التصوف باعتباره مخرجًا من التطرف!

التصوف باعتباره مخرجًا من التطرف!

في العقدين الأخيرين، وبخاصةٍ بعد أحداث عام 2001م، كثرت بحوث الغربيين عن التصوف الإسلامي باعتباره مخرجًا من التطرف، وقد بدأ تلك البحوثَ دارسو الإسلاميات، ثم تولت ذلك مؤسساتٌ بحثيةٌ أوربية وأميركية بتكليفٍ من الحكومات.

أما دراسات المتخصصين فلها اتجاهان: اتجاه دراسة سيَر وآثار بعض أعلام التصوف مثل: جلال الدين الرومي، ومحيي الدين ابن عربي، وابن الفارض –ولا تزال لدراسات شخصيات الأعلام هؤلاء جاذبية شديدة لدى الغربيين– واتجاه قراءة تاريخ التصوف ظهورًا وتطورًا والطرق الصوفية قديمًا وحديثًا. وبين يديّ دراسة طريفة لكريستوفر ملكرت (الذي له كتاب معروف في تاريخ المذاهب الفقهية) في التفرقة بين الزهد  ascetism والتصوف mysticism- وبشكلٍ عامٍّ فإنّ الزهد معنيٌّ في الغالب بالسلوك وسيرة الحياة، بينما يكون التصوف عِرفانًا. ويرى ملكرت وغيره أنّ الانتقال من الزهد إلى التصوف في المجال الإسلامي حدث بعد أواسط القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وبيَّنَ البارزين في هذا التحول أمثال الحارث بن أسد المحاسبي وذي النون المصري وأبي حفص النيسابوري ومعروف الكرخي وأبي سعيد الخراز والجنيد البغدادي. وييدو أنّ ظاهرة التحول هذه من الظاهر إلى الباطن لفتت انتباه الإمام أحمد بن حنبل فكان يُثني على السريّ السقَطي ويقول: ذاك الشيخ الطيب المطعم؛ بينما كان يخشى من «وساوس» المحاسبي وخطراته. إنما الطريف أنّ المحاسبي نفسه في كتابه: المكاسب يهاجم رجلين هما عبدك ويزيد (الصوفيان)؛ لأنهما كانا يجرّمان المكاسب! وبالفعل فبعد القرن الرابع الهجري لا نقرأ عن زُهّادٍ كبار، بينما نقرأ كثيرًا عن «عارفين» كبار. على أن كتب طبقات الصوفية أو الأولياء لا تُفرّقُ بين الطرفين إذ تبدأ تراجمها من الصحابة والتابعين إلى إبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وأمثالهما، فإلى عارفي القرنين الثالث والرابع، فإلى المؤلّفين في التصوف في القرن الخامس.

وعندما كنا ندرس بكلية أصول الدين بالأزهر في النصف الثاني من الستينيات، وكان أستاذ التصوف الشيخ عبدالحليم محمود وهو صوفي شاذلي، وصار فيما بعد شيخًا للأزهر، ما كان يفرّق بين الزهد والتصوف، بل يعتبر الزهد جزءًا أساسيًّا في مسيرة العارفين، وينصحنا بقراءة كتاب الدكتور عبدالرحمن بدوي: تاريخ التصوف الإسلامي، وهو يفعل الشيء نفسَه.

لماذا هذا التقديم الاستطرادي؟ لأنه سواء أكان الأمر زهدًا أو كان تصوفًا؛ فقد كان في الحالتين استثناءً أو ظاهرةً فردية، وما كان هذا أو ذاك حركةً أو مذهبًا أو اتجاهًا له جمهور. ولذلك كان ظهور الطرق الصوفية في القرن السادس الهجري (= الطريقة السهروردية) مفاجئًا؛ لأنها صارت حركات جماهيرية. فخلال أكثر من قرنين (فيما بين الثالث والخامس) لا تورد كتب طبقات الصوفية أسماء أكثر من ثلاثين أو أربعين من «العارفين» الذين يستحقون الذكر، باعتبار أنّ لهم كلامًا في الأحوال والمقامات التي يتنقل بينها العارف في سبيله الطويل إلى الله عزّ وجلّ. وبالطبع لا يجد القارئ في كلام الحلّاج أو الشبلي أو البسطامي وأشعارهم ما يمكن اعتباره «مذهبًا»، شأن المذاهب الفقهية التي كانت تتكون وتزدهر، وتتوزع عليها ميول المتمذهبين ومصالحهم، كما حصل من قبل في علم الكلام.

