الضرورة الراهنية للسوسيولوجيا: نحو مشروع سوسيولوجي عربي مُغاير

الضرورة الراهنية للسوسيولوجيا: نحو مشروع سوسيولوجي عربي مُغاير

طالما تعلق تطور المعرفة السوسيولوجية بسؤال المنفعة المُرتبط بتغير موضوعها، أي بتحول المجتمعات، منذ نشأتها الحديثة إلى اليوم: ما الجدوى من السوسيولوجيا اليوم، وما المنفعة التي يمكن أنْ تعود بها على المجتمعات الجديدة؟ إن سؤال الجدوى هذا ليس جديدًا، لقد لازم العِلم الاجتماعي منذ ولادته إلى الآن، فبه تُجدد السوسيولوجيا مهمتها وتستمد منه مشروعيتها، بل بموجبه تُعيد تعريف مجالها الإبيستمولوجي، لكن الجديد هو السياق الذي يُطرح فيه هذا السؤال.

إننا أمام تحولات غير مسبوقة في الفعل البشري على جميع المستويات: من الحربيْن العالميتيْن إلى سُقوط جدار برلين، ومن الثورة الصناعية- مرورًا بثورة الحَضَر- إلى الثورة الرقمية، ومن حقوق الإنسان الجماعية إلى حقوق الإنسان الفردية، ومن الحركات الاجتماعية إلى الحركات الثقافية، فمن المجتمعات الصناعية إلى المجتمعات المعلوماتية والتواصلية. وغيرها من التحولات الجذرية التي زلزلت الكيان البشري برمته. بالقدر الذي تستدعي فيه هذه التغيرات السوسيولوجيا بما هي علم للتحولات الاجتماعية، بقدر ما وَضَعَتْها مَوْضِع أزمة: أتكلم هنا عن استنفاد الإبدال (البراديغم) الاجتماعي.

لهذا نتكلم عن ضرورة وليس عن مجرد منفعة؛ لأن المنفعة قد تجعل من السوسيولوجيا علمًا أداتيًّا ووظيفيًّا بالضرورة قد يَؤُول إلى إنتاج سوسيولوجيا مُندمجة، وهذا ما يحصل عندنا اليوم. ضرورة تستمد مشروعيتها الإبستيمولوجية من الحاجة المُلحّة إلى فهم التعقيدات التي تتخلل المجتمعات والأفعال البشرية المعاصِرة، ثم المساهمة التأويلية في رفع منسوب الوعي الذاتي لهذه المجتمعات الجديدة وفاعليها الجُدد.

عندما نقول براهنية هذه الضرورة فإننا لا نعني بذلك نفيًا للتاريخ بقدر ما نُعمل تاريخانية تلك التحولات التي تجيء بهذه الضرورة. بهذا المعنى فقط نتحدث عن الضرورة الراهنية للسوسيولوجيا: أية سوسيولوجيا لهذه «الراهنية»؟ أو بالأحرى أية مهمة للسوسيولوجيا في ظل التحولات الراهنة؟ وما موقعنا نحن العرب ضمن هذه الصيرورة؟ ألم يَحِنِ الوقت بعدُ لبلورة مشروع سوسيولوجي عربي يشمل المجتمعات العربية وفاعليها، من دون أنْ نسقط في أي نظرة سلفية أو تُرَاثَوِية أو شوفينية أو أداتية ضيقة من شأنها أنْ تقتل حيوية هذه المجتمعات وحركتها؟

مهمّة السوسيولوجيا اليوم

أشرنا إلى أن التغيرات المتسارعة التي تعرفها المجتمعات البشرية، قد ساهمت في تَحَلُّل المجتمعات الصناعية الحديثة التي كانت فيها الكلمة الأخيرة للاجتماعي والاقتصادي أكثر من أي شيء آخر، تلك المجتمعات التي اكتسحت موضوع السوسيولوجيا وذخيرتها الإبدالية. ومن ثمة الدخول في مجتمعات جديدة. تتعدد توصيفاتها بتعدد التأويلات التي صِيغت منها؛ فهذا يحدثك عن مجتمع الفرجة، وغيره عن المجتمع الشبكي، وآخر عن مجتمع المخاطر، وذاك عن مجتمع الذوات، وغيرهم يتحدثون عن مجتمعات تواصلية ومعلوماتية. مجتمعات تحتل فيها المعلومة والتواصل مكانة مركزية في صلب تشكيلتها، حيث يَحُلّ فيها الثقافي مَحَلّ الاجتماعي. من هنا يستمد الحديث عن «نهاية الاجتماعي» مشروعيته الواقعية.

