حُب من النظرة الثالثة

حُب من النظرة الثالثة

1

ليس من نظرة أولى خاطفة، بل من النظرة الثالثة أو الرابعة؛ إذ حدث أن قلبه خفق لبائعة مليحة امتلكت فؤاده وتعلّق بها، وكلما رآها اضطرب كيانه، وتمنى لو أن اللقاء العابر بها يمتد ويطول، لكن اللقاء وبحكم الظروف يتم بتره ولا يطول، وهو ما يزيد الرجل اشتعالًا. لقد وقع بلا مراء في الحب، ولا يملك الخروج منه، وتوخيًا للدقة وبسبب كثرة التقديرات والافتراضات المتعلقة بمدى وقوع أشخاص في الوَلَه والغرام، ومن أجل التعيين والتحديد، فقد وقع هذا الرجل في الحب بنسبة لا تقل عن 88% من التعلق العاطفي، وهذه نسبة مرتفعة.

فيما واظبت هي على مبادلته عبارات قليلة حول موضوعات روتينية بنت لحظتها، وبنبرة لطيفة لا يغشاها انفعال ومشفوعة بابتسامة جذلى، إلا أن لغة عينيها ظلت تشي بالمكنون، بأنها وقعت بدورها في الحب، في حبه، وأن الأمر يروق لها ويُبهج أعطافها، وبنسبة تنامت لديها حتى ناهزت 79% إلى ذلك الوقت.. الوقت الذي تم فيه تبادل نظرات دقيقة ولهى بينهما، وللمرة الرابعة في غضون بضعة أسابيع.

غير أن ثمة ما يكتنف حكايتهما، كما في سائر قصص الحب (سُمّيت قصصًا لأن أصحابها يصادفون مشكلات مستعصية، أو مفارقات مؤسية وغريبة). فالرجل الأربعيني كان لم يزل على ارتباط عاطفي بأخرى. ارتباط قديم يعود إلى 15 عامًا على الأقل، غير أنه ارتباط متموج متقلب تتخلله توهجات تعقبها انطفاءات طويلة، ويسوده وداد وتفاهم لفترة، وسوء فهم وكدر لفترات، مما يجعله ارتباطًا عاطفيًّا تُرَاوِحُ نسبتُه بين 56% في حالات الانكماش و86% في فترات الانتعاش، وقد أسعفته مهنته مُحاسِبًا في تقييم الأمر بطريقة حسابية «دقيقة» جرى اعتمادها هنا في سرد هذه الوقائع.

هي بدورها الثلاثينية ذات الوجه المليح ترتبط بخطيبها الذي يقيم خارج البلاد منذ سبع سنين، ويَعدها من سنة إلى سنة بالزواج من دون أن يبرّ بوعده، على أن الخطيب حين يحضر وحتى لو أرجأ موعد الزواج إلى سنة لاحقة، وهو ما يحدث دائمًا وبتعلّات شتى تتعلق بظروف العمل والسكن والصحة وحوادث الحياة، فإن حبها له يرتفع بوجوده قريبًا منها إلى 89%، أما حين يطير ويحُط مجددًا في البلد البعيد البعيد (نيوزلندا.. ما غيرها) فإن الحب يجاهد في قلبها كي يرتفع إلى نسبة 76%، ويحدث أن ينحدر إلى نسبة تلامس 61% معللة ذلك بأن حبها له لن يصله كاملًا في بلد إقامته القصيّ، وأن بعضًا منه، من الحب.. سوف يتساقط في الطريق الطويلة، وحينها ينتابها تشاؤم رومانسي لا يسلبها جمالها، متسائلة في الأثناء إن كانت منذورةً لمصير حزين، على الرغم من جمالها الذي يتحدثون به. فلما رأت الوافد الجديد وقد ضرب شعاع نظراته قلبها، فإن القلب لم يملك سوى أن يخفق خفقانًا مستبشرًا يرتفع فيه مؤشر رصد العواطف إلى 79%، وهي نسبة تقل بتسعة بالمئة عن تلك التي يحوزها هو تجاهها. هذا الفارق يستشعره الاثنان، وهو ما أسعف في بقاء الحب مشتعلًا. فمن جهتها يُرضي غرورها أنها في مركز أقوى؛ إذ يحبها بأكثر مما تحبه، ومن ناحيته هو لطالما اعتقد أن الحب كائن حي.. يولد وينمو ويمرض ويذبل ويتعافى ويشتد عوده (مستفيدًا في ذلك من تجربته الأولى المتواصلة على تقطّع) وقد ظل يُمنّي النفس أن ترتفع النسبة لديها، بحيث يتعادلان أو يتقاربان.

على أن ما يجدر الإفصاح عنه، أنه من غريب ما يقع له أنه حين يكون على صفاء مع الأولى، فإن صورة الثانية تكاد تضمحل في رأسه. كما أنه حين يلتقي الثانية سواء كان على وفاق أو شقاق مع الأولى، فإنه ينسى تلك. إنه يواجه نفسه بذلك وإن بصورة مواربة. ويتساءل: كيف له أن يرتبط باثنتين في آن واحد، وهو من يدرك أن الحب يضطرم لشخص واحد فقط، وتحتفظ ذاكرته بالمثل الشعبي السائر: صاحب بالِين كذاب. وهو ما تلهج به ما لا تُحصى من روايات وأفلام وأغانٍ وقصائد؟ أيكون كاذبًا هو الذي يعرف معنى دقات قلبه وأين تتجه رياح تفكيره، أيكذب امرؤ ناضج مجرّب على ذات نفسه؟ إنه لا يكذب. وإن كان ثمة إشكال ما، فإنه يقع في موضع آخر بعيدًا من الصدق والكذب.

أما هي فلا تستوقفها هذه التساؤلات، ولا تنشغل بها، ليس من باب اللامبالاة أو ضعف المدارك، بل لأن الأمر لديها يأخذ منحًى عمليًّا لا تعقيد فيه؛ إذ ما زالت على حبها لخطيبها المسافر، وفي الوقت نفسه فإن القلب يميل بالتأكيد للوافد الجديد إذ ترى فيه احتياطًا إستراتيجيًّا، ومن الحُمق إغلاق الأبواب في وجهه فلا أحد يعرف ماذا تأتي به الدنيا غدًا. وهي تكتفي برؤيته وتبادل النظرات المُعبّرة والابتسامات المنتشية والدردشة الخفيفة اللطيفة معه في مكان عملها، ملتزمة بمقتضيات التهذيب الشرقي لارتباطها بخطيبها المغترب.

