هذه المعركة ليست معركتك أيها الشعب، إنها معركة «الإخوان»

هذه المعركة ليست معركتك أيها الشعب، إنها معركة «الإخوان»

دأبت جماعة «الإخوان المسلمين» منذ تأسيسها إلى اليوم على تقديم مصلحتها الحزبية على كل مصلحة أخرى، بل حتى على التضحية بالمصالح الوطنية والقومية «والدينية» إذا اقتضت مصلحة الحزب مثل تلك التضحية. لقد أبدت منذ بدايات ظهورها استعدادًا لتدمير الدولة الوطنية الناشئة التي كانت في الآن ذاته تحارب الاستعمار المباشر وتواجه شتى أشكال التدخل الأجنبي، من أجل الاستمرار في بسط الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية باستخدام الأشكال التي صارت تدرج تحت تسمية الاستعمار الجديد، وذلك بحجة أن هذه الدولة لا تستجيب لمقومات الدولة الإسلامية، وأنها جاءت على أنقاض دولة الخلافة، ومن أجل قطع الطريق أمامها، وأنها لا تستند في تنظيماتها وقوانينها إلى المرجعية الدينية كما يتصورونها ويفهمونها، على الرغم من وجود آراء أخرى وتصورات إصلاحية كان لها أثر في تأسيس الدولة الوطنية وفي وضع قواعدها وقوانينها، وكان ما يعلن صراحة استمدادها من الشريعة الإسلامية، وفي بناء مؤسساتها، وكان قد تبناها ودافع عنها أعلام مصلحون، منهم من كان ذا مرجعية إسلامية، ومنهم من ينتمون إلى أحزاب وطنية شاركت في مقاومة الاستعمار.

فالإخوان يرون كل دولة لا تعلن صراحة عن أن «القرآن دستورها»، ولا تستمد الحلول لكل الوضعيات والمشكلات التي يعانيها المجتمع من الإسلام، ولا ترفع شعار «الإسلام هو الحل» دولة مارقة وشعبها في جاهلية.

ولقد وقفت الجماعة في وجه الدولة الوطنية وعدتها عدوًّا للخلافة التي كانت قد انحلت قبل سنوات معدودة، ولم ترَ حرجًا في أن تلتقي مع الاستعمار في غايات، ولا في أن تتحالف معه في مجالات من أجل تدمير هذه الدولة، والتمكين للجماعة وتقريبها من هدفها الأسمى وهو الوصول إلى السلطة. كما لم ترَ الجماعة حرجًا في أن تنسب المجتمع برمته إلى الجاهلية، ضاربة عرض الحائط بطموحات شعب عانى التفقير والتجهيل طيلة قرون من الاستعمار العثماني، وطيلة عقود من الاستعمار الغربي. وكأن المطلوب منه أن يعود إلى كهوف التاريخ في أنماط عيشه وأشكال ملابسه ومظاهره وفي طرق تفكيره ووعيه وتصوراته حول العالم حتى ينال رضا الجماعة فلا تكفره ولا ترميه بالجاهلي.

وفي طور ثانٍ وعندما كان جمال عبدالناصر يعلن تأميم القناة ويواجه العدوان الثلاثي، ويخوض المعارك ضد الصهيونية، ويعمل على تثبيت الاستقلال الوطني والقومي، ناصَبَته الجماعة العداء، وتحالفت مع أعدائه، وخططت لاغتياله بتعلّة أنه يعمل على غير هدي الله ومنهج رسوله، وكأنه كان على عبدالناصر ونظامه أن يتخليا عن كل الشعارات الوطنية والقومية التي عملا بكل إخلاص على تحقيقها حتى يحظى بمساندة الجماعة أو على الأقل بحيادها. وما كان للجماعة أن تقبل بتوجه مختلف أو برأي مخالف؛ لأن توجهها مبنيّ على أنموذج سياسي ديني مغلق لا يسمح بالاختلاف ولا يقبل بالحريات.