قد يدرك القارئ أن أي حديث عن مهمة السوسيولوجيا لا يستقيم إلا بالحديث عن تاريخ موضوعها، لهذا سيجد نفسه أمام طريقيْن: إما أنْ نحدد مهمة السوسيولوجيا انطلاقًا من التحولات المجتمعية، أو نرسم حدودها من خلال تاريخ المعرفة السوسيولوجية نفسها. غير أننا اعتمدنا هنا على فحص دياليكتيكي بينهما. كما لا يستقيم الحديث البتة عن دور السوسيولوجيا من دون تعريفها، فهذا يؤدي إلى ذاك؛ لأنّ ثمة تعالقًا دائمًا فيما بين المعرفة السوسيولوجية وسيرورات تشكل موضوعها، سواءٌ أكان معطًى خارجيًّا أم بناءً سوسيولوجيًّا.

قلنا: إن السوسيولوجيا فَقدَت موضوعها الأصلي: «المجتمع». فهي لم تكن تُعَرف وما زالت عندنا بالخصوص، إلا بوصفها علمًا للمجتمع وبه. أما الآن وبعد أنْ أعلن هذا الموضوع عن «نهايته»، ذلك الموضوع الذي كان يستمد منه «علم المجتمع» وحدته المعرفية والأنطولوجية أيضًا، ها هو اليوم يبحث عن ذاته من خلال بحثه عن موضوعه الجديد.

هذا الموضوع ليس أكثر من الفاعل أو بصيغة مستحدثة الذات البشرية الفاعلة. فمنه يستمد مهمته التاريخانية اليوم: تحرير الفاعلين والذوات من قبضة المنظومة أو كل ما يَحُلّ مَحَلّها والمساهمة في تأكيد حقوق الإنسان المركزية. ذلك لن يتأتى إلا عبر ابتكار ذخيرة إبدالية جديدة كما هو شأن الإبدال الثقافي والإبدال التواصلي: ومن ثمة الانتقال من إبدال اجتماعي إلى آخر ثقافي، أو تواصلي، أو غيرهما من الإبدالات التي تلوح في الأفق. ما من شأنه أنْ يجدد الترسانة السوسيولوجية الكفيلة برصد ما يُعتمل في المجتمعات الجديدة بما هي مجتمعات للفاعلين وللذوات أكثر منها مجتمعات للمؤسسات وللموضوعات، كما هو شأن المجتمعات الصناعية المتلاشية.

هذا، بغض النظر عن تفعيل تأويل سوسيولوجي تحويلي، لا يكتفي بتشخيص «موضوعي» لواقع هذه المجتمعات ودينامياتها، أي المهمة العِلمية، بل يتجاوز ذلك إلى المساهمة الفعلية في تاريخانيتها، سواء بشكل مباشر بواسطة ما يسمى بـ«التدخل السوسيولوجي» أم بشكل غير مباشر من خلال خلق الوعي الذاتي بالتأويل السوسيولوجي في حد ذاته. إن السوسيولوجيا ليست علمًا أداتيًّا، بل هي قبل أي شيء آخر رؤية حداثية للعالَم؛ ذلك أن عالِم الاجتماع هو فاعل بشري، وليس فاعلًا سوسيولوجيا فقط. إن الممارسة السوسيولوجية في جوهرها تمرين شاقّ على الحداثة )ومداراتها(. ويبقى السؤال: هل السوسيولوجيا اليوم مُسلّحة بما يكفي لمواجهة تحولات المجتمعات الجديدة: فائقة الحداثة؟

أية سوسيولوجيا للمجتمعات العربية اليوم؟

في ظل هذه التحولات المجتمعية والسوسيولوجية، لا يَسَع المرء إلا أنْ يتساءل: ما موقعنا «نحن» العرب ضمن هذه الصيرورة الكونية؟ لأنّ تساؤلًا من هذا القبيل كفيل بفتحنا على أفق سؤالنا: «أية سوسيولوجيا للمجتمعات العربية اليوم؟»، أو العكس. سيلاحظ القارئ من خلال السؤال الأخير أننا أمام سؤال استشرافي يحاول أنْ يفتح الطريق أمام بلورة مشروع سوسيولوجي، لكن هذا وجه واحد فقط من أوجُه السؤال. فهو يسعى إلى ربط مهمة السوسيولوجيا اليوم وتحولات موضوعها لدى غيرنا -في مجتمعات «المنبع»- بوضعية هذا العلم الخصب عندنا -في مجتمعات «المصب»- في علاقته مع تحولات المجتمعات العربية الراهنة. هذا الوجه الثاني. أما الوجه الثالث فهو يتمثل في مساءلة «الوضع السوسيولوجي العربي»، من حيث نوع المعرفة السوسيولوجية السائدة في علاقتها الجدلية مع الواقع المجتمعي العربي «المتحول». بمعنى آخر: الكشف عن الباثولوجية الأساسية للوضع السوسيولوجي العربي.

