«نصيحة المشاور».. الحياة اليومية في المدينة المنوّرة خلال القرن 8 الهجري من صراع مذاهب وكرامات أولياء إلى مظاهر التدين الشعبي

«نصيحة المشاور».. الحياة اليومية في المدينة المنوّرة خلال القرن 8 الهجري

من صراع مذاهب وكرامات أولياء إلى مظاهر التدين الشعبي

يتعلّق كتاب «نصيحة المشاور وتعزية المجاور» المعروف كذلك بـ«تاريخ المدينة المنوّرة» بالحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية بمدينة النبي عليه أفضل صلاة وسلام، في مرحلة مهمة من القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، تمتدّ إلى سنة 769هـ سنة وفاة مؤلّفه أبي محمّد عبدالله بن محمّد بن فرحون المالكي(١)، وفي هذا الكتاب ترجم لرجالات عصره، ومن خلال تلك التراجم عرّف بجوانب من الحياة في المدينة المنوّرة وبدقائقها. ومن أهم الوقائع التاريخية التي اعتنى بها وكان له دور فاعل فيها إنهاء سلطة الشيعة الإمامية القضائية بالمدينة المنورة، وقد كان وقوفه في وجههم أحد العوامل الفاعلة في هذا الأمر من جهة وفي عدائهم له من جهة أخرى، حتى إنه رُصد في السَّحَر بطريق الحرم وطُعن طعنة أريد بها قتله، وعاش بسبب ذلك تجربة مؤلمة صورها في قصيدة له مؤثرة أنهى بها هذا الكتاب، يقول من بين ما يقول فيها:

أغاروا على نفسي سُحيْرًا بمدية          لإتلاف روحي بل وإذهاب جثّتي

يريدون أن يخفوا لنور أتمّه         إلهي فما اسطاعوا فباؤوا بخيبة

شكوتُ رسولَ الله ما قد أصابني         على غير ذنب بل على نشر سنّة

أحلّوا دمي يا ربِّ أنت حسيبُهم         فعوّضهم يا ربِّ كلَّ بليّةِ

ومن خلال ما قدّم المؤلّف من تراجم الأعلام من العلماء الذين عاصر عددًا مهمًّا منهم أو عاشوا في وقت قريب من عصره، وكان أكثرهم من المجاورين، رسم صورة للحياة في المدينة المنورة حيث كان يقيم ويدرّس. وقدم وثائق دقيقة حول عدد من الأحداث التاريخية المهمة، من بينها على سبيل الذكر حادثة احتراق المسجد الذي وقع «في ليلة الجمعة أول شهر رمضان من سنة أربع وخمسين وستّ مئة ومنها بقيت أثرًا إلى اليوم» (ص16) وذكر بتفصيل الأسباب التي أدت إلى ذلك الحريق، وما ترتب عليه من نتائج، وما أثار من ردود أفعال، وكيف أصلح ما أتلفه الحريق، ومن أسهم في الإصلاح، بل إنه أورد عددًا من النصوص التي جاءت بدافع مباشر منه كما هو شأن ما «أنشده الإمام العلامة أبو شامة لبعضهم:

لم يحترق حرم النبيّ لحادث         يُخشى عليه ولا دهاه العارُ

لكنّما أيدي الروافض لامست         ذاك الجناب فطهّرته النارُ (ص 18)

الحياة اليومية والتاريخ المهمل

ولئن ركّز ابن فرحون، بحكم طبيعة الكتاب وطبيعة اهتماماته، على الحياة الدينية فإن معطيات تخصّ جوانب أخرى اجتماعية وثقافية تسرّبت لتمثّل وثائق في غاية الأهميّة، وبخاصة ما يتعلق منها بجوانب مما يُعَدّ من «التاريخ المهمل» الذي لا يهتمّ له عادة المؤرخون الرسميون المنشغلون عادة بالتاريخ الرسمي وبالوقائع العامّة الكبرى وبتاريخ الشخصيات العامّة من الساسة وذوي السلطان والعلماء، بينما يهملون تاريخ اليومي، وبخاصة ما يقترن منه بفئات العوام وبأفراد لا سلطة لهم، وهو أمر أصبح من أهم مشاغل الدرس التاريخي الحديث، وبخاصة ما يعرف «بمدرسة الحوليّات والتاريخ الجديد» التي تولي اهتمامًا للحياة اليومية ولوقائعها الصغيرة والرتيبة والمتكرّرة؛ لأنها هي التي تظهر حقيقة أنماط العيش وأنماط التفكير والذهنيات، كما تهتمّ بحياة الفئات العامّة وبالمهمشين والمقصيّين وبدقائق معيشهم اليومي لأهمية ذلك في إدراك حقيقة النظام الاجتماعي بعيدًا من الصورة «المنمذجة» التي يرسمها عادة المؤرخون الرسميون.