أما آخر الحلقات في مسار تدمير الدول الوطنية، فقد كشفت جوانب منها رسائل هيلاري كلينتون، التي فضحت تآمر جماعات الإسلام السياسي مع قوى عالمية معادية تنتمي في الغالب إلى حلف الناتو، ولا تخفي أطماعها الاقتصادية والسياسية في منطقتنا. وكل ذلك لا دفاعًا عن الديمقراطية كما تسوّق وهي الأشد عداءً لها، وإنما من أجل الوصول إلى السلطة، وكان تدمير سوريا وليبيا بتورط واضح ومباشر منها ومن القوى الإقليمية الداعمة لها.

ولم تتوانَ جماعة الإخوان عن التحالف مع جماعات أخرى من صنفها أشد منها تطرفًا للاستيلاء على ثورات الشعوب ضد الاستبداد، فكانت النتائج أن دفعت الشعوب الثائرة من دم أبنائها، ومن لقمة عيشها، ومن استقرارها، ومن مقدراتها الوطنية ثمنًا غاليًا جدًّا، لعل أشده وطأةً عودتها أكثر من نصف قرن إلى الوراء؛ لتعاود الانقسامات على أساس ديني وطائفي وعرقي، بل إن منها ما شهد لأول مرة في تاريخها مثل هذه الانقسامات، حيث يروج لتقسيم الناس إلى مسلمين وكفار تبعًا لموقفهم من الجماعة ومن طريقتها في الحكم كما هو الشأن في تونس التي لم تعرف في أغلب مراحل تاريخها انقسامات ولا صراعات من هذا النوع.

نتائج كارثية

وبما أن النتائج كانت كارثية في كل الأحوال؛ إما بسبب التطرف والعنف والتحول من الاستبداد السياسي إلى استبداد مغلف بغلاف ديني، أو بسبب الفشل في تكريس الديمقراطية التي طالبت بها الشعوب التي عبرت الجماعة ومن دافع عن حقها في المشاركة السياسية، كذبًا وبهتانًا، عن استعدادها للعمل بها ولاحترام مقتضياتها، فضلًا عن الفشل العام في تحقيق المطالب الاجتماعية وفي معالجة الأوضاع الاقتصادية التي ازدادت انهيارًا، فإن الجماعة وجدت نفسها مضطرة إلى العمل على استعادة القاعدة الشعبية التي بدأت تفقدها بسبب فشلها السياسي، وعلى التغطية على تورطها في التآمر على بلدانها وشعوبها مع قوى معادية خارجية وإقليمية ومع جماعات دموية أشد منها تطرفًا، بل حتى مع عصابات الفساد داخليًّا حتى دُمِّرَت هذه البلدان ودُفِعَ بها إلى حافة الإفلاس.

وهو ما اضطر جماعة الإخوان المسلمين إلى إصدار بيان موجه إلى أعضاء الجماعة بتاريخ 13 أكتوبر 2020م لطمأنتهم «على سلامة وضع الجماعة» إثر انعقاد مجلس شورى الإخوان لمناقشة موضوع واحد هو تسريبات رسائل هيلاري كلينتون، ودعت أعضاءها ومناصريها إلى «نفي كل تلك التسريبات جملة وتفصيلًا وذلك في اجتماعات الأسر وبين كل المؤيدين والمحبين»، وحثت مسؤولي الاتصالات على بذل قصارى جهدهم باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي في «التشكيك في تلك التسريبات… مع الاستمرار فيما اتُّفِقَ عليه سلفًا»، (دون تحديد ولا تعيين لهذا الذي اتُّفِقَ عليه التزامًا بالنهج السري الذي دأبوا عليه). كما أكدت ضرورة «عدم الانصياع إلى أي تعليمات مهما كان مصدرها بالتعامل مع الولايات المتحدة الأميركية خلال هذه المدة لحين انتهاء الانتخابات هناك».

