الهوية من رافع إلى عائق

الهوية من رافع إلى عائق

ليس منذ صدور كتاب أمين معلوف «الهويات القاتلة» انتبه المعلقون إلى أهمية الهوية وفهم الجماعات المختلفة لها، ولكن أيضًا منذ بدء الصراعات في منطقتنا العربية وسيلان أنهار الدماء التي تدفقت على جانب ذلك الصراع، كما سال الحبر تمحيصًا وقراءة لتلك الظاهرة. في ثقافتنا العربية، شكلت (أزمة الهوية)، في نصف القرن الأخير على الأقل، مرتكزًا لإطلاق جماعات سياسية مختلفة رؤيتها، وأفعالها للدفاع عما تعتقد أنه جرح للهوية أو تصوراتها للهوية.

ومن أجل البعد من التعميم، بدأت (حيرة الهوية)، في المفاهيم التي انطلقت في فضائنا العربي، عشية الحرب العالمية الأولى، فقد تأثر العرب أوائل القرن العشرين بأفكار القومية التي انتعشت في أوربا وتطورت في القرن التاسع عشر، وأيضًا بسبب تراجع فاعلية الدولة العثمانية وتأخرها في الإصلاح مما قاد إلى وهنها، فنادى مناديهم بفكرة القومية العربية، التي لها ما يماثلها لدى الإصلاحيين الأتراك (القومية الطورانية) وهي مرحلة من مراحل تطور الوعي السياسي، ما لبثت قوى الاستعمار أن قدمت مفهومًا مختلفًا (وفي رأيي واقعيًّا) تجاه تشكيل الدولة العربية الحديثة، فهي ليست عابرة للجغرافيا وخطوط الثقافات الفرعية، بل مكونًا أساسًا يمزج الجغرافيا بالثقافة بالمصالح، فولدت الدولة (الوطنية) العربية، بحدود واضحة لبعضٍ، والأخرى مشتركة وعابرة.

مصر تقف كمثال للحدود المعروفة؛ فهي من مصبّ النيل القادم من السودان إلى البحر الأبيض على ضفاف الإسكندرية، إلا أن بلدًا مثل العراق، متداخل في الشرق والشمال، أخذ وقتًا للظهور كوحدة سياسية وجغرافية، أما الشام الكبرى فلم تتحقق بل قطع الاستعمار سوريا، التي نعرف اليوم، إلى مناطق إثنية/عرقية ثم التأم شكل سوريا الحديثة بعيدًا من فلسطين ولبنان!

إذًا، وصلنا إلى النصف الثاني من القرن العشرين ونحن أمام دعوتين ترغبان في (لمّ الشمل) من وجهة نظرهما، تقويان وتضعفان حسب الظروف السياسية وربما التدخل الخارجي، حتى يومنا فإن المثقف العربي يحتار في اختيار أي المفاهيم يستخدم: الأمة العربية، أو الوطن العربي، أو البلاد العربية! وهذا يدل على تشوش المفاهيم وعدم الاتفاق على أي منها يجوز أن يستخدم، وأي منها قد تجاوزته الأحداث!

الأولى دعوة (القومية العربية) والثانية (دعوة الإسلام الحركي)، الأولى ترى أن هناك أمة اسمها الأمة العربية ولها مصالح مشتركة وعليها التوحد أمام العالم، والأخرى ترى أن هناك أمة إسلامية عابرة، حتى للبلدان العربية، وعليها التوحد أمام العالم، بل فرض سيادتها وإرادتها عليه. ومن تلك الحركتين تفرعت عددًا من الجماعات بعضها متشدد وبعضها أكثر مرونة من الأخرى، إلا أنهما حملا مشروعين تجاوزا الواقع بتصور إمكانية حدوث المستحيل بناءً على هوية مفترضة.

صُدمت التجربة القومية في أكثر من مكان، فقد كانت الوَحْدة المصرية السورية مثالًا على ما يمكن أن يحدث من (انتصار للفكر القومي) (فبراير) 1958م. لكن ذلك الانتصار كان قصيرًا زمنيًّا ووقع الانفصال في (28 سبتمبر 1961م). تغلبت الواقعية على المثال النظري، وأظهرت الاختلاف بين الهوامش الثقافية والمصالح المختلفة، وأكدت ذلك التوجه، من جهة أخرى، تجربة (حزب البعث الاشتراكي) الذي حكم كلًّا من العراق وسوريا، وعلى الرغم من الشعار الواحد والمنبع الفكري، فكان بين الشطرين عداء مستحكم أراد المسيطرون أن يظهروه وكأنه اختلاف في الاجتهاد، ولكنه في الحقيقة إكراهات (الدولة الوطنية) الواقعية وغير المعترف بها علنًا حتى وقت متأخر في الفضاء السياسي العربي.

ثنائية الدولة الوطنية والدولة القومية

استمرت ثنائية الدولة الوطنية والدولة القومية تساير مجمل الصراعات العربية البينية، سواء العابرة للقومية (الإسلام الحركي) أو الدامجة للدولة الوطنية والقومية (القومية العربية) وقد أفرزت تلك الثنائية مجموعة من الصراعات التي ما زالت آثارها بيننا، ومنها تطلعات أسامة بن لادن ورهطه، فيما عُرف (بالقاعدة)، لعودة الخلافة. وهي فكرة كانت قد انطلقت من تفكير قادة (حركة الإخوان المسلمين)، التي أسسها حسن البنا في أواخر عشرينيات القرن العشرين، وكان أساسها رد فعل غير واقعي، أو تاريخي، لسقوط الخلافة العثمانية التي انتهي دورها التاريخي.

لقد أفرزت تلك الحركات قدرًا من العنف استمر في عدد من الحركات المستجدة؛ منها (داعش) في العراق وسوريا، التي اعتمد فكرها (إن جاز تسميته فكرًا) على مقولات تراثية منقطعة عن أصولها. وقد قامت تلك الحركات والتجمعات، بما فيها حركة الاخوان، بأعمال عنيفة في مجتمعات عربية عديدة وبأشكال مختلفة أهدرت السلام الأهلي، وعرضت الدولة الوطنية للمخاطر، بل إن بعضها وصل إلى الحكم، واعتقد معتقدةً أنها (مفوضة) لفرض ما تعتقده على الآخرين، فاحتضن نظام عمر البشير في السودان أشخاصًا مثل (كارلوس) و(أسامة بن لادن)، وساعد في أعمال عنف متعددة في بحر عدن وفي بعض العواصم الإفريقية وتبنّت بعض الدول، لأسباب سياسية، تلك التصورات بأشكال مخففة أو مغلظة في سبيل دفع مصالحها الوطنية، وهو عمل يمكن أن يرتقي إلى ما يسمى (الانتهازية السياسية).

من رافع إلى عائق

مثل أي مفهوم سياسي اجتماعي، يمكن أن يكون الشعور بالهوية رافعًا للدولة والمجتمع الحديث، إن كان ذلك الشعور حميدًا ومتوازنًا، ويمكن أن يكون معوّقًا -كبيرًا أو صغيرًا- لاستمرار بل لبقاء الدولة، إن كان ذلك الشعور غير حميد ومسيس. يمدنا التاريخ بعدد كبير من التجارب والأمثلة على الحالتين؛ المثال الأبرز هي (القومية النازية) في ألمانيا، التي اعتقدت أنها خلاص البشرية وعليها أن تسود وتتخلص من بقية القوميات والأعراق الأخرى لأنها هي العرق الأفضل، وبسبب ذلك الشعور المبالغ فيه نشبت حرب كونية قتلت الملايين من البشر، وصفَّت جماعات الغجر واليهود في مذابح وحشية، وفرضت على أعراق أخرى التعقيم الإجباري. وتكرر الأمر في أكثر من مكان في المعمورة بالطريقة نفسها تقريبًا، فضخمت بعض الأحزاب والسياسيين نعرة اللون والعرق واللغة، وأثارت العامة ضد (الآخر المختلف)؛ مثلًا البيض ضد السود في الولايات المتحدة الأميركية، الأجانب ضد المواطنين في بعض بلاد أوربا، أو حتى التعصب القبلي، كما في مذابح التوسي والهوتو في رواندا، والتعصب الديني؛ كالمسلمين والهندوس في الهند، والمسلمين في البوسنة- مذابح سربرنيتسا (يوليو 1995م).

