مدير المركز القومي للترجمة في القاهرة أنور مغيث: لا نعرف كيف نوقف عمليات القرصنة التي تهدد حقوق الناشر والمترجم والمركز

مدير المركز القومي للترجمة في القاهرة

أنور مغيث: لا نعرف كيف نوقف عمليات القرصنة التي تهدد حقوق الناشر والمترجم والمركز

المركز القومي للترجمة ليس مجرد مؤسسة معنية بنقل الثقافات العالمية إلى اللغة العربية، لكنه تتويج لمسار طويل بدأه رفاعة رافع الطهاوي في الاتصال بالعالم والنقل عنه إلى الثقافة العربية، والحديث عنه لا يتوقف عند حدود يواجهها في عمله، ولا طموحاته في أن يصل إلى المتوسط العالمي في النقل عن الآخر، لكنه يتخطى ذلك للحديث عما ينبغي للحكومات العربية فعله تجاه نقل الثقافة العربية إلى العالم، وما ينبغي لجامعة الدول العربية من إنشاء آليات للتنسيق بين البلدان العربية في تبادل الكتب المترجمة، وكيف يمكن للمجامع العربية أن تضبط فوضى المصطلح المنتشرة منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتى وقتنا الراهن، في هذا الحوار يتيح لنا أستاذ الفلسفة ومدير المركز القومي للترجمة بالقاهرة، الدكتور أنور مغيث التعرف إلى كيف تضع الترجمةِ العربَ في قلب العالم حضاريًّا.

في البدء سألته «الفيصل» عن نشأة المركز، فأوضح أنه امتداد للمشروع القومي للترجمة، «لكنه أصبح مؤسسة مستقلة بميزانية خاصة من مجلس الوزراء، وقد بدأ بفكرة محاولة تجاوز المركزية الأوربية، والانفتاح على ثقافات الشعوب الأخرى، وبالفعل استطاع أن يحقق جزئيًّا هذا الهدف، فلديه ترجمات من 35 لغة مختلفة، وهذا يعني أنه تحرر من أسر المركزية الأوربية».

أما الصعوبات التي توجه المركز فقال المغيث: إن أبرزها هو الموسوعات الضخمة؛ لأنك حين تكوِّن فريقًا لإنجاز عمل كبير، تجد مترجمين جادين، وآخرين يعتذرون بعد وقت عن عدم استكمال العمل، فتبحث عن غيرهم، ومن ثم فهذا النوع من الكتب دائمًا ما يتأخر، ورغم ذلك فقد أنجزنا عددًا من الموسوعات الكبيرة مثل موسوعة كمبريدج. من الصعوبات التوزيع، لكن لدينا مركز بيع في مقر المركز بدار الأوبرا، ونشارك في العديد من المعارض بمصر والعالم العربي، ونتمنى أن نفتح منافذ في جميع أنحاء الجمهورية، لكن ذلك به معوقات إدارية كثيرة. أيضًا ما يخص الميزانية فإنها ليست كبيرة، غير أن وزارة المالية لا تتأخر علينا حين نطلب منها تزويدنا. المشكلة الكبرى في الموارد البشرية، فنحن نحلم بأن نصدر عن اللغة الصينية عشرين كتابًا في العام، لكن وفقًا لعدد المترجمين عن الصينية المتاحين لا يمكن أن نصدر أكثر من خمسة كتب، ونحن نعول على ازدهار أقسام اللغات في الجامعات المصرية، بما يخلق جيلًا أكبر من المترجمين».