ومن أجل تفعيل هذه التوصيات والتغطية على خطورة المعلومات المسربة في رسائل كلينتون، وهي معلومات كفيلة بالقضاء المبرم على مستقبلهم السياسي لو اطلعت عليها الشعوب المعنية وأدركت خطورتها وفهمت حقيقة الدور الذي قامت به الجماعة خلال ما يعرف بثورات الربيع العربي، استغلت الجماعة وحلفاؤها من الجماعات الأشد تطرفًا، وحماتها من القوى الإقليمية وأذرعتها الإعلامية، الجريمة الإرهابية التي اقترفها متطرف شيشاني بذبح المعلم الفرنسي وما رافقها من لغط ومن خلط ومن تصريحات غير محسوبة العواقب، لتحول مسار المعركة من معركة ضد الإرهاب والتطرف والتوظيف السياسي للدين إلى معركة بين مؤمنين يدافعون عن مقدساتهم وعن رسولهم، وكفار يسيئون إلى شخص الرسول ويستغلون كل الفرص للكشف عن عدائهم المتأصل ضد الإسلام والمسلمين.

المعركة المقدسة

واستخدمت بالفعل وسائل التواصل الاجتماعي من أجل إطلاق هذه «المعركة المقدسة»، فكان أن أطلقت قناة الجزيرة الذراع الإعلامية للجماعة ولحلفائها وسمًا يدل ظاهره على هدف نبيل، بينما هو في الحقيقة مصنوع بإتقان كبير لتحقيق أكثر من هدف: من ذلك استعادة الجموع التي بدأت تفقد ثقتها في جماعات الإسلام السياسي باستغلال شعورها الديني واستغفالها للزجّ بها في معركة مصنوعة لخدمة الجماعة وحلفائها ولا مصلحة فيها لهذه الجموع. ومن ذلك أيضًا تقديم الدعم للحليف العثماني في صراعه مع أوربا عامة، ومع اليونان وفرنسا خاصة من أجل السيطرة على المجال الحيوي وعلى ثرواته في ليبيا وفي شرق المتوسط بتوظيف مشاعر المسلمين الصادقة نحو رسولهم، وباستغلال الأحداث للدعوة إلى مقاطعة فرنسا وبضائعها، والحال أنه لا معنى لمقاطعة الشعوب في ظل التنافس الرسمي على البضائع والأسلحة الفرنسية.

هكذا يزجّ بنا في معارك لا مصلحة لنا فيها، وهكذا يستغل الدين من أكثر من طريق وبأكثر من وسيلة من أجل إحكام السيطرة على الشعوب والتحكم في وعيها واستثمار عقائدها في سوق مصالح القوى العالمية والإقليمية واتخاذها سلاحًا تخوض به جماعات الإسلام السياسي والدول المتحالفة معه معاركها من أجل السلطة والمصلحة. وهكذا تُحَوَّل وجهة المعركة الحقيقية التي كان على الشعوب أن تخوضها، وهي معركة من أجل إقامة دولة مدنية ديمقراطية مستقلة عن كل القوى والمحاور، ومن أجل التنمية الاقتصادية والرفاه المجتمعي، ومن أجل التصدي لكل القوى التي تسعى إلى إقامة أنظمة أشد استبدادًا، من الأنظمة التي ثارت ضدها وللقضاء على الفساد بكل أنواعه وكشف المتورطين فيه، لتتحول إلى معركة وهمية تغطي أصواتها المرتفعة على صوت الشهادات والوثائق الذي كان يجب أن يسمع ويتمعن فيها حتى يعرف هذا الشعب أي معارك عليه أن يخوض حقًّا.