2

«هذا حب مُكلف». يُحدّث نفسه ضاحكًا، وهو يغادر صندوق الكاش حيث تعمل هي وحيث يحرص على تسديد ثمن مشترياته لديها في المول التجاري، الذي يتردد عليه بين ثلاث إلى خمس مرات في الشهر، عارفًا بيوم عطلتها الأسبوعية. وهي تَهِشُّ وتَبَشُّ لزياراته المنتظمة، داعية السماء في كل مرة ألا يغيب، وألا تُخطئ في تدوين مشترياته على جهازها. وبين الحذر والانشراح، والحرص على الظهور بمظهر طبيعي أمام بقية الزبائن المفتوحي الأعين وبآذان مسترخية، يمضي الوقت وقد حرص زبونها المفضل على شراء كمية من السلع بثمن معقول؛ كي يمضي وقتًا أطول أمام الصندوق الذي تقف هي خلفه، وكي يبقى لديه ما يشتريه في مرة لاحقة. وقد عرفت في المرة الخامسة من مرات مجيئه أنه يعمل محاسبًا، وراقت لها مهنته، فهي قريبة من مهنتها.

– قدّم طلبًا للعمل لدينا. لماذا لا تفعل؟

– وظيفتي محاسبًا ومدققًا ماليًّا في شركة كبيرة أفضل من العمل هنا. سأغرق لو عملت عندكم تحت شلال من الفواتير.

وقد كدّرها رفضه للفكرة، لكنها تماسكت وأخفت مشاعرها.

وفي مرة لاحقة قال لها.

– لو عملت هنا لربما لن يمكنني رؤيتك.

وقد أربكتها الملاحظة، ولم تخف استغرابها مما سمعت. وكان يقصد أن عمله سيكون مكتبيًّا، بعيدًا من حركة البيع والشراء في السوق.

على أن فكرة العمل في مكان عملها، في المول لم تبارح ذهنه. فمجرد وجوده معها في مكان واحد سوف يسرّه، وقد يشوش أيضًا ذهنه وينعكس على أدائه في العمل! على أنها لم تعد إلى إثارة الموضوع معه، وأخبرها ذات مرة أنه يفكر فيه، فقالت بشيء من الحرج: يمكنك تقديم طلب.. لقد استفسرت، وأجاب المدير أن لا شواغر حاليًّا. وضحك. وسأل: لماذا إذن أقدم طلبًا ما دام لا شواغر؟ فأجابت ضاحكة: قد يحتاجونك في أي وقت. ولم تقل له: إنه تتوافر مئات طلبات لطالبي التوظيف في قسم المحاسبة تنتظر النظر فيها. وشعر الرجل أنه يتخبط في شبكة واهية مع اضطراب طفيف بمدى تعلقه العاطفي بها صعودًا وهبوطًا.

3

كانت تلك هي المرة الأولى التي يفتقد وجودها وراء جهازها. جال بنظرات متفحصة على جميع الصناديق ولم تكن وراء أيِّ منها. ربما هناك طارئ ما قد طرأ عليها. فكّر أن يسأل عنها إحدى زميلاتها لكنه امتنع عن ذلك. شعر بالحرج، وخشي أن يتسبب بحرج لها. سدّد ثمن مشترياته وخرج مُغتمًّا وهو يفكر أنه قد وقع في بلبلة. وسخر من نفسه حين افترض أنها ربما تكون في السوق وذهبت إلى مكان منزو لتجري مكالمة هاتفية، أو أنها احتاجت للذهاب إلى التواليت مثلًا في الدقائق التي سبقت وصوله.

بعد يومين عاد إلى التسوّق. وجدها. عثر عليها. عادت من الغيب كملاك رحيم. قال لها إنه جاء قبل يومين ولم يصادفها. أجابت أنها أخذت إذنًا لمرافقة أمها إلى الطبيب. وبدت ساهمة. وسألها عن حالة أمها. فقالت إنها بخير. وأنت؟ سألها. فأجابت أنها بخير لكن أحوال السوق مكركبة (مضطربة). فقال: يحدث ذلك. المهم أنت بخير. ورسمت نصف ابتسامة شيّعته بها.

بعد أربعة أيام، اتجه إلى المول ولاحظ أنه لا يستقبل زبائن، وأنه ربما يستعد للإغلاق. وعرف أن مشاويره المنتظمة إلى السوق منذ أزيد من سنة، قد تتوقف!

4

الذي حدث بعدئذ، بعد ثلاثة أيام، أن المول أغلق أبوابه، وغادره مالكوه وجميع موظفيه وعمّاله وحرّاسه.. ما يعني اختفاءها. يا للهول. يا لهذه المفاجأة التي لم يحسب حسابًا لها، فمن يتوقع إغلاق مول عامر يضج بالحيوية، وبحركة حشود الموظفين والمشترين على مدار الساعة؟

إنه لا يملك رقم هاتفها، ولا يعرف حسابًا لها على مواقع التواصل. لم يخطر بباله سؤالها؛ إذ اعتقد آنذاك أن الوقت ما زال مبكرًا على استفسارات كهذه.

لقد اختفت.

أضاعها.

ولن يعرف طريقًا إليها.

وسرعان ما تحولت إلى هالة شبحية مضيئة، بلا قوام.

ثم إلى ضوء يبرق ثم ينوس، ثم يعود للمعان والتموّج والاضمحلال قبل أن يعاود الانبلاج.

حتى إنه ندم على انزلاقه إلى ما تصورها لعبة انغمس بها، من غير أن يدرك ما الذي كان يفعله. ثم كبح الشعور بالندم، حتى لا يبدو زائفًا أمام نفسه حين واظب على إرسال إشارات التعلق بها، وكانت إشارات مهذبة مفعمة بعاطفة دافئة ولا خداع فيها.