في ظل وجود عدد من المؤسسات العربية والخليجية المهمة المعنية بالترجمة، كان لا بد لـ«الفيصل» أن تسأل الدكتور مغيث عن الفارق بين ما يضطلع به المركز وبين ما تقوم به هذه المؤسسات العربية، وعن آليات التنسيق في العمل، فذكر أن المركز يميزه من غيره التنوع، «وهذا يجلب له اتهامات بأن إصداراته عشوائية، والحقيقة أنها ليست عشوائية، لكن المركز يريد أن يترجم في جميع المجالات، ولديه لجان في التاريخ والآداب والعلوم الإنسانية والثقافة العلمية وغيرها، في حين أن المؤسسات الأخرى تحاول أن تختار إما كلاسيكيات العلوم الإنسانية أو الكتب المهتمة بالأدب، وهناك فارق آخر أن سعر كتب المركز أرخص من كتبهم، وهذا يزيد من الإقبال على كتبنا». وأضاف: «عندما توليت إدارة المركز، وفي أول احتفالية ليوم المترجم دعوت أربعة من رؤساء المؤسسات العربية للترجمة، وعقدنا اجتماعات للتنسيق، وطرحنا مشروعات مهمة، كان الجميع متحمسًا لها، وبخاصة أنها ستؤثر إيجابيًّا في أي مؤسسة، منها أن الكتب التي تطبع في المنظمة العلمية في بيروت حين تأتي إلى هنا تباع بـ400 جنيه مثلًا، فيكون صعبًا على أي طالب شراؤها، فاتفقنا على أن يطبعوا طبعتهم الأولى، وحين تنفد نطبع نحن طبعتنا بسعر مخفض، ويكون عليها لوغو المركز ولوغو المؤسسة، لكننا وُوجِهْنا بصعوبات، منها أن الكتاب الذي سنصدر منه طبعة ثانية يحتاج إلى دفع حقوق ملكية فكرية جديدة للناشر، ويحتاج إلى تفويض، فلم نستطع أن نحقق هذا الاقتراح، وكان هناك اقتراح آخر، وهو أن الموسوعات الكبيرة التي لا تقدر مؤسسة واحدة على إصدارها وحدها، يمكن أن تشترك فيها أربع مؤسسات، بحيث يكون هناك مترجمون من مصر وسوريا ولبنان وتونس وهكذا، وكل مؤسسة تسهم فيها ماليًّا، فيكون من السهل إخراجها، ولو طبعنا ألف نسخة تأخذ كل مؤسسة مئتين وخمسين نسخة؛ لأن هذه الموسوعات لا تكون للقارئ الفرد، لكنها للأكاديميات والمؤسسات. لكن للأسف لم يتحول أي شيء لمشروع ملموس».

وعن المميزات التي تتمتع بها المؤسسات العربية والخليجية الأخرى، قال الدكتور مغيث: إن لديهم إمكانات مادية تجعل مستوى طباعة الكتب لديهم أفضل، لكن المركز رغم إمكانياته البسيطة حقق مستويات جيدة في إخراج الكتاب، وأجرُ المترجم لديهم أعلى، وهو ما يجعل المترجمين يُقبلون على الترجمة لهم، ورغم ذلك فكبار المترجمين يرغبون في التعامل مع المركز؛ لأنهم حريصون على أن تصل كتبهم بسهولة للقارئ.

إحصائيات مهينة

وتطرق الدكتور مغيث إلى ما سمَّاه بالإحصائيات المهينة، التي يرددها الإعلام، وفحواها أن العرب مجتمعين يترجمون أقل مما تترجمه إسرائيل وهي إحصائيات ظهرت، كما يقول، في بداية التسعينيات عن الترجمة في العالم العربي، «وهي منطلقة من كتاب المفكر الكبير شوقي جلال عن الترجمة العربية، ورصد فيها عدد الكتب المترجمة في اليونان وإسبانيا وإسرائيل، ووجد أن بلدان العالم العربي مجتمعة تترجم أقل من أي من هذه الدول، ولو عملنا إحصائيات عن الكتب المترجمة في مصر سنة 1990م سنجد أن مصر كلها تصدر أربعة كتب مترجمة أو خمسة كتب في السنة. الآن المركز يصدر وحده من 250 إلى 300 كتاب، ورغم ذلك ما زلنا أقل من المتوسط العالمي».

وفيما يخص التنسيق بين البلدان العربية حول الكتب المترجمة، أوضح قائلًا: «أنا أستاذ فلسفة وأشرف على الكثير من الرسائل العلمية عن فوكو أو دريدا أو غيرهما، أسأل الطالب هل الكتاب المذكور في المراجع ترجم إلى العربية فيقول: نعم في المغرب، فأطلب منه أن يحضره، فيقول: إنه عليه أن ينتظر حتى معرض القاهرة المقبل. ففكرة أن يحضر طالب في مصر كتابًا مترجَمًا في المغرب صعبة، وأحيانًا يكتب الطالب المرجع الأصلي، ولا يكتب المترجم، وحين أسأله أكتشف أنه لا يعرف إن كان الكتاب تُرجم أم لا؛ لأننا لا يوجد لدينا بيان بما تُرجِمَ لمفكر أو فيلسوف معين. لكن حينما كنت أدرس الدكتوراه في فرنسا، كنت وأنا مقيم في مدينة صغيرة، أطلب من أي مكتبة كتابًا تُرجِمَ للفرنسية في كندا أو بلجيكا يطلبون مني أن أمهلهم يومين أو ثلاثة لإحضاره، وبالفعل يفعلون. الآن لا توجد مكتبة واحدة لدينا بها هذه الخدمة. كل هذا يجعلنا أمام مشكلة في التعامل مع الثقافة العربية على أنها ثقافة واحدة كالمجال الفرانكفوني، ولا بد أن ننظم هذا الأمر، لا بد أن يكون هناك تحريك للقوانين الخاصة بالجمارك والرقابة، وهذا يحتاج ليس فقط إلى توصية من جامعة الدول العربية، ولكن أيضًا لإنشاء جهاز لمتابعة تنفيذها».

