أبي يجلس في الظلام!

أبي يجلس في الظلام!

لدى‭ ‬والدي‭ ‬عادة‭ ‬غريبة؛‭ ‬إنه‭ ‬مغرم‭ ‬بالجلوس‭ ‬وحيدًا‭ ‬في‭ ‬الظلام‭. ‬أحيانًا‭ ‬أعود‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬متأخر‭ ‬جدًّا‭. ‬البيت‭ ‬مظلم،‭ ‬أدخل‭ ‬بهدوء‭ ‬لأنني‭ ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أزعج‭ ‬والدتي‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬نومها‭ ‬خفيف‭. ‬أمشي‭ ‬على‭ ‬رؤوس‭ ‬أصابعي‭ ‬لأدخل،‭ ‬أخلع‭ ‬ملابسي‭ ‬في‭ ‬الظلام‭. ‬أذهب‭ ‬للمطبخ‭ ‬لشرب‭ ‬الماء‭. ‬قدماي‭ ‬الحافيتان‭ ‬لا‭ ‬تحدثان‭ ‬أي‭ ‬صوت‭. ‬ألج‭ ‬الغرفة،‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬كدت‭ ‬أتعثر‭ ‬به،‭ ‬إنه‭ ‬جالس‭ ‬هناك‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬المطبخ،‭ ‬مرتديًا‭ ‬بيجامته،‭ ‬يدخن‭ ‬غليونه‭.‬

أقول له:

• أهلًا بابا.

• أهلًا بنيَّ.

• لماذا لا تذهب للنوم بابا؟

• سأفعل.

لكنه يبقى هناك لوقت طويل حتى بعد أن أنام. أنا متأكد أنه لا يزال جالسًا في مكانه نفسه يدخن.

في أكثر من مرة، أكون أقرأ في غرفتي. أسمع والدتي ترتب الأشياء في المنزل استعدادًا للنوم. أخي الصغير يذهب لفراشه. أسمع أيضًا أختي تدخل، أسمعها تتعامل مع الجرار والأمشاط حتى تنعدم الحركة تمامًا، أعرف حينها أنها ذهبت لتنام، ولبرهة أسمع أمي تقول لأبي: (تصبح على خير). أواصل القراءة، في الحال أشعر بالعطش –إنني أشرب كثيرًا– أذهب للمطبخ لأشرب، مرة أخرى أوشك أن اصطدم بوالدي. أحيانًا أفزع منه؛ أنسى أنه قد يكون هناك، غير أنه قابع في مكانه يدخن، ويفكر.

• لماذا لا تذهب للنوم بابا؟

• سأفعل يا ولدي.

لكنه لا يفعل. إنه فقط يجلس هناك، يدخن ويفكر، وهذا ما يقلقني. لا أستطيع أن أفهمه. يا ترى ما الذي يفكر فيه. ذات مرة سألته:

• بابا… ما الذي تفكر فيه؟

• لا شيء.

في إحدى المرات تركته هناك، وذهبت للفراش. استيقظت بعد ساعات عدة. أيقظني العطش. ذهبت للمطبخ. وجدته لا يزال هناك، انتهى من تدخينه، لكنه جالس يحدق في زاوية من زوايا المطبخ، مرَّت لحظة، عرفت كيف أتعامل مع العتمة، شربت، عيناه تواصلان تحديقهما دون أن يرف لهما جفن، اعتقدت أنه غير شاعر بوجودي، كنت خائفًا.

• أبي، لماذا لا تذهب للنوم؟

• سأفعل يا بني. لا تبق ساهرًا تنتظرني.

• لكن…، لكنك -ولساعات طويلة- تظل ثاويًا هنا! ما الأمر؟ ما الذي تفكر فيه؟

• لا شيء يا بني. لا شيء. مجرد استرخاء. هذا كل ما في الأمر.

قال ذلك بطريقة مقنعة، لم يبدُ قلقًا. جاء صوته هادئًا ولطيفًا. دائمًا هو كذلك. لكني لم أفهم -كيف يكون- جلوسُ شخص بمفرده على كرسي غير مريح لوقت طويل في الليل وسط العتمة الحالكة – استرخاءً. آه، لو أعرف السبب!