والآن إلى أي درجة ظل يتعلق بها بعد أن أضاعها؟ يزعجه هذا التساؤل بل يثير سخريته من نفسه ويسعى لأن يتفاداه؛ إذ يعجز حقًّا عن تحديد نسبة مئوية لذلك التعلق الباقي، ويدهشه فقدانه القدرة على ذلك. بل بات يرى أنه من الخطأ قياس الأمور على ذلك النحو. إنه وقد فقدها يكاد يفقد الطريق إلى نفسه. حتى عاطفته المتأرجحة والباقية تجاه الثانية، لا تُهدّئ انفعالاته ولا تعوّض خسارته.

5

أما هي فقد اغتمّت بشدّة لفقدانها مصدر رزقها.. لن تستقبل بعد الأموال المتدفقة من أيدي الزبائن، ولن يكون لها نصيب متواضع من تلك الأموال بالراتب الذي كانت تتقاضاه، حتى خَطَر لها في غمرة ضيقها أن تتساءل بحَنَقٍ شديد: لِمَ لا يجد الخطيب الغضيب عملًا لي في مول بنيوزلندا؟

أما أكثر الزبائن بعثًا على البهجة فقد خفق قلبها له، وقد لاح طيفه بصورة باهرة وعابرة مرات عدة قبل النوم وفي بعض النهارات، ما جعلها تتبسم بأسف مرير وشوقٍ حيي، دون أن تفارقها الثقة التامة أنه سيعود وتأنس به.. سيعود حتمًا ما إن يُعاد افتتاح المول الذي أعلن إفلاسه.

قبل نهاية العالم

قبل نهاية العالم

(1)

بدأ العام الجديد بداية سيئة. فقد اكتشف الأطباء مع الأيام الأولى للعام ورمًا لديه في منطقة الأمعاء.. في القولون، فشعر سين أن القدر يسعى لتصفية حساب معه، فبعد أن تحمّل طويلًا متاعب ذلك الجزء الباطني من جسمه، فقد كوفئ بالمرض العضال. وقد أمكنه مع ذلك وبناء على نصيحة جرّاح متمرس أن يقصد على عجل، مركز استشفاء في فرانكفورت في مستشفى جامعة غوته، وهناك طمأنوه وبعد خمسة أسابيع من إجراءات طبية مكثفة، أنه محظوظ، وأنهم استأصلوا الورم الذي اكتُشف في بواكيره… وقد استعاد عبارة منسوبة لشاعرهم بأنه «لَأمرٌ عسير إنه لا يمكن الوثوق تمامًا بالأطباء، ومع ذلك لا يمكن
الاستغناء عنهم».

وقد أوصاه هؤلاء ممن لا يُستغنى عنهم، بالتقليل من تناول اللحوم الحمراء فأدرك أنها فرصة العمر كي يتحول إلى شخص نباتي وهو ما كان يطمح إليه. وشددّوا على التقليل من تناول الكحول، وهو ما سبق له أن هجره، وأن يكفّ عن التدخين، فوعدهم بذلك وهو ينتوي التقليل منه وأن يلجأ إليه في السِّر فقط. لكنهم عقب هذا استأصلوا من جيبه (من حسابه) ثروة العمر التي ادخرها من درجة متقدمة في الوظيفة العمومية ومن بيع قطعة أرض كان قد ورثها، ومن غير أن يرى شيئًا من بلاد الراين التي لم يزرها من قبل، ولا يهُم إن كان قد دفع كل ما يملك تقريبًا راضيًا أم على مضض شديد، فالمهم أنه دفع بغير تردد أو مساومة وهو يلهج «أحرُث وأدرُس لعمّك بطرس» عازمًا على الاكتفاء بقية العمر براتبه التقاعدي المتوسط.

وقد عاد إلى دياره أواسط شباط، وواصل فحوصاته هناك برسوم رمزية، واستأنف خلال ذلك تبادل مشاعر المودة مع ممرضته الأجنبية المفضلة نوران من وراء كمّامة، ما حرمه من رؤية أسنانها اللامعة الناصعة ووجنتيها المتوردتين، وكان قد تحمّل نبأ إصابته بالمرض الخبيث، ما دامت المكافأة هي التواصل مع نوران. وهذه ممرضة متمرسة ونشطة مضى عليها في الخدمة أزيد من عشرين عامًا، ليست جميعها في هذا البلد أو هذا المستشفى، وتؤنسها خدمة كبار السن، فهؤلاء أقل تطلّبًا وأكثر لطفًا من غيرهم، وإن كان الأمر لا يخلو من مشكلات عابرة معهم مثل كثرة الطلبات والاستفسارات، والانحرافات الفجائية في أمزجتهم، وأرَقهم في الليل المصحوب بالتنهدات والتمتمات المسموعة، وهذا المريض ليس استثناءً من بينهم. ويأتي هنا ذكرُه بحرف السين فقط تماشيًا مع/ واحترامًا لنزوعه إلى الانزواء..

(2)

في تلك الأيام، وقبيل مغادرته إلى دياره شاعت أخبار تفشي وباء كورونا، فهتف سين قائلًا: إن المرض قد ألمّ بي، فمرض الكوكب كله. ورغم الإنهاك الجسدي والنفسي ومع بارقة الأمل الكبيرة بتجاوزه الخطر، فقد وجد وهو الوحيد المنفرد.. وجد وقتًا عقب عودته، لانتظار رحيل فصل الشتاء كما دأب على ذلك كل عام، كي يفتح شبّاك غرفته على الأوراق الكبيرة الخضراء لشجرة التين، وينعتق من طبقات ملابسه الثقيلة، وكي يتخلص من حاجته لمدفأة الغاز وخشيته الدائمة من نسيانها مشتعلة في أثناء النوم، وكي يُقاسم الطيور الغريدة في الإصباحات بهجة وداع الصقيع، وكي يُعاين القطط الشريدة متعددة الألوان والحجوم في الفناء وقد استعادت متعة القيلولة الآمنة تحت أشعة الشمس، وينعم بدفء شهور الربيع في ساعات الظهيرة، كما في نزهته اليومية راجلًا قبيل الغروب وكي يرى ظلال ابتسامة على وجهه المكدود في المرآة.