ولئن كان اهتمام ابن فرحون في هذا الكتاب منصبًّا على أعلام عصره من العلماء والصالحين والشخصيات الرسمية من الأمراء والوزراء وعلية القوم وأشرافهم، فإنّ ذلك لم يحُلْ دون التطرّق إلى حياة عموم الناس في تفاعلاتهم اليومية وعلاقاتهم وأنماط عيشهم وطرائق تفكيرهم وعاداتهم. ومن أوضح ما تشترك فيه المادة التاريخية الدائرة حول تراجم الأعلام هو أنها تثبت أن حياة المدينة المنوّرة وحياة الناس فيها كانت تدور جميعها حول مركز محوري، مادّي ورمزي في آنٍ، هو الحرم النبوي الشريف، فحركة الناس منه تنطلق وإليه تعود، وهو ملتقى جميع أهل المدينة ومن يزورها من مختلف آفاق البلاد الإسلامية، وهو مركز النشاط الديني والدنيوي، وهو محطّ التطلعات وملتقى الآمال، حيث يتجاوز الحرم وظيفته الدينية المحض لتكون له أدوار أخرى، ففيه ينتصب القضاة ليقضوا بين الناس، وقد حدّد المؤلف مواقع مجالس القضاة، وهو مركز التدريس، وقد توسّع المؤلف في وصف حلقات المدرّسين وفي تعيين اختصاصاتها من حلقات لتعليم القراءات وحلقات تدارس الحديث النبوي الشريف وحلقات لتعليم الفقه وأخرى لتعليم اللغة العربية، وكان والد المؤلِّف والمؤلِّف نفسه من أبرز من تولّى تدريس اللغة العربية، كما كانت حلقات الفقه خاصّة تنتظم أحيانًا على أساس مذهبي، فكانت حلقة الشافعية وحلقة المالكية، وذكر المؤلف في سياق ترجمته للشيخ يعقوب الشريف أنه «كان له غيرة عظيمة على أهل السنّة، لا يزال ينكر المنكَر ويتعرّض لأهل البِدَع» (ص 83)، وكان مما دعّم به أهل السنة أنّه أوصى من ماله بخمس مئة دينار لوقف يشترى بالمدينة ويصرف ريعه على من في المدرسة الشهابية من المالكية والشافعية ولم يكن في وقته غير هذين المذهبين من المذاهب السنية «حتى جاء شمس الدين بن العجمي فولف جماعة من طلبة الشافعية وأمرهم بالاشتغال بمذهب أبي حنيفة فأجابوه إلى ذلك وتفقّه منهم جماعة وصاروا أئمة وقتهم وانتفع الناس بعلومهم وظهر مذهب أبي حنيفة بالمدينة ببركة هذا الرجل وحسن نيّته، وكان ذلك في حدود ثلاث وعشرين وسبع مئة» (ص 85) وبذلك قدّم هذا المؤلّف وثيقة دقيقة حول تاريخ ظهور المذهب الحنفي بالمدينة إلى جانب المذهبين المالكي والشافعي. وقد ذكر ابن فرحون دور والده ودوره في إعلاء المذهب المالكي بالمدينة، يقول: «وقد زعموا أنه لا تقوم بعد والدي للمالكية راية ولو علموا ما في الغيب ما عملوا (…) وكان لي في ظهور مذهب مالك ونشره بالمدينة عمل عظيم» (ص90).

من الوقائع التي استقطبت اهتمام المؤلف وكانت تشغل حيزًا من المجال الديني- الفكري للمدينة في عصره الصراع بين المذاهب السُّنية من جهة والشيعة الإمامية من جهة أخرى، التي تبدو أنها كانت في وقت سابق لحياة المؤلف ذات سلطة استمدّتها من دعم الدولة الفاطمية بمصر، حتى إنه كثيرًا ما يستخدم كنية «الأشراف» عند الحديث عنهم بالرغم من موقفه المتشدّد ضدّهم، وقد عرض المؤلف أطوارًا وصورًا من هذا الصراع الذي كان المستهدف الرئيس فيه ما كان يعدُّه علماء السُّنة من بِدَع الإمامية، وقد ذكر من بينها ما شاهده عيانًا؛ إذ يقول: «إنّي أدركت قرّاء الإمامية وأئمتها إذا دخل شهر رمضان أخذوا من القبّة شمعًا وشمعدانات على عددهم ينصبونها بعد صلاة الآخرة في مجالسهم ويدعون في كتبهم ويرفعون أصواتهم حول الروضة والناس في الصلاة لا يعلمون صلاتهم من رفع أصواتهم، ولا يسمعون قراءة إمامهم لكثرة قرّائهم، ويجتمع عليهم من الناس خلق كثير ويتخلّلون تلك الأدعية بسجَدات لهم مؤقّتة ولم يزالوا كذلك إلى أن اجتمعت الكلمة وظهر الحقّ، فمُنعوا من ذلك إلّا في بيوتهم ومجالسهم، فانحسمت المادّة، وزالت تلك العادة» (ص22).