أما في بلادنا فقد أرادت بعض القوى السياسية، من منطلق قومي أو ديني، أن تفرض رؤيتها على التوحد المذهبي أو القومي. لقد دخل العراق الحديث في صراع مع مكونه الكردي لمدة طويلة من الزمن واشتد الصراع السياسي والعسكري، وتدخلت دول على خط ذلك الصراع منها الدولة الإيرانية، وتصاعد الصراع حتى وصل إلى ذروته في أحداث (مذبحة حلبجة)(١)، وقد انتهي ذلك الطريق بأن أصبحت كردستان العراقية منطقة تتمتع بحكم ذاتي، بل حاول سكانها أن يشكلوا دولة.

وإن بقينا في العراق فإننا نرى التعصب الهوياتي المذهبي يعصف الآن باستقرار العراق. أما في السودان فإن نظام السيد عمر البشير لم يعترف بالتعدد الهوياتي في السودان وهو حقيقة، فأهل الجنوب ليسوا مسلمين، وبعضهم لا يعتنق أي دين، ومع ذلك فرض عليهم ما يعرف بقوانين سبتمبر(٢) 1983م التي سنها جعفر النميري، فتطور الصراع حتى فقد السودان نصفه الجنوبي وكثيرًا من موارده الاقتصادية. وما يحدث في اليمن هو أيضًا محاولة هوية فرعية فرض سيطرتها على بقية الهويات بتحالف مع دولة خارجية.

العوار المعرفي

بقراءة تاريخ الصراعات الإنسانية نجد أن تنشيط شوكة الهوية بشكل سلبي عملية يلجأ إليها الساسة من خلال مشروع تعليمي وثقافي واسع، ولم تعد الطرق غير معروفة، بل أصبحت تدرس في كتب وتبين الوسائل لذلك التنشيط، عبر التعليم والإعلام؛ من خلال ترسيخ فكرة أنكم أحسن وأفضل الناس ولا بد أن تقودوا البشرية، والنفخ المَرَضيّ في (الأنا) ومصادرة الرأي الآخر. وهكذا يخرج الشاب إلى المجتمع وهو متيقن أن لديه رسالة تفرق بوضوح بين الأنا والآخر.

الناس متساوون، أي أن تكوينهم الإنساني متطابق، على الأقل بنسبة 98%، كغيرهم من البشر، وأن الاختلاف في الثقافة فقط. فلو تركنا طفلًا إرتيريًّا يتربى في مدينة أميركية مع عائلة، فإنه في الغالب سوف يتطبع كليًّا بالثقافة التي عاش وترعرع فيها. ومن هنا أهمية دارسة الثقافات واختلافها وبالتالي تعليم الأجيال أن الناس مختلفون ثقافيًّا؛ فكل مجموعة لها دينها وقيمها وعاداتها، وعلينا أن نقبل الآخرين كما هم لا كما نريد نحن.

اختلاف الثقافات، حتى في المجتمع الواحد، ظاهرة علمية معترف بها، مثلًا لهجة الصعيدي المصري تختلف عن لهجة الإسكندراني… وهما أبناء ثقافة مشتركة واحدة، كما تختلف لهجة ابن الجبل اللبناني عن ابن الساحل… وهما في دولة واحدة… لذلك ظهر مفهوم (الثقافة الجانبية) أي أن المجتمع الواحد قد يكون فيه ثقافات جانبية مختلفة وذلك ظاهر في أي مجتمع إنساني اليوم. هناك مشتركات بالطبع خاضعة للتجربة والتعليم والاختلاط والتفاعل، كما أن هناك قوانين في المجتمع تضبط سلوك الأفراد. والإشكالية التي نحن أمامها التي تكاد تمزق بعض مجتمعاتنا هي (الاستغلال السياسي) لتلك الفروقات وتضخيمها، أو الجهل الذي يقود إلى النفور من الآخر، وهو جهل قادم من التنشئة الاجتماعية.

الدولة العربية الحديثة هي صنيعة ظروف اقتصادية واجتماعية وثقافية، إلا أن بعض القوى السياسية أرادت، لأسباب مختلفة، أن تتجاوز الدولة في صورتين: فوق الدولة، ماثلة في (القومية العربية) و(الإسلام الحركي– الدولة الإسلامية)، وما دون الدولة، وهي ماثلة في المكونات المذهبية والعرقية والمناطقية، وهو ما سبّب كثيرًا من الصراعات، ودخل على خط تلك الصراعات قوى إقليمية ترغب في مد نفوذها والسيطرة على تلك الدول؛ إيران مثالًا وأيضًا تركيا، اللتان وجدتا في مواطني بعض الدول من يسهل أو يبرر الالتحاق بمشروعهما التوسعي. ومن هنا تأتي أهمية التوعية، في التعليم والإعلام، بالروح الوطنية وتطوير إصلاحات اقتصادية وسياسية وتعليمية وثقافية؛ من أجل الوصول بالدولة العربية إلى أن تكون دولة وطنية عادلة لجميع مواطنيها، وتجرِّم في الوقت نفسه أي قوى أو أصوات تبرر الالتحاق بالمشروعات غير الوطنية.


هوامش:

(١) في آخر أيام الحرب العراقية الإيرانية (16-17 مارس) قدر أنه قتل من سكان تلك البلدة الكردية بين 3000 إلى 5000، وأصيب كثيرون أغلبهم من المدنيين، كما توفي في السنوات اللاحقة آلاف من المواطنين نتيجة المضاعفات الصحية اللاحقة.

(٢) قوانين سبتمبر 1983م أصدرها الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري بإعلان الشريعة الإسلامية، ونصّب نفسه إمامًا للمسلمين. وقد ساعد في صياغتها مجموعة من الإخوان المسلمين على رأسهم حسن الترابي، وكان ذلك هروبًا من استحقاقات وطنية وتنموية، وقادت تلك الأحداث إلى صدامات لاحقة ودموية وانتهت بانفصال السودان.

الثقافة في الكويت عوامل الازدهار والتراجع!

الثقافة في الكويت عوامل الازدهار والتراجع!

في آخر شهر مايو 2021م كتبت على توتير أُبشر المتابعين بأن كتاب «عالم المعرفة»، الذي يصدره شهريًّا المجلس الوطني للثقافة والفنون في الكويت، سيصدر قريبًا (في شهر يوليو 2021م) بعد توقف قسري لمدة أربعة عشر شهرًا بسبب جائحة كورونا. لم أفاجأ بالاستقبال الممتاز للخبر حين أعاد عدد من المتابعين تلك التغريدة حتى وصلت إلى المئات تقريبًا.