لقد واظب سين على هذا الانتظار السنوي المثمر إذ كان الربيع يهِلّ على الدوام، لولا أن تشوشًا قد طرأ هذا العام على روزنامة الوقائع، إذ إن فصل الشتاء تمدّد إلى شهر نيسان وتسلّل إلى أيار، ولولا وضعه الصحي المقلق بعد إصابته بالمرض اللعين الذي يُدرك كبار السن، ولولا انتشار الوباء الجديد في تلك الأثناء في بلاد التنين ومنها إلى البلاد المتقدمة وبينها بلد غوته والمرسيدس، مما ألقى على عاتقه مهمة انتظار إضافي لانقشاع الشتاء، ورحيل الوباء الذي جاء بأكثر مما تخيّل، وأبكر مما توقع، وحتى بأسوأ مما ظن وحسِب. لم يكن لديه الكثير، بل القليل القليل ليخسره، مثلًا: متعة المشي بين الضوء والظلال، الركون إلى مقهى شرقي والاستئناس بضجيج الرواد الذين يتصرفون كأنهم في بيوتهم، وملاقاة نفر قليل مما تبقّى من أصدقاء، والحلم الذي قلما تحقق بالطيران إلى بلاد بعيدة لا يعرف فيها أحدًا، ولا يعرفه أحدٌ فيها. ولأن الخسارة هي بهذا الحجم والمقدار، فقد هاله أن يُمنى بها، وبمثل ما يفقد فقير زاهد ثروته من دراهم معدودة تتبخر فجأة بين يديه، وسط قهقهات مكتومة لساخرين غير مرئيين.

(3)

يتحسن وضعه الصحي باطّراد، وهو ما يرفع معنوياته أمام الممرضة التي ظل قلبه يخفق لها.. وهي أبدت سعادتها لانتصاره على المرض، بل بدت متفاجئة و«مرتبكة» من نجاته. فيما يزداد الوباء انتشارًا مثل بقعة زيت في البحار. وحين أطلقوا اسم كورونا عليه، فقد شعر سين أنه سمع (لا يعرف أين ولا متى) بمثل هذا الاسم، ذي الإيقاع اللطيف من قبل. ولما جرى الإعلان عن وجوب ملازمة البيوت، فقد ضحك سين في سرّه قائلًا: يطلبون مني أن أفعل ما أواظب (طوعًا وعن طيب خاطر) على فعله منذ زمن بعيد. إنه الوباء.. إنه الوباء. تُردّد الميديا بلا كلل وبلا توقف على مدار الساعة، وسين يهتف: إنه الوباء طبعًا وليس أقل من ذلك، وهو ما حمله على ملازمة البيت بصحبة الإنترنت منذ ست سنوات عجاف للنجاة مما يسمّيه «وباء التفاهة أو اللامعنى»، لكن دونما حاجة لدى الخروج إلى ارتداء كمّامة على الوجه، أو قفازين في الكفّين، كما هو الحال في أيام الناس هذه.

(4)

بينما كسا الإرهاق الناجم عن العلاج وجهه بملامح الوداعة، وأخفض من نبرة صوته، وأغرق عينيه بشجن شفيف، إلا أن سين لم يستعد حياته تمامًا. ولا استعاد رباطة جأشه. إذ أدرك أنه خرج ظافرًا من منطقة الخطر الخاص، ودخل ذاهلًا دائرة الخطر العام. ولسببٍ ما، لم يخشَ سين عقابيل الوباء عليه، رغم «التطمينات» المتواترة بأن الوباء يستهدف كبار السن أولًا! وإذ عرف أن المرض مصدره الطبيعة في واحدة من سَوْرات غضبها وتحولاتها، فقد بدا مستسلمًا لمكر الطبيعة، وحتى مفتونًا به. وهو ما لم يقله لأحد بصريح العبارة حتى لا يظن أحدٌ به الظنون.

 لكن إجراءات الوقاية كدّرته وأقضّت مضجعه. فهو رجل بيتي ينجح في مجالسة نفسه (كأنما يجالس شخصًا ثانيًا) لساعات طوال، ليلًا ونهارًا لا فرق، على أن إرغامه على ملازمة البيت أفسد مزاجه؛ إذ شعر بأنه يخضع لإقامة جبرية لغير ما ذنب اقترفه. أما الكمّامة فلا بأس من تقليد اليابانيين في ارتدائها، فلطالما صادفهم في المطارات يرتدونها بثقة وتأنّق، وكأن من طبيعة الأمور أن يرتديها المرء على الدوام، فثمة في حساباتهم أوبئة خفية تتربّص بالكائنات، ومن حقهم أن يقولوا الآن: ها هو الوباء.. ألم نقل لكم؟ لكنهم بتواضعهم الجَمّ يعتصمون بالصمت ولا يُعايرون أحدًا.

وها هي كورونا تقتحم الكوكب بغزوتها العرمرمية الطنانة الرنانة، بما في ذلك بلاد الشمس التي يتناول أهلوها طعامهم بالعصي الرفيعة، وهو مما يفسر لدى سين نحول أجسامهم.. ولكم يحِنّ إلى الزمن الذي كان فيه نحيلًا ومهددًا بالتلاشي من فرط نحولته، أما نوران فلا يدري إن كانت نحيلة أو بدينة؛ إذ يتعلّق بوجهها المُشرب بالنضارة، وبينما تتزايد الدعوات إلى التباعد الاجتماعي، فإن مؤنسته لا تفعل بحُكم عملها شيئًا غير الاقتراب من الآخرين. أما هو فقد فاجأته دعوة التباعد وأضحكته.. فالناس هنا وهناك على تباعد كبير وأولهم الجيران الأقربون (لولا أنه يمتلك الشقة التي يقطنها، لأخرجوه منها بداعي أنه أعزب دهري)، وكل ما في الأمر أن الناس يتدافعون فرادى، وجنبًا إلى جنب وبالمناكب، فيتوهّم الناظر أنهم على اتصال وتواصل، وعلى مخالطة بعضهم بعضًا، فيما هم في جُملتهم أشدُّ خلقِ اللهِ تباعدًا.