ثمة مؤخرًا بعض المساعي لتشخيص وضع العلوم الاجتماعية عندنا، نذكر من أهمها العمل الموسوم بـ«العلوم الاجتماعية في العالم العربي: مقاربة الإنتاجات الصادرة باللغة العربية 2000- 2016م»، لعبدالله حمودي. وهو يعكس لنا إلى حد كبير الوضع الباثولوجي للسوسيولوجيا في عالمنا العربي. يسجل التقرير هيمنة الإنتاجات السوسيولوجية على باقي إنتاجات العلوم الاجتماعية الأخرى. لكن ما يهمنا هنا هو تسجيله لتضخم كمّيّ من حيث الإنتاج، لا يوازيه من حيث الجودة تضخم كيفيّ، سواء تَعلّقَ الأمر بالتنظير أم بالبحث الميداني. باختصار شديد: إننا أمام واقع مأزوم.

قد لا نختلف في حقيقة هذا القصور للوضع السوسيولوجي عندنا، لكن إشكال السوسيولوجيا ليس إنتاجيًّا فقط وإنما هو إشكال إستراتيجي في العمق. فكيف السبيل إلى بلورة معرفة سوسيولوجية فعّالة من دون ممارسة نقدية مزدوجة للذات وللآخر في آن؟ وإلا كيف السبيل إلى صياغة مشروع سوسيولوجي عربي فعال؛ لأن أي علاقة لنا نحن العرب مع العلم الحديث هي بشكل أو بآخر انعكاس لعلاقتنا بالغرب أو بالآخر «الحداثي» عمومًا.

ثمة محاولات عربية ليست قليلة تحاول أنْ تَنظر اليوم إلى المجتمعات العربية من وجهة نظر سوسيولوجيا التغير الاجتماعي، لكنها تبقى غير كافية، ولا تستجيب لمستوى التطلعات المنشودة. ومع ذلك فهي إما أنها تنحو نحو دراسة التحولات العربية بنوع من الإمبريقية الساذجة أو تُسقط بشكل كلي نظريات «الآخر» السوسيولوجية من دون تمحيص أو نقد لمفاهيمها وأسسها الإبستيمولوجية والأيديولوجية. لقد شهدت «السوق السوسيولوجية» عندنا مؤخرًا أبحاثًا عدة تُحسب على السوسيولوجيا وهي أقرب ما يكون إلى «أوراق سياسية»، أو «أبحاث تطبيقية»، قد يذهب بعضها إلى تحويل السوسيولوجيا إلى علم للسياسات العمومية تارة وإلى الكوتشينغ السياسي تارة أخرى.

نحو سوسيولوجيا عربية مغايرة

ينبغي أنْ أُنبه القارئ العربي في هذا المقام، إلى أن إعمالي لعبارة «مجتمعات عربية» بعامة ولكلمة «عربي» أو «عربية» بخاصة، ليس من باب الدعوة إلى قومية عربية بعثية أو شوفينية ضيقة، قد تختزل هذه المجتمعات في رافد إثني بعينه دون الروافد الإثنية الأخرى، كما هو حال الأمازيغية والكردية وما إلى ذلك. فنحن نعي تمام الوعي التعدد الذي غدت عليه مجتمعاتنا العربية. طالما كان هناك المُؤْتلِف والمُختلِف، المشترك والمتفرد. الكفيل بجعل هذه الوحدة اختلافية أكثر منها متطابقة أو متناقضة. كيف يُمكننا اليوم تعريف هذه المجتمعات العربية بما هي عالَم عربي سوسيولوجيًّا؟ هذا هو السؤال الذي لم يطرح بعد. هل نُعَرف العالَم العربي انطلاقًا من فكرة النظام أم من فكرة التغير؟ هل نُعَرفه من منطلق المنظومة أم من منطلق الفاعلين؟ السبيل إلى وعي هذه المجتمعات بذاتها بوصفها منتوجًا لذاتها. إن ذلك لن يتأتى إلا بصياغة تأويل سوسيولوجي من صلب هذه المجتمعات وإليها؛ وهو الأمر الذي يتطلب صياغة سوسيولوجيا عربية مغايرة، من خلال نحت مفاهيم ونظريات ومناهج وإبدالات قادرة على صياغة وعي سوسيولوجي لهذه المجتمعات بذاتها.

سوسيولوجيا تنطلق من تاريخ هذه المجتمعات وحاضرها، فضلًا عن محاورتها الدائمة للمعارف السوسيولوجية «الكونية» ومستجداتها، تكون وحدها قادرة على التنافس العالَمي بأخذ زمام المبادرة السوسيولوجية.

