نحن والزمن.. وعي الذات وتداعيات الذاكرة

نحن والزمن.. وعي الذات وتداعيات الذاكرة

ظل سؤال الزمن حاضرًا في ذهن الإنسان، واستوقفته طبيعة الزمن، وانشغل بها ثقافيًّا وفكريًّا على مساحة واسـعة مـن نتاجاتـه. وكانت الفلسفة الهندية واليونانية القديمة من بين أوائل الذين واجهوا وشككوا في الطبيعة الحقيقية لأشياء كثيرة من بينها الزمن. وطرحوا أسئلة مثل: كيف نعرف أن الزمن موجود بالفعل؟ هل الزمن له بداية ونهاية؟ هل يسير بخط مستقيم أم دائري؟

وليس الفلاسفة وحدهم هم الذين شكّوا، فالفيزيائيون أيضًا درسوا عدم واقعية الزمن، وتساءلوا عما يعنيه قولنا: إن الزمن غير واقعي أو واقعي.

نتفق جميعًا على أن الأحداث تتطور من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل. وهناك أيضًا اتفاق عام أو بشكل موضوعي على الترتيب الزمني للعديد من الأحداث والظواهر الطبيعية والإنسانية. كما أن العديد من العمليات الفيزيائية المختلفة تحمل علاقات زمنية متناسقة بعضها مع بعض، وعلى سبيل المثال دوران الأرض، وتواتر تذبذب البندول، إلخ. وفي ظل الاتفاق والاختلاف حول الزمن وتعاقبه وتعدديته يوضح الفيلسوف أوغسطين دور الذات الإنسانية والذاكرة في إدراك الزمن، مؤكدًا أنه «من الخطأ القول بوجود ثلاثة أزمنة: الماضي والحاضر والمستقبل. وقد يكون الأصح أن نقول: في الكون أزمنة ثلاثة: حاضر الماضي، وحاضر الحاضر، وحاضر المستقبل، وهذه الطرق الثلاث موجودة في عقلنا ولا أرى لها وجودًا إلا فيه. فحاضر الأشياء الماضية هو الذاكرة، وحاضر الأشياء الحاضرة هو الرؤية المباشرة، وحاضر الأشياء المستقبلة هو الترقب (الانتظار)». هذه الأبعاد الثلاثة تعطي امتدادًا للذات الإنسانية، وهذا الدور المضيء للذاكرة يَكتمل من خلاله الإحساس بالزمن في أعماق ذاتنا الإنسانية.

المبدع والشـاعر العربـي بـدوره صور لنا عمق الإحساس بالزمن. فالشعور بجمال الوقت أو ثقله حالة نفسية يرسمها الشاعر بشكل يحوّل ذلك الزمن إلى إشكالية حين يغدو الليل –مثلًا- ذلك الشيء الممتد اللامتناهي، فيتساوى الشعور بالزمن نهارًا أو ليلًا عند شاعر كامرئ القيس في قوله:

ولَـيْـلٍ كَـمَـوْجِ الـبَـحْـرِ أَرْخَـى سُـدُولَــهُ         عَــلَـيَّ بِـأَنْـوَاعِ الـهُــمُــومِ لِــيَــبْــتَــلِـي

فَـــــقُــلْــــتُ لَـــهُ لَـمَّا تَـمَــطَّى بِـصُــلْــبِـهِ         وأَرْدَفَ أَعْــجَــازًا وَنَـــاءَ بِــكَــلْـــكَــلِ

ألَا أَيُّهَـا الـلَّـيْـلُ الـطَّـوِيلُ أَلَا انْـجَـلِــي         بِـصُـبْـحٍ، وَمَــا الإصْـبَـاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ

فيتواصل إحساس الشاعر بالزمن، وتغدو الجروح همومًا توقظ ليل الشاعر بالسهر. ويتغير هذا الإحساس الزمني من شاعر لآخر ضمن الوعي الذاتي الذي هو جوهر الوجود انطلاقًا من خصوصية الزمن وعلاقته بالتجربة الإنسانية. ففي حين ينفر شخص من ساعات الانتظار ويلازمه الضجر ممتدًّا حتى نهاية الحدث، يتحول زمن الانتظار لموعد لقاء العاشقين مثلًا عند شاعر كالهادي آدم إلى شعور فرح ولهفة عبر سؤال متكرر: «أغدًا ألقاك؟» منفتحًا على قراءة تأويلية للماضي والحاضر والمستقبل خلقتها تلك التجربة الشعرية والشعورية:

وغدًا ننسى، فلا نأسى على ماضٍ تولى

وغدًا نسمو فلا نعرف للغيب محلّا

وغدًا للحاضر الزاهر نحيا ليس إلَّا

قد يكون الغيب حلوًا، إنما الحاضر أحلى

كما عبّر الشاعر عن مشاعر القلق والخوف من التقدم في العمر ومرور السنين، وما يتركه هذا الإحساس في وجدان الشاعر من انهزام وضعف أمام الزمن، كما ظهر في قصيدة الدكتور غازي القصيبي –رحمه الله- (سيدتي السبعون!) حيث يظهر الزمن بصورة موحشة قاسية، وتحوّل من واقع إلى قيمة فلسفية وجودية:

ماذا تريد من السبعين.. يا رجلُ؟! لا أنت أنت.. ولا أيامك الأولُ

جاءتك حاسرةَ الأنيابِ.. كالحةً كأنما هي وجهٌ سَلَّهُ الأَجَـــــلُ

وفي مقابل ذلك، تبرز لغة التحدي والقوة في مواجهة مرور العمر والسنين واضحة في قصيدة الأمير خالد الفيصل، حين يواجه ذات السبعين بثبات:

حاولتْ سبعيني تهزّ الثبــــــات وانتصر صبري على حيلاتها

وراحت السبعين وأحلامي بقت فرحة الآمال في بسمــــاتهـــا

أخيرا، يظل الزمن فلسفة جدلية يختلف باختلاف وجهات النظر إليه من زمن فيزيائي، أو وهمي تخيلي، أو نفسي، لكنه ذو قيمة عُليا في حياتنا. يمضي باستمرار بين ماضٍ وحاضر ومستقبل، تحدده ذواتنا ومقدار وعينا بأن الماضي لن يعود، وأن الحاضر واقع نعيشه ونواجه تحدياته، وأن المستقبل تطلع نرسمه عبر معطيات الحاضر. ومن ترك لذاكرته العنان حبس نفسه داخل الماضي، وأفسد حاضره، وهدم مستقبله.