فوضى المصطلحات في العالم العربي

من ناحية أخرى، وفي سياق الفوضى التي تضرب المصطلحات في العالم العربي، يذهب الدكتور أنور مغيث إلى أن هذه مسؤولية مجامع اللغة، «إلا أنها في الأخير تحسم بكثرة الاستخدام؛ لأن كل مترجم سيعتقد أن ترجمته هي الأفضل لكنهم لم يأخذوا بها، فعلى سبيل المثال كلمة Alienation تُرجمت إلى استلاب وضياع واغتراب، وبعد عقدين من الزمان استقر الأمر على اغتراب. وهناك كلمة برجوازي التي ترجمت في نهاية القرن التاسع عشر إلى 12 كلمة منها: أعيان، وجهاء، أصحاب رؤوس الأموال، النبلاء، الأمراء، وظل الأمر نحو 30 سنة حتى استقر على نقلها كما هي «برجوازي» من دون ترجمة. أما كلمة اشتراكية فأول ما ظهرت كانت عن طريق أحمد فارس الشدياق سنة 1879م، لكن شبلي شمايل وجورج زيدان وسلامة موسى رفضوها، وقالوا للناس: انتبهوا، هذا الرجل مكّار، أخرج كلمة سيئة كي تكرهوا مذهب «السوسياليزم»، ويريد أن يقول: إن الفقراء سيشاركون الأغنياء أموالهم من دون وجه حق، فانتبهوا ولا تسخدموها، وبدؤوا في ترجمتها إلى اقتراحات بالنسبة لهم أفضل، مثل: تعاونية، اجتماعية، ترابطية. ورغم ذلك فاشتراكية هي التي فرضت نفسها، وتحولت من كلمة سلبية إلى كلمة إيجابية، وتحولت الدولة نفسها إلى استخدامها، فتقول: نحن نظام اشتراكي، ومن ثم فمسيرة المصطلح في الترجمة يرسخها استخدام الناس له؛ لأن المصطلح ما اصطلح الناس عليه، لكن لا بد أن نتخبط في البدء. ثم نصل إلى مفردة نستقر على اسخدامها جميعًا.

وفي ظل هيمنة ترجمة الأدب على سوق الترجمة، أفاد الدكتور مغيب أن نحو 45% من إصدارات المركز هي أعمال أدبية، وأن لجان المستشارين ومجلس الأمناء دائمًا ما يوصون بالتنوع في الترجمة، مطالبين بترك الأدب لدُور النشر الخاصة، لكن إدارة التسويق تقول: إن الناس تطلب كتب الأدب أكثر من غيرها، ويضيف: «كنا ننظر للأدب على أنه كتب للتسلية، لكن الحقيقة أنه أصبح يقدم معرفة مهمة، فلو قرأت رواية صينية سأعرف منها أكثر من أي كتاب في الاقتصاد أو الأنثروبولوجيا أو الاجتماع عن الصين وأهلها وعاداتهم وأفكارهم. الأمر الثاني أنه لولا ترجمات أدب تولستوي وغيره من عظماء الرواية في الغرب ما ظهرت الرواية العربية، وما أصبح لدينا نجيب محفوظ، ولا أدب معترف به عالميًّا، ومن ثم فترجمة الأدب تسهم في إثراء أدب الشعوب، وهذا لا يعني أنه الأفضل، ولكني أقول: إننا نسير في إطار المعدل المرضي للقارئ».

