أسئلة التحديات.. نحو ثقافة عربية فاعلة

أسئلة التحديات.. نحو ثقافة عربية فاعلة

للثقافة العربية وجودها العضوي المعتمد على تراكمات تاريخية وجغرافية بما يجعل هذا الوجود هو المرتكز الأساسي لتكوين الهوية العربية، وهي الهوية التي يمكن التعويل عليها إن صح اكتمال رؤيتها في وقوف هذا الوطن الكبير أمام العواصف التي تواجهه من آنٍ إلى آخر؛ أما التراكمات التاريخية فلا تقف حدودها عند العصر الجاهلي فقط بل تمتد إلى كل العصور التي شهدت فيها هذه الثقافة تطورًا ما من إسلامي وأموي وعباسي وأندلسي… إلخ.

وأما التراكم الجغرافي فيعتمد على عنصر الجغرافيا الثقافية، وهو ما يتحقق في تجاور بل تواشج الثقافات الإقليمية بصورة يمكنها أن تصنع خريطة ممتدة على مدار البلاد العربية، يمكنها أن تمتد إلى بعض البلدان خارجها، وتستفيد في الوقت ذاته من التجاور مع ثقافات إقليمية ليس لها طابع التراكم التاريخي المشار إليه، وهو الأمر الذي أشار إليه طه حسين في كتابه المهم «مستقبل الثقافة في مصر»، حين تحدث عن الدوائر والمحيطات الحضارية التي تنتمي مصر إليها وعدَّدَها بالدوائر العربية والإسلامية والإفريقية والمتوسطية، مشيرًا إلى الطابع التراكمي المتداخل في تكوين الهوية الثقافية، والأثر الإيجابي الظاهر والخفي في هذا التكوين.

من هنا تأتي الخصوصية الواضحة للثقافة العربية عمومًا من حيث هي واقعة في مركز جغرافي متوسط على مستوى العالم، ومن حيث أثرها المتوسط بين الحضارات الموغلة في القدم كالحضارة الفرعونية واليونانية وحضارات الغرب الحديثة، ومن حيث هي قادرة على امتصاص كل عناصرها وإعادة إنتاجها على الرغم من إبقائها على استقلالية العناصر الرافدة.

ومن هنا أيضًا يمكن النظر إلى الثقافة في المملكة العربية السعودية بوصفها إحدى المرتكزات المهمة في مجال بناء هذه الخريطة، مثلها مثل كل الثقافات الإقليمية في كل البلدان العربية، وإن بدت إحداها في حقبة أشد تأثيرًا من قريناتها في حِقَب أخرى، وهو ما يجعلها واحدة من أهم روافد صناعة الهوية العربية في المستقبل متجاورة مع قريناتها شريطة أن تقوم بالتعامل مع العوامل التي يمكنها أن تؤثر بالسلب وتثقل من حركتها نحو مستقبل أكثر رحابة وانطلاقًا، وهي العوامل التي يمكنها أن تكون مكررة في النماذج العربية جميعها وإن اختلفت الدرجات، وإن اختفى بعضها وظهر البعض الآخر، وهي الأمور التي يمكن تقسيمها إلي عدد من الأقسام منها:

تحديات الهوية

تعد الهوية الثقافية العامل الأول في تحديد كيفية رؤيتنا لأنفسنا، وهي العامل الأهم المتحكم في ثبات الوضعية الثقافية أو تطويرها وتغييرها، ويعد الارتباط بالماضي بوصفه النموذج والدليل واحدًا من مقومات الثقافة الشرقية عمومًا وهو الأمر الذي يظهر في البلدان العربية عمومًا من خلال فكرة التقاليد والإعلاء منها حتى إن كانت هذه التقاليد لا تتماشى والتطورات التي تمر بها المجتمعات، وهو الأمر الذي يجعل أي محاولات للتطوير – ربما يمكننا أن نتوسع في الحكم فنقول – على أية مستويات وفي أية مجالات حتى العلمي منها تواجه بعواصف رافضة ربما تتحول إلى الرفض العنيف في بعض الأحيان، وربما كانت دعوات تعليم المرأة، ودخولها الجامعة في منتصف القرن العشرين في مصر خير مثال على ذلك، على الرغم مما بدا بعد ذلك من أدوار حقيقية قامت بها المرأة في مجتمعاتها.

