الضوءُ المُضاء بذاته «لالَّا» قدّيسة شاعرة من كَشْمِير

الضوءُ المُضاء بذاته

«لالَّا» قدّيسة شاعرة من كَشْمِير

«ارقصي لَالَّا وليس ما يكسوكِ غير الهواء،           

غنِّي لَالَّا متدثرةً بالسّماء. انظري إلى هذا النهار السَّاطع!

أيّ الثِّياب يسعها أن تكون أبهى وأقدس؟»

                                                                                                  «لَالِّشواري»

«لالَّا»، صوتٌ عذب وعارٍ حتّى النخاع، وزاخر بالحكمة والدلالات، يصلنا مخترقًا أصوات ستة قرون وأزيد، طازجًا ونضرًا، كما لو أنه نبيذٌ تليد في قِطْفٍ حديث.

«لالَّا»، صوتٌ صافٍ، ونجيب يُجيب، عن أسئلة لا تنتهي صلاحيتها؛ لأنّ رَحَاها تدور في المُطْلق، وفي الجوهر اللازماني واللامكاني، وفي الطبيعة الأصلية للأشياء التي بتجددها تظلّ في المركز.

«لالَّا»، صوتٌ كان ينام فينا. لكأنّنا سمعناه في حلمٍ قديمٍ نسيناه. لكأنّه ضالّتنا؛ معرفتنا الأصلية التي أَضَاعَتْها وِلادتُنا. لكأنّه لطافتنا التي لم نقوَ على إدامتها. لكأنّه أفعال حواسّنا على مدى سنين عمرنا وقد تكثّفتْ في قطرة نورٍ صغيرة برقتْ في قلوبنا؛ فكبرنا ألف عام في لحظة.

فيا لها من طاقة خلَّاقة برّاقة يختزنها شِعر هذه «العارفة» العظيمة؛ هذه «العارية» التي نزعتْ عنها جسمَها، ولم تُعَرِّه إلّا لتَتَعرَّى منه؛ هذه الراقصة رقصةَ الكمال ومَرامها حفظ توازنِ قُطْبَيْها فوق أرضٍ قَلّ مَنْ يشعر برقصتها.

* * *

كولمان باركس

قليلون هم الكشميريون، هندوسًا ومسلمين الذين لم تألف مسامعهم واحدة من حِكَمها أو مقولاتها الأثيرة التي تزخر بها قصائدها، والتي أضحت على مرِّ الزمن أمثالًا سائرة تتردد على كل شفة ولسان.

إنّها «لالّا» (1320- 1392م)، أشهر شاعرات لغة أهل كشمير المحكيّة القديمة. أشعارها الشفهية التي أنشدتها على قارعة الطرقات خلال القرن الرابع عشر -القرن الذي شهد رواج حركات دينية كثيرة في كشمير، وموجات تغيير على رأسها انتشار الإسلام- لم تفارقها الروح قط، وواصل قلبها النبض في الذاكرة الجماعية لأهل تلك البلاد، صادحًا بلغاتٍ ثلاث: الكشميرية والهندوستانية والسنسكريتية. وعدا عن اسم «لالّا» الذي يعني «محبوبة» بلغتها الأصلية أو «باحثة»، عُرفت هذه الشاعرة بألقاب أخرى عدة، منها: «لالّا فاكيانا»، و«لَالِّشواري»، و«لالّا يوغِيشواري» («ربة اليوغا لالّا»، وهو لقبها في السنسكريتية)، و«لال دِدْ» («الجدة لال» وهو أشهر ألقابها)، و«ماي لال دِدِّي» («الأم لال»)، و«بيبي عارفة» (لقبها في اللغة الأردية، وهو مأخوذ من العربية ومعناه «الآنسة العارفة» أو «العالمة») وغيرها. وليس تعدد ألقابها سوى انعكاس لاختلاف نظرة الناس إليها؛ فهناك من رآها شاعرة حكيمة، وهناك من رآها قديسة، وثمة من عدّها شيخة صوفية أو يوغانية نذرت نفسها للإله «شيفا»  أو حتى أنها هي نفسها الإله متجسّدًا.