ترجمة الأدب العربي

أما ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى فأوضح رئيس المركز القومي للترجمة أن المشكلة هنا هي أننا من نختار النص ونترجمه ونطبعه ثم نضعه في المخازن، «أتمنى أن نترجم كتبنا من العربية إلى اللغات الأجنبية، لكن شرطنا الأساس هو أن يكون هناك ناشر أجنبي يقبل على توزيعها ونشرها كي يكون مسؤولًا عن توزيعها في بلده، لكنه لن يقبل إلا بشرط القدرة على توزيعها، وهنا يمكننا أن نتعامل معه بالطريقة نفسها التي يتعامل بها معنا معهد غوته أو المركز الثقافي الفرنسي؛ إذ يسهم في جزء من التكلفة، فلو تكلف الكتاب 100 ألف فإنه يعطيني 50 ألفًا، ونحن ندفع 50 ألفًا، وهو ما يعني أنه في حال عدم بيع الكتاب تكون خسارة المركز قليلة، وهذا الأموال تأتي للسفارات من وزارات الخارجية كـ«بند» لترجمة الكتب، لكننا ليس لدينا في وزارة الخارجية «بند» لهذا الأمر؛ لذا نطالب أن يكون لدينا صندوق سنوي مخصص لدعم ونشر الكتب العربية في الخارج».

ويؤكد الدكتور مغيث أن الترجمة أمر ضروري لنقل العرب إلى قلب العالم حضاريًّا، «فمن دونها لن نرى تجارب الآخرين، سواء في الانتقال من اقتصاد الدولة إلى اقتصاد السوق، أو التحول الديمقراطي أو غيره، ولا بد أن نقرأ ونتعرف كيف انتقلت هذه الدول من دون صراعات أو قلاقل. وقد قال طه حسين في «مستقبل الثقافة»: إننا لا يمكن أن نقيم إصلاحًا قابلًا للحياة من دون أن نسأل أنفسنا إلى أين يتجه العالم؛ لأنك إن لم تسأل هذا السؤال فمن الممكن أن تقيم إصلاحات على التفكير القديم فتصل لطريق مسدود، لكن حين تعلم أنه لن يكون هناك تعامل بالعملة الورقية، وأن الجميع سيعتمد على (الكروت)، فإنك حين تقيم إصلاحًا بنكيًّا فلا بد أنك ستأخذ هذا الأمر في حسبانك، فميزة الترجمة أنها تجعلنا نعرف إلى أين تتجه البشرية».

وحول مشكلات القرصنة، ذكر أنه لا يعرف كيف يحافظ على حقوق الناشر والمترجم «في ظل هذا الفعل غير الأخلاقي؛ إذ تتيح المواقع مئات الكتب التي ترجمها المركز مجانًا، ولا يمكنه أن يوجه إليهم دعاوى قضائية؛ لأنهم ليسوا مؤسسات ولا جهات معروفة».

تجليات التصوف في النص الأدبي: بين تطفل على مبتكرات الصوفية والبحث عن واقعية روحية

تجليات التصوف في النص الأدبي:

بين تطفل على مبتكرات الصوفية والبحث عن واقعية روحية

لم تكن رواية «قواعد العشق الأربعون» إلا طلقة الاستكشاف التي أنارت مسرح العمليات الأدبية كي ينظر الجميع إلى العلاقة التي تجمع بين الإبداع والتصوف، فجلال الدين الرومي ليس أول من كُتب عنه من المتصوفة، فهناك الحلّاج وبِشْر الحافي والسَّهْرَورْدي وابن عربي ومعروف الكَرْخي والإمام الجُنَيْد، وهناك المُرْسي أبو العباس والسيِّد البدوي وأحمد الرفاعي وغيرهم ممن تركت الاحتفالات بموالدهم في خيالات المبدعين ذكريات لم يتوقفوا يومًا عن تدوينها في أعمالهم، فكتب صلاح عبدالصبور عن «مأساة الحلاج»، وكتب فريد أبو سعدة «السهروردي المقتول»، وقدم سعدالله ونوس «طقوس الإشارات والتحولات»، وأدهش الطاهر وطار الجميع برائعته «الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي»، وكتب غيرهم عشرات التجارب المسرحية والشعرية والروائية المتكئة على رؤى صوفية، فما السر في ذلك، ولماذا لا يخلو إبداع من تصوف، وكيف يمكننا أن نفهم هذه الرغبة العارمة في الكتابة عن جلال الدين الرومي والتبريزي وابن عربي والبسطامي وغيرهم؟

