من أجل توبة بيئية.. فتك الإنسان بالطبيعة يؤشر إلى خلل في الخطاب الديني

من أجل توبة بيئية.. فتك الإنسان بالطبيعة يؤشر إلى خلل في الخطاب الديني

في الزيارة الأخير لقداسة البابا فرانسيس رأس الكنيسة الكاثوليكية إلى المغرب بتاريخ 30- 03- 2019م، ألقى هذا الأخير خطابًا قويًّا عبارة عن مرافعة حضارية لما آلت إليه أحوال البشرية في الأزمنة المعاصرة، في سياق الوعي بالمخاطر التي تهدد العالم، وما ينتظر من الدين والقيادات الدينية أن تضطلع به من أدوار فعالة من أجل الحد من هذه المخاطر، وإضافة إلى موضوع الإرهاب والعنف الديني الذي يشكل دومًا محور العلاقات والحوارات الدينية، فإنه ظهر إلى واجهة النقاش موضوع جديد وجدير بالبحث والالتفاتة، وهو موضوع البيئة والمناخ، بحيث أشار البابا في خطابه إلى التحولات والتغيرات المناخية التي تطرأ على العالم وما يستتبعها من تطورات وآثار مباشرة على طبيعة العيش المشترك؛ إذ تساهم التدخلات غير العقلانية في الوجود البيئي إلى إحداث طفرات نوعية في وتيرة الحياة البيئية التي يشكل الإنسان محورها.

فالبابا فرانسيس بإشارته هذه، وقبله الإشارة التي ألمح إليها الملك محمد السادس ملك المغرب، في تأكيد الدور الذي يقوم به الاستقرار البيئي في ترسيخ السلم المجتمعي، وفي تقوية الصلة بين الإنسان والعمران؛ إذ نبه الملك إلى قمة مراكش «كوب 22» التي جمعت كلمة العالم على كلمة سواء في مسألة المناخ، فالبابا والملك بخطابهما يمثلان نموذجين للقيادة الدينية في العالم المعاصر التي تعي تأثير سوء أحوال الطبيعة في سوء أحوال ساكنيها.

لكن إن أهم ما يشير إليه هذان الخطابان هو هذا الربط الجديد بين مفاهيم حماية البيئية الطبيعية ومثيلاتها في مجال البيئة الدينية، لما لهذه المفاهيم من أمشاج علائقية وثيقة، من خلال جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، التي تنعكس على وجود الإنسان بوصفه كائنًا ثم مؤمنًا، فلكي يكون مؤمنًا ملتزمًا لا بد أن يكون في المقابل وفيًّا لالتزاماته البيئية؛ لأن الدنيا هي مسرح تنزيل الدين، والعمل الصالح هو الواسطة الفعالة لتسويغ جريان الدين في شرايين الحياة.

فالفتك الذي يلحق الطبيعة من جراء عمل الإنسان، لا يسائل فقط الهيئات التي تقوم على حفظ البيئة النباتية والحيوانية والمائية والهوائية، بل إنه بالقدر نفسه يسائل الهيئات الدينية التي تتوجه إلى الإنسان بخطاب التزكية والتخليق؛ لأن سوء تصرف البشر معناه وجود خلل في بنية الخطاب الديني أو في أزمة المؤسسة الدينية أو هما معًا؛ لأن جماعة المؤمنين لا تنحصر جهود توجيههم في المساجد والأديرة والكنائس، بل تستغرق كل نشاطات الحياة وفضاءات الوجود البشري. إذ لما اختير الإنسان لمهمة الخلافة في الأرض (البقرة، 30)، نُودِيَ بأمر العمران (هود، 61) وكلف بمسؤولية الأمانة (الأحزاب، 72)، تشريفًا وتكليفًا، والإنسان الناجح هو من وُفِّقَ في تشريف الخلافة، وفي تكليف العمارة.

وفي الجانب الآخر نجد أن الكتاب المقدس يصرح بأن الله منح الإنسان السلطان على الأرض وما فيها، ففي سفر التكوين (1:28) يقول الرب: «أثمروا وأكثروا واملؤوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض»، وسر هذا العطاء غير المحدود وهذه الهبة المخصوصة، هو أن الله في العقيدة المسيحية قد خلق الإنسان على صورته، وفضّله على جميع خلائقه (سفر التكوين 1: 26-28)

ونلحظ هنا أن ثمة تقاربًا بين منظور الإسلام والمسيحية إلى الإنسان والطبيعة، فإذا كان الإسلام يؤسس العلاقة بين الله والإنسان على أساس الخلافة والاستخلاف، فإن المسيحية تنظر إلى الإنسان على أساس أنه مخلوق مفضَّل على سائر المخلوقات؛ لأن الله خلقه على صورته. أما العلاقة التي تنشأ بين الإنسان والطبيعة، فهي في الإسلام ترتكز على مفهوم العمران، الذي يعتمد على مفهومي التسخير والعمل الصالح، بينما في المسيحية نجد مفهوم السلطان كمقابل للعمران، حيث ينهض الإنسان مخولًا بتدبير الطبيعة واستغلالها.

ونجد في تعاليم الإسلام توجيهات مفصلة عن كيفية الإفضاء إلى موارد الطبيعة من دون إسراف أو تبذير، ومن ذلك النهي الذي وجهه الرسول عليه السلام إلى «سعد» وهو يسرف في وضوئه، فاستفهمه الصحابي: «أفي الوضوء إسراف؟ قال: نعم، وإن كنت على نهر جارٍ» (رواه أحمد وابن ماجه).