منذ طفولتها، تمتعت «لالَّا» المولودة في بلدة «باندرتن» في الطرف الجنوبي الشرقي لمدينة «سريناغار» في كشمير المعاصرة، بطاقة روحانية عالية ومَيْل فطري نحو الحكمة والدِّين، وكانت بالغة الجمال. تزوجت في سنّ الثانية عشرة، غير أن تجربة زواجها لم تدم طويلًا؛ إذ سرعان ما ضاقت روحها بنمطية العيش ورتابته ضمن هذا الارتباط التقليدي، فتحررتْ من أسره وهي في الرابعة والعشرين من عمرها، لتنقطع إلى تحصيل الدروس والتعاليم الروحية على يد شيخ مرشد هندوسي (غورو) (Guru Siddha Srikantha) كرّس نفسه لعبادة الإله «شيفا». إبان تلك المدة، حرصت «لالَّا» على صحبة الزهّاد والرهبانيين والمتنسكين والحكماء الهندوسيين، متجاوزة مفهوم الذكورة والأنوثة إلى معنى إنساني أشمل، وشرعت تجول في المناطق الريفية لتلك البلاد، منشدة قصائدها «الرباعيات» في الطرقات، وهي ترقص بأسمال ممزقة بالية أو عارية تمامًا.

يقول عنها المتصوف الهندي، غورو «أوشو»: «كانت «لالّا» امرأة نادرة جدًّا، ولكن ما لم يمكن تصوره، أنها (بالمفهوم التقليدي للمرأة) لم تكن امرأة على الإطلاق: عاشت عارية، وظلّت طوال حياتها تتنقّل عارية. المرأة عادة تختبئ، وتكون خجولة وخاضعة؛ «لالّا» كانت مكافحة ومشاكسة؛ كانت مجرّد عقل ذكري في جسم أنثوي، وكان لديها تلاميذ كثر. في التاريخ، هذا لم يحدث إلا نادرًا، نادرًا جدًّا».

أعرضت «لالّا» عن فلسفة فيدانتا السائدة في زمانها، التي رأت أنّ «البراهمان» أو الطاقة الخلّاقة للكون، غير نشطة وأن الكون كله «مايا» أو «وهم». بالمقابل، انتمت «لالّا» إلى مدرسة اليوغا الشيفية الكشميرية -وهو ما تظهره قصائدها النابضة بالحكمة والمقتضبة والمباشرة- التي تبنت فكرة أنّ الكون القائم من المادة والطاقة (شاكتي) هو مظهر من مظاهر الوعي الكوني (شيفا)، الحقيقي والأبدي. واحتفت «لالّا» بالإله «شيفا»، المتجسّد بالقمر، الذي كان يمثّل لها الحقيقة الوحيدة المُطلقة، التي كانت تسعى إلى بلوغها من خلال تماهيها معه واتحادها به في مقام منتهى التجلّي («حال الشهود» لدى الصوفيين) أو ما يسمونه بمرحلة الإشراق عند تنسّم الرحيق الإلهي (يعتقد أنّ «لالّا» بلغت «النيرفانا» في عام 1389م)، حتى إن بعضهم قال: إنّ رقص «لالّا» ما هو إلّا انعكاس للغة جسد «شيفا» نفسه! والمعروف أنّ الروح في المعتقد الهندوسي هي جزء من الخالق (ضمن مفهوم وحدة الوجود)، وهي بعد تأهيلها بأداء طقوس التطهير الذاتي (فناء الذات) من أجل الانعتاق، وتخليص النفس من شرورها ونزعاتها وشهواتها، تعود إلى مصدرها، لتتّحد به.