هل هو مدعوٌّ إلى أن يخوض معركة الدفاع عن كرامة وطن وشعب ينتهكها أعداء الخارج وفشلة وفسدة الداخل أم نتركه ليزج به في معارك مفتعلة لا رابح فيها إلا من يفتعلها للتغطية على جرائمه وعلى حقيقته، ومن لم يرَ حرجًا بأن يزجّ بالرسول الأكرم في معركة هي في الحقيقة معركة بين تركيا وأوربا عامة وفرنسا خاصة من أجل تقاسم المصالح في بلداننا؟ ومن الذي يبدو مهدّدًا حقًّا ومعتدى عليه وممسوحًا بكرامته الأرض؟ أهو هذه الشعوب التي تعاني قهر الاستعمار الجديد وقهر أنظمة محلية فاشلة لم تتح لها سوى المزيد من الفقر والخصاصة والتجهيل والأمراض وانعدام الخدمات العمومية، أم هو شخص الرسول المحفوظ بقدرة الله جل في علاه من يوم أن اصطفاه لتبليغ رسالته؟

ثم لو أخذنا في الحسبان أن الرئيس الفرنسي والدولة الفرنسية قصدا حقًّا الإساءة إلى الرسول ولم يكن قصدهما حماية مواطنيهم ولا نظامهم ولا القيم التي يؤمنون بها، فما جدوى الردّ بتلك الأساليب الغوغائية التي لن يجني منها الشعب شيئًا بل على العكس من ذلك، فإنه يثبت لدى المشنعين على المسلمين وعلى دينهم الأحكام التي يروجون لها؟ أليس من الأجدى أن يكون الرد تمثّلًا عمليًّا بخلق الرسول الأكرم واقتداء به في فعله الحضاري، عندما استطاع أن يرسي دعائم ثابتة أنشأت أمة وبنت دولة وأسست حضارة من أعظم الحضارات التي عرفها التاريخ واستفادت منها الإنسانية.

في نقد المرويات: حقل آخر من حقول الاجتهاد الجديد

في نقد المرويات: حقل آخر من حقول الاجتهاد الجديد

لئن انطلق مسار إعادة فتح باب الاجتهاد في المجال الإسلامي مع حركة الإصلاح الديني في منتصف القرن التاسع عشر، فإنّ هذا المسار لم يلبث أن تعددت اتجاهاته وتنوعت مجالاته. بدأ مرتبطًا خاصة بالفقه وأصوله ومن ثمة الاجتهاد في قضايا التشريع من أجل تجاوز الجمود الذي انتهى إليه منذ أن أعلن عن غلق باب الاجتهاد فكاد يحوّله إلى عائق في طريق التقدّم الذي ينشده المسلمون ممّا دفع نحو استلام الدولة مسؤولية التشريع لتنظيم المجتمع ولضبطه واعتمادها مصادر متنوعة في وضع التشريعات لم يكن للصدر الديني ضمنها سوى موقع محدود نسبيًّا مقارنة مع موقعه في عصور سابقة كان خلالها منفردًا بالتشريع بوساطة الفقيه والمفتي.