إن العلاقة الوثيقة مع الماضي ربما تتحكم كثيرًا في وعينا بذواتنا، ما يتطلب الخروج المحسوب منها بما لا يشكل خطرًا على هويتنا الخاصة والثقافية، وهو الأمر الذي يستدعي معرفة مواضع أقدامنا في السير، كما يستوجب معرفة مواضعنا على خريطة الحضارات العالمية ومدى تأثيرنا فيها وأثرنا المرجو منها، وبما يفتح المجال لمناقشة علاقتنا بلغتنا كواحدة من إشكاليات هذا المجال، وبخاصة مع وضعية متلقي العلوم والمعارف التي اتخذناها في العصر الحديث.

  

تحدي التنوع والتعدد

على اتساع الوطن العربي واتساع أقاليمه تظهر خريطة التنوع العربية واحدة من أهم روافد الثقافة التي يبدو التعامل معها في بعض الأحيان تعاونًا قاصرًا باعتبار أن المجتمع يتكون من متن مركزي وهامش تابع له، وهو الأمر الذي يقابله الهامش باعتبار نفسه مركزًا ومتنًا مستقلين وأن بقية الأجزاء هوامش منفصلة. هذا التعامل على وجه التحديد يؤدي إلى تفتيت الهوية القومية الواحدة وعزل كثير من أجزائها.

وكل ذلك يوجب التعامل بحساسية مع الفارق بين فكرة التنوع الثقافي؛ بمعنى أن تكون الأقاليم الثقافية محتفظة بهويتها الخاصة لكن مع الوعي بانضوائها تحت مظلة هوية قومية واحدة، على عكس التعدد الموحي باستقلال كل هوية ثقافية استقلالًا كاملًا عن المظلة القومية أو عن الثقافات الإقليمية الأخرى. لكن التحدي الأهم في هذا المجال هو تفعيل منطق الشراكة المجتمعية بين هذه المراكز بوصفها أعضاء في مجتمع متكامل وهو ما يكون من شأنه تقوية الروابط بين الأجزاء التي بدأت في التعامل مع نفسها بوصفها عناصر شبه مستقلة، وكذا تقوية الروابط بينها وبين مظلة الهوية القومية في العموم، غير أن ذلك يستدعي تحديًا أكبر وهو العمل على تقليص الفروق التنموية بين هذه الأجزاء كلها، ليصبح المجتمع كاملًا في تنوعه إضافة إلى فكرة الوطن وهويته، وهو الأمر الذي يشكل تحديًا كبيرًا لا يواجه فقط ثقافتنا العربية بل يبدو أنه التحدي الذي يواجه كثيرًا من القوى الاقتصادية الكبرى مثل الصين.

على سبيل الختام

تمر مجتمعاتنا العربية في هذه المرحلة التاريخية بمحور مفصلي يوجب عليها التوقف مليًّا عند رؤيتها لنفسها ووجودها وعلاقتها بماضيها ومن ثم رؤيتها لمستقبلها، وهو الأمر الذي يتحكم في مقدار التطور الذي يجب أن تبتغيه هذه المجتمعات من حركات إصلاحها الواجبة هنا والآن لمواجهة ما يطرأ لحظيًّا من تحديات يفرضها واقع التغيرات العالمي.

وإذا كانت الحكومات قد بدأت السير في هذا الطريق في عدد من هذه البلدان مثل المملكة العربية السعودية ومصر والمغرب، بهدف بدء هذا الطريق الهادف للتطوير، فإن ما يبدو على قدر كبير من الأهمية هو وجوب إحداث توافق بين الرؤى الحكومية والرؤى الشعبية والمجتمعية حول خطط التغيير هذه، وهو ما يجب أن يتم عن طريق اقتناع الشعوب بوجود مصلحة لها تتحقق في هذه الأطوار التغييرية، وربما يكون الربط بين الثقافة والتنمية الاقتصادية هو العامل الأكثر تأثيرًا في هذا المجال، غير أنه لا بد لنا من الإشارة إلى أن هناك مجهودًا كبيرًا يجب بذله في مجال جذب المجتمعات إلى فكرة التغيير بوصفها حتمية تاريخية يجب مسايرتها في تلك اللحظات الفارقة.