على أنه يرغب في التواصل مع نوران التي تصغره بعشرين عامًا، وهو ما بات مُتعسّرًا؛ إذ لا يزيد حديثه معها على التطرق لعموميات عملها، مع مجاملات لطيفة ومراسلات خاطفة بين العيون، وقد عزم في ساعة صفاء أن يلتقط وسيلة للتواصل الدائم معها، ورأى بـ«إلهام» مفاجئ أن أفضل وسيلة لضمان التواصل أن يمكثا معًا تحت سقف واحد، ويناما على وسادة واحدة. أن يتزوجها، وهو صاحب تجربة سابقة فاشلة نسيها تقريبًا لتقادمها… وقد كتب لها على الفيسبوك بغير مقدمات: هل ترغبين بالارتباط بي كما أرغب أنا؟ وقد أجابته متفاجئة من صراحته غير المعهودة، بأنها ترغب، لكن الظروف غير مناسبة. وبسؤالها: متى تتوقعين أن تواتينا الظروف؟ فقد ردّت عليه: الله أعلم.. فلن يطول بقائي أكثر من هذا في البلاد. وهنا لام نفسه لومًا شديدًا على تسرّعه، وعلى سلوكه مسلك مراهق مندفع، واكتأب مزاجه، ولم يلبث أن انقشع وقد عزّى نفسه بأنه كان يطمع أن تقيم هي معه.. لا لشيء، إلا كي تتابع وضعه الصحي من البيت، فينجو من عناء المراجعة والمتابعة والانتظار، والبحث المضني عن موقف للسيارة، وكذلك (وهذا لا يقل أهمية) لمساعدته في حلق شعر رأسه نصف الأشيب، وها هي صالونات الحلاقة قد فتحت أبوابها مجددًا، فلا مشكلة.

(5)

استشعر سين الفجوة بينهما، ولعله رأى الفجوة رأي العين. ولحسن طالعه فإن مراجعاته الطبية قد تقلصت وتباعدت أوقاتها، مما أنجاه من حَرَج الالتقاء بها.. فأخذ يضحك مُجددًا وهو يستقبل على بريده منها بين آونة وأخرى ورودًا كبيرة متفتحة الواحدة منها بحجم قبضة اليد، وليس بينها وردة حمراء، وسين يهتف من دون أن يسمعه أحد فيما هو يمخر الشارع قليل الحركة، أو لابثًا في الأمسيات بين جدران بيته: لقد شُفيت بعد أن أخذت حصتي من اللعنة، فلينتظر الكوكب ومعه نوران، كرم الطبيعة، كي يشفى من الوباء، ومن التفاهة.. أما أنا فسأظل خفيفًا إلى الأبد. لا أثقل على أحد، ولا يثقل أحدٌ عليّ، حتى لو كان العالم يقترب من نهايته ولعله كذلك، فمن الطبيعي أن يغادر الواحد منفردًا، وليس مصحوبًا بأحدٍ يحبّه أو لا يحبّه.. لكن تمتماته تتوقف عند شفتيه ولا يسمعها غيره، وبخاصة أنه بات يغمغم بها من وراء كمّامة سوداء، تجعله على هيئة شبح بلا ملامح بين أشباح آخرين.

أما نوران فلم تخبره بخشيتها أن يعاود المرض اللعين غزو جسمه الضعيف، ولا بخوفها من تسلل كورونا إليه، أو إليها. ولا بعزمها الارتباط بطبيب متزوج في مثل عمرها ويقيم في بلدها الآسيوي، هي التي خاضت تجربة زواج قصيرة فاشلة قبل عشرين عامًا، وعزمها كذلك أن تتحمّل قريبًا جدًّا وفي أول فرصة، أعباء الوباء واحتمالاته بين أسرتها في بلدها البعيد وليس منفردة كما هو حالها هنا.

 أما صور الورد الجُوري (القابل سريعًا للذبول لشدّة تفتّحه) فإنها تكتم، أكثر مما تُفصح.

الأخضر حليفك في صوفيا لمقاومة جفاف الروح  والمقاهي البيت الثاني للبلغار

الأخضر حليفك في صوفيا لمقاومة جفاف الروح والمقاهي البيت الثاني للبلغار

لم أتبادل مع الرجل الذي يرتدي الشورت الأبيض وقميصًا صيفيًّا تتعدد ألوانه، سوى بضع عبارات أو حتى بضع كلمات، غير أن هذا التبادل اللغوي المحدود، لم يمنع انجذابي للجلوس إلى طاولته الصغيرة، أمام حانوته الصغير، على ناصية الشارع. لقد كنا جيرانًا؛ إذ أقيم في النزل المجاور، نزل إيفا. وقد لمحني حين انتقلت من الفندق الذي يقع على يسار حانوته، إلى النزل الكائن على الجهة اليمنى، والمسافة بينهما تقل عن مئة متر.. كنت خرجت من ذلك الفندق بعد أن مكثت فيه يومين لسبب غريب، فإدارته تمنع النزلاء وكنت أحدهم، من استقبال ضيوفهم في المقهى وتمضية بعض الوقت فيه، فالفندق ومرافقه (مرفق واحد هو المقهى/ المطعم، يزخر بالنباتات والأزهار) للنزلاء فقط، مع الاحتراس الشديد من تسلل أحد من الخارج، علمًا أنه لا شيء بالمجان! وبالتماس أقرب مكان، فقد قصدت النُّزُل القريب مع صديقي الرائع دكتور طرزان (لم أسمع في العالَمين بأحد، غير صديقي، يحمل هذا الاسم!). واستقبلنا بحفاوة هناك، وهي المرة الأولى التي أقيم فيها في نُزل.

إذن فقد لمحني صاحب الحانوت، الأربعيني البدين بسحنته المسمرّة. فلما هبطت لأتناول القهوة عنده في ساعة ظهيرة، فقد قامت زوجته بإعداد القهوة بدون سكر وبدون حليب، وقد لاحظت أنها تنهض بعبء العمل جُلّه إن لم يكن كُلّه، ولما كان هناك كرسي فارغ في الخارج، استأذنت في الجلوس؛ إذ يروق لي تناول القهوة ببطء، ولا أستسيغ تناولها على جناح السرعة.. رحّب بي الرجل. وسألني عن بلدي (لم يعرفه!) وعن اسمي، وعن الأوتيل الذي تخليت عنه، والنزل الذي اتفق أني اخترته. انصرفت إلى هوايتي في متابعة السابلة، محاذرًا من أن يحفّ بي كلب مدلل ترافقه سيدة أو شابة، أو كلب ضالّ يخطر على الرصيف وينفث لهاثه على كل ما يصادفه. وقد شعرت أني فزت برضى الرجل، بعدما شعرت من جهتي بقبول إنساني له. وكنت أؤخر شراء عبوة الماء نصف الساعة مثلًا، كـتكتيك، رغم حاجتي لتناول الماء بعد أول رشفة من قهوة الإسبريسو المُرّة، وذلك كي أسوّغ مكوثي الذي يستغرق نحو ساعة، وقد تبين لي لاحقًا أني لست بحاجة إلى مثل هذا التسويغ.