هذا ما أخفقت فيه السوسيولوجيا عندنا، لقد تمكنت من معرفة كل شيء إلا المجتمعات العربية وتحولاتها؛ لقد أخفقت السوسيولوجيا عندنا في إنتاج نظريات سوسيولوجية عن المجتمعات العربية. ما طبيعة هذه المجتمعات؟ وما مدى قدرتها على إنتاج ذاتها، أيْ قدرتها على الفعل في ذاتها، قدرتها على التحول والبناء والهدم؟ وكيف تنتج ذاتها؟ بل ما هي هذه المجتمعات التي يزعم الكثير من الباحثين أنهم قتلوها دراسة وتحليللًا؟

صحيح أن هناك تَكَدُّس في الدراسات والأبحاث والكتب، لكنه لم يصل بعد إلى مرحلة التراكُب العلمي المنشود. ومن هذا المنطلق، فإن الحديث عن تراكم علمي يقتضي صياغة مشروع سوسيولوجي شامل، سميته بالمغاير. لماذا هو مُغاير؟ لأنه يقوم على أساس فكري مغاير: «الفكر المغاير»، ذلك الفكر الذي لا يقوم على نقد مزدوج بوصفه مهمة منوطة بهذه السوسيولوجيا المنشودة وحسب، وإنما يقوم أيضًا على فكرة «الهامش اليقظ»، أو ما يمكن تسميته بالهامش الفعال.

إننا في حاجة إلى مشروع سوسيولوجيّ عربي مُغايِر، يأخذ في الحُسبان الوجود العربي بوصفه اختلافًا ومُغايَرة، وإنْ أُريدَ له أنْ يكون وَحْدةً، فلتكن وَحْدةً مُغايِرةً تقوم على الاختلاف أكثر من المطابقة. فلتكن إذن سوسيولوجيا هامش فعال، قادرة على خلخلة مركزية المركز وهامشية الهامش في الآن نفسه. سوسيولوجيا فعالة كفيلة بالمُساهمة في تحديث المجتمعات العربية، من خلال تفعيل قدرتها الخلاقة على الفعل في ذاتها وفي غيرها.

من أجل صياغة أنثروبولوجيا عربية

من أجل صياغة أنثروبولوجيا عربية

«إن البديل الذي أقترحه لا يحاول تبرئة الأنثروبولوجيا من حمولتها الكولونيالية؛ فعكس ذلك هو الصحيح، لكني أفضّل اتخاذ منهج جديد في النقد؛ هذا المنهج يقتضي الدخول العميق في التصورات والمفاهيم والوقائع التي تزخر بها تلك الأنثروبولوجيا إلى حد تأزيمها. حاولت اقتراح البديل من خلال الدخول في جوانب من عمق المعرفة الأنثروبولوجية، قابلت بينها وبين الرصيد العلمي والثقافي لمنطقتنا؛ مقابلة أدت إلى الوقوف على الضعف الذي سكن الأسس الإبستيمولوجية لذلك الموروث الأنثروبولوجي. وفي دفعة واحدة أدت تلك المقابلة إلى شق طريق بديل في اتجاه خطاب مستقل». عبدالله حمودي

يقدم لنا الكتاب موضوع القراءة: «المسافة والتحليل في صياغة أنثروبولوجيا عربية» للأنثروبولوجي المغربي عبدالله حمودي (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء) مشروعًا معرفيًّا، قلّ نظيره في منطقتنا العربية، ألا وهو: صياغة معرفة أنثروبولوجية عربية، ومنها إلى صياغة سوسيولوجيا عربية، بل صياغة علوم اجتماعية عربية. والحال أن منطقتنا العربية اليوم في حاجة ماسة أكثر مما مضى إلى هكذا مشروعات علمية ومعرفية. هي محاولة من بين محاولات أخرى يمكنها أن تساهم في إعادة بناء وتشييد بنيان العلوم الاجتماعية في العالم العربي، وبالتالي التمكن من بلورة معرفة علمية قادرة على تشخيص وفهم الحالة، والوضعية، والوجود، والسيرورة التاريخية الراهنة للإنسان العربي والمجتمعات العربية، في المغارب والمشارق. ليست هذه المرة الأولى التي يعلن فيها صاحب الكتاب عن مشروعه العلمي والمجتمعي هذا، بل كان ملازمًا لأعماله ومتضمنًا في أبحاثه ودراساته، طيلة مساره العلمي: من تمرسه الميداني في واحات ورزازات ودرعة..، مرورًا بـ«الشيخ والمريد»: النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة و«الضحية وأقنعتها بحث في الذبيحة والمسخرة بالمغارب»، تعريجًا على «حكاية حجّ، موسم في مكّة»..، «الرهان الثقافي وهمّ القطيعة»، «الحداثة والهوية سياسة الخطاب والحكم المعرفي حول الدين واللغة»، وصولًا إلى كتابنا المعني.