كتاب عالم المعرفة هو ربما من أكثر الكتب العربية الشهرية في العقود الماضية طباعة وتوزيعًا، وفي الأغلب تنفد الأعداد، وفي الوقت نفسه يوضع أي إصدار من السلسلة بعد شهرين على الشبكة الدولية من أجل الاستفادة العامة لقارئ العربية. هذه السلسلة هي واحدة من مجموعة مطبوعات أُسست في سبعينيات القرن الماضي ورَعَتْها الكويت ممثلةً في المجلس الوطني للثقافة. في تلك المرحلة (أي في السبعينيات) أُصدر بمبادرة كويتية عدد كبير من الإصدارات، وكان قد سبقها إصدار مجلة العربي الشهرية، وأول عدد صدر منها كان في شهر ديسمبر 1958م(١).

وقتها أيضًا وقع حدثان مهمان، ربما المهتم بالثقافة اليوم قد نسيهما؛ الأول احتضان الكويت مشروعًا سمي وقتها (الخطة الشاملة للثقافة العربية)، وكانت الفكرة نابعة من المنظمة العربية للثقافة والفنون التابعة للجامعة العربية (ألكسو)، ومولتها ونفذتها الكويت، فقد التأم على أرضها عدد وافر من أهل الرأي والثقافة العرب في عدد كبير من اللقاءات ومختلف التخصصات، ونوقشت الموضوعات وكُتبت الخطة لتصدر في منتصف السبعينيات في اثني عشر مجلدًا (ما زالت موجودة في المنظمة وبعض المكتبات العربية).

تلك المجلدات المهمة أُلِّفَت وطُبِعَت برعاية كاملة من الكويت(٢)، وفي الوقت نفسه (منتصف السبعينيات) عقدت ندوة لمفكرين عرب، رعاها المجلس الوطني للثقافة وجمعية الخريجين الكويتية، تحت عنوان: «أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي»، إبريل عام 1974م(٣)، وصدرت أعمال هذه الندوة في مجلد كبير، لخصت وقتها أسباب التخلف العربي، ورجع إليها العديد من الدارسين والنقاد. وجدير بالذكر أن الكويت أسهمت مع عدد من الدول العربية في إنشاء ورعاية مركز مهم تابع لجامعة فرانكفورت يعتني بالتراث الحضاري الإسلامي(٤)، وذلك غيض من فيض مما شهدته الكويت من نهضة ثقافية كبيرة في العقدين السادس والسابع من القرن الماضي.

عوامل النهوض الثقافي وكبواته

كانت أسباب النهوض كثيرة ومتداخلة؛ منها أن الكويت شهدت في ذلك الوقت زخمًا سياسيًّا وثقافيًّا عائدًا إلى قرب خروجها من ظل الحماية البريطانية، وأيضًا إقرار وتفعيل الدستور الديمقراطي عام 1962م، ووجود نخبة من المستنيرين الكويتيين الذين وصلت طلائعهم المتعلمة من العواصم المختلفة التي بُعثوا إليها للدراسة، وافتتاح أول جامعة محلية عام 1966م، وشهدت البلاد تطورًا في الصحافة التي أسهم فيها العديد من الكفاءات العربية. ومن جهة أخرى، أدت الضغوط التي شهدها الفضاء السياسي المصري عند احتدام الخلاف على (التفاوض مع إسرائيل) بعد حرب عام 1973م، إلى مغادرة عدد من المثقفين المصريين بلدهم إلى الكويت، فشكلت نخبتهم الأساس الذي بني عليه مشروع النهضة الثقافية، فأفادوا الحراك الثقافي، وكان جلهم من أهل الاستنارة والتحرر(٥)، إلى جانب مجموعة من الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين ومن بلدان عربية أخرى وجدوا سقفًا مريحًا للتعبير عن آرائهم بحرية نسبية كبيرة في الكويت، وبخاصة في إطار عوامل (الدفع) في بلدانهم، التي كانت تشهد تضييقًا على الحريات، وتحريم الرأي خارج الإطار المسموح به من الدولة.

تلك العوامل سمحت بتكوين تيار (عروبي ومستنير) قاد خلال تلك المرحلة مجالات النهضة الثقافية المتعددة بجانب مساعدة عناصر محلية تفاعلت إيجابيًّا مع هذا الوضع وأسهمت في تعضيده، ورفدت الصحافة الحرة كل ذلك بالتأييد والدعم. مع أنه لم تكن هناك أجندة خاصة بالكويت أو الكويتيين، كانت الأجندة عربية تبحث عن أسباب القصور في الوضع العربي، وتناصر بقوة القضية الفلسطينية. وفي هذا الجو من الحرية بدأت أفعال سياسية تتفاعل في الجوار الجغرافي: احتلال الاتحاد السوفييتي لأفغانستان (ديسمبر 1979م)، ونشوء وتطور حركات في جنوب اليمن وعمان (حركة ظفار)، وكلتاهما متأثرة بشدة بالأفكار الاشتراكية الماوية وقتها.

في المقابل فإن احتلال الاتحاد السوفييتي لأفغانستان وتوجس بعض الأنظمة العربية من التيار اليساري المتنامي؛ زاد من إمكانية تطور وتوسع جماعات منتمية إلى الدين تسمى الجماعة الدينية السياسية، بتنوعها السلفي، وشد عضد تلك الجماعات بالدعم الذي حصلت عليه بشكل مباشر أو غير مباشر من الدول قاطبة في الخليج بما فيها الكويت. وقد تمثلت أجندة تلك الجماعات في جمع التبرعات للمجاهدين في أفغانستان، وتجنيد من يرغب لحمل السلاح أو المساهمة في العمل الخيري، وصاحب ذلك حملة ضد كل ما هو مستنير وتقدمي، وتسللت فكرة الصحوة من خلال أعضاء سابقين في حركة الإخوان المسلمين المصرية الذين لجأوا إلى الكويت من ضمن الجماعات التي وفدت إبان الحملة عليهم في مصر، وكان كثير منهم قد عمل في التدريس ووجد أرضًا خصبة في الجيل الجديد الغض الذي تلقى تعليمه منهم.

وما لبثت تلك الجماعات التي تكونت من كويتيين وغير كويتيين، أن قررت خوض غمار السياسة، وقدمت في وسط الثمانينيات مرشحين لها بجناحيها وفاز بعضهم، وهو الأمر الذي جعل أحد أهدافهم المشتركة تصحير المناخ الثقافي المستنير وقلبه إلى (فكرة الدعاة) و(الداعية) للنوع الذي يعتنقونه من الإسلام السياسي، ومحاربة أي أفكار تحررية. ولأن المجتمع أصلًا هو مجتمع محافظ، وبسبب نمو (الدعوة) في المدارس سرعان ما تحول طلاب وطالبات الجامعة إلى (إطلاق الذقن وتقصير الجلباب، والفتيات إلى ارتداء الحجاب) معتقدين أن ذلك هو الشكل الصحيح للرجل والمرأة المسلمة.

فتعاظمت الخصومة مع الآخر في المجتمع إلى درجة تحريم قراءة الصحف المخالفة، أو تتبع بعض النشطاء من المتشددين لما يعرض في معارض الكتب المتعاقبة وشيطنتها، وأُشيع جو من التخوف لدى السياسيين فخضع بعضهم إلى ذلك التيار وشدد الرقابة حتى غير المعقولة، وسيطر جو من التشدد حتى بين الشباب مما جعل أي رأي مخالف يُتهم بالتكفير ويستحق النبذ، إلى درجة أن أحد الفنانين التشكيليين الكويتيين بعد وفاته مباشرة دخل ابنه إلى ورشته وكان فيها عدد من المنحوتات وأخذ في تحطيمها جميعًا(٦)، بل مُنع بعض المبدعين من الأدباء من تسلم جوائز ثقافية مستحقة(٧)، وتراجع المسرح الكويتي الذي كان مزدهرًا قبل ذلك(٨)، كما تراجعت الأغنية والإنتاج الموسيقي؛ لأن التشدد عَدَّ كل ذلك من النشاطات الثقافية التي لا تتناسب مع ما يعتنقونه من آراء وفقًا لتفسيرهم.