ومن المعلوم أن التشريع الإسلامي يعتمد، وفقًا لنظرية علم أصول الفقه، على مصادر أربعة معيّنة ومرتّبة طبقًا لما هو مجمع عليه في المذاهب الفقهية السنية لتكون القرآن فالسنة فالإجماع فالقياس، إضافة إلى مصادر ثانوية تشكل مجال اختلاف، وإن كان نظريًّا في الغالب، بين تلك المذاهب. ولكنّ هذا الترتيب النظري المحدّد في علم أصول الفقه، لم يكن يعكس حقيقة موقع تلك المصادر الإجرائي في التشريع العملي، أو لنقل إن ذلك الترتيب كان ترتيبًا إيمانيًّا يعكس موقف المؤمن من تلك المصادر ورؤيته الإيمانية لها أكثر مما يعكس موقعها الحقيقي بوصفها مصادر للتشريع العملي. ولنا أن نتوقف عند أي مدوّنة فقهية من مدوّنات أعلام المذاهب ومؤسّسيها وأن نخضعها لعمل إحصائي لمعرفة الحجم الحقيقي لكل مصدر من مصادر التشريع حتى نتبين أن القرآن، وهو المصدر الأول أصوليًّا، لا يحتل إلا موقعًا ثانويًّا قياسًا إلى موقع الحديث النبوي أو القياس أو الإجماع. ففي مدوّنة سحنون عن الإمام مالك على سبيل المثال، وهي مدوّنة تحتوي على أكثر من ستة آلاف مسألة، لم يستدلّ الإمام مالك في مسائله إلا بـ 114 آية من القرآن الكريم، في حين احتلّ إجماع أهل المدينة المرتبة الأولى عدديًّا في مسائله. وفي عمل أكاديمي لنا(1) أخضعنا فيه مدونة فقهية لفقيه مالكي آخر هو ابن رشد الفقيه الأندلسي، لتحقيق إحصائي، تبيَّنَّا فيه النتيجة نفسها وهي محدودية حضور القرآن مصدرًا للأحكام مقابل ضخامة حضور الحديث النبوي والقياس. والمعروف أن مصادر التشريع قامت في مجملها، باستثناء القرآن الكريم، على المشافهة التي امتدت في التاريخ الثقافي الإسلامي على ما يزيد على القرن. ويبدو هذا الوضع من بين الأسباب التي أنتجت موجة نقد المرويات في الحقبتين الحديثة والمعاصرة، وهو نقد يختلف من جهة منهجياته ودوافعه عن النقد التراثي لتلك المرويات. فبقدر ما كان النقد التراثي موجهًا نحو إثبات الصحّة العامة التي لا يجب في نظرهم أن يطعن في وجود بعض حالات مشكوك في صحّتها أو حتى مطعون فيها، كان النقد الحديث موجهًا بخلاف ذلك إلى اتخاذ تلك المطاعن حجة لإثبات مشروعية الشك العام في المرويات بإطلاق. ويعود هذا الاختلاف في نظرنا إلى الدوافع التي تحرك الموقفين، ففي حين كان إثبات صحّة المرويات أمرًا حيويًّا لثقافة تأسّست في عمومها على طبقة شفوية، بقدر ما كان حيويًّا لإثبات مشروعية المنظومة الفقهية كاملة، وهي منظومة تشكّل أغلبها بناءً على مرويات سواء منها الحديث النبوي أو أقوال الأجيال الأولى من الصحابة والتابعين أو أخبار الوقائع التاريخية التي ستُتخَذ لاحقًا أصولًا يقاس عليها في استنباط الأحكام، كان الشكّ في المرويات، بل الطعن فيها أحيانًا، ضروريًّا لأصحاب هذا الموقف لزحزحة المواقف والتصورات التقليدية والمحافظة بشأن مسألة التشريع.