تأثّرت «لالّا» بالإسلام الصوفي، علمًا أنّ الإسلام الذي انتشر في كشمير من خلال شيوخ صوفيين مثل الشيخ «بلبل شاه»، كان شديد التأثّر بـمذهب «مهايانا» البوذي وبفلسفة «الأوبانيشاد». شعرها كان وسيلتها لنشر فلسفتها في العشق العرفاني والعبادة الخالصة، وللانهماك الفعّال في كل من الشيفية والصوفية، إنما على طريقتها الخاصة بعد أن أصبحت مرشدة روحية ولديها أتباع. قصائدها انتقدت بحسٍّ ساخر أحيانًا، العبادة المترفِّعة والصنميَّة التي قوامها أنشطة روحية وحسب من دون تفعيل حواسّ الجسم، وإعمال جوارح الإنسان، للوصول إلى معرفة الخالق. ولعل أهم ما دعت إليه في أشعارها كان الابتعاد من المعرفة الجاهزة، ومدارس الفكر الديني التقليدية وبعض طقوسها الصارمة، والأخذ بالتعلّم التجريبي القائم على المعرفة الحسية للجسم، بأشكالها المادية العديدة والمتمايزة. والشائع أنها مبتكرة الشعر الصوفي المعروف بـِ«فاتسُن» (Vatsun) أو «فاكس» Vakhs)) أي «خطاب» (بالمعنى الحرفي)، ولذا، عُرفت أشعارها باسم «خطابات لال»، وهي من أقدم أشعار اللغة الكشميرية وأهمها في تاريخ البلاد الأدبي، ناهيك عن كونها ألهمت مشاهير الصوفيين لاحقًا. ورغم أن قصائدها تنتمي إلى التقاليد الهندوسية، إلا أن خزينها الروحاني سمح بترجمتها في القرون اللاحقة من المنظور الإسلامي لتكتسب بعدًا صوفيًّا خالصًا. وإذا كان في تاريخ كشمير المعاصر، الحافل بالعنف، من كلمة واحدة «سحرية» توحّد بين المسلمين والهندوس؛ فهي بلا ريب: «لالّا». وهناك قول مأثور لدى الكشميريين: «نحن نعرف كلمتين فقط ذات مغزى: الأولى «الله»، والثانية «لالّا»!

روايات وأقاويل كثيرة، معظمها من نسج المخيلة الشعبية، تناقلتها الألسن عبر العصور حول طبيعة حياة «لالّا» الغرائبية، منها ما هو فكاهي، كحكاية الأمسيات التي كانت تقضيها في ضيافة حَمَاتها الشريرة التي كانت من عادتها أن تضع لها حجرًا تحت وجبتها من الأَرُزّ المطهو كي توهمها بأنها تحظى بحصة كبيرة من الطعام. ومنها ما هو أُعجوبي، كحكاية لقائها بوليّ المسلمين الشهير آنذاك «سيّد علي الحمداني»؛ الشيخ المتصوّف الذي يُعزى إليه الفضل في هدْي أهل كشمير إلى الإسلام. وتقول الحكاية: إنه بينما كانت «لالّا» تتجول عارية في إحدى الدروب، وقع نظرها على الحمداني، وللتوّ فطنت إلى قداسته؛ فطفقت تعدو صوب أحد مخابز البلدة صائحةً: «لقد رأيت رجلًا!» وما إن ولجتْ باب المخبز، حتى قفزت في فرنه الملتهب لتلتهمها نيرانه الشرهة في ثوانٍ. وعندما بلغ الوليّ المخبز باحثًا عنها، انبثقت «لالّا» فجأة من الفرن، مكتسية بدِيباجٍ أخضرَ باهر من إستبرق الجنة! اللافت أنّ الشيخ الحمداني نفسه اعترف بقداستها! وهناك حكاية أخرى عجائبية يتناقلها الناس عن أن «لالّا» عادت في أحد الأيام من النبع وعلى رأسها جرة ماء من الفخار، فقام زوجها الغاضب بسبب تأخّرها بضرب الجرة؛ فتحطمت، ولكن الماء بأعجوبة، حافظ على شكله فوق رأسها! وهذا ما بات لاحقًا يُرمز إليه في الرسومات التي مثّلتها، بالشراب السماوي المتساقط من هالة حول رأسها.

موازنة بينها وبين الرومي

«كولمان باركس» أحد المترجمين الذين نقلوا بعض قصائد «لالّا» إلى الإنجليزية، عمد في إحدى دراساته إلى إجراء موازنة بينها وبين «جلال الدين الرومي»، مفترضًا أنهما على طرفَي نقيض؛ ففي حين أنّ أشعار «الرومي» مُسرفة، وفيّاضة، وجيّاشة المشاعر، وممتلئة حيوية؛ فإنّ أشعار «لالّا» مُقتصدة، ومُتزنة، ووقورة، ورابطة الجأش. كذلك فإنّ التعقيد والغموض اللذين يشوبان بعض أشعار «الرومي»، تقابلهما بساطة صارمة، ووضوح مفرط في أشعار «لالّا». ولعلّ باركس لم يجانب الحقيقة فيما ذهب إليه؛ فالمتأمل في أشعارهما سيجد أنه إذا كانت أشعار «الرومي» أشبه بمخيلة وردة تتحرّك بكامل بتلاتها؛ فإنّ أشعار «لالّا» أشبه بخلاصة عطر مُستقطَر من خاطر تلك الوردة. إنها أشعار تتنفّس في الجذور.

