصطلح deconstruction الذي نقرأ له ثلاث ترجمات: «التفكيكية» وهي الشائعة، ثم «التشريحية» و«التقويضية». وهناك مصطلح defamiliarization الذي وجدنا لـه ترجمات متعددة: «التعجيب»، «مخالفة المألوف»، «نزع الألفة»، «الإغراب».

سبيل الناشرين إلى التكسب

ويدافع الشاعر والكاتب والمترجم التونسي عبدالوهاب الملوح عن المترجم المتهم بالخيانة وأنه يجني كثيرًا من الأموال من مهنته، فيقول: «لقد ذهب في اعتقاد الكثيرين أن المترجم يجني المال الكثير مما يقدمه من أعمال مترجمة وهو بذلك يرمي أكثر من عصفور، فإضافة إلى ما قد يجنيه من مداخيل مالية يحظى بالنجومية الأدبية التي يتهافت عليها الكتاب، ويرتقي سلم العالمية بسرعة، وينجح في مسيرته، على العكس من الشاعر الذي يكتفي بكتابة الشعر فقط أو الروائي الذي تتوقف تجربته عند إصدار روايات. فهو الكاتب السعيد إن لم يكن الأسعد على الإطلاق من بين جميع الكتاب، رغم ما يتقوَّل به هؤلاء الكثيرون من صفات ذم المترجم من قبيل؛ إنه خائن، وإنه دخيل على الإبداع، وإنه بلا موهبة، هذا ظاهر الأمر وهذا ما يراه غالبية المتابعين للشأن الأدبي، في حين أن الواقع عكس ذلك تمامًا، فالمترجم الحقيقي لا يسعى البتة للإثراء والربح المادي مما يشتغل عليه من ترجمات، ولعل دافعه الأهم هو تزويد المكتبة العربية، ومن وراء ذلك تسليح العقل العربي بتفكير مختلف وأسلوب مغاير، وإطلاعه على ثقافات شعوب أخرى بما فيها من إبداعات فنية».

ويلقي الملوح باللائمة على دور النشر، «للأسف وجد الناشرون في الترجمة سبيلًا للربح والتكسب، وهو ما حولها من عمل فني فيه مجهود إبداعي جمالي إلى سلعة للبيع والمساومة أيضًا، بل للمنافسة التجارية، بما أن هذي الترجمات صارت ضمن بورصات الجوائز، بغض الطرف عن قيمتها الفنية». وعن تجربته الشخصية يقول: «شخصيًّا لم يكن لدي أي هدف ربحي، منفعي، مما قدمته من محاولات أراها دائمًا متواضعةً في الترجمة، كان الأهم عندي هو تشريك القارئ العربي فيما أكتشفُه من جماليات فنية عند الآخر بثقافته المختلفة، غير أنني وجدت نفسي ضمن سوق للبيع والشراء، ناهيك عن مشكلات حقوق الطبع من الناشر الأصلي التي عادة ما يتملص منها الناشر لما قد تكلفه من أتعاب، إضافة لما قد يمليه الناشر من تغييرات في صلب النص، عدا مشكلة التوزيع التي تظل قائمة وإلى الأبد، بل أرى أن حتى المؤسسات الرسمية التابعة لوزارة الثقافة في ميدان الترجمة ما زالت تتخبط، لا تعرف أي دور لها، وهذا كله في غياب سياسة ثقافية محددة وواضحة منذ البدء».