التفويض الإلهي للإنسان

التفويض الإلهي للإنسان في الأرض ليس على إطلاقه، ولا يفيد وضعه في مركزيته الأنانية المفرطة، التي تعود على الطبيعة بالهلاك، إنما هو موضوع على أساس التسخير له والاختبار، فالخطاب الديني ينبغي أن ينبه جمهور المتدينين إلى روح الشرائع في المحافظة على الميراث البيئي؛ لكي لا تتحول النعمة المسداة إلى البشر نقمةً تستدر غضب الله وغضب الطبيعة. فقد شهدت البشرية في السنين الأخيرة ظواهر طبيعية خطيرة، أعلنت نفسها كمقدمات سيكون لها وقع خاص على كل تفاصيل الوجود البشري، سيلحق سوق الأموال وشُحّ الأمطار وغلاء الأسعار وسخونة الهواء وانتشار الأمراض وهَلُمَّ جرًّا من الكوارث، وهو ما سينتج عنه من اضطرابات في استقرار المجتمعات، بحيث ستنتفض الهجرة كحالة من التذمر والعصيان والقلق والعنف، تغزو البلدان والأجناس، وتضع العالم في أزمة جديدة وفي موعد مع المجهول.

ولما كانت الهجرة نتيجة طبيعية من إفرازات الفقر والبطالة والتهارج، فإنها تحمل معها مخلفات هذه الأزمة ثقافيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، بحيث تؤجج من عوامل الاضطهاد العرقي والطائفي، وتخلف نوعًا من الفوارق الاجتماعية وسوء الاندماج، فضلًا عن نشر الجريمة والممنوعات في وسط الفئات الهشة والمهمشة، والإضرار بالاستقرار السياسي وتضعضع الأمن. والأخطر من ذلك تتصاعد دعوات العنف الأيديولوجي والطائفي، وتنتشر الكراهية بين الأغلبية والأقلية، وتقوم للصراع قائمة بين الحضارات والثقافات؛ بسبب غياب خطاب ديني معتدل وعقلاني، أو بسبب غياب فرص للاندماج الإيجابي في بلدان الاستقبال، فتنتشر حقول الدم والكراهية في أرجاء المعمورة.

وهكذا تتفاعل الأبعاد البيئية والاجتماعية والثقافية في الوجود البشري، وتخلف مشاهد من الصراع والتضاد، مع أن الأصل هو الاختلاف والتعدد والتفاهم، وللإنسان من الطبيعة درس في ذلك، حيث لا تنفك عن إعلان تعدد وجوهها ومناظرها، بين الماء والهواء والتراب، وبين البشر والحجر والشجر، وبين الحيوان الناطق والأبكم، وبين السماء والأرض، وبين السهل والجبل، وبين المروج والصحارى…

عدوان غاشم

عناصر الطبيعة ترزح تحت هذا العدوان الغاشم، وتلوذ في صمت إلى الاختفاء القسري، لكنها في الوقت نفسه تفصح عن قلاقل محيرة، أرعبت الخبراء والمختصين، الذين يصدرون التقارير عن أزمة البيئة وضبابية مستقبل الإنسان، بينما بعض الساسة يترنحون في مواقفهم تجاه مخاطر التلوث والتغيرات المناخية، جراء رضوخهم لأصحاب القرار الاقتصادي.

فهذا ما يدعو إلى ضرورة تعزيز الشعور الديني تجاه هذه القضية المصيرية، فالخطيئة ليست فقط فيما يرتكبه المكلفون والمؤمنون في مجال العبادات والطقوس، فأي خطأ يأتيه الإنسان يعود عليه وعلى بني جنسه أو بقية الكائنات والجمادات بالضرر، فهو من مشمولات الخطايا التي يحاسب عليها دنيا وآخرة، والتوبة مجال للتصالح والصفح بين الإنسان والطبيعة، لأجل تجديد العهد بحماية الحياة لمختلف الموجودات، وإعادة النظر في المقولات الدينية واللادينية التي تُنظر لمركزية الإنسان في الكون وسلطته المطلقة في التحكم فيه، حتى تؤوب العلاقة بينهما إلى وئام وتعقل واحترام. وهو ما يجعل من مفهوم «التوبة البيئية» شعارًا جديرًا بالدرس والتفعيل في الأوساط الدينية المختلفة، من أجل المرافعة ضد الاستغلال البشع لموارد الطبيعة، ودفع الدول الصناعية الكبرى إلى الالتزام بتعهداتها في مجال المحافظة على المناخ الجيد، والحد من كل ما من شأنه تعريض كوكبنا إلى التصحر والسخونة والتلوث، وما ينتج من ذلك من هجرات وحروب وفقر وبطالة وغيرها.

وبهذا يدخل الغرض المدني إلى مدلولات التوبة، لتعانق الفضاء المشترك وتخاطب المجتمع كما الفرد، وتخرج من خطاب الوعظ إلى مجال التنسيق المدني والإلزام القانوني، وتدخل المؤسسة الدينية كشريك رئيس في الإشراف على المعاهدات والتحكيم بين المتدخلين، ثم ينتقل الخطاب الديني من الأخلاقية الفردية إلى الأوفاق الكونية.

فحينما تعزز مقولة «التوبة البيئية» بإرادات السياسيين والاقتصاديين وكل الفاعلين، فسيكون لها وقع خاص ونجاعة مميزة؛ لأنها ستحمل معها معاني الإلزام، لكونها ستنتقل من مبدأ التخليص من الخطيئة، إلى مبدأ التعهد بعدم إتيانها، من خلال كتابة بنود الاتفاق وتبيان نصوص الزجر والتعويض عن ارتكاب المخالفة.