عواصف الثمانينيات

كان عقدًا عاصفًا بمعنى الكلمة، فيه بدأت الحرب العراقية الإيرانية (1980– 1988م)، ولأن الكويت قريبة من مسرح الأحداث، جغرافيًّا وسياسيًّا، فقد ساعدت في المجهود الحربي العراقي والدبلوماسي كذلك، مع أنها لزمت الحياد المعلن، وهذا ترك شقًّا بين أغلبية في الكويت تناصر العراق، وأقلية تناصر إيران، وهي جماعات ضاغطة من الكويتيين وغيرهم، وأصبحت الكويت مسرحًا للصراع الخفي بين قوى غير ظاهرة، وعانت البلادُ أزماتٍ اقتصاديةً واجتماعية وسياسية وبالتالي ثقافية، وفي السنوات الأولى من الثمانينيات ضغطت جماعات الصحوة من أجل فصل كلية الشريعة عن القانون(٩) وأنشئت في عام 1982م كلية الشريعة منفصلة عن القانون وتطورت بعد ذلك لتكون مكانًا للتشدد السني بشكليه (الإخواني والسلفي) والمدارس المختلفة بينهما، وقد تدفق الخريجون من تلك الكلية فزودت الجماعات السياسية بقدرة شبابية وتنظيمية كبيرة.

وطوال العقد زاد الاحتقان السياسي والاجتماعي، وفي 25 مايو 1985م نُفِّذت محاولة اغتيال لأمير الكويت الشيخ المرحوم جابر الأحمد، وكان المنفذون من الشيعة العرب، من لبنان والعراق؛ بسبب ادعاء إيراني أن الكويت من جهة تساعد العراق، وفي الوقت نفسه تضغط على المكون الشيعي الداخلي، مما أسهم في تصاعد الاحتقان في المجتمع وفي الصحافة، وأدى كل ذلك لحل مجلس الأمة الذي انتخب في عام 1985م، وكان ذلك في يونيو 1986م، وهذه المرة كان حل المجلس دون سقف زمني على عكس المرة السابقة الذي كان حلًّا مؤقتًا(١٠).

وهكذا زاد الاحتقان في النصف الثاني من عشرية الثمانينيات، هذا (الذي سمته القوى السياسية) انقلابًا، وقُدمت جائزة للقوى المتشددة، حيث دخل في الحكومة التي تلت حل المجلس ممثل لجمعية الإصلاح الاجتماعي (إخوان مسلمين)؛ مما شدد في مراقبة النشاطات الثقافية التي تعدُّها تلك الجماعات خارجة عن (تعاليم الإسلام) من وجهة نظرها، وبقي ذلك التوتر الاجتماعي حتى نهاية العشرية عندما قام النظام العراقي باحتلال الكويت في 2 أغسطس عام 1990م فكانت كارثة على الكويت وعلى كل ما أنجزته في السابق، وأصبح الكويتيون إما أسرى في وطنهم أو مشردين في عواصم العالم. حتى بعد التحرير بقي (التشدد) يلوح في الأفق، بظهور فكرة تعزز التشدد بحجة أن الاحتلال محصلة طبيعية (لترك الكويتيين لأصول دينهم!) وذلك قريب إلى الوهم، لكنه استخدم كرافعة للنيل من المجتمع ومن النشاط الثقافي خاصة.

وقد أخطأ الإسلام السياسي في التعامل مع الاحتلال، فقام تنظيم الإخوان الدولي -وكان الفرع الكويتي جزءًا منه- بالدعوة إلى وضع (قوات إسلامية) في الكويت إرضاءً لصدام حسين وإنقاذًا له، وهو ما شكل الكثير من المعارضة لهذا التيار في المجتمع الكويتي، إلى درجة أن التنظيم المحلي أعلن انفصاله عن التنظيم الأم، وتشكيل (الحركة الديمقراطية الإسلامية الكويتية) التي عرفت اختصارًا بحدس. وهو انفصال شكلي فقد ثبت بعد ذلك أن الوصل لم ينقطع!

بعد التحرير دخل المجتمع والدولة في دوامة الإعمار والتقاط الأنفاس، فلم يكن الوقت ولا المزاج الشعبي له قابلية للعناية بالثقافة وأدواتها، إلا أن العمل الثقافي التقليدي استمر من خلال المطبوعات المختلفة. ومع أن خروج عدد كبير من العرب من الكويت في أثناء الاحتلال وبعد التحرير -لأسباب اقتصادية أو سياسية أو شخصية- أثر سلبًا في سوية الكوادر وسوية المنتج الثقافي، لكن سرعان ما بدأت المؤسسات الثقافية في ابتكار برامج جديدة، منها «ندوة القرين السنوية» الثقافية التي كانت تضم برنامجًا طويلًا لمدة 21 يومًا في كل عام تتخلله مجموعة نشاطات ثقافية مختلفة يدعى إليها المثقفون العرب من كل الدول العربية، كما قامت مجلة العربي أيضًا بمبادرة وهي «ندوة العربي السنوية»(١١) إلا أن تلك الجهود أخذت وقتًا طويلًا للوصول إلى مرحلة التعافي.

المنافسة ومرحلة التعافي

تزامن ذلك الجو الخانق للثقافة في الكويت مع ظهور مشروعات ثقافية أخرى مؤثرة في الجوار، فقد أصدرت دولة الإمارات العربية المتحدة مشروع ترجمة وتوزيع المجلة الثقافية الأشهر في العالم وهي المجلة الجغرافية «National Geographic Magazine» وهي مجلة أميركية بالغة الأهمية، كما صدرت من جديد مجلة «الدوحة» في قطر، وقدمت المملكة العربية السعودية مجموعة من المشروعات الثقافية المميزة زادت في المدة الأخيرة غنى وكثافة، وفي البحرين وعمان ظهرت مشروعات ثقافية بارزة، كل ذلك بجانب تطور التقنية التي قامت وتقوم بدور متعاظم سواء في النشر أو نقل الأفكار بسهولة ويسر، حتى أصبحنا في زمن لا تنفع فيه (الأسوار العالية) من الرقابة المختلفة الوسائل.

يمكن القول، بعد ثلاثة عقود من الاحتلال: إن العمل الثقافي في الكويت بدأ يتعافى جزئيًّا، لكنه ما زال يعاني ثِقلَ تأثير (قوى الإسلام السياسي)، التي زاد تمثليها في الندوة المنتخبة (مجلس الأمة)، وفي تأخر أولوية العمل الثقافي في أجندة الدولة بشكل عام، كما أن التطور التقني الضخم الذي تم في العقدين الماضيين قد فتح أبوابًا للاتصال والنشر والتواصل لم تكن موجودة في السابق، وقد تم في السنوات القليلة الماضية إقامة منشآت ومراكز ثقافية عديدة؛ منها «مركز جابر الثقافي»، وهو مركز ضخم متعدد الصالات والمسارح تقام فيه فعاليات كثيرة، وكذلك مركز «عبدالله السالم» الذي بنى متحفًا وصالات متعددة الأغراض وضخمة المساحة، كما أنشئت المكتبة المركزية (كان مخططًا لها قبل الغزو واستُكمِلت بعده) وفيها العديد من الصالات والمسارح إلى جانب كونها بيتًا للكتب ضمت عددًا من الكتب النادرة ومكتبات عدد من الكويتيين من الجيل الأول وتحوي عددًا ضخمًا، وفي القطاع الخاص بُنيت مكتبة البابطين للشعر العربي، وأيضًا مؤسسة البابطين الثقافية، وكذلك مؤسسة سعاد الصباح الثقافية للنشر، وربما تحتاج الكويت لعمل وجهد استثنائي للعودة إلى مركز إشعاعها في سبعينيات القرن الماضي، وهناك من أبنائها الراغبون والقادرون على تحقيق ذلك.