غياب التقاليد

في حين يذهب الكاتب والمترجم السوري أسامة إسبر إلى أن مشكلات الترجمة في العالم العربي لا تنفصل عن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويشير إلى أنه في الوقت الذي يحتاج فيه العمل الثقافي والإبداعي إلى بيئة مستقرة، نجد أن مفهوم القارئ المستقر غير متوافر في بلادنا، «فابن وطننا مشغول بهموم كثيرة، وتتمحور حياته حول تأمين لقمة العيش، كما يعاني انقطاع الكهرباء والماء والغاز والدخل الذي يمكّنه من أن يعيش حياة كريمة، فكيف نطالبه بالقراءة، وهو لا يستطيع أن يجلس على الكرسي كي يركز على ما يمنحه له كتاب مترجم أو غير مترجم. أما الحكومات العربية فلا تهمها الترجمة سوى على المستوى الدعائي، وكما لا يعيش الكاتب العربي من ريع كتبه، لا يعيش المترجم أيضًا، فأجور الترجمة زهيدة في معظم دور النشر العربية، كما أن الناشر عادة لا يمتلك تقاليد قائمة على احترام حقوق الملكية الفكرية، فمعظم الناشرين يحضرون عقودًا قطعية، يشترون بموجبها نصًّا مترجمًا ويستولون عليه دون شراء حقوقه من الآخر الأجنبي، ويعاملون المترجم بالقَطَّارة. كما أن سوق توزيع الكتاب العربي محدود، فالناشر في سوريا يتحرك بين ٥٠٠ نسخة وألف نسخة، بما يعني أن العزوف عن القراءة ظاهرة عربية عامة، ومقتصرة على أوساط المثقفين، والكتب التي تبيع على نطاق واسع هي المرتبطة بترويج الثقافة التقليدية. واختيار الكتاب المترجم إلى العربية يخضع لمعايير التسويق أكثر مما يخضع لقيمته الفكرية أو الإبداعية».

الترجمة تحت بير السلم

أما الناشرة الفلسطينية المقيمة في القاهرة بيسان جهاد عدوان فترى أنه رغم كثرة جهات الترجمة في العالم العربي، فإن سوق الترجمة في القطاع الخاص يسيطر عليه المترجمون من خلال علاقاتهم بالجهات الداعمة للترجمة، «ربما سوق الخليج عبر مشاريعه الخاصة بالترجمة قد منحت للمترجمين أجورًا باهظة، وهم يستحقون ذلك فعليًّا، لكن ذلك أثر في قطاع النشر الخاص الذي صار يتحايل على الأجور العالية التي يطلبها المترجم في مصر أو لبنان أو سوريا، فكان عليه البحث عن منح دعم الترجمة، تلك الخاضعة لعلاقة المترجم نفسه بأشكال الدعم والمتنفذين به، وبنوعية الكتب المحددة التي تفرضها الأجندة الثقافية لبلد ما، مما يحدّ من الاختيارات الواعية التي تهم القارئ العربي، فضلًا عن ركاكة الترجمة؛ إذ يضطر إلى الترجمة تحت بير السلم، ومنح جزء كبير من الدعم لمترجم رئيسي يضع اسمه أو يكتب مقدمةً أو تحقيقًا للكتاب غير الأدبي، حتى يبتعد عن دفع حقوق الملكية الفكرية، والأسعار المبالغ بها تكون في الترجمات التي لها علاقة بالأدب، وهي المهيمنة. أما ترجمة الكتب العلمية، فبسبب ما سبق، فهناك حضور شديد لهيمنة ثقافة على أخرى، وهناك حضور شديد للترجمة الحرفية والتقنية، عكس الترجمة الإبداعية القائمة على قدرة المترجم على استيعاب وامتصاص الثقافة القادمة وخلقها في حُلّة جديدة».

التصوف أحد مدارج الحقيقة وليس بديلًا وسطيًّا للإسلام السياسي

التصوف أحد مدارج الحقيقة وليس بديلًا وسطيًّا للإسلام السياسي

يوجد من يرى أن الطرق الصوفية عابرة الحدود مثل البراهانية والشاذلية والرفاعية لم تستطع توحيد صفوفها؟ هل ذلك يعود إلى عقيدة لديهم، أم أن الأنظمة لم تترك لهم فرصة التعود على ممارسة العمل السياسي؟ هل يمكن الرهان عليهم في المستقبل كبديل عن الإسلام السياسي المتشدد، أم أن المتصوف يتناقض مع الاشتباك السياسي؟ «الفيصل»

عادل لطيفي: تصوف العوام

المتصوفة مكون مهم من مكونات الثقافة العربية والإسلامية عمومًا عبر تاريخها، وذلك على الرغم من المحاصرة التي فرضها الفقهاء وعلماء النص. وحده التصوف تمكن من منافسة العقل الفقهي الإجرائي بعد تراجع تأثير الكلام المعتزلي. وقد تمكن حتى من التفوق عليه في البلاد المغاربية منذ القرن الرابع عشر بانتشار «تصوف العوام» أو ما يسمى بالإسلام الولائي (أولياء الله) وذلك منذ القرن الرابع عشر الميلادي.