سعي إلى تخطي التهميش

يمثل الكتاب الذي بين يدينا منعطفًا إبستيمولوجيًّا مهمًّا، ليس في أعمال صاحبه فحسب وإنما في النقاش الحاصل، بين مثقفينا العرب، منذ الاستقلال السياسي عندنا إلى اليوم، حول معارف العلوم الاجتماعية عامة، وحول المعرفة الأنثروبولوجية الكولونيالية منها وما بعد الكولونيالية، خاصة. وهو يسعى إلى المساهمة بشكل أو بآخر في مجاوزة التهميش والإقصاء والرفض الذي طال ويطول مجالًا معرفيًّا خصبًا كالأنثروبولوجيا من جهة، ومن أجل مجاوزة وضعية القصور والتبعية اللذين تشهدهما العلوم الاجتماعية عمومًا، من جهة ثانية، من خلال أولًا وقبل أي شيء آخر التجربة الأنثروبولوجية للباحث نفسه، أو بالأحرى التفكر الإبستيمولوجي في وضعية الأنثروبولوجيا في العالم العربي، من داخل الممارسة الأنثروبولوجية نفسها للباحث المعني. انطلاقًا من رصد الانتقادات الموجهة للمعرفة الأنثروبولوجية ومشروعيتها العلمية، والتي حددها في حركتين نقديتين اثنتين، على غرارهما يقترح علينا عبدالله حمودي اختيارًا ثالثًا، أو طريقًا آخر مغايرًا لكلتا الحركتين. يتحدد هذا الاختيار في: صياغة الأنثروبولوجيا أو بالأحرى إعادة صياغتها.

إننا أمام اختيار مغاير تمامًا. مغاير للمواقف والتصورات المعهودة التي طالما وسمت الساحة الثقافية العربية التي تنحو إما نحو الرفض الكلي للأنثروبولوجيا بوصفها علمًا استعماريًّا ذا خلفيات أيديولوجية مشبوهة، وبالتالي تهميشها وإقصاؤها كلية من المشهد الثقافي، سواء لمبررات أيديولوجية سياسية كالقومية العربية أو كمقولة الخصوصية، أو لمبررات إبستيمولوجية واهية تنم عن جهل أو ضعف في تملك نظرية المعرفة الخاصة بهذا المجال وهضمها، وعدم مواكبة المستجدات والمنعرجات الإبستيمولوجية في ميدان من هذا القبيل. أو النحو منحى الاقتباس الأعمى، وما ينتج عنه من منزلقات إبستيمولوجية، وكذا تكريس وضعية التبعية المعرفية لمجتمعات المركز، للمجتمعات الأوربية والأميركية. مع دعوات أخرى إلى تعويضها بمجالات أخرى، كالتاريخ والسوسيولوجيا.

هما حركتان نقديتان شديدتان لا ثالث لهما، ساهما بشكل مباشر في وضعية الرفض الذي طال الأنثروبولوجيا. ظهرت الأولى في منتصف الستينيات من القرن المنصرم، تتمثل في ثلاثة مجالات أساسية، في السوسيولوجيا مع عبدالكبير الخطيبي، في التاريخ مع عبدالله العروي، وفي الفلسفة مع الجابري. أما الحركة الثانية، فظهرت في الثمانينيات من القرن نفسه مع إدوارد سعيد. وهو ما كرّس الوضع نفسه. في مقابل هذه المواقف السائدة والمعهودة عندنا، يقدم لنا عبدالله حمودي البديل المعرفي الممكن لتجاوز هذا الوضع المأزوم. وهو ما عبر عنه بعبارة: صياغة أنثروبولوجيا عربية. أيّة صياغة لأنثروبولوجيا عربية؟ ماذا تعنيه الصياغة في هذا المقام؟ وبأيّ معنى هي عربية؟ أو بالأحرى: ما الجدوى المعرفية من صياغة الأنثروبولوجيا عربيًّا أو بالأحرى إعادة صياغتها؟ وكيف السبيل لهذه الصياغة أو إعادة الصياغة؟

لهدم وإعادة البناء

أما الصياغة وإعادتها، فهي تستعمل ها هنا، بما تعنيه الكلمة من معنى اصطلاحيًّا وإيتيمولوجيًّا: يخص منها وجهين، الأول هو التذويب وإعادة التشكيل، والثاني يحيل إلى تشكيل القول مع أمل أن يكون مستساغًا من طرف السامع والقارئ. الصياغة بهذا المعنى هي: الهدم وإعادة البناء. وهذا هو معنى التفكيك كما نجده عند جاك دريدا، إلى حد ما. ربما لن نجازف إذا ما قلنا: إن عبارة «صياغة» أكثر دقة في الترجمة من كلمة التفكيك لمفهوم Déconstruction.