«لالَّا»، تشبهنا يوم كنا نشبه أنفسنا، وسوف تشبهنا «في حضرة قمر» يوم نكتشف «هذه المعرفة المستجدة بكيفية توحّد الأشباه». «لالَّا» أُمُّنا القديمة، وجدّة جدّتها. بساطة أشعارها من تُربة الشفاهية البصيرة التي تختزن في ذاكرتها لكلّ موقفٍ حكمته، ولكلِّ علّة عُشبتها الشافية، ولكلِّ عُصَابٍ (يستثيره فينا عالمٌ مُمْعن في مدينيته بلا رحمة) هرمٌ من البراءة، يزداد علوًّا كلما امتاح من الماضي، نصعد فيه نحو شفافية ما، تُنجِّينا من العيش في المصطنع، متخفّفين من أحمالنا مع كل خطوة إلى الأعلى، حتى لنكاد نقبض على فِطْرتنا في أنفاس «لالَّا»؛ جدتنا. هذا ما تبعثه فينا قراءتها؛ فأشعارها عابرة اللغات والقارات والأزمنة. إنها خلاصة كشف بصيرة وباصرة قديسة وشاعرة عظيمة تاقت إلى الوجود المطلق.

تَفكّرْ في اللغز الذي تجسّده

الروح كالقمر جديدة ومتجددة دومًا.

كذلك رأيتُ المحيط خلّاقًا باستمرار.

وبما أني طهّرتُ الذِّهن منِّي والجسم؛

فأنا لالَّا، أيضًا جديدة،

ومتجددة أبدًا.

معلّمي لقّنني شيئًا واحدًا:

احْيي في الروح!

حين تمَّ لي ذلك

جعلتُ عاريةً أطوفُ

وأرقصُ.

* * *

تدثَّرْ بالكفاف فقط من الملبس، ما يبقيكَ دافئًا.

اقتَتْ بالكفاف فقط من الطعام، ما يقيكَ وخزة الجوع.

وفيما يخصّ ذهنكَ؛

دعْه يجتهد ليدركَ هويتكَ،

وماهيةَ المُطلق، وأنّ هذا الجسم

سيغدو طعامًا لغربان الغاب.

* * *

«لالّا» مستغرقة في تأمّل «شيفا»

أولئكَ ذوو موهبة المشي في الهواء،

أولئكَ القادرون على إخمادِ نارٍ،

أو تجميدِ مجرى،

أو الحظو بحليبٍ من بقرة خشبية،

هم مشعوذو شوارع، ليسوا أكثر!

* * *

الزهّاد يتنقلون من مزارٍ إلى مزار

سعيًا وراء الذي يتأتى

من ارتياد الروح وحسب.

تفكّرْ في اللغز الذي تجسّده!

حين تُمعن النظر انطلاقًا من ذلك،

يبدو العشبُ المشذّب

على مقربة من هنا، أنضر

وحتى أكثر اخضرارًا في الأبعد.

اثبتْ هنا.

* * *

تأمّلْ من منطلق الأبدية.

لا تلزم حدود عقلكَ.

أفكاركَ مثل طفل يتململُ

قرب ثدي أُمِّه، مضطربًا وخائفًا،

وهو بقليلٍ من التوجيه

يُمكنه الاهتداء إلى درب الشجاعة.

* * *

ثمة مَنْ ينامون وهم مستيقظون،

وآخرون مستيقظون وهم في سُباتٍ عميق.

ومِمَّن يستحمّون في بِرَكٍ مقدّسة

ثمة مَنْ لن يطَّهروا أبدًا.

وهناك آخرون

تصرفهم الواجبات المنزلية

عن القيام بأيّ نشاط.

* * *

دعْهم يكيلون لعناتهم!

إنْ كنتُ في الباطن، على صلةٍ

بما هو حقيقي،

ستظلّ روحي ساكنة وصافية.