وقد تأسس التصوف على قاعدة التجربة الفردية فأعطى التصوف الفردي من خلال شخصيات مثل الجنيد ورابعة العدوية والحلاج وابن عربي وجلال الدين الرومي وغيرهم. وبحكم تركيز هؤلاء على الإيمان كتجربة فردية بعيدًا من العقل الإجرائي الفقهي، انحصر تأثيرهم في العامة وبالتالي في الحياة السياسية.

لكن الأمر يختلف مع الطرق الصوفية التي ظهرت لاحقًا، فقد مزجت بين الإسلام الشعبي العفوي وبين البعد الاجتماعي، فقد كانت الطريقة الصوفية مجتمعًا مصغرًا تستمد نفوذها من الوليِّ المؤسِّس وبخاصة من مقامه الذي يسمى في البلاد المغاربية «الزاوية». ولذلك كانت تنافس الحكم القائم كما كان الحال في المغرب الأقصى مع زوايا نافذة مثل زاوية تادلة. ونجد اليوم هذا التأثير نفسه للطريقة النقشبندية في الجزء الآسيوي من العالم الإسلامي.

أما اليوم وبحكم تأكد الدولة الوطنية كإطار للعمل السياسي وبحكم إفلاس ما يسمى بالإسلام الرسمي، إسلام السلطة، في تأطير الشباب، وبحكم انسداد أفق الإسلام السياسي بعد خيباته وجرائمه، فيبدو التصوف مؤهَّلًا أكثر لاحتلال موقع مهم في الحياة الدينية للمسلمين وليس في الحياة السياسية. فبعد أن جفف الإسلام السياسي منابع الإيمان بتركيزه على المسائل السياسية والإجرائية، فإن التصوف مؤهل لأن يعطي روحًا جديدة لهوية المسلم وهي إيمانه بعيدًا من منافسة الدولة في تنظيم الحياة العامة وبعيدًا من منافسة الأحزاب في الحياة السياسية.

أكاديمي تونسي – جامعة السوربون

محمد عفيفي: لكل طائفة طريقة

السياسة في العالم العربي بدأت متأخرة، سواء أرَّخنا لها من الثورة العرابية أو حتى من ثورة 1919م، لكن الطرق الصوفية بشكل عام لا تعمل في السياسة، ربما مارستها في بعض الدول، لكن في مصر، كدولة مركزية، كان من الصعب أن تلعب فيها دورًا سياسيًّا، فالمتصوفة لعبوا دورًا اجتماعيًّا كبيرًا، حتى عصر محمد علي وما بعده، وكل طائفة حرفية كانت تتبع طريقة صوفية، وكل منطقة أو قرية أو محافظة كانت تتبع طريقة صوفية، وحين كانت الدولة تقوم بحرب ما فإن أهل الطرق كانوا ينزلون لتأييدها بأعلامهم وهم يجوبون الشوارع، أشهرهم بالطبع أتباع السيد البدوي الذي يقال: إنه جاب اليسرا أو الأسرى.

لكن الأمر يختلف قليلًا في بعض البلدان الأخرى، ففي ليبيا لعبت السنوسية دورًا كبيرًا في مواجهة الإيطاليين، وكان عمر المختار من بينهم، وكان الملك السنوسي نفسه من المتصوفة، وفي السودان لعب المهدي وأتباعه دورًا ضد الحكم المصري في السودان.

والصوفية ليست وحدة واحدة، فهم عالم متنوع، ولم يطرحوا أنفسهم للعمل السياسي، ولا كبديل للجماعات الإسلامية الراديكالية أو غيرها، ولكن يطرحون أنفسهم بوصفهم وجهًا آخر للإسلام، ولا يدخلون في السياسة إلا مضطرين، ولا يمكن عدّهم بديلًا للإخوان أو السلفيين؛ لأنهم غير منظمين، هم حركات اجتماعية روحية، أما الإخوان والسلفيون فيقومون على مبدأ السمع والطاعة.

باحث مصري.