مساءلة مروياتنا

انطلقت موجة نقد المرويات في الحقبة الحديثة مع الاستشراق الكلاسيكي(2) ثم عمّقها وبلغ بها أبعادًا خطيرة الاستشراق الأنغلو ساكسوني الحديث(3)، وقد ألقت هذه الموجة بظلالها على مواقف بعض أعلام التحديث والتجديد في الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر. وبالرغم من وعينا بالدوافع اللاعلمية واللاموضوعية التي حركت مواقف كثير من المستشرقين ومن اعتراضنا عليها، فإننا لا نستطيع أن ننكر أن تلك المواقف تدعونا إلى مساءلة «مروياتنا» بأنفسنا بعيدًا من الدوافع الأيديولوجية المحضة ومن الانجراف وراء موجة التشكيك العدمي. وفي اعتقادنا أن ما أثاره الدارسون العرب والمسلمون من قضايا وأسئلة وما استخدموه من مفاهيم وإجراءات منهجية إنما كان في كثير من الأحيان ظلًّا وأثرًا لأسئلة المستشرقين وأدواتهم، من دون أن يأخذ هؤلاء في الحسبان أن الإشكالية الموضوعية التي تحتاج إلى أن ننظر في ضوئها لتلك المرويات ليست متصلة بمدى صحتها التاريخية فحسب، بل إنها متصلة خاصة بمدى معقوليتها من وجهة نظر عصرنا وقيمه وإكراهاته وحاجياتنا الراهنة فيه؛ إذ لا أرى شخصيًّا جدوى لأسائل تلك المرويات: هل هي صحيحة أم غير صحيحة أم مشكوك في صحتها؟ هل هي مطابقة فعلًا لما قيل ولما حدث حقًّا أم هي مختلقة أو موضوعة أو متصرّف فيها؟ ولا جدوى هذه الأسئلة في نظري مأتاها أن هذه المرويات قد قبلت في مجملها بالصيغة التي وصلت إلينا وأدت على مدى يزيد على ثلاثة عشر قرنًا الوظيفة التي أريد لها أن تؤديها، فشرعت الأحكام بناءً عليها، واستخدمت لإضفاء المشروعية الدينية على أنظمة وعلى فرق ومقالات ومؤسسات، وهي ما زالت تستخدم إلى اليوم في الغالب بالطريقة نفسها وللأهداف نفسها. ومما زاد الأمر تثبيتًا أن ذلك الاستخدام قد أُسِّس منهجيًّا وإبيستمولوجيًّا بواسطة علم أصول الفقه وبواسطة علم الكلام في بعض الحالات. ومن بين القواعد الأصولية التي أدت هذا الدور على سبيل المثال قاعدة اتفق عليها أغلب أصوليي المذاهب السنية وتنصّ على أنه يجوز التعبّد بمجرّد الظنّ وهي قاعدة شرعت لقبول مرويات الآحاد والمرويات الضعيفة، كما أن انتصار الكلام الأشعري قد ثبت مقولة أن الحسن والقبح شرعيان وليسا عقليين، وبناءً على ذلك احتاج الفقهاء إلى دليل شرعي على كل الأحكام بما فيها تلك التي لا تحتاج إلى مثل هذا الدليل وهو ما ولّد الحاجة إلى إيجاد هذا الدليل ولو كان ضعيفًا أو مشكوكًا فيه.

زهية جويرو – كاتبة و أكاديمية تونسية

بناءً على ذلك أرى أنه من الواجب أن نعدّل زاوية نظرنا إلى المسألة وأن نغيّر أسئلتنا. إن ما يثار اليوم من جدل حول صحّة «الصحيحين» وحول مدى مصداقية ما جمعه مسلم أو البخاري من أحاديث أراه أقرب إلى «الفرقعات» الإعلامية منه إلى الطرح العقلاني العلمي والموضوعي(4). إن الاعتقاد في إمكانية الوصول إلى «الحقيقة التاريخية» المطلقة بواسطة النقد الفيلولوجي أو النقد التاريخي بشأن تلك المرويات يعدّ من وجهة نظر الأنثروبولوجيا الثقافية، وبخاصة من وجهة نظر «النظرية الشفوية»، مجرّد وهم. فالمعروف في الثقافات التي تأسست على طبقة شفوية ثُبِّتتْ لاحقًا بالكتابة أنها، وإن ظلت تحمل آثار المشافهة، فإن الفاعل في نظام تلك الثقافة هو ما ثبّتته الكتابة فعلًا. لذلك أرى أنه من الضروري أن نسائل هذا الكمّ الهائل من المرويات من جهة أخرى هي جهة علاقتنا بها وجهة علاقتها بعصرنا بكل قضاياه وحاجاته. فهل ما زالت تلك المرويات، بالشكل الذي وصلتنا به والذي أدت به وظائفها التاريخية، قادرة على الاستمرار اليوم وغدًا، بالشكل نفسه وللأدوار نفسها، دون أن ينتج عن استمرارها مفارقات قد تضعنا على هامش التاريخ أو قد تبدينا في تناقض كامل مع القيم والمعايير والأنظمة التي اتفق عليها الوعي والضمير الإنسانيان اليوم؟