ولهذا السبب ذهب نيكولسون وآخرون (من بينهم تلميذه وأستاذ التصوف بجامعة الإسكندرية أبو العلا عفيفي صاحب الكتاب المشهور: الحياة الروحية في الإسلام) إلى أنّ هذا التفلسف وهذه الرسوم والشعائر قد تكون لها أصولٌ أجنبيةٌ هنديةٌ أو مسيحيةٌ أو بوذية… إلخ. وعلى أي حال؛ فإنّ مقامات هؤلاء وأحوالهم التي يعبِّرون عنها بكلماتٍ وشطحاتٍ أثارت أول ما أثارت شكوك المحدِّثين والفقهاء. وقد تعرض أوائل العارفين نتيجة ذلك إلى «محنة» كما يقال في مثل هذه الأحوال، واستدعتهم السلطات من أقطار عدة فيما صار يُعرف بفتنة المحدِّث الحنبلي غلام الخليل. وما كان لتلك الحادثة نتائج مؤسية، بعكس ما حصل للحلّاج (ويقال: إنه كان حنبلي الميول!) فيما بعد. ولكي تحفظ تلك القلة نفسها؛ فإنه منذ القرن الرابع أقبل هؤلاء على رواية الحديث، وذكروا في كتبهم «ضوابط» لسلامة السيرة والمسيرة بالالتزام بالكتاب والسنة، وعندنا أجزاء حديثية كثيرة من رواية الصوفية عبر العصور بدأها أبو عبدالرحمن السُّلَمي وتابعها أبو القاسم القشيري وابنه، ثم صارت تقليدًا لدى مَنْ صاروا يُعرفون بأهل التصوف السُّنِّيّ. ومن أجل ذلك تحيَّر فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي أدان تفلسفهم وشطحاتهم؛ لكنه احتفظ باحترامٍ مشهودٍ لبعض كبارهم الذين عدَّهم من أهل الورع والالتزام.

ما أنشأ الغزالي (505هـ) طريقةً صوفية، وأحسب أن شخصيته ما كانت تُتيح له ذلك؛ إذ كان شديد التفرد في مزاجه، ويهوى الكتابة والتدريس منذ شبابه، وينفر من الجمهور الكبير. لكنّ كتابه: إحياء علوم الدين، هو الذي أحدث التحول نحو الطُّرُق. ومنذ السهروردي (صاحب كتاب عوارف المعارف وليس شهاب الدين السهروردي صاحب التلويحات الذي كان مصيره مثل مصير الحلّاج)، صار ذوو الشخصية الكارزماتية يكتبون كتابًا أو رسالة هي بمنزلة البرنامج، ثم يسعون لإنشاء طريقةٍ تسير بحسب البرنامج، وظل إحياء علوم الدين نصًّا مشتركًا بينهم إلى جانب رسالة شيخهم. وهؤلاء المُريدون يُعادُ تدريبهم في قراءاتٍ وممارساتٍ معينة، وتبرز بينهم نخبةٌ تكون هي بين أوائل من التقطوا «كرامات» الشيخ (وقد يكون بينهم واحدٌ من أبنائه)، ومن بين هؤلاء يختار الشيخ خليفته، وقد يكون الخليفة أكثر من واحد بحسب الجاذبية والكارزماتية واجتراح الكرامات. بيد أنّ التفرعات في الطريقة قد لا تحدث بسبب التنافس، بل بسبب اختلاف الأقطار التي تنتشر فيها الطرق وتتفرع. ولذلك ففي القرون الأربعة بين السادس والعاشر ظهرت مئات الطرق، ونشأت عليها مئات الفروع. بيد أنّ الطرق الكبيرة الباقية لا تزيد على الخمس عشرة اليوم، وقد ينشأ للفرع اسمٌ يُنسي الاسم الأصلي الذي كان للطريقة الأولى. وقد لا يترك الشيخ الأكبر طريقةً منظمةً، ثم يأتي واحدٌ من تلامذته فيفعل ذلك ويضيف رسالته أو برنامجه أو وِرْده إلى ما تركه الشيخ الأول من آثار.

ولقد بلغ انتشار الطرق حدًّا قيل معه: إنّ ثلثي المسلمين في القرن الثاني عشر الهجري مثلًا كانوا ينتمون إلى إحدى الطرق. والطرقية مثل السلفية في أنها تشهد إحيائيات. ومن ذلك ما ظهر من إحياءٍ صوفي في القرن الثالث عشر الهجري، والإحياء الحاصل في الزمن الحاضر.