واقعية روحية

الكاتب المصري محمد جبريل صاحب «رباعية بحري» التي رصدت عوالم المتصوفة في مدينة الإسكندرية يرى أن هناك أسبابًا، بعضها يخصه وبعضها خارج عن إرادته، جعلته يكتب عن عوالم المتصوفة، يقول «كان بيتنا في قلب مولد سيدي العباس، وجلساتي كانت مع المتصوفة الذين يأتون إلى مسجده، ومذاكرتي في أروقته، وحين كتبت «رباعية بحري» كنت قد قرأت عن «الواقعية السحرية»، وفيها يحاول الكاتب أن يحدث انحرافات ساحرة وجذابة في تصويره للواقع كما في أعمال ماركيز ويوسا وغيرهما، لكنني رأيت أننا لدينا واقعيتنا الروحية التي تتناسب مع فكرتنا وتاريخنا وتقديسنا لأسلافنا».

ويشرح جبريل فكرته عن الواقعية الروحية قائلًا: «حين نسمع أن «البدوي» جاب اليسرا أو الأسرى، فإننا نتخيل أنه نهض من قبره ويذهب لإنقاذ الأسرى من يد الأعداء، وحين نسمع بأن وليًّا ذهب لعطار فطلب منه شيئًا ما، لكن العطار أخبره بأنه غير موجود، فأقسم الولي بأنه إن لم يأته به فسوف يموت من فوره أمام دكانه، لكن العطار لا يصده، فيرفع الولي يديه نحو السماء ويبتهل إلى الله، فيموت في مكانه. أليست هذه واقعية روحية؟ وحين نترك النور مشتعلًا في البيت أربعين يومًا لأن روح الميت تحوم في المكان، أليس هذا ضربًا من الواقعية الروحية التي يتداخل في إنتاجها موروثنا الفرعوني والقبطي والإسلامي وغيرها؟».

المغامر العظيم

لا تعتقد الكاتبة والناقدة الأردنية زليخة أبو ريشة أن التصوُّفَ كان في حاجة إلى الأدب يومًا ليقدم أسئلته، فهو حسب تعبيرها كيانٌ أدبيٌّ مستقلٌّ له بلاغاته الخاصّة، وبِناه الفلسفيّةُ، وحِجاجُه الروحانيّ. وتوضح أبو ريشة قائلة: «فمنذ رسائل الزهد التي نُسِبَت إلى الحسن بن يسار البصريّ، والثورة اللغوية التي أحدثتها كتابات الحلاج والنفَّري وأبي حيّان التوحيدي والسهروردي وابن الفارض وابن عطاء السكندريّ وعلي وفا وبحر الصفا وابن عربيّ وغيرهم، سنقف على معالم ثورةٍ روحيةٍ دارت أسئلتُها حول الفناء والصفاء والصدق والتخلّي والمعنى والعروج».

ورفضت أبو ريشة عدَّ أدونيس أبا تمامٍ محرِّكَ الحداثةِ الشعرية الثاني بعد أبي نواس، ذاهبة إلى أن الحلاج في شعره وطواسينه وبستان معرفته ونصوص ولايته وتفسيره ومرويّاته أحدثَ في اللغة والمفاهيم زلزالًا لا شفاء من آثاره، «فأنا أعتبرُ الحلّاجَ هو المغامر العظيم الذي قاد الشعر والشعريّة من قرونهما المتينة نحو أسئلة الوجود والعدم ونحو ينابيعَ جديدةٍ طازجةٍ في أعالي جبال المعنى. مع أنَّ أثره لا يكادُ يُلحَظ في شعر الأعلام أمثال المتنبي، إلا أنَّ الشعر والأدب الحديث قد انتبها إلى جماليات البلاغة الصوفيّة عندما أيقظ أدونيسُ النَّفَّريَّ من سُباتِ ورقه، فدسَّ الشعراءُ أنفسَهم في «مواقفِه»، على اختلافِ أحوالهم عن حالِه».

وترى أبو ريشة أن الرواية مرت على استحياءٍ بالتصوّف كما في بعض أعمال نجيب محفوظ، وفي رواية «قنديل أم هاشم» التي عرضت للتصوف الشعبي كسياقٍ مجتمعيٍّ حاضنٍ للتخلّف العلمي، وتؤكد أبو ريشة «سيأتي زمنٌ لن يكون التصوّفُ موضوعةً للرواية، بل بنيانًا في العمل الروائيّ، على النحو الذي نراه في «كوميديا الحب الإلهي» للعراقي البريطاني لؤي عبد الإله؛ إذ استثمر أفكارًا لابن عربي وأنشأ معماره الروائي عليها؛ وهي تجربة مهمةٌ في عالم الأدب والرواية».