هوامش:

(١) يعرف قليلون أن الفريق الأول الذي أصدر العربي كان يتغدى كل جمعة مع الشيخ عبدالله السالم (توفي في 24 نوفمبر 1965م)، واستمر الاهتمام بالعربي في عهد الشيخ جابر الأحمد (توفي في 16 يناير 2006م) بعدها ضعف الاهتمام بالمطبوعة من المستويات العليا في الدولة.

(٢) كان على رأس المشروع الأستاذ المرحوم عبدالعزيز حسين وكان قامة ثقافية ووزيرًا للدولة.

(٣) تم العودة إليها لدراستها بعد أربعين عامًا في ندوة القرين عام 2013م بعنوان: (إعادة زيارة لندوة التطور الحضاري).

(٤) كان المفكر التركي المرحوم فؤاد ساسكين قد قدم الاقتراح وأصبح مديرًا له مدة طويلة، وكانت الكويت عضوًا في مجلس أُمنائه ومثَّلها في وقت ما كاتب الدراسة.

(٥) من بينهم: فؤاد زكريا، وعبدالرحمن بدوي، وعلي الراعي، ومحمد أبو زهرة وآخرون كُثُر.

(٦) وقعت تلك الحادثة وأنا كنت أمين عام المجلس الوطني حين جاءت الأم شاكية!

(٧) كما حصل للروائية الكويتية ليلى العثمان، حين فازت بجائزة عن إحدى رواياتها وضغطت تلك القوى لكي تسحب منها بحجة أن (الرواية ممنوعة في الكويت)!

(٨) استدعت الكويت في ستينيات القرن الماضي المرحوم زكي طليمات وهو المسرحي المصري المعروف لإنشاء معهد المسرح.

(٩) كانت من أهم الكليات التكاملية المتميزة.

(١٠) حل مجلس الأمة مرات عدة: الأولى كانت في عام 1979م، والثانية في 1986م، ثم بعد ذلك حُل لخمس مرات من جانب المحكمة الدستورية.

(١١) كانت الندوة موجودة لكن لم تكن سنوية.

أصحاب البعد الواحد.. هم فقط من يعرف الحقيقة الكاملة، وغيرهم على ضلال

أصحاب البعد الواحد.. هم فقط من يعرف الحقيقة الكاملة، وغيرهم على ضلال

البيان الذي أصدرته هيئة كبار العلماء في السعودية يؤكد أن جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية لا تمثل منهج الإسلام، إنما تتبع أهدافها الحزبية المخالفة للدين الحنيف، وأنها تتستر بالدين وتمارس ما يخالفه من الفرقة وإثارة الفتنة، هذا البيان قوبل بردود أفعال إيجابية واسعة، وتصدر لائحة أهم الموضوعات التي اهتمت بها وسائل إعلامية بارزة في العالم.

تفاعلًا مع هذا البيان؛ «الفيصل» تنشر مقالين للمفكر والأكاديمي الكويتي محمد الرميحي، والباحثة والأكاديمية التونسية زهية جويرو، يفضحان آلية عمل هذه الجماعة الإرهابية، ويكشفان مراميها الخارجة على مفهوم الدولة.

إلى وقت متأخر كان المتخصصون يفرقون بين العلوم (الصعبة) والعلوم (اللينة) على أن الأولى هي العلوم البحتة والتطبيقية، والأخيرة هي مجمل العلوم الاجتماعية، ولكن هذا التقسيم الذي استمر طويلًا تغير جذريًّا في العقود الأخيرة، فأصبحت العلوم (اللينة) هي البحتة والتطبيقية؛ لأنه يمكن حصر مدخلاتها ومخرجاتها وفي الغالب في بيئة المختبرات، أما العلوم الصعبة فهي العلوم (الاجتماعية) بتفرعاتها؛ لأن مدخلاتها ومخرجاتها متعددة، يصعب في كثير من الأحيان حصرها، فهي تتعامل مع المجتمع وهو بطبعه متغير؛ لذلك فإن (اليقينية) المطلقة في هذه العلوم هي نسبية، ومن يعتقد غير ذلك فهو بالتأكيد ضار لنفسه ولمجتمعه، حيث يبني على تلك اليقينية مجموعة من السلوكيات قد تؤدي إلى خراب بيّن.

في الأشهر الأخيرة من عام 2020م انتشرت عمليات قتل وتخريب في أوربا من أناس يحسبون أنفسهم على الإسلام، وباسمه قاموا بما قاموا به، كما نشطت جماعات في الآن نفسه، مختلفة تدعي التعلق بالإسلام وحملت السلاح ضد مجتمعاتها وأسالت دماء كثيرة وغزيرة، وفي الغالب هذه الجماعات نتاج ما هو موجود منذ سنوات ليست قليلة في فضائنا العربي والإسلامي، في الفكر ثم في التنظيم، مما يسمون أنفسهم إما بالقاعدة أو داعش أو أسماء أخرى ومجموعات تدعي أنها تمثل الإسلام.

لأي عاقل هذا الادعاء ليس صحيحًا، ففهمهم للإسلام مصاب بعوار بيّن، وهو أنهم نشؤوا في ظل (البعد الواحد) الذي أوصلهم إلى الاعتقاد اليقيني أنهم فقط من يعرف الحقيقة الكاملة، وغيرهم على ضلال. لم يقل أحد من مجتهدي الإسلام الكبار في أي فرع من الاجتهاد: إن (ما يقوله هو الصحيح والباقي على خطأ) تلك واحدة من أهم ركائز فهم الحضارة الإسلامية، فلم يقل مثلًا الإمام مالك: إن تفسيره للنصوص هو (الإسلام ولا غيره) بل رفض أن يُعمم اجتهاده على الجمهور المسلم كما يعرف أي متخصص؛ لذلك أصبح لدينا مدارس في الفقه (المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي والجعفري) بجانب مدارس فقهية أخرى، اختلف بعض هذه المدارس عن بعضها في بعض التفاصيل ولكن لم يحتكر أي حد منهم «الحقيقة» المطلقة، كما لم يدّعِ أي منهم أن ما يقوله هو «الإسلام» وأن غيره «مهرطق» يجب حربه. دارسو تطور الديانات، مع احترامها جميعًا، يلحظون أنه بسبب التطور التاريخي قالت اليهودية: إن معتنقيها هم «شعب الله المختار»، وقالت النصرانية: إن معتنقها هو «شعب الله»، أما الإسلام فقد قال صاحب الرسالة: «أنا بشر مثلكم»، كما قال المسلمون سواسية، فلم يتوقف أمام عرق أو لغة أو جنس أو لون إنما «للعالمين» أي كل البشرية.

في ظل ضياع للبوصلة الاجتماعية والسياسية إبّان القرون الأخيرة للحكم العثماني وبعد (سقوط العثمانيين)، الدولة التي ادعت أنها تمثل (المسلمين) في بداية القرن العشرين، خرجت علينا مدرسة أصبحت مظلة لما بعدها من تفريعات، وهي حركة «الإخوان المسلمين» التي فرخت كل تشعبات «الإسلام الحركي»، وهي حركة سياسية، كانت منذ بدايتها تتوسل «المقولات الإسلامية» للوصول إلى السلطة، فتحالفت في تاريخها الأول (في مصر) بلاد المنشأ عام 1927م مع عدد من القوى السياسية المتناقضة على مر الممارسة الليبرالية المصرية وأحزابها (1921-1952م)، ثم مع حركة الضباط عام 1952م التي شكلت رأس رمح الانقلاب وتعاونت معها، من أجل ذلك الهدف السياسي وهو الوصول إلى السلطة، كما استخدمت «العنف» في بعض المنعطفات قبل وبعد حركة 1952م، ثم ما لبثت أن اصطدمت بحركة الضباط ودخل بعض نشطائها السجون وآخرون انتشروا في الأرض.