استعرضت كل الاحتمالات. لم يكن قلقًا بشأن المال؟ إنني متأكد من ذلك. لو تعلقت المسألة بالمال، لما بقي الأمر سرًّا. كذلك الحال لو أن السبب يتعلق بصحته؛ فوالدي ليس متحفظًا بشأنها أيضًا، وليس للأمر أية علاقة أيضًا بصحة أي فرد من أفراد عائلتنا. صحيح لدينا نقص ضئيل في المال، لكننا ننعم بصحة جيدة –امسك الخشب- هذا ما ستقوله والدتي لو سمعتني. ما الأمر إذًا؟ أخشى أنني لن أعرف؟ لكن هذا لا يمنعني من أن أقلق.

قد يكون يفكر في إخوته في الريف، أو لعله يفكر في والدته، أو في زوجتي والده، ومن يدري فمن المحتمل أنه يفكر في والده. لكن كل هؤلاء أموات، ومستحيل أن يطيل التفكير بهم كل هذا الوقت، ماذا؟ هل قلت –يطيل التفكير– إن ذلك غير صحيح على الإطلاق، فهو لا يطيل التفكير البتة، بل لا يبدو أنه يفكر أصلًا. يظهر هادئًا، وعلى ما يرام، لكنه ليس راضيًا. إنه هادئ جدًّا.

لعل الأمر كما قال؛ جلسة استرخاء. لكن ذلك الاحتمال بعيدٌ. إن الأمر يقلقني. أتمنى لو أعلم ما الذي يفكر فيه. قد لا أستطيع مساعدته. وقد لا يرغب هو في المساعدة أصلًا، ولِمَ لا تكون المسألة مثلما يُصِرُّ هو؛ مجرد جلسة استرخاء. لو كان الوضع على هذا النحو فلن أقلق بشأنه. لماذا يجلس هناك في الظلام؟ هل اختل عقله؟ لا. ليست جلسة استرخاء. إنه في الثالثة والخمسين؛ متقد العقل، دقيق الملاحظة، كما هي حاله دائمًا. في الحقيقة، لم يتغير عليه شيء؛ إنه باقٍ على حبه لشوربة (الشمندر)، ولا يزال يقرأ الجزء الثاني من (التايمز أولًا)، ومستمر في ارتداء ياقات ذات أجنحة، ويظن أن بوسع (دبز) إنقاذ البلد، وأن (تيودور روزفلت) مجرد أداة تعمل لمصلحة الأثرياء. نعم، إنه على حاله في كل أموره. لا يظهر عليه أنه أكبر مما كان عليه عمره الحقيقي قبل خمس سنوات. كلٌّ لاحظ ذلك. قالوا عنه: محافظ على صحته بشكل جيد، لكنه يجلس في الظلام وحيدًا، يدخن، يحملق أمامه، من دون أن يغمض له جفن طيلة ساعات الليل. لو أن القضية كما يقول قضية استرخاء، فليس ثمة مشكلة. لكن لنفرض أن الأمر غير ذلك تمامًا. كأن يكون هناك شيء ما لا أستطيع سبر أغواره. لعله يحتاج للمساعدة. لكن لماذا لا يتكلم؟ لماذا لا يقطب جبينه؟ لماذا لا يضحك أو يبكي؟ لماذا لا يعمل شيئًا ما؟ لماذا فقط يمكث هناك وحيدًا في الظلام؟

أخيرًا وصلت لمرحلة الغضب، قد يكون مرد ذلك فضولي الذي لم يشبع، أو قلقي بعض الشيء عليه. على أية حال لقد أصبحت غاضبًا وكفى.

• أبي أمتأكد أنت أنه ما من مشكلة هناك؟

• لا. أبدًا يا بني. لا شيء على الإطلاق.

• لكني هذه المرة مصمم على ألا أغادر. إنني غاضب.