وكان من حسن الطالع أن الحانوت يظل فاتحًا بابه حتى منتصف الليل، في حين أكثرية المقاهي تغلق أبوابها قبل العاشرة ليلًا. وأنا ليليٌّ. إذ أكون في كامل لياقتي العقلية والبدنية ليلًا، وتستيقظ ملائكتي وشياطيني ما إن يسدل الليل ستاره كله.

ربما كانت سحناتنا المتقاربة (إذ شُويت صفحة وجهي على شمس أريحا في سني الطفولة والفتوة) السبب الأول للارتياح المتبادل الذي نشأ بيني أنا الزائر العربي القادم من الأردن، وبين جاري الحانوتي البلغاري الغجري. من جهتي فإني يجذبني الناس المهمّشين والأقليات. وقد راق لي مصادفتي لغجري يملك حانوتًا ويديره في صوفيا، بدل الأعمال الشاقة في تنظيف الشوارع، التي يمتهنها أبناء عرقهم هناك. وقد علمت أن الحانوت افتُتح قبل بضعة أشهر. الرجل يتعهّد إحضار المواد ولا تتجاوز العصائر وعبوات الماء والمناديل الورقية والعلكة ورقائق البطاطا وأصناف من البسكويت والشوكولاته، وولاعات، إضافة إلى القهوة والكوبوتشينو ومشروبات الأعشاب (يعدُّون هناك الشاي أحد المشروبات العشبية الهامشية، ويتناولونه.. حين يتناولونه وقلّما يفعلون، لغرض صحي كتهدئة المعدة، خلافًا لنا نحن العرب؛ إذ يُحتسب الشاي بمنزلة مشروب قومي، يبدأ المرء بتناوله بأصغر ملعقة وهو رضيع!). والزوجة تصنع القهوة وبقية المشروبات وتناول الزبائن مشترياتهم.

لم تمض سوى أيام حتى نسيت اسم الرجل (أرجو أن يكون قد نسي بدورة اسمي، حتى نتعادل وأتخفف من الشعور بالذنب). لكن عينيه اللامعتين، وشعره الأسود المُسرّح جيدًا، ومشروع الابتسامة الدائم على شفتيه، وقامته المكتنزة، لا تفارق مخيلتي، وبخاصة وهو يودّعني بحرارة ويشيعني بعينيه المحمرتين، فيما زوجته الجميلة بشعرها المُشقر (وفق الموضة) تلوّح بيدها وتدير طرفها أمام الحانوت باتجاهي، فيما مالكة النزل تترك عملها وتعينني بحمية على حمل الحقائب والأكياس، وتوصلني إلى سيارة صديقي المتوقفة في منعطف غير بعيد وتوصيني بإلحاح بترك التدخين.

ليست فقط السحنتان المتقاربتان. فقد شعرتُ أنا الغريب (وجوديًّا، والمقتلع من وطني الأصلي.. وطن التين والزيتون) أنه يكافح شعوره الموروث من سلالته بالحاجة الغريزية إلى الحرية، ويرتضي ملازمة مكان ضيق واحد طيلة اليوم، لقاء تأمين رزقه وللبرهنة على استعداده للاندماج الاجتماعي، وهو ما يؤخذ عكسه هنا على بقية أبناء عرقه الذين يحملون الجنسية البلغارية وتعدادهم يناهز المليون نسمة. إذ إن التوطّن يقترن لدى الغجري باكتساب الشعور بالغربة وقيودها، لا بالاستقرار ومزاياه. الاغتراب هو ما جمع بين رُوحينا. وها أنا أستذكر في هذه اللحظات كيف كنت أقصد في طفولتي لدى العودة من مدرسة البحتري الابتدائية خيمة للغجر في أريحا، حيث كنت أتمتع بمراقبتهم، وهو ما استلهمته في قصة كتبتها بعنوان: «لن يصدّقه أحد». وها قد اتفق لي أن أقصدهم مجددًا، لا لغاية.. لا لشيء سوى معانقة الشعور بالحرية المبهمة، الطلقة، التي تتفلت من قيود المكان.. كل مكان ومواضعاته.

العرب يرون بلغاريا من زوايا ثلاث

الناس في العالم العربي على العموم يخبرون بلغاريا من زاويا ثلاث: الأولى الزاوية السياحية المحضة حيث يطغى اسم فارنا الساحلية على اسم العاصمة صوفيا وبقية المدن، وحيث ظلت هذه المدينة على مدى عقود تتصدر برامج السياحة العربية إلى شرق أوربا… الزاوية الثانية كون هذا البلد ظل لأمد طويل جزءًا من المنظومة الاشتراكية التي كان يقودها الاتحاد السوفييتي السابق، بغير خصوصية ومن دون قوام (كيان) مستقل له، في أنظار الآخرين. الزاوية الثالثة: من خلال الطلبة العرب الموفدين الذين تمتعوا بمنح دراسية من الحزب الشيوعي البلغاري الحاكم، وهؤلاء في غالبيتهم كانوا يلخصون بلغاريا بالثلوج التي تميز شتاءها القاسي الطويل، وبزهد تكاليف العيش فيها، وبخاصة إذا أمكن تسريب بضع عشرات من الدولارات.. ورغم أن بلغاريا قريبة جغرافيًّا من المشرق العربي، فإن هذه الصورة النمطية جعلتها بعيدة من أذهان الناس، علاوة على أنها صورة مجتزأة وباهتة.