حفيظ هروس: الفرد والمؤسسة

يجب التمييز بين مستويات مختلفة في علاقة التصوف والصوفية بالسياسة، إذ ينبغي الانتباه إلى التمييز بين الصوفي الفرد وبين المؤسسات الصوفية، وهي الزوايا والطرق التي ينتمي إليها هذا الصوفي، وإذا كانت معظم المؤسسات الصوفية اليوم لا تمارس السياسة في شكل مباشر فإن الكثير من المنتسبين إليها يمارسون السياسة بشكل مباشر ويومي، يتولون فيها الكثير من المهام الحزبية أو مسؤوليات الدولة، فوزير الأوقاف المغربي على سبيل المثال ينتمي إلى زاوية صوفية معروفة، وهذا يؤدي إلى ازدواجية وجود الصوفي بين عالمين؛ عالم التصوف الخالص الذي يمارسه في إطار الزاوية أو الطريقة الصوفية، عبر صحبة شيخ صوفي يتولى توجيهه في مدارج ومقامات السلوك الصوفية، وعالم السياسة التي يمارسها من خلال حزب سياسي ينضبط فيه لأحكام القوانين واللوائح.

هناك من المتصوفة عبر التاريخ من اشتغل بالسلطة ومارس السياسة، سواء لمناجزة الظلم الداخلي أو مقاومة التدخل الخارجي، لكن هؤلاء ليسوا أكثر من حركات سياسية تدثرت بدثار التصوف.

رفض المتصوفة ممارسة السياسة والانشغال بالسلطة إلا عبر أفرادها، وأسباب ذلك يكمن بعضها في طبيعة التصوف، فالزهاد والنساك الأوائل آثروا هجر كل مظاهر الاشتغال بالسياسة، مؤثرين العكوف على العبادة، وذلك خوفًا من النكبة التي أتلفت بعض التجارب الصوفية التي حاولت تلمس طريق السلطة، فضلًا عن إدراك المؤسسات الصوفية أن الأنظمة السياسية الحاكمة في العالم العربي تعتقد أن التصوف يمكنه أن يشكل درعًا واقية لها ضد السلفية الجهادية والإسلام السياسي، وأنه قادر على تقديم نموذج للتدين غير مسيَّس، يمكن لهذه الأنظمة أن تستثمره بالطريقة التي تؤدي إلى تأييد وجودها والمحافظة على شرعيتها.

باحث مغربي في التصوف.

عائشة موماد: ليس دينًا جديدًا

بعض التيارات الصوفية الحالية أكثر خطرًا من الإسلام السياسي، فهي تيارات مسيسة بامتياز تغافلت عن هدفها في إصلاح النفوس والرقي بها وتهذيب المعاملات وتصحيح بعض التجاوزات إلى تجنيد النفوس بدلًا من الأرواح؛ من أجل خدمة بعض المصالح والأفراد.. فمن الخطير أن يتم ذلك باسم التصوف. التصوف ليس دينًا جديدًا حتى يعدّ وسطيًّا.. والإسلام ككل دين وسطي أساسه احترام الاختلاف وحرية الاعتقاد، والتصوف جاء تزكية للنفس وسموًّا للروح وتعاليًا عن العالم المادي الذي غرقت فيه البشرية، ثم انتقل التصوف من الاهتمام بالفرد إلى احتضان الأمة أو المجتمع، لكن واقعنا لا يُظهر ذلك، فأصبحنا شراذم ومجموعات يتعالى بعضها على بعض ويدعي بعضها امتلاك الحقيقة المطلقة.. وهذا بعيد من التصوف.

باحثة مغربية.

عباس يوسف الحداد: المستشرقون مهدوا الطريق

التصوف منذ نشأته نأى بنفسه عن الدخول في السياسة؛ لأن التصوف حالة من السمو والصفاء الذهني والروحي، فضلًا عن أنه أقرب إلى الانطواء والعزلة التي يحياها الصوفي في نفسه. الحركات الصوفية سواء الروحية أو المادية كانت ردة فعل لحالة الفوضى التي اعترت المشهد سواء السياسي أو الديني أو الاجتماعي؛ لذا فإن الصوفي لا يُعنى بالسياسة بقدر عنايته بالبحث عن معنى الحقيقة في وجوده، سعيًا لتحقيق هدف رحلته الأرضية التي تقوم على الكسب والترقِّي والتخلِّي والتحلِّي.