إضافة إلى هذا الجانب الذي يبدو أنه شغل أهل المدينة في القرن الثامن الهجري، نقف في هذا الكتاب على معطيات تتعلّق بأبعاد أخرى من الحياة الدينية لأهل المدينة المنوّرة، من بينها انتشار الاعتقاد في الولاية وفي كَرَامات الأولياء والصالحين، وقد ذكر المؤلف نماذجَ كثيرةً منها كلما ترجم لأعلام ينتسبون إليهم، أما من يبدو من أصول مغربية فهم قادمون للمجاورة إما من الأندلس أو من العدوة المغربية أو من تونس، وكانوا في الغالب أتباعًا للطرق الصوفية المنتشرة هناك. ومما ذكره عنهم ما استحدثوه في الحرم من عادات من بينها أنهم كانوا «يقدّمون سجاجيدهم إلى المسجد ليحفظوا أماكنهم للصلاة» (ص18) وقد قاوم خدمة الحرم هذه العادة؛ لأنها كانت أحد أسباب اندلاع الحريق فيه.

من تطوى لهم المسافات

كما أطنب ابن فرحون في تراجمه للأعلام الذين عُرف عنهم الانتماء إلى الطرق الصوفية وعُرفوا بالصلاح في ذكر نماذج من كراماتهم من بينها ادّعاء بعضهم القدرة على قطع المسافات الطويلة في وقت قصير، وكان هؤلاء يعرفون «بأرباب الخطوة ومن تطوى لهم المسافات» كما هو شأن أحدهم «كان يتأهّب لصلاة الجمعة بمكّة فيرى في المدينة يصلّيها، ثمّ يرجع فربّما أدرك الصلاة وربما يوافق دخوله المسجد الحرام خروج الناس من الصلاة» (ص98)، كما ذكر ابن فرحون أطرافًا من قصص شخصيات كانت تدّعي الصلاح والقدرة على إتيان الخارق من الأعمال، مثل قصة اليمنيّ الذي ادّعى أنه «صاحب الزمان فكانت تهدى إليه البذلات الرفيعة وتجرى عليه الموائد الفاخرة ولما طال مقامه انكشف أمره فانفضّ الناس عنه ولما أحسّ بذلك سافر إلى العراق» (ص 49) وقصة التونسي الذي يدعى ابن حماس وقد بلغ به الأمر حدّ أنه يقول: «الآن قام من عندي الخضر عليه السلام… وترقّى به الأمر حتى قال كلّمني القلم ورأيت الملكوت وغير هذا من الترهات والخزعبلات» (ص 50). ومن الكرامات التي كانوا يدعونها القدرة على إطعام الكثرة بقليل جدًّا من الطعام، وعلى توفير الفاخر من الأطعمة في أزمنة الشدّة والقحط، فكان أحدهم على سبيل الذكر يوزع على الناس أحسن أصناف التمر في وقت «عُدِم التمر حتى وصل صاعه إلى الخمسين ولا يوجد، وذلك سنة خمس وتسعين وستّ مئة (…) وكان الشيخ يتصدّق بالتمر البرني على الناس لا يعلم أحد من أين يأتيه ولا له من يشتريه، بل لو أراد ذلك لما وجد لقلّته وعدمه» (ص99) وكان أحدهم «يقدّم لهم ذلك الطعام الذي لا يُظنّ أنه يكفي ثلاثة فيأكل منه فوق العشرين (…) ولا نزال ننفق مما يعطينا حتّى نملّ، ثمّ نأخذ الفضلة بعد ذلك» (154).

وقد توسع ابن فرحون في أخبار هذه الطائفة التي كان يسميها «الفقراء» وكانوا يوقفون ممتلكاتهم على الحرم وعلى مدارس المدينة وعلى فقرائها ويزعمون القدرة على توفير الأطعمة لكل من يطلبها وهم لا يملكون منها شيئًا في الظاهر، فهذا أحدهم لم يكن «يدع في بيته قمحًا ولا سمنًا ولا عسلًا بل يعمل الجميع حتّى إنه عمل يومًا للفقراء طعامًا ولم يجد له إدامًا غير برنية شراب أهديت له لمرض كان به، فأمر بصبّها وإيدام الجماعة بها، وظهر في الناس بالكرامات والإخبار بالمغيّبات حتى انعطف عليه الناس لعلمه وعمله وكرمه» (ص60). ويستخلص من هذه الأخبار الكثيرة أن الوضع بمدينة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يختلف عنه في سائر أقطار الإسلام حيث غلبت التمثلات الشعبية للدين على الوضع الديني وانتشر الإسلام الشعبي الدائر خاصة حول منظومة الولاية بما تشتمل عليه من اعتقاد في كرامات الأولياء والتبرّك بهم واستدعاء وساطتهم لتحقيق المطالب.