حين زرتها متأخرًا ولأول مرة خلال مايو 2015م، لم تكن الصورة النمطية تفارق ذهني من دون أن أكون ممتثلًا لها، وقد شعرتُ كم أن التنميط يظلم الواقع. فلم يرد على لسان أو على قلم أحد، أن الأشجار في صوفيا تكاد تكون بعدد أبنائها، وأن حظ المقيم الواحد فيها، هو على الأقل شجرة واحدة باسقة وفارعة بطول بناية. فإذا اجتمع عشرة أشخاص تمتعوا معًا بحديقة خضراء، وإذا ما التقى مئة من الناس فسوف يكون نصيبهم غابة، أو متنزهًا طبيعيًّا من عطايا الطبيعة ومن جهد الإنسان البلغاري في الزراعة. «الأشجار لم تنبت عشوائيًّا، بل زرعها زارعون، بخلاف النباتات فهذه شيطانية» كرّر ذلك على مسامعي صديقي المهندس نشأت المقيم في صوفيا منذ 22 عامًا. وذلك توضيحًا لما قد يكون توارد إلى ذهني عن الأشجار البرية غير المثمرة، التي تنبت بفعل حركة تطاير البذور عبر الريح النشطة في فصل الشتاء. ما إن تعبر الباب خارجًا من سكناك أو مكان إقامتك حتى يملأ الأخضر النباتي ناظريك، إنه حليفك لمقاومة جفاف الروح والذهن المكدود، ودليلك القريب للعودة إلى الطبيعة، وللرجوع إلى نفسك بوصفك جزءًا من الطبيعة وابنًا لها.

هذا عن الأشجار التي أحبّها محبتي للنساء وللأطفال ولكبار السن التي قد أعود إليها. لم يقل أحد لنا نحن من لم نطأ أرض بلغاريا وعاصمتها، إن صوفيا مدينة هادئة رخية لا تخدش أذن السامع بصوت عالٍ أو ناشز، وأن حُسن التنظيم والتخطيط المديني وبالذات المواصلات العامة المنوّعة والمنظمة، جعل شوارعها خاصة الفرعية منها مفعمة بالسكينة، رغم أن المحال التجارية مفتوحة، لدرجة يشعر العابر فيها أنه يمتلك الشارع وحده. وهذا الأمر ينطبق بالطبع على يوم الأحد كما على بقية الأيام. لعل هذه ميزة مدن أوربية كثيرة. لكن ذلك لا يسلب صوفيا هذا الامتياز في عين الزائر. ففيها قسط من وداعة القرى، والوفير من براءة المدن الناجية من الصخب والتلوث.

لم يتحدث لنا أحد عن المقاهي: البيت الثاني للبلغاريين. مقاهي الأرصفة خاصة تلك المفتوحة التي تظللها المظلات، وبقية أنماط المقاهي. في إحدى المرات خلال زيارة ليلية بصحبة أصدقاء اعتذرت النادلة بأنها ستنصرف، وطلبت منا نحن الرواد وكنا خمسة أن نمضي بقية سهرتنا فلا شيء يضطرنا للمغادرة. تمامًا كما يحدث مع الأصدقاء في بيت صديق عازب حين يُفاتح أصدقاءه بحاجته إلى النوم، مع ترك المجال للأصدقاء كي يواصلوا السهر فالبيت بيتهم. يحمل البلغاريون معهم إلى المقهى طعامهم وزجاجة الماء مما تبيعه المقاهي لروادها، من دون أن يثير ذلك حفيظة القائمين على المقهى. فلا بد للقادم مهما حمل معه من مأكل ومشرب أن يطلب شيئًا من النادل. الشره التجاري (الرأسمالي) لا تلمسه في هذه الأماكن. لا يتوقف الأمر عند هذا.. فهناك من يجلسون أمام المقهى وبمحاذاته، على مقاعد خشبية أو حديدية أو حجرية وبعضها دائري من رخام وردي وتتوسطها الأزهار، ويتحصل الجالسون على الحلوى أو الشراب من محلات أخرى أو من ماكينات مثبتة على الحائط. أصحاب المقاهي لا يبدون ضيقًا من ملاصقة هؤلاء لمقاهيهم. في بلاد أخرى.. بل في معظم الدول يطردونهم بحجة التشويش على المقهى، أو بتهمة الاستفادة المجانية من أجوائه!

فوبيا الإسلامي الشرق أوسطي

ذات ضحى كنت أجلس على شرفة شقة مستأجرة في مدينة نسيبار على الساحل الجنوبي للبحر الأسود. في الجوار كان رجل مسن وزوجته وابنه الشاب يتعاقبون على الخروج إلى حديقتهم والعودة إلى البيت. وقد شرعوا منذ الخرجة الثانية يحدجوني بنظرات شزراء. وواصلت شرب القهوة من مكاني القريب الذي يبعد منهم أقل من عشرة أمتار، حيث تقع الشقة في الطابق الأول. وقد واصلوا إمطاري بنظراتهم اللعينة، فيما أقابلهم بوجوم هادئ، حتى ضجروا. لم ينطقوا بحرف. بيد أن نظراتهم كانت ناطقة، ولدرجة شعرت معها أنهم على وشك افتعال مشكلة معي. لم يخطر ببالي أن يتوجهوا بالسؤال إلى السيدة صاحبة الشقة عن «طبيعة المستأجر الغريب»؛ كي يطفئوا شكوكهم. اكتفوا بسلبية مقيتة. وقد هزمتهم بهدوئي وثباتي.

في اليوم التالي تعرفت على رجل وزوجته في مقهى أليف يقع وسط المدينة الصغيرة. عرفت أنهما بلغاريان يقيمان في ألمانيا وجاءا لتمضية إجازة في موطنهما. حدثتهما عن السعادة التي تمتعت بها في اليوم السابق تحت نظرات الجيران. فسارعوا للقول: لا بد أنهم ظنّوا أنك تُركيًّا! وقد دهشت. بلغاريا كانت جزءًا من الدولة العثمانية، واستقلالها يقترن بالتحرر من الأتراك. حسنًا، لقد مضى على ذلك نحو قرن. والبلدانِ الآن ليسا في حالة حرب، علمًا أن هناك نحو مليون بلغاري من أصل تركي، وغالبيتهم العظمى مسلمون. إنها فوبيا الإسلام الشرق أوسطي، التي تتضافر مع صورة المسلم التركي، وتتسلل إلى «وعي» شريحة في هذا المجتمع.