• إذًا لماذا تجلس هنا وحيدًا تفكر حتى وقت متأخر؟

• إنها جلسة استرخاء يا بني. إنني أحبها.

ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت. غدًا سيكون جالسًا في المكان نفسه. وسأبقى محتارًا وقلقًا. لا لن أنصرف الآن. إنني غاضب.

• حسنا، وما الذي تفكر فيه يا أبي؟ لماذا تجلس هنا وحيدًا؟ ما الذي يقلقك؟ فيمَ تفكر؟

• لا شيء يقلقني، إنني على ما يرام. مجرد، مجرد استرخاء. هذا كل ما في الأمر. اذهب أنت يا بني لتنام.

لقد ذهب عني الغضب، لكن الشعور بالقلق ما زال يتملكني. لا بد أن أحصل على إجابة. لدي شعور غريب بأنه ما لم أعرف منه السبب فسأجنّ لا محالة. لذا فأنا مصرٌّ.  أقف:

• لكن قل لي بربك بابا… ما الذي تفكر به؟

• لا شيء يا بني. فقط أشياء عامة. لا شيء محدد. مجرد أمور عادية.

لم أحصل بعد على إجابة.

الوقت متأخر، الشارع هادئ والمنزل يكسوه الظلام. تسلقت الدرج بهدوء، متجاوزًا تلك التي تحدث صريرًا. دخلت بهدوء. باستخدام مفتاحي، وبالمشي على رؤوس أصابعي، ولجت غرفتي. خلعت ملابسي، تذكرت أني عطشان، بقدمَيِ الحافيتينِ مشيت نحو المطبخ، قبل أن أصله كنت متأكدًا أنه هناك. أبصرت الظلام الدامس يلف كتلته المحدودبة، إنه جالس على الكرسي نفسه، واضعًا كوعيه على ركبتيه، غليونه البارد في فمه، عيناه تحدقان للأمام، لا يبدو أنه شعر بوجودي. لم يسمعني عندما دخلت، وقفت هادئًا عند المدخل أرقبه.

كل شيء ساكن، بيد أن الليل ممتلئ بالأصوات الصغيرة، حينما وقفت هناك بلا حراك، بدأت ألحظ دقات ساعة الحائط الموضوعة فوق الثلاجة، الصوت المنخفض لسيارة تمر عبر البيوت والمحلات، حفيف أوراق الشجر على امتداد الشارع بفعل النسيم، علو صوت الهمسات وانخفاضها؛ كأنها أنفاس بطيئة، كل ذلك كان سارًّا على نحو غريب. جفاف حلقي ذكرني، خَطَوْتُ برشاقة داخل المطبخ:

• أهلًا بابا؟

• أهلًا بني.

جاء صوته ضعيفًا، كأنه يحلم. لم يغير من وضعيته، ولم يرفع عينيه عما كانتا تحدقان فيه.

لم أتمكن من إيجاد صنبور الماء، الظل المعتم للضوء القادم من مصباح الشارع عبر النافذة، جعل الغرفة تبدو أكثر ظلامًا، وصلت للسلسلة القصيرة في منتصف الغرفة، أدرت مفتاح الضوء.

استوى في جلسته بهزة كأنه قد لُدِغَ:

• ما الأمر يا أبي؟

• لا شيء يا بني. لا أحب الضوء.

أطفأت الضوء، شربت الماء ببطء. لا بد أن آخذ الأمر ببساطة ولا بد أن أصل إلى نهاية.

• لماذا لا تذهب لتنام؟ لماذا تجلس إلى وقت متأخر في هذا الظلام؟

• حسنًا. أنا لست معتادًا على الأضواء عندما كنت طفلًا في أوربا، لم يكن لدينا أضواء.