وفي أثناء هذه الأخبار نقف على معلومات لا تخلو من دقة حول معيش عامّة الناس بما فيه من أطعمة وألبسة وحِرَف. فأطعمة الناس في ذلك الوقت تُراوِح بين الشدّة والرخاء بحسب الأوضاع العامّة، فمن «الأشياء الحسنة اللطيفة الأشربة والأمواه والمعاجين والفاكهة (…) والأشياء الفاخرة من الحلوى العزيزة الوجود» (ص54) ويبدو أن أفضل الأطعمة التي يقدّمونها للضيافات «اللوز والزبيب» (ص130)، وكان أهل المدينة في سنوات الوفرة يتزودون بما يكفيهم طوال سنة من السكّر وأنواع الحبوب (ص53) كما يتزودون بأنواع التمور. وتظهر بوضوح في سنوات الوفرة المظاهر الدالة على كرم أهل المدينة وعلى حرصهم على إكرام زوار الحرم الشريف، فكانت تنصب أكوام التمر ويعطى منها للزوار وللمجاورين أكثر مما يحتاجونه، وقد قدّم ابن فرحون شهادة كان هو نفسه طرفًا فيها، يقول: «ولقد شاهدت منذ زمان كان الناس فيه ناس يُعطى الزائر فوق الصاع من التمر البرني، حتى إن العصبة إذا أخذوا التمر يكومونه على أنطاعهم كومًا يتعسّل بعضه فوق بعض» وقد ذكر أنه حال الصغر كان كلما مرّ يلزمونه بالأخذ منه مما أثار غضب والديه وهدّدوه بالعقاب إن أخذ من تمر الفقراء فكان يضطرّ إلى أن يعطي ما ألزم بأخذه إلى أحد الحمّالين على ألّا يأخذه إلى عائلته.

ومن الأطعمة الشديدة البقسماط وهو نوع من الثريد يصنع من كسور الخبز اليابسة التي تفضل من الغداء أو العشاء (ص158)، ومنها أيضًا طعام يعد «من رمام البقول كالسلق وبقايا اللفت ومن هذا الجنس يسلق ويؤكل» (ص 56)، وكان هذا طعام الزهّاد خاصة. وفي الكتاب إشارات كذلك حول ما كان الناس يتداوون به، فقد ذكر المؤلّف أحد خدام الحرم يدعى عز الدين دينار البدري كان «يعدّ في بيته للمرضى أنواعًا من الأمواه والأشربة والأطعمة لا يمرض فقير أو مجاور أو خادم إلا جاءه في الحين وحمل إليه من كلّ ما يحتاجه» (ص 52).

كما جاء في سياق التراجم ذكر لبعض الألبسة والأغطية والمفارش وأثاث البيوت من «العمائم والفوط والدلوق وثياب الجمالة وثياب المهنة، وكذلك لباس الشتاء والصيف، وكذلك الفرش والأوطئة والأنطاع والوسائد والنعال وغير ذلك». ومن الحِرَف التي يبدو أن أهل المدينة كانوا يولونها قيمة نسخ الكتب وتجليدها ( ص165) كما يبدو أنّ أُسَرَ المدينة كانت تتوارث الصنائع نفسها، فكانت عائلة «الشكيليين» على سبيل المثال «يتسببون بالعطارة» وكان أولاد مسعود زُرَّاعًا، وكانت عائلة البكريين، من نسل أبي بكر رضي الله عنه، يعملون «أمنة للخدام والمجاورين». كما نقف في هذا المؤلَّف على إشارات إلى بعض الاحتفالات كالاحتفال بالأعراس؛ إذ ذكر في معرض ترجمته لأحد الأعلام أنه كان ليلةً يصلّي على السطح «وكان بإزائه نساء في عرس فضربوا الدفوف والمعازف والرباب وأنواع الطرب» ولكن يبدو أن هذه الأعمال كانت مكروهةً لذلك غضب الشيخ فانتهى العرس بأن كُسِر كعب العروس «ببركة الشيخ»! (ص72). كما نقف على إشارة وجيزة تفيد بأن من الشيوخ من كان «يعمل في كلّ سنة في شهر ربيع الأول مولدًا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ينفق فيه نفقة جليلة» (ص 56) كما كانت العمرة الرجبية موعدًا للاحتفاء.

لا يمثّل ما عرضناه إلا شيئًا من المعطيات الوافرة والغنية التي قدّمها لنا هذا المؤلّف عن مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم خلال عصر قلّت فيه المؤلَّفات وشهد انحدارًا في وضع الثقافة العربية الإسلامية العامّ. وقد تبيّن لنا من خلاله أن هذا العصر قد عرف انتشار مظاهر التديّن الشعبي لا في صفوف العامّة فقط بل كذلك بين العلماء، كما تبينّا أن هذه المدينة تمثّل أنموذجًا للمدن المقدّسة حيث يمثل العامل الديني الحاضر في المكان وفي الزمان الناظم الذي تنتظم وفقه حياة الناس وحركتهم وعلاقاتهم وسائر جوانب حياتهم المادية، بل إنه يوقّع كذلك القيم والأخلاق والذهنيات والحياة الروحية، وهو ما يمثل حقيقة تاريخية تمتدّ على المدى الطويل وهو ما لا تزال المدينة المنوّرة شاهدًا عليه إلى اليوم.