يمكن أن نصف هذه الحركة الواسعة (بالإسلام الحركي) كما تقدم، أي تجميع بعض المسلمين وعزلهم عن مجتمعهم وعصرهم وشحن عقولهم بأفكار ضد مسلمين آخرين في وطنهم أو خارجه، وتغطية كل ذلك بمقولات إسلامية وتراثية منقطعة من سياقها. لم تفطن هذه الحركة بتجلياتها المختلفة إلى أنها تحمل (تناقضًا سياسيًّا) فاضحًا، فهي من جهة (تعمل) من خلال آليات (دون الدولة) أي عزل فئة صغيرة من المجتمع ووضعها ضد آخرين في المجتمع نفسه، و(تدعو) إلى (ما فوق الدولة)، فإخوان مصر لا يعترفون بالدولة المصرية مثلًا، كما أن حزب الله اللبناني لا يعترف بالدولة اللبنانية وولاؤه للفقيه!

كل حركات الإسلام السياسي تبنت هذه الإستراتيجية وهي ليست بعيده تنظيميًّا من «الحركات الفاشية» التي ظهرت تقريبًا في الوقت نفسه في أوربا.

عوامل النشأة

عاملان كبيران من بين عوامل أخرى جعلت من تلك الحركة مكان استقطاب لدى شريحة من الجمهور العربي خارج الجمهور العربي، هما أولًا فشل الدولة العربية الناشئة والخارجة من الاستعمار أن تشكل دولة مدنية وطنية حديثة واضحة الأهداف وعادلة، والعامل الثاني هو «الاستيطان اليهودي الذي خلق دولة إسرائيل»، والفشل في مواجهة ذلك المتغير في الساحة العربية سياسيًّا أو حتى عسكريًّا. هذان العاملان ودخول المنطقة العربية في استقطاب حاد بين عدد من الاجتهادات السياسية، وخاصة في الانقسام على مستوى العالم إبان الحرب الباردة بين قطب «اشتراكي» وآخر «رأسمالي»، أفضي كل ذلك إلى فراغ تمددت فيه «مدرسة البعد الواحد»، وما تفرع منها من حركات، وحمل بذور نشأتها «التفكير الاستقطابي» المنقطع كليًّا عن العصر في تفسيره للظواهر الاجتماعية/ السياسية.

فتفسيرها لا تفسير خارجه، ولا حقيقة قبله ولا بعده، وانتقل الأمر إلى إنشاء «إسلام حركي/ سياسي» من الفضاء العربي إلى الفضاء الإسلامي في الجوار (إيران وأفغانستان والمجتمعات الإسلامية المجاورة غير العربية)، وحملت هذه المجتمعات أو بعض نخبها بذور الحيرة والشك بسبب المراوحة في إقامة الدولة الوطنية المدنية العادلة. الفكر الذي قدم لهذه الجماعات هو فكر مفرغ من محتواه، فكر انتقائي مسيس حتى إنه بعيد من فلسفة الإسلام الحضارية وفي أغلبه (ماضوي) يريد تطبيق خبرة تاريخية سابقة على الواقع المختلف كليًّا، وهو إنكار في حد ذاته على أن المجتمعات متغيرة، وهذا مخالف للعقل، فأي منا يغادر مجتمعه لعقدين من الزمان مثلًا ويعود إليه من جديد يكاد لا يعرفه؛ لأن المجتمع وظروفه متغيرة.

العلة والمعلول

لقد تأسست مدرسة البعد الواحد على تجاهل أحد أهم أعمدة التفكير المنهجي الإسلامي، القائلة: إن «العلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا»، أو «الحكم يدور مع علة وجوده»، إذا بَطَلَ السبب فإن الحكم أيضًا يَبطُل، أي أن العلوم الاجتماعية متغيرة وكذلك المجتمعات والأحكام تتغير بتغيرها. ومنذ نشأة الدولة الإسلامية الأولى تغيرت المجتمعات إلى درجة أنها لا تشبه اليوم بأي نسبة مما مضى. المفاهيم اختلفت والظروف تغيرت، وأشكال الدول وتنظيمها اليوم لم يكن موجودًا في السابق. فقواعد القياس التي فرضتها مدرسة البعد الواحد سجنت كثيرين في سجن فكري انتهى إلى سلوك غير سويّ، ثم إلى جرائم قتل واستباحة وتلطيخ سمعة دين عظيم لم تفهم هذه الجماعات حتى قشوره.

المؤسف أن المساعدة في التضليل جاءت أيضًا من دول غربية أرادت الاستفادة السياسية من فهمها (جهلًا) بالدين الإسلامي؛ لتوظيف بعض معتنقيه في مشروعها السياسي ضد خصومها المحليين أو الدوليين. وهكذا امتدّ هذا التوظيف تحت شعارات فضفاضة منها «حقوق الإنسان» ومنها «الاستقلال الوطني» كي تخلق «فزاعة» لأعدائها، كما تركت بعض القوى الغربية الحبل على الغارب لبعض القيادات المتشددة لهذه الجماعات، العيش والازدهار في فضائها «الليبرالي» على الرغم من موقفها السلبي تجاه المشروع السياسي الغربي برمّته.

لقد أصبح المسلمون وأعني بهم الأغلبية ضحايا مباشرين أو غير مباشرين لهذا الزخم الهائل من التضليل الفكري، حتى وصلنا إلى أحكام عامة غير عقلانية، كما فعلت مثلًا إدارة السيد ترمب من منع مواطنين دول إسلامية بكامل أفرادها من الدخول إلى الولايات المتحدة! خوفًا مما عرف بشكل غير علمي بـ«الإرهاب الإسلامي»، وتردد هذا المفهوم الخاطئ على ألسنة سياسيين غربيين سعيًا وراء الشعبوية.

لذلك فإن المعركة التي نحن بصددها معظمها فكري، وهي السعي للعودة إلى فهم الإسلام الحضاري على حقيقته وبيان النصوص والأحكام والممارسات التي جعلت منه اليوم (الدين السماوي الثاني) عالميًّا بعد المسيحية بكل فروعها، والتفريق الواضح بين ثبوت العقيدة والعبادات وتغير المعاملات بتغير الأزمان والمجتمعات، وهي معركة ليست سهلة أو بسيطة لأسباب عدة. على رأس تلك الأسباب ثلاثة:

التنشئة الاجتماعية: وهي مجموع الخبرات المختزنة لدى الأسرة العربية المسلمة من ممارسات ويقينيات وأفكار، هي في الأصل قادمة من تعليم وممارسات اجتماعية تحمل على الأقل نقصًا في المناعة المعرفية وخرافات اجتماعية متراكمة.

التعليم: لقد وضع التعليم لمدة طويلة تحت أيدي جماعة «البعد الواحد» جهلًا أو غفلة، فأشبع هؤلاء مناهجنا التعليمية بكثير من «الخرافة» وقليل من العلم، وأصبح الطالب أو الطالبة يعرفون من مجمل دينهم القليل، وتختفي من مناهجهم جواهر الفكر الإسلامي كالدعوة بالحسنى والتسامح وقبول الآخر، وهو ما أفرز تعبئة سلبية جعلت من الناشئة (أدوات مبرمجة) تتبع بسهولة من يُغَرِّر بها… وأصبح السلوك العادي جدًّا في نظرهم إما إسلاميًّا أو غير إسلامي، كمثل تناول شربة الماء التي يفرض بعضهم أنها (لا تجوز وأنت واقف) أو ازدراء النساء!