بدأ قلبي يرقص طربًا، التقطت أنفاسي جذلًا، أعتقد أنني فهمت، تذكرت قصص طفولته في النمسا. رأيت الإشعاع الواسع لذلك النُّزُل، جدي خلف الحانة، الوقت متأخر، ذهب الزبائن، وهو يغالب النعاس، رأيت رماد الفحم الحجري الذي كان متقدًا، رأيت البقية الباقية من زئير النار الهادرة. الغرفة لم تزل مظلمة، وظلامها يتزايد؟ وهناك طفل صغير جاثم على كومة من الأغصان الصغيرة الموضوعة على أحد جوانب الموقد الكبير، نظراته المحدقة اللامعة مثل النجوم؛ مثبتة على البقايا الباهتة للهب الميت، كان ذلك الطفل والدي.

أتذكر متعة تلك اللحظات القليلة بينما أنا واقف بهدوء في الممر أراقبه:

• أتعني أنه ليس ثمة مشكلة؟ تجلس في الظلام لمجرد أنك تحبه!

وجدت أنه من الصعوبة منع صوتي من الارتفاع في ضجة سارة:

• بالتأكيد. لا أستطيع التفكير عندما تضاء المصابيح!

• وضعت نظارتي، وعدت أدراجي باتجاه غرفتي:

• تصبح على خير بابا.

• وأنت بخير يا بني.

تذكرت شيئًا ما، وعدت:

• ما الذي تفكر فيه، بابا؟

• أتى صوته كأنه قادم من بعيد، هادئًا ومستويًا:

• لا شيء.

أردف بهدوء أيضًا:

• لا شيء غير عادي.

هوامش:

  • جيروم ويدمان: من أصل يهودي، والده مهاجر نمساوي. ووالدته من المجر. ولأن والديه لم يكونا يتحدثان اللغة الإنجليزية، لم يتحدث (ويدمان) هذه اللغة بطلاقة حتى بلغ الخامسة من عمره. تزوج من الكاتبة إليزابيث آن، في عام 1943م. أنجب منها أولادًا عدة من بينهم: جيفري وجون ويتني. درس ويدمان في كلية (سيتي)؛ (الآن كلية سيتي في جامعة سيتي في نيويورك) من 1931م إلى 1933م، وفي كلية (واشنطن سكوير) من 1933م إلى 1934م، وكذلك في كلية الحقوق في جامعة (نيويورك) من 1934م إلى 1937م. تضمنت خدمته العسكرية العمل في مكتب معلومات الحرب من 1942م إلى 1945م. وقبل أن يصبح كاتبًا متفرغًا، عمل في كثير من الوظائف ومنها وظيفة محرِّر إخباري، وموظف في البريد، ومحاسب. كان عضوًا في نقابة المؤلفين، وفي رابطة المؤلفين الأميركية، التي تولى رئاستها من عام 1969م إلى عام 1974م، وكذلك في نقابة كتاب شرق أميركا. عندما تخرج (ويدمان) من المدرسة الثانوية، كان الكساد الكبير في أوجه. قرأ كثيرًا للمتعة فقط، وحصل على وظيفة في حي الملابس في مدينة نيويورك مقابل راتب أسبوعي يبلغ 11 دولارًا. وقد تحققت مهنته في الكتابة بعشرة دولارات حصل عليها عندما قبلت إحدى المجلات المحلية قصةً قصيرةً كتبَها.
  • كتب روايته الأولى، «يمكنني الحصول عليها لك بالجملة»، مشاركة منه في مسابقة ثقافية، وكان يكتب فصلًا منها في كل ليلة، ورغم أن الرواية لم تفز بجائزة في تلك المسابقة فإنها نشرت لاحقًا، ولاقت استجابة نقدية إيجابية جدًّا. كتب أيضًا بعض المسرحيات، وألَّف بعض المقطوعات الموسيقية. توفي عام 1998م.
  • يوجين دبز، عالم اجتماع أميركي وناشط سياسي، عاش في المدة ما بين (1855-1926م)، ورُشح للرئاسة خمس مرات. (المترجم).
  • تيودور روزفلت، الرئيس الأميركي السادس والعشرون، ولد عام 1858م، وتوفي عام 1919م، دامت مدة رئاسته ثماني سنوات ابتداءً من عام 1901م. (المترجم).