هامش:

(١) ابن فرحون المالكي، أبو محمّد عبدالله بن محمد (693- 769هـ): تاريخ المدينة المنوّرة المسمّى: نصيحة المشاور وتعزية المجاور، تحقيق: حسين محمد علي شكري، بيروت، دار الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع ، د. ت.

دور المؤسسة التعليمية في مقاومة التطرف

دور المؤسسة التعليمية في مقاومة التطرف

تتّفق كل الدراسات المختصة سواء الإستراتيجية- الأمنية أو السوسيولوجية والفكرية على أن ظاهرة التطرّف وما نتج عنها من أعمال إرهابية لا يمكن أن تعالج بالاقتصار على الوسائل الأمنية- العسكرية. وقد بيّنت تجارب كثيرة أن الاقتصار على هذا النوع من المعالجة قد أدّى إلى نتائج عكسية، فالأفكار المتطرّفة تنمو وتزدهر في البيئات المغلقة، ومنها البيئة التي يهيّئها العمل السرّي الذي تعتمده الجماعات المتطرفة إستراتيجية تنظيمية، وفي هذه البيئة المغلقة نفسها وفي إطار العمل الحركي السرّي ينمو النشاط الإرهابي بمختلف مكوّناته بدءًا من التعبئة والتجييش وصولًا إلى العمليات العنيفة والدموية بشتى أشكالها. لقد ظلّت الكثير من الدول تتعامل مع حركات الإسلام السياسي وأطروحاته بمقاربة أمنية- عسكرية وبأساليب المنع والمصادرة والقمع على امتداد عقود، ولكنّ ذلك لم يقضِ على تلك الحركات ولم يحدّ إلا قليلًا من انتشار أطروحاتها بين صفوف فئات اجتماعية معينة، لم تخضع هي الأخرى للدراسة العلمية حتّى نتعرّف بوضوح ودقّة إلى العوامل الاجتماعية والثقافية التي تساعد أطروحات بعينها على الانتشار في صفوفها، والحال أن النظر الموضوعي السليم يقدر أنّها معادية لمصالح تلك الفئات نفسها المادية والرمزية معًا. إن هذه الأنظمة قد عمّمت أسلوب القمع والمصادرة على الجميع فلم تسمح للأطروحات البديلة بأن تقوم بالدور المطلوب منها في تفكيك أطروحات الإسلام السياسي التي تعدّ مغذّية للإرهاب، وفي بيان سفه ادعائها تمثيل الإسلام الصحيح الذي لم تدنّسه «جاهلية القرن العشرين» وحالت دونها وأن تمثّل الحصن الذي يحول بشكل صحيح من دون الانفراد بعقول فئات اجتماعية هشّة وتحويلها إلى وقود لبرامجها السياسية ولعملها الحركي الإرهابي.

صار من المعلوم أنه قبيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر استشعرت الولايات المتحدة الأميركية الخطر الذي تمثله على مصالحها الجماعات المتطرفة التي انفلتت من عقالها وتجاوزت الحدود التي رسمتها لها وهدّدت بالانقلاب عليها بعد أن صنعتها وكانت هي الراعي الأول لها كما في حالة تنظيم القاعدة الذي تشكل من «المقاتلين الأفغان» المصنوعين أميركيًّا لمواجهة خصمها آنذاك الاتحاد السوفييتي بعد احتلاله أفغانستان، فاتّجهت نحو إنشاء مراكز بحوث إستراتيجية أو نحو توجيه ما هو قائم منها من أجل وضع الخطط لمواجهة ذلك الخطر ولإبعاده من مصالحها، وكان الغالب على النتائج التي توصلت إليها مراكز البحث هذه فكرتين رئيسيتين:

– السعي إلى حصر مجال حركة هذه الجماعات ومجال تأثيرها داخل حدود البلدان التي تنشأ فيها على خلفية أن هذه البلدان هي المسؤولة عن ظهورها وهي المطالَبة بوضع البرامج والخطط لكيفية التعامل معها، وهي كذلك التي يجب أن تتحمّل نتائج هذا التطرّف، أما مهمّة الولايات المتحدة المعلنة فمحصورة في استبعاد هذه الجماعات عن أراضيها وعن مصالحها الموزّعة عبر العالم، فضلًا عمّا هو غير معلن من خطط استخدام هذه الجماعات عند الحاجة إليها لحفظ مصالح الولايات المتحدة في المناطق الإستراتيجية من العالم.

– العمل على فهم أصول هذه الظاهرة وعلى تفكيك مرتكزاتها وبرامجها وما ترمي إليه من أهداف من أجل وضع خطط لكيفية التعامل معها، وهو ما يفسّر التزايد الملحوظ في مراكز الدراسات الإسلامية خاصة والدينية عامة في الأغلب الأعمّ من الجامعات الأميركية.