استنباط العالم

من جانبه يؤكد أستاذ النقد الأدبي الحديث بجامعة حلوان الدكتور صلاح السروي وجود علاقة وثيقة بين الأدب والتصوف؛ إذ إن كلًّا منهما يقوم على استنباط العالم، فالمتصوف لا يعيش خارجه بل داخله، وينطلق من داخل النفس إلى خارجها، وفي الوقت الذي يستنبط ذاته فإنه يحاول سبر أغوار الوجود والكون، وهذه الخصيصة بذاتها خصيصة شعرية، بحسب السروي، وبخاصة في المراحل التي انتقل فيها الشعر من التقليد والوصف إلى التجربة الوجودية والروحية لدى شعراء الوجدانيين؛ أمثال: إبراهيم ناجي، والهمشري، وأحمد زكي أبو شادي، حتى إن كثيرًا من شعراء التفعيلة كتبوا قصائد بعناوين صوفية كصلاح عبدالصبور الذي كتب «مأساة الحلاج»، وأدونيس الذي كتب «أغاني مهيار»، و«أقاليم الليل والنهار»، وهو أيضًا صاحب كتاب «الصوفية والسريالية». يقول السروي: «لقد تسرب هذا الحس الصوفي لدى الشعراء التاليين على جيل الستينيات، فنجده لدى فريد أبو سعدة في ديوانه «معلقة بشص» و«ذاكرة الوعل»، ولدى حلمي سالم في «يوجد هنا عميان»، وفي الرواية جاءت ملحمة «الحرافيش» كمقدمة للأعمال ذات الأبعاد الصوفية؛ إذ قدم محفوظ التصوف بشكل فلسفي من خلال شخصية عاشور الناجي الذي يعلم ما يجري في الحارة، ليس من خلال التكية وغنائها الذي لا ينقطع ولكن بوصفه الناجي أو المختار».

عقلاني المزاج

لكن على الجانب الآخر لا يعتقد الكاتب المغربي عبدالحفيظ مديوني أن كل الكتابات تنبع من حس صوفي، وإن تركَتِ العواملُ الخارجية تأثيرها في الكاتب، وهو يقول: إن التصوف «كمذهب أو منهج ديني غير وارد عندي بالمرة.. بل بالعكس من ذلك، فأنا، حسب ما أرى نفسي، عقلاني المزاج، تقدمي الطبع، حداثي التوجه، وأبعد ما أكون عن أي ارتباط بهذا المجال، لكن إذا تعلق الأمر بالصوفية كأعراض وتجليات وقيم وسلوكيات إنسانية، فلا يكاد عمل من أعمالي يخلو منها… من أين انتقلت هذه الروح إليّ وإلى أعمالي؟ سؤال لم أطرحه قط على نفسي.. وقد تكمن في كوني ترعرعت في أسرة وبيئة وثيقتي الصلة بالتصوف.. فإلى الماضي القريب لم يكن لأي من أهل البلدة رجل أو امرأة دون بيعة حيال زاوية من الزوايا».

متصوف بالضرورة

في حين يوضح الشاعر المصري أحمد الشهاوي، الذي يدور مجمل منجزه الشعري في إطار التجربة الصوفية، أن الصوفي قديمًا استعان بالشعر كي يعبِّر عن حاله ومجاهداته، والآن يستعين الشَّاعر بالتصوُّف كي يعبِّر هو الآخر عن حاله، ويضيف الشهاوي «ما يهمُّني هنا ألا تتحوَّل الاستعانة إلى استعارة لغة ومجاز وحال؛ لأنه من المستحيل أن يكون النصُّ حقيقيًّا إذا قام على الاستعارة والاتكاء على الآخر، وسيصبح الأمر مجرَّد تذويقٍ وتزييفٍ وتقليدٍ غير مستحب وغير مستساغ. وقد رأينا منذ الخمسينيات من القرن الماضي حتى يومنا هذا استخدم الاصطلاحات والمأثورات الصوفية، ووظَّف العبارات العرفانية من غير أن يعيش حاله، أو يعاين تجربته، أو يتأمَّلها أو يقرأها قراءةً عميقة؛ وهو الأمر الذي جعلنا نقرأ ركامًا من النصوص المطهوة في فرن التكلُّف، وقد طبختها نارُ التصنُّع الزائد، فأغلب قصائد الشعراء «مستنسخات تناصية» من الأصل الصوفي الذي تفرَّق دمه وتوزَّع بين قبائل الشعراء في المشرق قبل المغرب».

