قصص قصيرة جدًّا

قصص قصيرة جدًّا

مائيات

صعد سلم الطائرة، وحين التفت إلى الخلف، رأى وطنه كما لو يشبه غربالًا يكره الماء. وحين أقلعت الطائرة فكّر هكذا :لا بد من أن يكتب رواية بالماء، ويعلق في سقفها رعدًا رهيبًا، أو سحابة سوداء. في المطار كان المشهد غيومًا سوداء، ثم انهمرت الأمطار بغزارة، وكان التوقيت في عز الصيف، حينها تخيل نفسه كما لو يشارك الذئب عرسه، ويرقص على إيقاع دفوف ومزامير لا يسمعها سواه.

ميلاد

رجل وقطة ونشرة الأخبار في غرفة بالطابق الثالث، القطة نائمة فوق الكرسي، الأخبار تافهة، والرجل ليس هنا. تفتح القطة عينيها وتموء، ينتبه الرجل لنفسه ويتذكر أن اليوم عيد ميلاده، يصمت مدة، وهو الآن يتأمل فراغ الغرفة من الشموع والأطفال والبالونات وحلوى الميلاد، وحين تذكر زوجته التي ماتت بسرطان المرحلة، يلتفت ليرى صورتها بتسريحتها الخفيفة داخل إطار يعلوه الغبار، ثم يعود كي يتأمل فراغ الغرفة من ميلاده، وبعدها يجهش بالضحك، وحدها القطة كانت تتأمل المشهد وأحيانًا تخاف.

اقتلني عزيزي

امرأة خمسينية تنزل من القطار، تدق الرصيف بكعبها وتمشي بنفس الإيقاع الذي تمشي به كالعادة إلى الصحيفة، وهي تعبر الشارع الرئيسي في العاصمة؛ تتفاجأ بشاحنة من الاكتئاب ترديها جثة على قيد الحياة. نزل السائق مذعورًا بساق واحدة؛ و… كانت الجثة لزوجته؛ التي هاتفته قبل قليل؛ لتقول له بغنج «اقتلني عزيزي رجاء»، و.. أجهشت بالضحك حينها؛ ثم أغلقت الهاتف، تجمهر الفضوليون؛ و… فتحت المرأة عينيها؛ كي تقول بسخرية :

• عفوًا… مجرد فكرة شخصية.

ثم انسحبت في عناق مع زوجها؛ دون شاحنة؛ ودون شارع رئيسي؛ ودون عاصمة، و.. بكثير من الفانتاستيك

طفل بشاربين

دخل مطعم «هالة» لاهثا، وكما لو كان يطارده كلب مسعور، جلس فوق كرسي في الزاوية اليمنى، وأخرج من كيس أبيض: دمية من القطن، مسدسًا صغيرًا، علبة حلوى. تفرس وجوه رواد المقهى، ثم لعبه المبعثرة، ليصرخ بعدها متعجبًا: «هل أنا طفل بشاربين؟!».

«الباحث» للسعودي عدنان محمد  البحث عن الذات جراح الأنوثة

«الباحث» للسعودي عدنان محمد

البحث عن الذات جراح الأنوثة

رواية «الباحث»، الصادرة عن مؤسسة الرحاب الحديثة ببيروت، هي الرواية الأولى لطبيب الأسنان والروائي عدنان محمد، وأحد النصوص المؤشرة على تحول لافت في كتابة الرواية السعودية، ويرجع هذا التمايز من خلال التحرر من الموضوعات المستهلكة والخوض في أخرى جديدة؛ ذلك أن عدنان محمد يُعَدّ من جيل العولمة والمتعوية والهيمنة التقانية وتبدل القيم.

 

جاءت الرواية في 300 صفحة من الحجم المتوسط، ومن خلال سبعة فصول اختار لها الكاتب من العناوين: الشرارة- نار وسراج الباحث- وقفة مع الذات- في أعماق الفكر ولغة الحب- لا مفر من الأقدار- في بلد آخر- الشمس تشرق من بين الغيوم؛ نتابع البطل «وائل» الذي يعيش حياة بإيقاع رتيب وروتيني، قبل أن يصاب والدُه بشلل نصفي نتيجة صدمة في الشغل، ولتشتعل في أعماقه بداخله نار تبكيت الضمير وتأنيبه، ومن ثمة الدخول في متاهات الحياة، إلى أن تنتشله يد صديقه «علي» الذي كان زميلًا له في الدراسة، ويرافقه في رحلته؛ ليعيشا تجارب غرامية، ويتعمقا في قضاياهما الفكرية، وهو ما حفز «وائل» على معرفة نفسه، والقبض على الإنسان في أعماقه، وأسرار سطوة ثقافة الكهان، وفي النهاية يعيشان معًا بهجة عودة أبي وائل إلى حالته الصحية.

في روايته، يستحضر عدنان محمد مجموعة من المشكلات لنماذج من الشخوص المقترنة بمنظور يلامس العديد من أسئلة الوجود وعلاقة الذات بنفسها ومحيطها، على هذا النحو، يكشف الفصل الأول عن الشرارات الأولى لهذا التورط في البحث عن الذات، إنها ميتة الأب: «أسرعت خطوات رجليها وأخذ يزداد خفقان قلبها والقلق بعينيها لتنظر ما الخطب، فوقعت نظراتها على زوجها ممددًا على أرضية فناء الصالة فاقدًا وعيه بعد أن سقط من على كرسيه».