الإعلام التقليدي: وقد بدأ هذا الإعلام يساير الموجة في إشاعة مسلسلات وأفلام وحلقات نقاش، كلها تقود إلى تعظيم الجهل وازدراء التفكير العلمي وإعلاء التفكير الخرافي غير المبني على منطق عقلي.

الإعلام الجديد: لعل أخطر أدوات إشاعة «البعد الواحد في التفكير» هي وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، فهناك كم من الأفكار المضللة تندفع من هذه الوسائل إلى العامة، بل يطلب من المتلقي في كثير من الأحيان توزيعها على آخرين (للبركة) و(الثواب) وهي في معظمها تصبّ في مجرى التجهيل والتأهيل للتنمُّر على الآخرين وتجميد التفكير في إطار ضيق من المعلومات.

الخلاصة

ما نواجهه إذًا هو شيء من فهم «الإسلام الحركي» لمفاهيم وأحداث وأحكام العصور الوسطى، يريد أن يخضع المجتمعات الحديثة له قسرًا، وقد فشل على أرض الواقع في تجلياته السياسية كما حدث في مصر (لمدة قصيرة) وفي السودان لمدة أطول، وفي لبنان حيث تعطلت الدولة وأفلست… وهو ما يدعونا إلى القول: إن المجتمعات الحديثة تدار بالسوسيولوجيا لا الأيديولوجيا، وذلك عن طريق الاعتراف بالتعددية والاجتهاد السياسي الخاضع للنقاش العقلي، من خلال مؤسسات حديثة مواكبة للعصر.

دور سعودي ثقافي جديد

دور سعودي ثقافي جديد

ما قبل المقدمة: بدعوة من مجلة الفيصل لكتابة بعض الأفكار حول الثقافة ودورها في المجتمع السعودي، أشير إلى أن الاهتمام بموضوع الثقافة قد بدأ يظهر على السطح، وكان موجودًا ومتفاعلا ولكن ليس ذا أولوية، والاهتمام به على المستوى العامّ لم يكن على قمة الأجندة، وقد بدأت الآن تظهر تباشير هذا الاهتمام. منذ البدء فإن الجهود المبذولة في الإنتاج الثقافي الرسمي، والأكثر الأهلي، في السعودية، هو جهد حقيقي وفاعل وجذري، وقد ساهم مع الجهد الثقافي العربي، في تمهيد درب التطور في فضائنا العربي. وأحسب أن العودة إلى موضوعه اليوم، كما تفعل مجلة الفيصل، يعني أن هناك رغبة موضوعية لإعادة زيارة لهذا الملف، من أجل تطويره وتحسين نتاجه، ولفت النظر إلى أهميته في التنمية.

لعل ما يتوافر في المملكة اليوم من رأس مال بشري وإمكانيات مادية والأهم إرادة سياسية، يهيأ لها أن تقود في الجهد الثقافي العربي(1). من الخطأ العلمي أن نقول: إن مجتمعًا ما، أيًّا كانت تركيبته هو (دون جهد ثقافي) ذلك بالمطلق خطأ، فالثقافة بشكل عام والتنويرية على وجه الخصوص، واكبت الدولة السعودية الثالثة (منذ الملك عبدالعزيز) وهي اليوم تواجه بعملية إحياء فيما يمكن أن يسمى (الدولة السعودية الرابعة) عهد الملك سلمان، الذي قرَّر عن وعي وتصميم دخول المملكة في مجال التنمية الشاملة، فقرَّر أولًا نقل (الولاية) إلى الجيل الرابع في الأسرة (الأمير محمد بن سلمان) ومن ثم تدفقت الإصلاحات التي هي اليوم في حالة صيرورة مرحب بها(2).

المقدمة

مفهوم «الثقافة» و«المثقف» الذي يصاحبها هما مفهومان غامضان، وبخاصة لغير المتخصص، ولذلك أكاديميًّا للثقافة عدد من التعريفات التي لو استعرضها الكاتب لزاد الغموض غموضًا، ولكني سوف أتجه إلى تفسير هذين المفهومين، كما تراكم لديَّ من خبرة متواضعة، سواء في الكتابة أو التدريس. حتى أفعل ذلك يجب تخليص المفهومين من (الفهم العام والسطحي) فالأخير يذهب إلى أن الثقافة بالفهم الشعبي هي حصيلة معرفية غاية في العمق، وبالتالي فإن المثقف لا بد أن يكون حاصلًا على معرفة وبجانبها موقف إنساني إيجابي. قد يكون ما سبق جزءًا من التعريف، إلا أن التعريف الأكثر قربًا من الأرض إن صح التعبير، هو أن الثقافة هي المنتج الكلي الاجتماعي لدى مجموعة من البشر (شعب) في وقت زمني يحسب بالعقود وربما في بعض الأوقات بأقل منها. إذًا كل ما حولنا ثقافة، بالمعنى العام للكلمة وكل من يشارك في الشأن العام أو الحياة هو (مثقف) بشكل من الأشكال. عادة أوصِّف (الثفافة) لطلابي من أجل التبسيط بأنها (ذلك الحاجز غير المرئي حولنا) من أجل التفسير الأكثر وضوحًا، فإني أذكِّرهم بحادث يقع لكثيرين منا، وهو أن الشخص في مكان التسوق قد تعجبه بضاعة ما، خلف زجاج مصقول لا يُرَى، فيقترب المتسوق للنظر، فيصدم رأسه بالزجاج المصقول! أو قد يجتاز شخص ما باب حجرة يؤدي إلى شرفة، فيصدم بزجاج مصقول للباب الزجاجي! تلك هي الثقافة، أي أنها ذلك الحاجز غير المرئي الذي (يمنعنا من فعل شيء) أو بالمقابل يدفعنا لفعل شيء، من أجل التكيف مع المجتمع. لذلك تجد على سبيل المثال لا الحصر أن فتاة متدثرة ببرقع في مجتمعها، عندما تسافر إلى مجتمع آخر، فإنها تلبس ملابس مختلفة (كالبنطال والقميص) ما يمنعها من لبس ذلك في مجتمعها (البيئة المحيطة) التي لها أعراف وعادات وتقاليد معينة، فالثقافة إذا هي (شيء متغير) وتدخل في تغيره عناصر عديدة، منها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والبيئي، وتغير حاجات الإنسان. ليس هناك ثقافة (جامدة) وفي العصر الذي نعيش فيه، إن سرعة التغيير أصبحت أكبر من العصور السابقة، بسبب عاملين الأول سرعة وسائل المواصلات، وسرعة وسائل الاتصال الحديثة (التقنية) التي تقدم طرائق وأدوات جديدة تتفوق على ما استقر لدينا من (عادات وتقاليد)!