وإذا كان لنا أن نستفيد من هذه الإستراتيجية التي وضعتها مراكز البحث بمختلف تخصّصاتها، فهو إثباتها أن أجدى مجال لمقاومة التطرف هو التعليم والبحث العلمي. أما التعليم، وبخاصة تعليم الآداب والإنسانيات والفنون والتعليم في المراحل الأولى والمتوسطة، فإنه يقوم على ضبط خطط وبرامج مناسبة لصنع عقل نقدي منفتح ولتمكينه من آليات الفهم والنقد من جهة، ولنشر ثقافة التنوّع والاختلاف والنسبية عبر موادّ بعينها وبرامج مختارة اختيارًا دقيقًا يقوم عليه مختصون في كل المجالات، وبتدريس الإسلام الوسطي المعتدل باستخدام المقاربات العلمية الجديدة، وإخراج الدراسات الدينية من احتكار المؤسسات التقليدية القائمة على التلقين والتقليد. إن المدرسة بكل مستوياتها هي الحلقة الأولى والأساسية في خطة مقاومة التطرف والإرهاب، ومن دون إدماج المدرسة في هذه الخطة واعتبارها الإطار والفاعل الأساسيين فيها، ستظل عقولُ الأطفال والمراهقين والشباب معرَّضة للاختطاف.

إلّا أن نجاح المدرسة في تحقيق الهدف الأساسي وهو إكساب العقول المعارف والمنهجيات التي تكسبها بدورها مناعة ضد كل أشكال التلاعب وضد كل الأطروحات المتطرّفة مهما كانت خلفيتها، يتوقف على توفير البرامج المناسبة والمختارة اختيارًا دقيقًا على قاعدة الأهداف والكفاءات المراد تمكين طلاب العلم منها. كما يتوقف على توفير الإطار القادر على تنفيذ هذه البرامج وعلى تبليغ هذه الكفاءات، وهو مطلب يحتاج إلى استعدادات وإلى إعداد مناسبين، ونرى أن هذا المطلب يجب أن يوضع ضمن إستراتيجيات تكوين الإطار التربوي، وأن توجد له المؤسسات المناسبة. وفي اعتقادنا أن بلداننا يجب أن تتوقّف عن توجيه الطلاب الأقلّ كفاءة إلى الشُّعَب التي تخرّج هذا الإطار، وأن تضع في حسبانها أن صناعة العقول -بوساطة التعليم والتربية والتثقيف- أهم وأخطر وأولى من كل سائر أنواع الصناعات، وأن عليها تبعًا لذلك أن تتخيّر لها أفضل الكفاءات، كما أنّ عليها أن تتوقّف عن حرمان التخصّصات التعليمية التي تخرّج الإطار التربوي من المخصّصات المالية الضرورية لتحقيق هذا الهدف. إن إيجاد مؤسّسات مختصة في تخريج هذا الإطار وتوفير الميزانية الضرورية لذلك وتهيئة المؤسّسات والبرامج العلمية المناسبة حلقة حيوية في إستراتيجية مقاومة التطرف وتفكيك أصوله وتعرية حقيقة صلته بالإسلام.