أما سبب اهتمام الغرب بالصوفية والمتصوفين فيرجع الفضل فيه إلى مجموعة المستشرقين الذين أسهموا إسهامًا كبيرًا في تحقيق أهم المصادر الصوفية وإخراجها في تراثنا الإسلامي، من أمثال المستشرق رينولد نيكلسون الذي أخرج لنا: «تذكرة الأولياء» لفريد الدين العطار، و«مثنوي معنوي» لجلال الدين الرومي، و«اللمع» لأبي نصر السراج الطوسي. والمستشرق آرثر آربري الذي أخرج لنا: «التعرف لمذهب أهل التصوف» للكلاباذي، وكتاب «الرياضة» للحكيم الترمذي، و«المواقف والمخاطبات» للنفري، وكذلك المستشرق لويس ماسينيون الذي أخرج: «أخبار الحلاج» وكتاب «الطواسين» للحلاج وغيرهم.

التصوف لا يُعنَى كثيرًا بالأديان والمذاهب واختلافاتها وإنما تنصب عنايته الكبرى على الإنسان؛ إذ يشترك الكل مع الكل في الإنسانية، ويختلف بعد ذلك في الهوية من ديانة وعرقية وطائفية وقبلية وسياسية… إلخ، وقد ذكر المستشرق الألماني يوحنا كريستوف بيرجل في أحد اللقاءات الصحافية أن ثمة رأيًا سائدًا عند مثقفي الغرب المهيمن بفتح حوار مع العالم الإسلامي، ونقطة هذا الحوار الإسلامي المسيحي ينبغي أن تتمثل في الفكر الصوفي.

والتصوف هو أحد مدارج ومعارج الحقيقة التي يسعى لها الإنسان حين يعي معنى إنسانيته ويمضي بالبحث عن الحقيقة، فيخطئ تارة ويصيب تارة أخرى وهو غير منشغل بالنتيجة بقدر انشغاله بالحقيقة من دون سواها، ولا يهدر الشريعة لأنه يدرك أن حقيقةً من دون شريعةٍ باطلةٌ، وشريعة من دون حقيقة عاطلة.

باحث كويتي.

أريج خطاب: قول مجحف

التصوف له دور في تحرير الوعي من الحدود الضيقة لفهم الدين وجعله مجرد شريعة، وبسط مفهومه لعامة الناس حتى يمكنهم فهمه واستيعابه وتطبيقه، هذا هو جوهر الاتجاه العام للمتصوفة، وأقصد بالمتصوفة هنا علماء الدين، بعيدًا من الممارسات التي أساءت للفكر الصوفي وإلى الدين، فلم يكن المتصوفة علماء دين فقط، يقربون الشريعة للناس على الوجه الصحيح، بل كانوا من جانب آخر في حياتهم قادة للمجتمع اجتماعيًّا وسياسيًّا، من دون أن يميزوا أنفسهم عن الناس، يلتف حولهم الناس ويثقون بهم ويعملون بما يوجهونه تسليمًا وقناعة وإذعانًا كاملًا وحبًّا وثقة.

والقول: إن التصوف يمكن أن يلعب دورًا سياسيًّا بديلًا للجماعات المتشددة، قول مجحف وجاحد لدور المتصوفة الديني والوطني، وبعيد كامل البعد من حياتهم العلمية والعملية البسيطة القريبة من حياة الناس، لكن إذا كان المقصود بكلمة بديل هو العلاج لظاهرة التشدد فإنني أرى أن للمتصوفة دورًا مهمًّا في تخفيف التشدد والنظرة الأحادية في تفسير الدين والممارسات الضيقة للإسلام، وحصره في يد فئة أو طائفة أو مجموعة تحتكر وحدها تفسير الإسلام وتطبيقه.

باحثة ليبية.

سعود البلوي: تسييس الصوفية

ما زال التصوف يؤدي دورًا كبيرًا في حياة كثير من المسلمين في العالمين العربي والإسلامي، ويوجد للصوفية أتباع من جميع الطبقات الاجتماعية النخبوية والعامة، إلا أن العدو اللدود في الصوفية وغيرها هو الجهل، كما جرى تسييس الصوفية، وهو ما جعلها حركة لا تختلف عن بقية حركات الإسلام السياسي، وهذا هو المحك الذي يجعلها تبعد من مبادئها وأصولها المبنية على الحب في العبادة، كما أن جهل الأتباع واستغلال بعض القيادات لذلك قد يجعل الصوفية خطرًا في انتهاجها التطرف.