ويؤكد الشهاوي على التجربة الخاصة بالشاعر كمتصوف جديد قائلًا: «الشاعر لدي متصوفٌ بالضرورة عند الكتابة؛ إذ تكون نفسه نقيةً لا شوائب فيها عندما يبدأ في التدوين؛ ليُنشِئَ خلقًا آخر جديدًا، ويصير التصوف الآخر لديه مجرَّد رافدٍ أساسيٍّ يفيد منه ويستلهم ويوظف ما قرأ، لكن لا بد من التعويل بالأساس على «ما عاشه» الشَّاعر من تجارب، وما مر به من عذابات وآلام، وهنا تصبح الذات واحدةً في تراكبها وتكوينها، بفضل النقاء العرقي للنص الذي يخرج من الشاعر، ينتسب إليه وينتمي، ولا ينتسب لسواه. وكثير من المتصوفة الكبار هم عندي ليسوا شعراء، رغم أن لهم دواوين منشورة ومشهورة ومُحقَّقة ومدروسة أكاديميًّا؛ لأنهم قلدوا تجارب الشعر العربي التي كانت مُجايلة لهم؛ إذ كان النص الشعري هو الأبرز والأعلى قيمةً في المجتمع العربي وقتذاك فلجأ إليه المتصوفة بالتقليد والمُحاكاة والمعارضة، الشاعر كالمتصوف متقشفٌ ومقتصدٌ وزاهدٌ في نفسه ولغته، سالكٌ مثله ومسافرٌ، يعيش ما بين التخلي والتجلي والتجلد والضنى والمعاناة والاعتزال، والنفري عندي ما زال أكثر حداثةً ممن قلده من الشعراء المعاصرين رغم مرور ألف سنة على وفاته؛ لأنه كان نفسه، ولم يسر إلا في طريق قلبه».

تسرب الصوفية

الكاتب السوداني المقيم في فيينا طارق الطيب يتطرق إلى وجود عدد من العوامل التي أسهمت في تسرب التصوف إلى كتاباته، «هناك مسار طويل في حياتي أثّر في رؤيتي: نشأة الطفولة في الكُتّاب وهي نشأة دينية، تأمل الموالد في الحياة الشعبية عن كثب في منطقة الحسينية تحديدًا حيث عاشت جدتي لأمي، وهي -أي جدتي- منبع فطري أصيل لي، حيث لم تذهب إلى مدرسة بل ثقافتها أمومية طبيعية متوارثة وعميقة، وربما لاحقًا هنا في المهجر بفيينا عبر صداقة بعض مريدي الطريقة البرهانية في بداياتي، والتأثر بها بشكل تأملي أكثر منه استغراقًا في طقوس وأوراد مشابهة».

لكن الطيب يرفض القول إن أعماله صوفية، فهو، حسب قوله، لم يتعمد صوفيتها، وإن الروح الصوفية قد تسـربت إليها برفق وانسجام. وهو يرفض الحكم على أصحاب النصوص التي تعرضت لموضوع التصوف؛ إن كانت نصوصهم عن تجربة روحية حقيقية أم مزيفة، «الواضح أن استلهام الموضوع الصوفي سواء في الاشتغال على هيئات صوفية أو في استدراج سلوكيات صوفية قد ظهر عند البعض بجدية وتأمل عميق، بينما البعض الآخر قد تساهل في مزج بعض الكرامات أو الشطحات في النصوص، ولعل التصوف الفلسفي هو المؤثر الأبرز في أدبنا الحديث، ومن نوافذه الكبرى ابن عربي والحلاج والبسطامي والرومي وابن الفارض وغيرهم».

الغناء الديني

من جانبه يقول أستاذ النقد الفني بأكاديمية الفنون الدكتور أشرف عبدالرحمن: إن الغناء الديني انتشر في الوطن العربي من خلال الموشحات، وكل دولة تناولته بشكل مختلف، ففي تونس وليبيا انتشر ما يعرف بفن «الزاوية»، وفي مصر في القرن العشرين أدخل السنباطي وأم كلثوم غناء القصيدة الدينية مثل: «القلب يعشق كل جميل» و«حديث الروح» و«وُلِدَ الهدى فالكائنات ضياء».