بهذا تكون، عملية صياغة الأنثروبولوجيا أو إعادة صياغتها ممكنة، على إثر الحركتين النقديتين الآنفتين، وما نتج عنهما من إقصاء وتهميش ورفض في المجال الثقافي والمعرفي العربي. من هنا، ومن هنا فقط تستمد صياغة الأنثروبولوجيا مبررها وإجرائيتها. أما كونها عربية، فهذا لا ينبغي أن يحيلنا إلى نزعة قومية أو أيديولوجية تقول بأسلمة الأنثروبولوجيا وعروبتها كما هو معهود عندنا، وبخاصة في المشرق العربي، وإنما هي عربية، أولًا وقبل أي شيء آخر؛ لأنها تنجز وتكتب باللغة العربية وسننها. أَوَلَيسَتِ اللغة.. دار الوجود كما ينبهنا هايدغر؟

إنها أنثروبولوجيا عربية بالمعنى الذي تتخذ فيه من اللغة العربية مسكنًا ودارًا لها، بل موطنًا لها. بهذا المعنى يمكننا الحديث عن أنثروبولوجيا عربية، عن صياغة أنثروبولوجيا عربية. الكفيل بتفادي التاريخ الاستعماري للأنثروبولوجيا من ناحية، وتفادي إشكالية الهيمنة والتبعية اللتين تسكنان تشكيل وتكوين المعرفة الخاصة بها إبستيمولوجيًّا. هذه الأنثروبولوجيا التي يدافع عنها صاحب «المسافة والتحليل». أنثروبولوجيا، تأخذ من التجربة الميدانية (مع التنظير: إنتاج مفاهيم من داخل تراث المنطقة العربية وواقعها)، بدل النصوص، منطلقًا وحقلًا لها. هي أنثربولوجيا الباحث المنتمي الذي يسعى باستمرار إلى موضوعة مجتمعه وموقعه في هذا المجتمع، بوصفه عضوًا فيه. من خلال المسافة والتحليل المتلازمين. مسافة وتحليل الباحث المنتمي. مسافة أشد حميمية، وأكثرها اجتثاثًا لتلك الحميمية نفسها، في الآن نفسه. إنها غربة في قلب الحميمية. هذه هي المسافة المثلى بالنسبة للأنثروبولوجي المنتمي.

أنثروبولوجيا عربية من هذا القبيل بإمكانها أنْ تفتح الأفق أمام الباحثين العرب في العلوم الاجتماعية كافة، للنحو على المنهج والمشروع نفسهما. مشروع بإمكانه أنْ يفتح الأفق للنقاش بين الباحثين العرب في العلوم الاجتماعية.. من أجل صياغة أنثروبولوجيا عربية، يمكنها المنافسة جهويًّا، إقليميًّا، وقطريًّا وعالميًّا.

من أجل أنثروبولوجيا جديدة لعالم جديد

من أجل أنثروبولوجيا جديدة لعالم جديد

«إن الأنثروبولوجيا ممكنة، بل ضرورية في ظل الوحدة والتعدد الحالي للمعاصرة»

مارك أوجي

لم يشهد مجال معرفي ما في عالمنا العربي من رفض ونفي ومعارضة ونقد، أكثر وأشد مما حصل مع الأنثروبولوجيا؛ الأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية. طالما كانت، وربما ما زالت، علاقة العرب وما يسمى بالعالم الثالث بالأنثروبولوجيا المعنية، علاقة متوترة على الدوام، ثقافيًّا، اجتماعيًّا وسياسيًّا. مردُّ ذلك إلى جملة من الشروط والاعتبارات، يتداخل فيها الإبيستيمولوجي بالسياسي والأيديولوجي. عادة ما يتحدد المستوى الأيديولوجي والسياسي في الفكرة التي تقول بأن الأنثروبولوجيا علم استعماري بامتياز، انطلاقًا من الرحلات الاستكشافية- ما قبل الكولونيالية، أي من اللحظة الاستشراقية، مرورًا باللحظة الكولونيالية، وصولًا إلى ما بعد الكولونيالية. أما المستوى الإبيستيمولوجي، فهو يتجلى في كون العقل العربي لم يستوعب بعد أن المجال المعرفي المعني، تجاوز موضوعه العتيق والكلاسيكي: المجتمعات والثقافات المسماة بدائية، التقليدية، والقروية.