الكفاءة النقدية والحصانة المعرفية

إن الأساليب التي تستخدمها الجماعات المتطرفة من أجل بسط سلطتها على العقول والخطط التي تسير عليها للوصول إلى هذه الغاية التي تعدُّها حلقة ضرورية من أجل الاستحواذ على السلطة في المطلق، لا يمكن مقاومتها إلا بتجنيد المدرسة لهذه المهمّة بإكساب العقول الكفاءة النقدية والحصانة المعرفية التي تتيح لها حدًّا من الاستقلالية ومن الموقف النقدي إزاء ما تدعى إليه. فضلًا عن ذلك على الهياكل والمؤسسات المعنية أن تضع خطة للاستمرار في تكوين الإطار التعليمي والتربوي وتأهيله الدوري لغايتين هما إكسابه الكفاءات والمعارف التربوية والبيداغوجية المتجدِّدة ومراقبة مدى التزامه بما هو مكلّف به. أما الحلقة المترابطة مع هذه الحلقة الأولى فهي فَتْحُ المجال كاملًا من أجل البحث والنشر وعدم الحجر على الأعمال العلمية مثل الندوات والمؤتمرات والمشاريع البحثية التي تتوافق مع إستراتيجية الدولة في مقاومة التطرف والعنف والإرهاب، وعدم الخضوع للابتزاز الذي تمارسه جماعات الضغط المتطرفة باسم حماية المعتقدات ومنع التعدّي عليها ومنع استفزاز الشعور الديني، ذلك أن هذا الخطاب هو الخطاب نفسه المؤسّس للتطرف والإرهاب؛ إذ من غير المفهوم أن تنساق الدولة التي ترفع شعار مقاومة التطرف والعنف في مثل هذا الخطاب وأن تستجيب له بأي شكل من الأشكال، والحال أنه يتأسّس على عدِّ كلّ خطاب مخالف له في الأطروحات والفهم مستفزًّا للشعور الديني، ومن ثمّة ينتهي إلى تكفيره. إن جميع الأنظمة التي ترفع شعار مقاومة الإرهاب والتطرّف تعرف جيدًا ما هو مصدرهما كما تعرف يقينًا من هي الجماعات التي تقوم أطروحاتها وأدبياتها على رؤى وتصورات ومواقف متطرّفة تشرّع العنف من أجل السلطة، كما تعرف ما الذي تستخدمه تلك الجماعات لشرعنة أطروحاتها ولحمل الناس على اعتناقها وللتجييش لخدمتها، بل إنها تعرف أيضًا من هي المجموعات والحركات التي تعتمد خطة تقوم على التدافع فالتمكين فالاستيلاء على السلطة؛ لذلك نستغرب مما يبدو لنا تناقضًا وحمقًا عندما تمنع هذه الأنظمة الأعمال العلمية التي ترمي إلى استعادة الإسلام إلى المسلمين وكشف زيف ادعاء تمثيله ونصرته من جماعات الإسلام السياسي، وبيان حقيقة استخدامه لتحقيق غايات دنيوية سلطوية لا علاقة لها بالإسلام. وفي هذه الحلقة بالذات يتكامل العمل العلمي التثقيفي الذي يجب أن يوكل أساسًا إلى المدرسة والجامعة ومراكز البحوث العلمية والدراسات الإستراتيجية، والعمل الأمني الذي تتولاه مؤسسات الدولة المختصّة.

تحرير الدراسات الإسلامية

أما الركن الثالث الذي نراه ضروريًّا ضمن إستراتيجية مقاومة التطرّف الديني خاصة فهو تحرير الدراسات الإسلامية ودراسة الأديان عامة من احتكار المؤسسات التقليدية. ذلك أن هذه المؤسسات ترفض مسبقًا رفضًا قطعيًّا إدراج العلوم والمناهج الحديثة في برامجها ومناهجها، وهو ما جعل منها قلاعًا منغلقة لا قدرة لها إلا على تلقين الموروث وعلى إعادة إنتاجه من دون أية إضافة، وإذا أخذنا في الحسبان أن هذا الموروث الذي لا نعدُّه في ذاته سلبيًّا مطلقًا، قد أنتج لعصور غير عصرنا وضمن بنى اجتماعية ومادية عمومًا وبنى ذهنية ومعرفية مختلفة تمامًا عن البنى التي تحكم المجتمعات والذهنيات الراهنة، فضلًا عن أنّ ذلك الموروث قد عالج أسئلة غير أسئلتنا واقترح أجوبة تتماشى مع أوضاع مضت لكنها لا يمكن أن تتماشى مع عصرنا وأوضاعه. ولهذا السبب وغيره يساهم ما تعيد المؤسسات الدينية التقليدية، وبخاصة المؤسسات التعليمية، إنتاجه في تعميق جملة من المفارقات التي تعمّق اغتراب المسلم عن عصره وتحدّ من قدرته على أن يكون فاعلًا مشاركًا في إنتاج المعارف الجديدة وفي تطوير أوضاع بلدانه. إن الإسلام الذي أطلق في قرونه الأولى حركية تاريخية شملت العلوم والمعارف وطوّرت المجتمعات وركزت الدول حتى أصبحت الحضارة الإسلامية ودولتها وقتها أهم حضارات العالم وأقوى دُوَلِهِ، أصبح اليوم عاجزًا عن المشاركة بأي إسهام مهما كان بسيطًا في حركية المعارف الإنسانية، فضلًا عن الضعف والتهميش في السياسة والاقتصاد وسائر مناحي الحياة ولم يعد الإسلام يذكر على صعيد العالم إلا مقترنًا بالتطرّف والإرهاب، فكيف يمكن لمؤسسات تعليمية لا برنامج لها غير تلقين «العلوم الإسلامية» التي أصبحت خارج الزمن، ولا مناهج لها غير ما هو متوارث أن تلعب دورًا في إرجاع الإسلام والحضارة الإسلامية إلى حيويتهما؟ كيف يمكنها أن تنتج معرفة تتناسب مع عصرنا ومشاغلنا وأسئلتنا؟

لسنا في حاجة إلى التذكير بأن تلك الحركية التي أطلقها الإسلام في عصره الأول والتي أشرنا إليها آنفًا ما كانت لتتاح إلا بتفاعل العلوم العربية والإسلامية الخالصة مع ما كان متاحًا آنذاك من معارف سائر الأمم وعلومها التي نقلت إلى العربية عبر الترجمة. فالمعارف والثقافات تتفاعل عبر العصور ويستفيد بعضها من بعض، ولا تنشأ الأطروحات الرافضة لمثل هذا التفاعل إلا في سياقات الضعف الحضاري العام عندما تنكفئ الحضارة على نفسها وتنغلق خشية على مقوّمات هويّتها.