الصوفية الطرقية والصوفية السنوسية

وما أحبَّ الإصلاحيون المسلمون سلفيين وتحديثيين في القرن التاسع عشر والقرن العشرين الصوفية الطرقية؛ إذ رأوا أنها صارت طريقةً في الحياة، عصية على التغيير وعلى الإصلاح والتنوير، وأنها تلازمت مع الفقر والإفقار والاستسلام باسم التوكل، ولأنه ظهرت على حواشيها وأحيانًا في قلبها عقائد شعبية وعجائبية تتنافى وصحيحَ الإسلام. وذهب بعض الإدانيين إلى أنها خامرت المستعمرين أو لم تناضلْهم. وهذا لا ينطبق على الطريقة السنوسية التي قاتلت المستعمرين الفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين. وقد شهدتُ جدالًا بين أحمد بن بلّة وعبدالحميد الإبراهيمي ابن الشيخ البشير الإبراهيمي بشأن الصوفية وسلوكها بالجزائر تجاه المستعمرين الفرنسيين. الإبراهيمي قال: إنهم بعد الأمير عبدالقادر استسلموا وانصرفوا عن الاهتمام السياسي، بينما ذهب بن بلّة إلى أنهم ساعدوا الثوار كثيرًا في حرب التحرير (1954-1962م). والواقع أنّ المتصوفين غير مسيَّسين، ويتأثرون كثيرًا بتوجهات شيوخهم (فالمريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسِّل). ولذلك قاتل النقشبنديون (الذين يشهدون إحياءً كبيرًا وانتشارًا هائلًا) الأميركيين وداعشًا بالعراق؛ بينما لا يضعون الشأن السياسي في أَولوياتهم في البلدان الأُخرى، ويتعاطى كبارهم التجارة، ويصادقون الحكّام، ولا يرون حرجًا في التعامل مع الغريب والانفتاح عليه، والتنسيق معه، مثلما تعاون السنوسيون بعد أحمد الشريف السنوسي وعمر المختار مع الإيطاليين والبريطانيين، ومثلما هم النقشبندية في تركيا وآسيا الوسطى.

ولنذهب إلى الأميركيين والأوربيين بعد طول تطواف. بعد حدث عام 2001م، أجرت عدة مؤسساتٍ بحثية واستطلاعية دراسات ميدانية على الإسلام وعلى المسلمين. ففي ظلّ الإحياء الديني السلفي المعادي لهم، هناك الإسلام السياسي، وهناك الإسلام الصوفي. والإسلام السياسي أكثر فعاليةً وتأثيرًا وعنده براغماتية، لكنه كثير الأشواك؛ لأنّ مقولة الدولة الإسلامية قوية الحضور في أوساط كوادره. ولذلك ما أقفلوا الباب في وجه الصحويين، لكنهم فتحوا الأبواب على مصراعيها مع الصوفية التقليديين والجدد. فقد تبين لهم أنّ الطرقية ما عادت واسعة الانتشار في أوساط العامة التي انصرفت عنها بسبب ظروف حياتها القاسية؛ وإنما انتشر التصوف الجديد في أوساط الفئات الوسطى وبخاصةٍ شبان وشابات المدن، بينما يمارس كبارهم العمل التجاري. لقد ظهرت في أوساط المسلمين المتعلمين مثل الشعوب والأمم الأخرى ديانات فردية إذا صحَّ التعبير. بمعنى أنّ هؤلاء يصنعون دينهم جزئيًّا بأنفسهم، ولديهم ميلٌ شديدٌ للروحانيات والانطباعات الذاتية. وتتّسم نفسياتهم بالرضا النسبي، ولا يحبون التعليمات الصارمة، ولا الأساليب النضالية في العمل الخاص أو العام. وهم وهنّ لا يأبهون كثيرًا لظواهر الأمور والأحداث العاصفة في بلدانهم أو في العالم. وتذكر بعض الدراسات التقييمية حركة غولن وطرائقها في العمل البنّاء. كما تذكر السحريات والقُبيسيات في سوريا، وبعض الطرق الصوفية في إندونيسيا وفي الهند. وتقول إحدى الدراسات: إنّ التعامل معهم أحيانًا أسلَم من التعامل مع جماعات المجتمع المدني الذين يؤمنون بالقيم الغربية، لكنهم يمكن أن يناضلوا باسمها ضد الحكومات وحتى ضد المصالح الغربية. ثم إنّ لدى هؤلاء شيوخًا ومرشدين يأتمرون بأمرهم، والتواصُلُ معهم سهلٌ لأنه لا تحفُّظ عندهم لهذه الناحية. فالطبقات الوسطى التي يأتي منها معظم هؤلاء لها مصلحةٌ في التعامل مع العالم الخارجي، ومنهم مئات الآلاف في الغرب، ويتمتع معظمهم بعلاقاتٍ حسنةٍ مع الحكومات في بلدانهم. إنّ المشكلة أنه ليس لهم تأثير كبير في الشأن العام في بلدانهم بخلاف الصحويين. إنما يمكن العمل معهم للمستقبل، ولدى الحكومات الصديقة. لكن هل يمكن لهم أن يغيّروا «وجهة الإسلام»؟