موت سيؤرق «وائل» الذي: «كان يشعر منذ اللحظة الأولى التي علم بها ما حدث لوالده بأنه هو المسؤول عن كل ما حصل وكان يشعر بأن ما حصل كان بسبب إهماله الرد على مكالمة والدته وتأخره عن المجيء إليهم». هذا التبكيت للضمير سيورطه في القلق الذي سينهشه ويجعله مبلل التفكير حد التأثير في مسيرته الدراسية نقرأ في ص: «كاد التفكير يقتله، فهو يفكر منذ فترة في حل قد يسعفه في مثل هذه الظروف وينقذ سفينته العلمية والأكاديمية من الغرق»، بل تتأجج نيران الأسئلة بداخله: «لقد اشتعلت في داخلي منذ فترة نار مستعرة لهبها أسئلة متعددة واستفسارات كثيرة».

عدنان محمد

وينتهي المطاف بـ«وائل» إلى الخروج من متاهاته وانتشاله من حيرته وإدماجه في الفهم البشري بفضل صديقه علي: «ولكنني الآن، وبعد أن استمعت لكلماتك هذه، قررت حسم الموضوع واقتلاع جذور الحيرة من داخلي»، هذا الخلاص سيفضي إلى محفل سردي يأخذنا مع البطل «وائل» العائد إلى ذاته، إلى حياة أخرى حافزة على معرفة الذات والعالم بإيعاز من «علي» والمعلم «بسام» اللذين أحدثا زلزالًا جذريًّا في قناعاته واختياراته ومواقفه حول مجموعة من القضايا «المرأة، الفن التشكيلي، الحب، الجنس، الحركات النسوية…». لا تسلمنا رواية «الباحث» إلى متاهات شخصية «وائل» أو خروجه من هذه المتاهات من جانب «علي»، بل تلف نظرنا جراح الأنوثة التي تتمثل في العنف الجسدي والرمزي من جانب سطوة الذكورة والأبيسية الخشنة، نقرأ: «سمع صوت صفعة مدوية، أحدهم تلقى صفعة قوية، ثم ارتفع صوت غاضب: تبًّا لك ولوالدك، فلولاي، لكنتِ متِّ جوعًا في الحظيرة التي كنتِ تعيشين فيها مع والدِكِ». ونقرأ: «السافل كان يعاملها كجارية لديه وليس كزوجة، لقد ضربها بعد جدال حصل بينهما، ولم تتحمل أختي الضرب وانهارت أمامه». بهذا البوح الممتع والجارح في الآن نفسه، استطاع عدنان محمد أن ينقل إلينا بجرأة الفعل الرجولي المفرط في ذكورته وتعنيفه وتجريحه للأنوثة، ولعل الهدف من هذه المكاشفات في نهاية المطاف، هو الحلم برابطة من شأنها أنسنة العلاقة بين الرجل والمرأة. «سيشهد التاريخ مهزلة أني عشت بمجتمع تطالب فيه المرأة أن تعيش فيه كـ«إنسان». تقوم لغة رواية «الباحث» على تعدد اللغات اللامتجانسة التي تصبح متجانسة ومنسجمة بفضل حرفية الكاتب وتمكنه من أدواته وأساليبه، ويمكن أن ندخل هذه اللغات في إطار ما أسماه «باختين» بالتنضيد ويقصد به التنضيد المهني للغة «لغة المعلم والبقال والفقيه والمدير، إلخ. 

ومن أمثلة هذه اللغة المنضدة: لغة المفكر، وهي لغة تتردد كثيرًا سواء في تعليقات «علي»: «لا مكان للتردد في حياتنا، إن التردد مطية للهواجس». لغة الناقد التشكيلي تتضمن الرواية العديد من التعليقات التي تتعلق بالتشكيل: «لو أنك نظرت إلى لوحاتك الفنية لوجدتها تنطق بأجمل وأبلغ وأروع الأبيات الشعرية والصور البلاغية». لغة المعلم، ونجد مثالها الواضح في لغة «باسل»: «كان صوت المعلم باسل ينبعث عاليًا من مكبر الصوت:

– اسمحوا لي أن أعود لعنوان محاضرتنا الليلة، وأدعوكم لنقف عند المفردة الأولى منه «إطلالة». لغة الأخصائي، التي يمثلها الطبيب النفسي «حازم»، الذي تدخل لترميم عوج العلاقة بين فراس وزوجته «سمية»: «لقد تعمدت المجيء إليكما بنفسي بعد أربع جلسات في مكتبي، لرغبتي أن أرى بعيني أثر عملكما على عشكما الزوجي وواقعكما المعيش». لغة المدير، ويمثلها مدير الشركة «أدهم» التي يشتغل بها والد «وائل»: لقد اتصلت بالمحامي وأخبرته بكل ما جرى، وطمأنني بأنه سيفضح شركة الريادة وأنه يجبرها على تعويض تدفعه للشركة إزاء فعلتها هاته. وبهذا تكون «الباحث» محفلًا للتنضيد وفسيفساء من اللغات التي تعزى إلى الخلفية الثقافية الخصبة للكاتب ومرجعياته المختلفة والعديدة، كالسينما والتشكيل والآداب… كما أن من شأن هذه الفسيفساء أن تفتح شهية القارئ وتصيده للتفاعل مع النص، وأخيرًا، المساهمة في حياة النص وحداثته. وجملة القول، تتوفر هذه الرواية الباكرة لعدنان محمد على متعة فنية وموضوعاتية، تنطوي على قضايا جريئة نجعلها نصًّا روائيًّا حداثيًّا وحافلًا بخلفية معرفية ثرية ومتنوعة، إنها رحلة في الذات للبحث عن الذات، تساوقًا مع إماطة اللثام عن جراحات الأنوثة.