البعد من التشنج العقائدي

تحتاج الإجابة عن هذه الأسئلة إلى كثير من التجرد والموضوعية ومن البعد عن التشنج العقائدي ومن الوعي بأننا إذ نطرح هذه الأسئلة فإننا لا نرمي البتة إلى ما رمت إليه أطروحات بعض المستشرقين من تشكيك في الإسلام وفي مصادره وفي صدقيتها بقدر ما نروم، على العكس من ذلك، التصدّي إلى هذه الأطروحات. ولكن هذا التصدّي لن يكون مجديًا بمجرد التمسك الحرفي بالبناء القائم؛ لأنه لولا ما في هذا البناء من قابلية المطاعن لَمَا وجد الآخرون إلى الطعن فيه من سبيل. إن التصدّي المطلوب ممكن باعتماد نقد داخلي يسعى إلى التمييز في هذه المرويات بين ما هو قابل للاستمرار لأنه منسجم مع الوعي المعاصر ومع الضمير الإنساني ومع القيم الأصيلة التي قام عليها الإسلام وشاركه فيها سائر الرسالات الدينية كقيم الحقّ والخير والجمال والعدالة والإنصاف والتعايش السلمي بين البشر وقبول الاختلاف، وما هو متناقض مع هذه المرجعية، وفي تناقضه وحده دليل على قابلية الشكّ في صحّته. ولو تعلّق الأمر بأقوال الرسول وأفعاله، أي بالمرويات المنقولة عنه والمسندة إليه، فإنّ المبدأ العقائدي والمنهجي في آن هو أنها لا يمكن من جهة العقل ولا من جهة الدين أن تتعارض مع هذه القيم والمبادئ القرآنية، فإذا وجد ما يتعارض معها صحّ أن يعدّ ذلك مما يشك في صحّته ويرجّح كونه موضوعًا ومختلقًا.

أما لو تعلّق الأمر بالمرويّات عن غير الرسول فإن الأمر يبدو أيسر لو حرصنا على التحرّر من هيمنة سلطة السلف على وعينا، «فهم رجال ونحن رجال» وهم أبناء عصورهم فهموا الإسلام في ضوء أسئلتها وحاجاتها وأوّلوه بما يخدم مصالحها وتطلعاتها، ونحن إذ نقول هذا فإننا نؤكّد أننا لا نشكّك في صدقيتهم؛ لأن النقد الذي ندعو إليه مستقلّ عن الأحكام الأخلاقية والمعيارية، بل إننا على خلاف ذلك نحسن الظنّ بهم ونقول: إن اجتهاداتهم كانت مرتبطة بما هو متاح لهم من معارف وخادمة لما اعتقدوه مصالح ومحاسن وموجهة بما فرضته عليهم عصورهم من إكراهات. ولكن المصالح تدور مع الزمن كما تدور معه المفاسد، والإكراهات تتغير بتغير الأوضاع، وأدوات الفهم والتأويل هي الأخرى متغيرة متطورة بتغير المعارف وتطورها، ولا شكّ أن معارف عصرنا أكثر تطوّرًا من معارف العصور الماضية بحكم قانون التراكم.