لا ريب في كون المواقف المضادة للأنثروبولوجيا الثقافية (والاجتماعية) لها ما يبررها سياقيًّا: إبيستيمولوجيًّا وتاريخيًّا. إذا أخذنا في الحسبان الارتباط الوثيق فيما بين العلوم الاجتماعية عمومًا (المساوقة لحركة الاستعمار) وبين أيديولوجيا الاستعمار، وكذا النظرة للآخر: كمتوحش أو إنسان من درجة أقل. اعتبارًا في التقسيم العلمي للسوسيولوجيا، كما دعا إليه أوغست كونت نفسه في دروسه الوضعية، بين سوسيولوجيا تدرس المجتمعات الصناعية- الوضعية، وأخرى تدرس المجتمعات الأخرى، غير الغربية أو ما قبل الحالة الوضعية، ألا وهي الأنثروبولوجيا نفسها، التي شكلت الأسس الإبيستيمولوجية للعلوم الاجتماعية الاستعمارية وللأيديولوجيا الاستعمارية. بغض النظر عن أسسها النظرية المشبوهة في النظر إلى الإنسان اللاغربي أو إلى خلفياتها الأيديولوجية الممتدة للاستشراق، فإنها لم تتجاوز- منهجيًّا تزامنيتها القاتلة، في اقتصارها على الحاضر والتجربة الملموسة في مقابل تهميش التجارب التاريخية المتميزة للثقافات الشرقية، كما هو الشأن لثقافتنا العربية. لكن، هل ينطبق ذلك على الأنثروبولوجيا اليوم؟ هل ما زالت مرتبطة بالاستعمار وأيديولوجيته؟ هل ما زالت تنظر إلى الآخر كماضٍ للثقافة الغربية؟ هل ما زالت المعرفة الأنثروبولوجية، تزامنية صرفة؟ هل ما زالت تنظر إلى الإنسان غير الغربي، كآخر متوحش، أو إنسان من درجة ثانية، أو كماضٍ- حاضر؟

إذا بحثنا في الأنثروبولوجيا الحالية- الجديدة: أنثروبولوجيا العوالم المعاصر، سيكون الجواب عن تلك الأسئلة بالنفي: لا. لماذا؟ لأن الاستقلال السياسي للمجتمعات المستعمرة بعد الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى التحولات المجتمعية الجذرية التي شهدتها المجتمعات الغربية وغير الغربية لاحقًا، من عولمة، وتعميم للحضريات الجديدة، وتطور وسائل الاتصال.. وضع ما سُمِّي بالعلوم الاجتماعية الاستعمارية والأنثروبولوجيا تحديدًا، في أزمة. وضعها موضع سؤال. وهو ما فرض عليها أن تعيد النظر في ذاتها: موضوعًا ومِنْهاجًا.

وإنْ كانت العلوم لا تخلو من خلفيات أيديولوجية، كيفما كانت طبيعتها، ومهما بلغت درجة عِلْميتها وموضوعيتها، طبيعيةً كانت أو إنسانيةً أو اجتماعيةً، وإن كانت العلوم الاجتماعية أكثر حميميةً ونوستالجية في علاقتها بالأيديولوجيا من غيرها. فإن ذلك لا يمنعنا من طرح السؤال الآتي: ألم تتجاوز الأنثروبولوجيا المعاصرة، أنثروبولوجيا ما فوق الحداثة، النزعة الأيديولوجية الغربية، من إمبريالية واستعمارية، تمركز حول الذات، وإرادة الهيمنة؟

كل علم من حيث هو حقل معرفي، كيفما كانت طبيعته وشكله، كما هو معروف في الإبيستيمولوجيا، لا يكون عِلمًا إلا بتحديد مزدوج لـ: الموضوع والمنهج. أي: لكل علم موضوع ومنهج محددان. لما كان الموضوع الكلاسيكي للأنثروبولوجيا هو المجتمعات (والثقافات) المسماة بدائية، مرورًا بالتقليدية (والمستعمرات)، فالقروية، ثم البحث عن الملامح التقليدية في المجتمعات الحديثة… فإنها وجدت نفسها أمام موضوع، في طور التلاشي والاندثار شيئًا فشيئًا. وجدت نفسها أمام موضوع مفقود. الشيء نفسه للمنهج. فلم يعد المنهج الأنثروبولوجي، قادرًا على الإمساك بموضوعه المفقود. هكذا، أصبحنا أمام علم مغترب، يعيش نوعًا من الاغتراب، نتيجة هجر موضوعه ومنهجه، في ظل التغيرات المتناسلة والمتسارعة للمعاصرة. وهو ما ولَّد أزمةً وجوديةً للحقل المعنيِّ. وأضحت الأسئلة تلو الأخرى، تتناسل، وتتوالد وتتكاثف: ما الجدوى من هذا الحقل المعرفي؟ هل نحن في حاجة إلى علم فقَدَ موضوعه ومنهجه معًا، وتجاوز موضوعه الإيتيمولوجي: الإنسان؟