الفرق المبنية على الفكر الديني في العالم الإسلامي والعالم أجمع لا تتوجه إلى الفرد بل إلى الجماعة، ولذلك تكون الطقوس الصوفية وغيرها ذات طابع جماعي، وهذا ما يجعل الفرد مغيبًا عن القيام بدوره وعن الاختلاف في الرأي وعن التصوف الحقيقي الذي هو رغبة الفرد العاطفية والدينية، ولذلك تحول الجماعات الدينية إلى جماعات سياسية أمر وارد، رغم أن القيادات لهذه الجماعات قد يكون أصلًا لديها برنامج سياسي وإن لم يعلن، وبذلك تفقد أية جماعة روحية رونقها الديني، وتتحول إلى أداة تنفيذية لأيديولوجيا غير روحية.

الغلو أمر وارد في الفرق والحركات المبنية على الفكر الديني، ونجد أن بعض القيادات السياسية في العالم الإسلامي عُرفوا بتصوفهم، ولذلك فإن الصوفية خاصة تعاني خطر انتقال الغلو إليها نتيجة للمؤثرات الثقافية والحضارية والفكرية المعقدة في عصرنا الحالي، التي قد تجد اصطدامًا مع مبادئ الصوفية الأولى القائمة على ما نستطيع تسميته بـ«الرومانسية الدينية»، على الرغم من أن الغلو يكون فرديًّا ولا ينسب إلى الفرقة إلا أن تأثيره قد يمثّل ضررًا كبيرًا عليها، من خلال تأثر فكر الأتباع، ولا سيما أن الصوفية في العالم الإسلامي لديها قاعدة اجتماعية واقتصادية ضخمة. وما زالت الصوفية تظهر كأنها منعزلة عن محيطها الفكري والاجتماعي، وبخاصة في ظل التركيز على الجهالة والخزعبلات التي قد لا تكون أصيلة فيها. إلا أنه من جانب آخر ما زالت حقيقة الصوفية ذات أبواب مغلقة فعليًّا، شأنها في ذلك شأن بقية الفِرَق الإسلامية التي يكون أحيانًا ظاهرها شيء وباطنها شيء آخر، والقناعة الراسخة اليوم تقول: إن كل هذه الحركات ذات برامج سياسية بشكل أو بآخر، وبالتالي يزداد الانكفاء والانعزال من أجل تحقيق هذه البرامج، فالحل إذن بتطهير الصوفية من السياسة وإعادتها سيرتها الأولى المتمحورة حول فلسفة العبادة وربطها بالكون والحياة، وعلى الجانب الآخر فإن «المتصوف» ليس منعزلًا بالمعنى الحرفي للكلمة وإن كان يفضله لتماهيه مع واقع التأمل الذي يعتنقه.

كاتب سعودي.

خالد العنزي: نقيضًا للهوية العامة

يتجه كثير من الباحثين والأكاديميين إلى أن الصوفية تمتلك عددًا من السمات تجعلها خيارًا للمؤسسات الرسمية ودوائر صنع القرار لملء الفضاء الاجتماعي والسياسي بعد المفاصلة والقطيعة التي حدثت بين الأحزاب الدينية والسياسات الرسمية عقب حقبة الربيع العربي، من تلك السمات أن بنية التصوف تقوم على مجافاة السياسة، والإرث الصوفي عبر التاريخ الإسلامي يؤكد ذلك؛ لأن السياسة ممارسة دنيوية جماعية تتنافى مع مبدأ الزهد والصفاء الروحي والترقِّي في العشق الإلهي، إضافة إلى الخوف من تقلبات السياسة وبطشها لكون الصوفية تتماهى مع مبدأ الاستضعاف والاكتفاء بالوعود الغيبية.