هل يمكننا أن نستمرّ في غض الطرف عن أحكام تشرّع للقتل على الهويّة الدينية بناءً على مرويات ولنا في كلام الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه «لكم دينكم ولي دين» (الكافرون/ 6) و «لو شاء ربُّك لآمَنَ مَنْ في الأرضِ كلُّهم جميعًا أفَأنْتَ تُكرِهُ الناسَ حتّى يكونوا مؤمنين» (يونس/ 99) وفيه كذلك :«لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشْد من الغَيِّ فمن يكفُرْ بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم» (البقرة/ 256) في إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى قد جعل من الإيمان مسؤولية ذاتية للإنسان يحاسبه عليها وحده بعد أن بيّن له السبل وميّز فيها بين الحقّ والباطل؟

هل يمكننا أن نستمرّ في الاطمئنان إلى أحكام تشرّع شتّى أنواع التمييز على أساس الجنس أو العرق أو المعتقد أو الوضع الاجتماعي، أكثرها يستند إلى مرويات لسنا متأكدين من صحّتها وفي التسليم بأنها أحكام قطعية في عالم أصبح يعتبر التمييز أمرًا صادمًا للضمير. والحال أن تدبّر القرآن الكريم يوقفنا على ما يعجّ به من الآيات ومن العبر التي تؤكّد مبادئ الوحدة في التنوّع والتعايش مع الاختلاف؟ وهل هناك أوضح بيانًا لهذا المعنى من قوله تعالى: «يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليم خبير»؟ (الحجرات /13) ولو شئنا أن نعدّد نماذج من هذا الصنف لما كفانا مثل هذا المقال المحدود. هل يجدر بنا أن نستمرّ في تسليم أمر ديننا إلى أفراد يؤوّلونه بأهوائهم أو بقناعاتهم الخاصة أو بتوجهاتهم السياسية أو بدوافع ما يتيحه لهم ذلك من سلطة على النفوس وعلى العقائد ليستمروا في حكم الدنيا بالدين والحال أنه أصبح من مقتضيات سلطة الدولة أن تكون هي المستأثرة بالضبط الكلّي للمجتمع وأن هذه المسؤولية العظمى لم يعد بالإمكان أن يعهد بها إلى الفقيه أو المفتي كما كان الأمر على امتداد قرون مضت؟

إنني على يقين أن الكثير من «الشوائب» التي تلصق اليوم بالإسلام إنما مأتاها عادات اجتماعية ألفناها حتى اختلطت بالدين، أو هي متأتيّة من فهم أفراد أو جماعات تتكلّم من منطلق مصالحها وتدافع عن فهمها الخاص الذي لا يمثّل بالمرّة الفهم الوحيد الممكن، ويكفي أن نشير في هذا المجال إلى مثال واحد نراه في تأويلات جماعات الإسلام السياسي المتطرّفة التي تسبّبت وما زالت تتسبّب في وضع ديننا في موقع العداء للقيم الإنسانية والتي جلبت على بلداننا وما زالت تجلب كثيرًا من الويلات تحت غطاء خدمة الدين والدين منها براء، لنبيّن أن المشكل الحقيقي ليس في «الإسلام» بل هو في الفهم البشري للإسلام وتأويلاته البشرية التي لا تنفصل عن مقولات المصالح ولا عن دوافع السلطة. لذلك نرى أن من أوكد مجالات الاجتهاد التي ندعو إليها مجال مراجعة المرويات التي يتخذها هؤلاء وأضرابهم حجّة ودليلًا للاستمرار في بسط نفوذهم على المؤمنين من ذوي المعرفة الدينية المحدودة والبسيطة لتجنيدهم خدمة لمصالحهم وبذلك يستمرّون في سرقة إسلامنا منّا.

هوامش:
1) زهية جويرو: الإفتاء بين سياج المذهب وإكراهات التاريخ، بيروت، دار الطليعة، 2014م.

2) Patricia Crone, Martin Hinds: God`s Caliph, Cambridge University Press, 1986, pp: 50-64.
3) انظر على سبيل الذكر: غولدتسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة محمد يوسف موسى وآخرين، دار الكتاب العربي، ط2، 1959م.
4) نشير في هذا المجال إلى أنموذج من هذا الصنف: جمال البنّا: جناية قبيلة حدّثنا، دار الشروق، د.ت.