هذه الأسئلة وغيرها، ولَّدت نقاشًا إبيستيمولوجيًّا وأنثروبولوجيًّا حول الهوية المعرفية للأنثروبولوجيا ذاتها، موضوعًا ومِنْهاجًا. كيف ينبغي التعامل مع هذه الوضعية والحالة هذه؟ هل نتخلى بكل بساطة عن مجال معرفي صار متجاوزًا، أم أنه حان الوقت لكي يعيد الأنثروبولوجيون النظر في تراثهم المعرفي، محاولين بذلك مجاوزة الكلاسيكيات الأنثروبولوجية، من خلال أولًا وقبل كل شيء فتح حوار نقدي معه وإعادة النظر الفعلية في الأسس التي يقوم عليها، ومنها إلى إحداث قطائع إبيستيمولوجية فعلية والانفتاح على الأفق الإنساني المعاصر؟ لا شك في أن الاختيار الأول كان مستبعدًا تمامًا؛ لأنه لا يمكننا اليوم، في ضوء ما تشهده عوالمنا الحالية من تشعبات وتعقيدات مفرطة، أنْ نستغني عن الأنثروبولوجيا، نظرًا لموقعها المركزي في العلوم الاجتماعية من جهة، ولما يمكن أن تقدمه من فهم وتأويل…، يمكن أن يساهما في توسيع مجال تفكيرنا حول الوجود البشري برمته، من التفاصيل اليومية لحياة الأفراد إلى الأفق الإنساني الكوني، من جهة ثانية.

لم تعد الأنثروبولوجيا اليوم تدرس المجتمعات التقليدية، أو القروية، أو تبحث في إمكانية ظهورها واندثارها، بل غدت تدرس الإنسان أو بمعنى أدق تبحث في الرهان الثقافي للإنسان، في أي سياق كان. فمن مفعولات القطيعة التي أحدثتها الأنثروبولوجيا مع ذاتها، إلى أنها أعادت صياغة وتعريف ذاتها، من خلال تجسيد ما تعنيه إيتيمولوجيًّا: الأنثروبولوجيا: علم الإنسان. وبما أن إنسان اليوم هو إنسان المعاصرة، فإنها لا تعمل إلا على رصد هذه المعاصرة محليًّا وكونيًّا: رهان الأنثروبولوجيا المعاصرة. هكذا، بعدما كان الأنثروبولوجي يدرس ساكنة بعينها، صار اليوم يدرس موضوعات، ويبني موضوعاته باستمرار.

صحيح أننا اليوم أمام أنثروبولوجيا مختلفة، مغايرة تمامًا لما كانت عليه كلاسيكياتها، لكن هل يعني ذلك أنها قطعت مع ما قبلياتها قطعًا مطلقًا؟ سيكون الجواب بنعم، إذا ما انزلقنا في المعنى الوضعاني لمفهوم القطيعة. والحال أننا بعيدون كل البعد من هذا المفهوم، فما نقصده هنا بالقطيعة بوصفها انفصالًا بالدرجة الأولى، ليس فصلًا بين لحظتين، يَجُبُّ اللاحقُ منها السابقَ، بل يتعلق الأمر بصيرورة لا تنفك عن الانفصال. فالأنثروبولوجيا الجديدة لم تفقد حسَّها الأنثروبولوجي، أتحدث هنا عن حسها الثقافي، ونهجها الاستقرائي، ومنهجها الإثنوغرافي، لكنها نفخت فيه روحًا جديدة، إنها روح المعاصرة.

مجمل القول، لم يعد اليوم مقبولًا، لدى مثقفينا العرب، النظر إلى الأنثروبولوجيا نظرة كلاسيكية، عتيقة، ومتقادمة، أي كعلم يدرس المجتمعات التقليدية والمستعمرة؛ لأن أنثروبولوجيا اليوم، تجاوزت ذاتها إلى أنثروبولوجيا مغايرة، أنثروبولوجيا العالم المعاصر. إننا إذًا أمام أنثروبولوجيا جديدة لعالم جديد: عالم المدينة، عالم التفردات والكونية، الوحدة والتعدد، الأمكنة واللاأمكنة، الحداثة وما فوق الحداثة، الهوية والاختلاف، المحلي والكوني.. عالم المعنى والحرية. إنه عالم المفارقات. وعلى هذا النحو، فإننا في حاجة ملحَّة للأنثروبولوجيا. في حاجة إلى أي أنثروبولوجيا؟ إننا في حاجة إلى أنثروبولوجيا جديدة: أنثروبولوجيا للعوالم المعاصرة.