أوَتظن أنّ شيفا يُقلقه ما يقوله الناس؟!

إذا تناثر قليلٌ من الرماد على مرآة؛

استخدمْه لصقلها!

* * *

الشهرة ماء محمول في سلّة.

احبسِ الريح في قبضتك،

أو أوثقْ فيلًا بشعرةٍ واحدة.

هاتان مأثرتان تجعلانكَ شهيرًا.

* * *

الرجال والنساء الآن، حتى الأفضل بينهم،

بالكاد يتذكرون حياتهم السابقة،

أمّا بخصوص الأطفال، الذين تزداد حياتهم

صعوبة؛ فما حيلتهم؟!

هناك زمنٌ قادم مشوّه بشدّة وشاذّ،

لدرجة أنّ الكمثرى والتفاح

سينضجان مع المشمش،

والِابنة والأُم ستغادران المنزل يوميًّا

يدًا بيدٍ للعثور على غرباء جُدُد

للاضطّجاع معهم.

* * *

حُطَّ عني حِمْلَ العُذوبة التي أنوء بها؛

عُقدةُ الحَبْل تنغرز في كتفي.

هذا النهار تمادى في لا معناه،

أشعرُ أني لا أستطيع المضيّ.

حين كنتُ ومُعلِّمي، سمعتُ حقيقةً

آلمتْ فؤادي كقَرْح:

الألم العصيب لرؤيةِ شيءٍ عشقتُه،

كوَهْم.

القطعان التي رعيتُها، رحلتْ.

أنا راعية، حتى من دون ذكرى

لما يعنيه تسلّق هذا الجبل.

أشعر أني في منتهى الضياع.

تلك كانت حالُ روحي،

إلى أن وجدتُني في حضرةِ قمر!

– هذه المعرفة المُستجدة

بكيفية توحّد الأشباه.

فيا صديقي الطيّب،

كلُّ شيء هو أنتَ،

وأنا أرى الإله فقط.

الآن، تبدو الأشكال والحركات المُبهجة

شفافة،

أنظرُ من خلالها

فأراني الوجود المُطلق.

وها الإجابة على لُغز هذا الحُلم:

أنتَ تغيب، ليتسنى لنا نحن الاثنان

القيام برقصةٍ واحدة!

* * *

يصلون، والبعض الآخر يصل،

ثم يذهبون، ويذهب الآخرون.

ليلًا ونهارًا، حركة أقدام متواصلة.

من أين يأتون؟ وإلى أين يذهبون؟

وهل هذا يعني شيئًا؟

إنّه لا شيء، لا شيء، لا شيء.

* * *

ما الإدراك الذي يتحصّل من خلال القراءة؟!

لقد قررتُ عدم ترك الكتب تحدّد حياتي،

إنما فقط كلّ ما يساعد على

تبديد الوله والتوق العاطفي.

إنّ دهاء العقل الفطري الحادّ،

لَهُوَ ثعلبٌ يعرفُ ما يعوزني.

* * *

جئتُ إلى هذا الكون المخلوق والمُنبعث أبدًا،

ووجدتُ الضوءَ المُضاء بذاته.

إذا ما ماتَ أحدهم، فهذا لا يعني لي شيئًا،

وإذا ما متُّ، فهذا لا يعني شيئًا لأحد.

جيّدٌ أن نموت،

وجيّد أن نُعمِّر.

الموت والولادة حدثان مستمران

داخل الوعي الواحد،

ولكن أغلب الناس يسيئون فهم

اللعبة الخالصة للطاقة الخلّاقة،

وكيف ضمن ذلك،

هذان هما حَدَثٌ واحد.

* * *

لالَّا، جُبْتِ أماكن كثيرة

سعيًا لإيجاد زوجك!

الآن وبعد لأيٍ، داخل جدران

هذا الجسم المأوى، وفي القلب المزار،

ها أنتِ تكتشفين أين يحيا.

* * *

غابت الشمس: التشاكرا الأدنى للنشاط،

ثم القمر: التشاكرا الأعلى.

مُستغرِقًا في المُطلق، ذهني تلاشى.