الثقافة سلطة، ربما غير مرئية وربما غير واضحة، ولكنها سلطة تساعد أو تعوق المجتمع، تردع الأفراد والجماعات، أو تزودهم بطاقة إيجابية، كما أنها كمفهوم قد تطورت من مفهوم غامض يخلط الثقافي بالحضاري، إلى أن أبرزها إدوارد تيلور في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، أعطى لفظةَ (الثقافة) معنًى أنثروبولوجيًّا سيطر عليها وحمَّلَها دلالاته، فهي عنده «ذلك الكل الذي يشمل العقائد والقانون والعُرف والفن والأخلاق، وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان»(3) وتطورت الفكرة لدى البعض، وبخاصة لدى المفكرين الألمان لجعل المفهوم يتعلق فقط بالعلوم الإنسانية، أما المدرسة الإنغلوسكسونية، فقد نظروا إلى المفهوم من زاوية تطبيقاته العملية، أي القيمة العملية للثقافة، وهي «محاولة للوصول إلى الكمال الشامل عن طريق العلم». أما الفكر العربي الحديث فقد انتقلت إليه مفاهيم الحضارة والثقافة والمدنية عن طريق الترجمة في بداية عصر النهضة العربية، أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وكانت الترجمات متداخلة، استخدمها بعض الكتاب والمفكرين استخدامًا ملتبسًا، فقد ترجمت حضارة وترجمت ثقافة في المصطلحين الأولين، بتداخل شديد، هذا الالتباس ناشئ دلالة عن عدم وجود مرادف دقيق لما يعنيه المصطلح في اللغة الغربية، ولأنه نابع من بيئة أخرى، حملت منه عدم الوضوح، وفي مرحلة لاحقة أصبح الثقافة والمثقف يدلان على وجوب تلاقح جذور معرفية ومبادئ إنسانية عامة(4).

الدعوة إلى إعادة الاعتبار لأهمية الثقافة في عملية النهضة، والدعوة إلى إدراك أهمية العامل الثقافي في بناء الأوطان تطرق إليه العديد من الكُتاب العرب(5)، لقد نشأ التجاهل المثير للمسألة الثقافية نتيجة تغلب الوعي السياسي والاقتصادي، واستبداده بالفكر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين تحت وطأة الخطاب الأيديولوجي الثقيل، ومعه تراجع الدور المعرفي والتنويري إلى آخر سُلَّم الأولويات.

الثقافة في المملكة العربية السعودية اليوم

أي المنتج الكلي للجهد الإنساني (الفكري والإبداعي) مشاهد ومعترف به في المملكة، وفي دراسة للكاتب حول «دور مجتمع المعرفة في دول الخليج» نجد أن المنتج الكلي للبحوث المنشورة في دول مجلس التعاون تساوي العدد المنتج في كل من تركيا وأيضًا إيران (مع اختلاف كبير في عدد السكان) وتحوز المملكة العربية السعودية على 65% من ذلك المجموع(6)، كما يؤكد الكاتب السعودي سعيد السريحي، أن «ما يحدث في السعودية اليوم ضرب من الانقلاب على أيديولوجيا أسس لها تيار ما يعرف بالصحوة… حد من قدرتها على ردم الفجوة الحضارية…»(7). في تقديري، أن تيار التحديث في المملكة لم ينقطع منذ أن وضع أساس المملكة الحديثة، فقد كانت الجذوة مشتعلة هناك، في بعض الأوقات يقل توهجها، لأسباب سياسية وفي بعض الأوقات يزداد هذا التوهج، واليوم فإن التراكم الكمي الذي تحقق منذ عقود خمسة على الأقل، في التعليم والبحث العلمي والابتعاث ودور المرأة السعودية، يتحول هذا التراكم الكمي إلى كيفي بامتياز، ودليلنا هو الإصلاحات المتعاقبة التي تمت في السنوات الأخيرة، الاقتصادية والاجتماعية والترفيهية (الثقافية) لقد قدمت المملكة في هذه المسيرة كُتَّابًا كبارًا: (غازي القصيبي مثالًا) وشعراء كبارًا (خالد الفيصل مثالًا)، وفنانين في النحت والرسم والمسرح أصبح لهم (ولها) بصمة عربية بل عالمية. إلا أن الاعتراف بذلك من قبل الآخرين سوف يبقى مترددًا ومشوبًا بموقف مسبق من (النمذجة السلبية) لا تقف عند المملكة العربية السعودية، بل أيضًا دول الخليج ( النفطية) يشوب ذلك الموقف خليط من الجهل والتجهيل والشعور الزائف بالتفوق.

ما العمل؟!

عندي، أن الثقاقة هي قاطرة التنمية والاهتمام بها له أولوية قصوى في أي مشروع تنموي، وتزخر المملكة بمعطى ثقافي كبير، فهي لا تستمد ثروتها من باطن الأرض فقط، كبقية الدول الريعية في الخليج، وإنما لها ثروة ضخمة فوق الأرض، وهي وجود الحرمين الشريفين، اللذين يتوجب أن ينظر إلى وجودهما كمخزون ثقافي هائل، كما أنها مهد للإسلام، بالتالي أرضها في الشمال والجنوب، شهدت ازدهارًا حضاريًّا يتوجب العودة إليه ثقافيًّا وبخاصة من خلال الحفريات والبحوث التاريخية، من جهة أخرى فإن الإنتاج الثقافي بأنواعه المختلفة قد ازدهر في العقود القليلة الأخيرة، إلا أن الثقافة بالمعنى العام لها، حتى تزدهر يتوجب القطع بين (العادات والعبادات) وهو الأمر الذي يخلط معه البعض عمدًا أو جهلًا ما يسمى (الإسلاموفوبيا)؛ لذلك يجب أن يبذل الجهد الفكري في تطوير منظومة فقهية حديثة توائم بين متطلبات العصر والمخزون التاريخي العربي الإسلامي، وهو جهد لا بد من التوجه الجاد إليه من خلال تشجيع البحوث والمناقشات بين المتخصصين، من أجل الخروج الكلي من «مساوئ ما عرف بالصحوة» وهي في نظري منذ زمن طويل يجب توصيفها بـ«الغفلة»!

إن حجم الإخفاق الذي مُنِيَ به مشروع النهضة العربية، في كونه إخفاقًا في السياسة إلى إخفاق في الاقتصاد إلى إخفاق في التنمية، كان سببه الرئيس هو (الإخفاق في الاقتراب من نقد الثقافة) ذلك الإخفاق أنجب شيئًا من الوعي لإعادة قراءة المشهد العربي، وتمخض ذلك عن عدة اجتهادات، ظهرت من تيارات دعوية مختلفة، إلا أن الوعي بأهمية المسألة الثقافية في عملية التنمية (البعض يفضل مفهوم النهضة) يبدأ بنقد جنوح المشروع العربي إلى النظر إلى ذاته وإلى ثقافته بشكل جادّ ونقدي، مع تفكيك علمي لها من ناحية المفهوم والممارسة. لذلك فإن الاهتمام بالثقافة يتوجب أن يكون اهتمام دولة، يقترب منه بشكل علمي، وتقوده مؤسسات واعية لدورها، وهو -أي ذلك الدور- يستخدم أدوات عديدة منها المدرسة والكلية والجامع ووسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وترقية مستوى النقاش العقلي في المجتمع، وكذلك استخدام الاتفاق العام والخاص في مشروعات البحث والتطوير، وتشجيع الإبداع والابتكار. ولعل الإستراتيجية الكبرى التي أرى اعتمادها في هذا الخصوص تتكون من مسارين «المصالحة والمواءمة» أولًا المصالحة بين «النص والعصر» و«المواءمة بين العادات والعبادات» وهي عملية تحتاج إلى جهد، وإعمال عقل، وتَبَنٍّ من مؤسسات الدولة وإرادة سياسية، ومن هنا فإن الأمل أن تقود الدولة السعودية الرابعة مشروع النهضة الثقافية بكل مكوناته، وتجعله طريقًا للتنمية والاستقرار، وهي عملية ليست هينة، ولكنها مطلوبة، تبدأ بالاعتراف بأهمية الثقافة كقاطرة أساسية للنهضة!