ولا يمكن إنكار أن للصوفية نكهة روحانية وجاذبية ثقافية تجعل من تسويقها والاستثمار فيها فكريًّا وسياسيًّا خيارًا مجديًا، فالصوفية مفعمة بالفنون، ومشبعة بالفلسفة، ويتصف تراثها بثراء روحي حتى أصبح التصوف الفلسفي جوهر الصوفية من خلال رموزها وعناوينها التاريخية الكبيرة مثل الحلاج وابن عربي وجلال الدين الرومي والتبريزي والغزالي وغيرهم، أضف إلى ذلك المسحة الروحانية والنورانية للشخصية الصوفية التاريخية الغارقة في السلام والبعد من الصراعات وقدرتها على استيعاب الآخر. وللصوفية اتصال روحي عالٍ مع الفنون خصوصًا الموسيقا التي تمثل جزءًا من الطقوس والممارسات التعبدية والإيمانية، فأضحت هذه المقامات الموسيقية من أهم عوامل الجذب ولفت الأنظار للكثيرين الذين أبدوا اهتمامًا بالتعرف إلى الطرق والمدارس الصوفية؛ بسبب الموشحات الموسيقية، وحلقِ الذكر الترنُّمية خصوصًا في بلاد المغرب العربي والشام؛ ساهم ذلك في تخفيف حدة التعاطي مع الصوفية في تلك المجتمعات، وهو ما يساعد في دعم جهود الحكومات التي تسعى إلى تعزيز صور مجتمعاتها المنفتحة على الحداثة والتمدن، ونفي اتهامات الانغلاق والتشدد عن هذه المجتمعات. لا يشكل المكون الصوفي عنصرًا مشاكسًا أو منافسًا للسياسي؛ ذلك أن الصوفية لا ترتكز على منطلقات ومرتكزات اعتقادية لها صفة تقديسية أسوة ببقية الحركات والجماعات الإسلامية الكلاسيكية، بل إن الصوفية لا تملك شخصية ثورية أو صدامية في الأصل وهي تستهدف الفرد وليس الجماعة (المجتمع)، كل هذا كفيل برفع الضغوط والحرج عن السياسة للدول في المنطقة في مواجهة القوى الكبرى والنظام الدولي والمصالح الغربية، كما أن المفاهيم الإسلامية الكبرى (الجهاد والولاء والبراء… إلخ) ليست ضمن مبادئ وأولويات المكون الصوفي، وهو ما يسهل أمر تسويقه داخليًّا وخارجيًّا، مما يعني أن هذه الحكومات لن تخرج صورتها الذهنية من عباءة الهوية الإسلامية، ولن تتهم بأنها تنكرت للإسلام.

في المقابل لا يُمكن إغفال حقيقة أن محدودية القبول وانتشار الطرق الصوفية، نظرًا لمحاصرتها بتراث أصولي وفقهي سلفي صارم وحادّ، جعلها نقيضًا للهوية العامة للأمة ولا تملك حق تمثيل الهوية السُّنِّيَّة، وهو ما أدى إلى عدم تصنيفها ضمن دائرة السنة والجماعة فعليًّا، وهذا يجعل من الرهان عليها أمرًا مستحيلًا في ظل صعود وهيمنة الخطاب الثقافي الإسلامي التقليدي، فأي تفويض تستطيع الصوفية منحه للسياسات الرسمية في هذه الحالة، وهذا يؤدي إلى مُشكل جوهري في معادلة السياسة والدين في العالم العربي؟! لا يمكن وضع الصوفية في إطار واحد هكذا كأنها نُسخ متكررة، بل يوجد تباينات واسعة بين الطرق الصوفية بحسب البيئات والأنظمة الثقافية والسياسية القائمة. يمكن القول: إن الصوفية في الخليج العربي وتحديدًا السعودية لا تتبنى الطقوس الشعائرية المتعارَف عليها مثل الموالد والموشحات والاحتفالات الدينية، كما لا توجد منصات أو عناوين ثقافية وإعلامية تتحدث باسم الحركة الصوفية ومجتمع التصوف. كل ذلك يمكن فهمه في سياق الطبيعة البنيوية لهذه المجتمعات والدول التي تتبنى رسميًّا الاتجاه السلفي خصوصًا السعودية، وهو ما كان له دور في محاصرة نشاطات ومراسم التصوف وحرمانه من تكوين رصيد شعبي أو حاضنة اجتماعية. بذلك يتضح أن التصوف في مجتمعات الخليج في الواقع الحالي يشكل في الأغلب ممارسة تربوية وتهذيبية تعمل على تنقية الفرد وتزكية الأخلاق، ومن غير الواضح حتى اللحظة ما إذا كان هنالك فرصة للتفاهم مع الحكومات للعب أدوار مستقبلية ينتج عنها ميل الطرق الصوفية للإعلان عن وجودها رسميًّا، وربما تشكيل أطر فكرية وحركية مماثلة لمنافسيها من الحركات الفكرية على الساحة.