محمود الريماوي في ندوة حول كتاب له

كنيسة ومسجد ومعبد

أتيح لي النزول في فندق في مركز المدينة على مقربة من كنيسة ومسجد ومعبد يهودي. ومررت بمقر الحزب الشيوعي الذي كان حاكمًا والذي يخيِّم عليه الصمت حاليًّا.. نزلت وليس بعيدًا من دوائر حكومية رئيسية بما فيها مقر رئاسة. السلطة السياسية و«السلطة» الدينية متجاورتان تقريبًا وبالطبع متعايشتان. غير أن المظاهر السلطوية: الحرس والحواجز والتجهيزات العسكرية لا وجود لها. لا شيء غير عادي. من العادي هنا وجود سلطة سياسية وأماكن عبادة.. ولا شيء أكثر من ذلك. المهم أن تنساب الحياة بسلاسة وأن يتمتع الأفراد بحرياتهم الشخصية. قلما يرى الزائر شرطيًّا أو شرطية (رأيت شرطية شابة ممتلئة، شرطية واحدة في المحطة السفلى للمترو) لكن الأمن مستتبّ. سمعت من مقيمين أن ثمة كاميرات مزروعة في أماكن عديدة في الشوارع والأسواق مع بعض من الشكوى من احتمال انتهاك الخصوصية. إنها الضريبة التي يدفعها البلغاري والمقيم كي ينعم بالأمن. وهو ينعم به.. مع ملاحظتي أن البلغاريين قليلو الاختلاط بغيرهم. لديهم حذر من الآخرين.. أرجو أن أكون مخطئًا، لكن هذا ما لاحظته بالنظر المجرد في الشارع والمقهى والمطعم، وحيث هناك انفصال بين البلغار وغيرهم. ربما للأمر علاقة بموروثات العهد السابق حيث كان يُحظر على البلغاري الاختلاط بالأجانب، إلا في أضيق نطاق وبمعرفة السلطات، ولاعتبارات كانت توصف بأنها أمنية.

مع ذلك فللزائر أن يشعر بالاسترخاء شبه التام، من دون ضغط نفسي أو ذهني. ولن يصطدم بأحد لا في الشوارع الرئيسية ولا الفرعية، نهارًا وليلًا على السواء، وظاهرة المشردين والسكارى التي يصادفها المرء في عواصم أوربية، لا وجود لها في صوفيا. صديق عربي مقيم في لندن على عتبة التقاعد وصف بلغاريا بأنها جنة لإقامة المتقاعد. ولعله مصيب في الحديث عن متقاعدين غير بلغار. لقد لاحظتُ كبار السن -ممن تعدوا سن التقاعد من البلغار، وأعني الرجال- على شيء من الحيرة والشرود. ربما لأنهم أمضوا الوقت الأطول من حياتهم في ظل النظام السابق، ويشعرون بصعوبة التكيف مع النظام الجديد، فضلًا عن السبب المتعلق بتقدم العمر. وقد تكوّن لديَّ انطباع أن النساء المتقدمات في السن أكثر اندماجًا في الحياة الجديدة (ليست جديدة تمامًا فقد مضت عليها ثمان وعشرون سنة!) أو على الأقل هن أقل شعورا بالبلبلة والحيرة من النظراء الرجال. أما الشابات المنتصبات الفارعات السائرات بخطى ثابتة في الشوارع بالشورت شديد الاختصار، فإن مخايل الثقة والإقبال على الحياة، لا تخفى على ملامحهن وعلى نحو يفوق ما لدى الشبان. وقد علمت أن سبعين في المئة من العاملين في القطاع الحكومي هن من الإناث. حضور الإناث طاغٍ. وبما أن الأسرة الشابة تنجب طفلًا واحدًا. فإنه يجب أن يزداد عدد البلغاريين قليلًا كي يتلاءم مع عدد الأشجار والنباتات، وأن يكفّوا عن الهجرة. أما سر الطيور قليلة العدد على الأشجار (إذا كانت الملاحظة صحيحة) فقد فسّره لي صديقي نشأت بالقول: إن عدد الأشجار وارتفاعها يفوق حاجة الطيور وأعدادها!

سيلفيا بيلتشوفيا

ذلك كله ومنه حقول عباد الشمس الشاسعة التي ظلت ترافقني لساعات من نوافذ القطارات، مما لم يتطرق إليه من رسموا لنا صورة نمطية عن بلغاريا. لم يتطرق أحد إلى الشاعرة والناقدة الرصينة واسعة الأفق سيلفيا بيلتشوفيا التي تجذب مستمعين كُثرًا إلى برنامجها الثقافي الإذاعي، وجمهورًا كبيرًا في قصر الثقافة حين تكون هي المتحدثة. لقد أكرمتني هذه السيدة، الرائعة باهتمامها وكتابة مقدمة لمختاراتي القصصية لدرجة شعرت معها بالذنب وغلب عليَّ التأثر في قصر الثقافة. هذا القصر الذي بُني في العهد السابق ويقال بأنه من أهم قصور الثقافة في أوربا، القصر الذي يتوسط العاصمة، ويستضيف فعاليات ثقافية في الربيع ومطلع الصيف، فالأنظمة الاشتراكية مع تضييقها المشهود على حرية التعبير فقد نجحت في بناء بنية تحتية للثقافة، ربما بهدف صرف أنظار الجمهور عن الشأن السياسي!

وقد عرفت أن البلغار حرصوا على سلامة الأعمال الفنية (لوحات ومنحوتات) مما أنجز في العهد السابق بوصفها إرثًا وطنيًّا. «لا للانتقام الأعمى من الماضي، وكي لا يتحول هذا الانتقام إلى ثأر من الذات»، هذه هي الرسالة التي يبثها هذا البلد الوديع الذي يأخذ عليه بعضٌ (من البلغار) وداعتَه، بما يجعل حضوره السياسي متواضعًا بعض الشيء. على أن هذا يظل أفضل من الانتفاخ القومي والغطرسة السياسية والتدخل في شؤون الآخرين. ما بها السويد وفنلندا ولوكسمبورغ وسويسرا ذات الحضور السياسي الضئيل؟! إنها ذات إشعاع ثقافي وسياحي، وبعضها دول صناعية متقدمة كالسويد وسويسرا.

بقي إزجاء الامتنان لمن كان له الفضل في زيارتي إلى صوفيا، هو الكاتب خيري حمدان الذي يبرع في أداء دور جليل لا تنهض به إلا المؤسسات، فهو سفير البلغار الثقافي إلى العرب، وسفير العرب الثقافي إلى البلغار، وقد تجشم عناء ترجمة مختارات قصصية لي. قصص كتبتها ولن أتمكن من قراءتها (بالبلغارية) وقد تركتها بـ«المجهول» الذي تحتويه، وديعة لدى جمهرة القراء هنا..