أين ذهبتِ الأرض والسماء الآن؟

هل توارتا في العدم

مثل صديقتين في نزهة؟

* * *

ستختفي الشمس في ضوء القمر،

وسيتلاشى القمر في القلب،

وسيترمد الذهن المتوقِّد،

ولن يكون هناك شعور بالانفصال بعد،

بعدئذ، ستولد معرفة عظيمة

ومحبة تتسع لذلك كله.

* * *

بعض الناس زهدوا في منازلهم،

آخرون في صوامعهم.

هذا الزهد كلّه، بلا طائل

إنْ لم تكن واعيًا في الباطن.

نهارًا وليلًا،

كُنْ حذرًا مع كلّ نَفَس،

واحْيَ هناك.

معلِّمي، أنتَ الإله بنظري!

اكشفْ لي المعنى الدفين لِنَفَسَيِ الاثنين:

الأول الدافئ، والآخر البارد.

« في حوضكَ، قرب السّرّة،

يكمنُ مصدرُ الأنشطة الكثيفة

المسماة الشمس؛ مدينة الضياء.

وبينما تتصاعد حيويتكَ من تلك الشمس،

فإنها تسخن، وفي فمك تلتقي بالسيل البارد،

المُنحدِر عبر يافوخ ذاتك العليا،

والمسمى القمر أو شيفا.

هذا الخليط النهريّ، نحسّه بالتناوب

مرة دافئًا وأخرى باردًا».

* * *

ما هي العبادة؟

مَنْ هذا الرجل وهذه المرأة الآتيان بالزهور؟

أيّ صنوف الزهور ينبغي إحضارها،

وماء أيّ الجداول يُسكَبُ على التماثيل؟

العبادة الحقّة تتمّ بواسطة العقل

(فليكن هذا بالنسبة إلى رجل ما)،

وبدافع الرغبة

(فليكن هذا بالنسبة إلى امرأة ما)،

وليُترك لهذين الاثنين الخيار

فيما سيقرِّبانه.

ثمة سائل يمكن إفرازه

من تحت قناع الوجه؛

شراب إلهي حينما يتصبّب،

يمنحُ النفس انضباطًا وقوّة.

ليكنْ هذا هو سيلكَ المُقدّس.

ليكنْ نشيدُ عبادتكَ صامتًا.

* * *

أنتَ وحدك السماء وأنتَ وحدك الأرض،

أنتَ النهار والليل والريح المتناوحة،

أنتَ قربان الأَرُزّ ومعجون الصندل والزهور

والماء المقدّس،

أنتَ نفسُك الكلّ في الكلّ،

فما عساني أُقرّب إليك؟!

* * *

الشراهة تمنحكم الطاولة الأفضل في مدينة اللامكان،

الصيام يمدّ غروركم الذاتي بدفعة إلى الأمام.

يا عبيد التطرف، تعلموا فنّ الاعتدال

وستنفتح لكم جميع الأبواب المغلقة بلمسة.

* * *

الإله لا يريد منكم التأمل ولا التقشّف،

بالعشق وحده يمكن بلوغ جنة النعيم.

قد تذوب الذات في الواحد المطلق كالملح في الماء

ولكن هيهات لها أن تدرك سرّ الخالق.

* * *

الآن يا سيدي، تأكّد من أنكَ حصّنتَ مؤخرتكَ،

وإلّا فسوف يشقُّ طريقه

عبر حدائق الزعفران المجاورة.

لا أحد سينوب عنك

عندما تكون رقبتكَ على المحَكّ.

* * *

أجرُّ قاربي عبر المحيط بحبل مهترئ،

هل سيسمعني ويقودني إلى برّ الأمان،

أم هل سيرشح مني الماء وينفد

ككوز فخار لم يُشْوَ جيدًا؟

هيمي يا نفسي المسكينة؛

فلن تعودي إلى ديارك في أي وقت قريب.

* * *

كنتُ مشبوبة العاطفة،

مُفعمة صبابة،

أبحثُ في كلِّ مكان.

ولكن في اليوم الذي

وجدني فيه الكائنُ الحقّ،

كنتُ في بيتي.

* * *

بدعابةٍ اختبأتَ مني؛

فقضيتُ طوال اليوم أبحثُ عنكَ،

وحين اكتشفتُ أخيرًا أنني كنتُ أنتَ

أخذتنا نشوة الابتهاج بذلك.