ويشير عبدالرحمن إلى انتشار فرق المشايخ في مصر مع بدايات القرن العشرين؛ مثل: الشيخ علي إسماعيل وبطانته، والنقشبندي وبطانته، ينشد الشيخ وتردد البطانة المذهب من خلفه، وظل هذا الأمر بعيدًا من حضور الموسيقا، إلى أن لحن بليغ حمدي للنقشبندي «مولاي إني ببابك قد مددتُ يدي»، ولحن لعبدالحليم حافظ من كلمات عبدالفتاح مصطفى عددًا من الأدعية. ويوضح أن الغناء الصوفي لا يشتمل على رقص، ولكن حركة دوران، «الدوران لدى المتصوفة أقرب إلى نظرية فلسفية تعتمد على الحركة والسكون، حيث دوران الأرض حول الشمس، والدوران أو الطواف حول الكعبة، ومن ثم فالمولوية لديها حركة وليس رقصًا»، رافضًا أن تكون كثرة فرق الإنشاد الصوفي «تطورًا في الموسيقا، حتى إن كان لها جمهور عريض. ولا يمكن القول بأنها تصلح أن تكون بديلًا عن الغناء العاطفي أو الوطني أو غيره، فهي لون له جمهور يحتاجه في أوقات معينة، ولا يمكن اعتباره بديلًا ولا سبيلًا وحيدًا للفن الموسيقيّ».

تطفل على الصوفية

وعن الأعمال التي تستلهم التصوف يشير الكاتب والباحث سمير المنزلاوي إلى أن الكتابات المولودة من رحم تجارب روحية أعمال نادرة؛ «لاحتياجها إلى شفافية عالية، وقدرة ثقافية وتحصيلية كبيرة للتعبير عنها، بمكوناتها نفسها الآتية برفقتها من خيال وهواتف وعمق ولغة عميقة مشحونة». ويعزي المنزلاوي ندرة هذه التجارب إلى «وعورة الطريق وغموض مسالكها بحيث لا تُفضِي بمواجيدها لأول طارق، ومن ثم فإن ساقطي الهمة لا يكادون يصمدون، ويتزامن هروبهم مع محاولات محاكاة ساذجة تصل إلى حد النقل والمماحكة؛ للاستهلاك المحلي واللحاق بزخم السوق. لكنها تبقى مصنوعة ومصطنعة وثقيلة ومترهلة، تتطفل على مبتكرات الصوفية وتتسلل إلى عالمها الفريد من دون تمكن من أدواته أو فهم لآلياته، فتصير كالفاكهة الفاسدة لا لون ولا طعم، تبدو كتقاليع وتظاهر بالمعرفة يتشابه على ذوي الثقافة السطحية، وتصنف لأغراض شخصية، ضمن منتجات الروح وهي منها براء».

حالة روحية

ويقول الكاتب الكويتي حمود الشايجي: إنه إذ حدثه أحد أن رؤيته للكتابة تنطلق من رؤية صوفية، فإنه لا ينكر ذلك، «بل أؤكد على هذه الرؤية، وأقول: إن أي فعل يخلو من التصوف هو فعل لا يعوّل عليه». ويضيف أن بعضًا «يرى أن الصوفية هي ما نراه في الموالد أو الزوايا، وبعضًا يربط الصوفية بالتدين، لكنها أشمل من ذلك كله، فهي حالة روحية، تربط الإنسان بالكون الكلي بالشكل الذي يختاره، وخلو أي أمرٍ من هذه الحالة الروحية هو أمر لا يعول عليه بالنسبة لي». ويمضي قائلًا:«أحد أسرار الكتابة المهمة التي تعلمتها كان على يد مولانا جلال الدين الرومي الذي كان يقول: كنت أسمع اسمي ولا أرى نفسي، كنت منشغلًا بنفسي لكني أبدًا لم أكن مستحقًّا لها، وحين كان وخرجت من نفسي وجدت نـفسـي». ويرى الشايجي أن على الكاتب أن يحب كل شخصياته «مهما كان دورها، فلا وجود، من وجهة نظري، للخير أو للشر في النص ولا حتى في الحياة، بل هناك أبعاد درامية، وهناك شخصيات عليها القيام بما عليها القيام به».