إحياء صوفي شاسع

هناك إحياءٌ صوفيٌّ شاسع. وكتاب «قواعد العشق الأربعون» عن جلال الدين الرومي أو عن رؤيته للعالم، وُزِّعت منه ملايين النُّسَخ بلغات عدة في العالم الإسلامي وفي الغرب. إنما هذا التوجُّهُ توجُّهٌ خاصٌّ وحميم، ومن المشكوك فيه أن يصبح وجهةَ الإسلام؛ لأنه ينبع من هذه الأمزجة الخاصة. ويمكن القول: إنه توجهٌ بارزٌ في الإسلام الأسيوي، إنما ليس في الإسلام العربي أو الباكستاني أو الإفريقي، رغم أن التصوف له جذورٌ عميقةٌ في هذه النواحي.

إلى أين يتجه الإسلامُ إذن؟ هذا السؤال طرحه هاملتون غب في الخمسينيات، ووجد أملًا في الإسلام الهندي والآخَر العربي. لكنّ توقعاته ما كانت بالغةَ الصحة أو الدقة: فلماذا وإلى جانب التصوف، لا نتجه إلى الفئة أو الشريحة الرابعة؟ (غير السلفيين وغير الصحويين وغير المتصوفين)، أي إلى المؤسسات الدينية أو الإسلام الرسمي. وهو رسميٌّ ليس لأنّ المؤسسات الدينية تتبع الحكومات؛ بل لأنّ المئة عام الأخيرة شهدت تنقياتٍ في الإسلام وتطهريات إلى أن جرى التوصل إلى Standard Islam تبنته تلك المؤسسات إذا صحَّ التعبير. وقد ضعُفت تلك المؤسسات في العقود الأخيرة لأنّ الحكومات لم تهتم بها، ولأنّ السلفيين والصحويين احتلُّوا الشارع. وعندما حصلت الأعمال الإرهابية، كانت تلك المؤسسات هي الأكثر ارتياعًا، وطوَّرت بمساعدة الحكومات ومن دون مساعدتها إستراتيجيات لمكافحة التطرف واستعادة السكينة في الدين، وتصحيح العلاقات مع العالم. الاستقرار يهمها كثيرًا، وصورة الإسلام تهمها كثيرًا، ولذلك ينبغي الاهتمامُ بها، وبخاصةٍ أنّ أكثرها لا يُعادي التصوف ولا يراه مُنافسًا، كما لا يُعادي الغرب.

فخُلاصات تلك الدراسات الاستطلاعية التي يُجريها الغربيون عن توجهات المسلمين المعاصرين أنه: من الصعب الآن التنبؤ بما سيكون عليه التوجه الإسلامي العام بعد عقدٍ أو عقدين. لكنْ يكونُ من المناسب في المدى المتوسط: استيعاب متديني التصوف، ومساعدة المؤسسات الدينية في نشاطاتها المتكاثرة بالداخل والخارج مع عدم إقفال الباب مع الصحويين. فالوادعون من المتدينين في بلدانهم وفي الغرب كثيرون جدًّا. وهم في تدينهم أقرب إلى المؤسسات الدينية وليس إلى الصحويين أو الصوفية. لقد أوشك العنف أن ينكسر ومعظم المسلمين ضده. وسيضعف التطرف لكنه لن يزول. لكنّ المجتمعات صارت أكثر مناعة، والاعتدال في الدين شعار الجميع اليوم. بيد أنّ النهوض الإسلامي الكبير الشبيه بالنهوض البروتستانتي لم يظهر بعد!