إن تحديث الدراسات الدينية مشروط بتوظيف المعارف الحديثة الخاصة بهذا الحقل مثل المعارف السوسيولوجية والأنثروبولوجية والتحليلية النفسية، وباستخدام مناهج فعَّالة مناسبة أثبتت جدواها في تجديد المعرفة الإنسانية بالأديان من جهة مكوناتها وأنظمتها ونصوصها ورموزها، ومن جهة وظائفها الفردية والجماعية، النفسية والأنطولوجية والاجتماعية، وهي معرفة تشترك في كونها لا تمثل أي خطر على الدين كما يشيع أعداء التجديد والاجتهاد، ولا تطعن في أهمية الأديان ووظائفها، ولا تجعل من اهتماماتها أن تثبت أو أن تنقض أو أن تقضي على الدين أو تشكّك في جدواه، بل هي معارف تسعى إلى فهم الظاهرات وإلى تعقُّلها وتبيُّن نظامها وكيفيات اشتغالها والعوامل الفاعلة فيها، وهي تدرك أن لا أحد ولا شيء يمكنه أن يقضي على ظاهرة ما ولا أن يُوجِدها إذا لم تتوافر لتلك الظاهرة في ذاتها عوامل وجودها أو عوامل انتفائها.

عقلنة الوعي الديني

واستخدام هذه المعارف والمناهج في السياقات الغربية لم ينقض الدين ولا قلل من المؤمنين به بل إنه أسهم في عقلنة الوعي والسلوك الدينييْنِ. ولذلك توجّب على المؤسّسات الدينية ومؤسّسات التعليم الديني التقليديّة أن تكفّ عن تخويفنا على مصير الإسلام إذا ما استخدمنا المعارف الإنسانية الحديثة ومناهجها لدراسته، وعن استغلال تعلّق عامة المسلمين بدينهم ورموزه لتأبيد سيطرتها على العقول؛ لأنّ مثل هذه الممارسات هي التي تنتج الانغلاق والتطرف من جهة، وهي التي تدفع بنا إلى الهامش من جهة أخرى لتبقينا دولًا تابعة واقتصاديات متخلّفة وشعوبًا غارقة في احتياجاتها اليومية وعاجزة عن العمل المخطّط والمجدي لتطوير أوضاعها، عجزها عن إنتاج المعارف والتقنيات والخطط التي من دونها لا يمكن في عالم اليوم تحقيق الاستقلال الحقيقي.

لذلك نرى فتح مؤسّسات جامعية ومراكز بحوث مختصّة في الدراسات الدينية الحديثة وفي تطبيقها على دراسة الإسلام بكل مكوّناته وإلى إتاحة ما يحتاجه مثل هذا المشروع من التمويل والتجهيزات.. ومن الحريات الأكاديمية وبخاصة حرية البحث العلمي- أمرًا حيويًّا.

إنّه لمن المؤسف أن تتحوّل مؤسّسات عريقة في حجم الأزهر بمصر والزيتونة بتونس والقرويين بالمغرب وغيرها إلى «حصون قروسطية مغلقة» تفرّخ التطرف وتشرّع بوعي منها أو من دون وعي اختطاف جماعات سياسية الإسلامَ وتوظيفه في خدمة برامجها السياسية واتخاذه أداة تستخدمه في تجييش البسطاء باستغلال شعورهم الديني. لقد كان بإمكان هذه المؤسّسات أن تكون قاطرة الإصلاح في العالم الإسلامي وأن تنشر الفكر الإسلامي الاجتهادي والتنويري، وقد أتيحت لها هذه الفرصة لحظة خاطفة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين مع انطلاق حركة الإصلاح الديني، ولكنها كانت لحظة من دون أفق بالنسبة إلى تلك المؤسّسات. كما كان بإمكانها أن تتصدّى لفوضى الإفتاء التي عمّت البلدان الإسلامية، إلا أن هذه المؤسّسات اختارت أن تظل حصنًا ضدّ كل الأفكار والمشاريع الإصلاحية متمسّكة بنهجها التقليدي في معالجة القضايا الدينية والأسئلة المستجدّة على السواء.

إن الانطلاق من هذه القاعدة القائمة على إدراج المدرسة والجامعة والبحث العلمي والمؤسّسات الدينية الرسمية في خطة للإصلاح تجعل هدفها الأقصى تفكيك أصول التطرف والإرهاب ورسم سياسات مقاومته وتربية الأجيال الجديدة على التفكير النقدي وعلى الفكر المنفتح وتقبّل الاختلاف بوصفه تنوُّعًا وإثراء- هو القاعدة الأولى في برنامج يحتاج إلى قواعد وأركان أخرى سنعود إليها في مقال لاحق.