الثقافة مجتمع يقتلها ومجتمع يحييها

الثقافة مجتمع يقتلها ومجتمع يحييها

لماذا لا يحظى مفهوم الثقافة بتقدير المجتمع؟ فقد يكون ذلك لانخفاض الوعي بأهمية الثقافة لدى شريحة واسعة من أفراد المجتمع من جانب، ومن جانب آخر، وتدني مستوى الجودة في كثير مما ينتج من ثقافة، وغالبًا النتاج الثقافي الضعيف لا يجذب إليه أحدًا ومن ثم لا ينال الاهتمام. إن الحديث عن مكانة الثقافة وتقديرها في المجتمع، كالحديث عن جدلية (البيضة أم الدجاجة؟) فمستوى جودة الثقافة المتدني يجعلها لا تحظى بتقدير المجتمع، وعدم تقدير المجتمع للثقافة يؤدي إلى تدني مستوى جودتها. إننا متى سلمنا بأن تقدير المجتمع للثقافة يرتبط بعاملين جوهريين: ارتفاع وعي الناس بأهميتها، وارتفاع مستوى جودة المنتج الثقافي نفسه. أدركنا ضرورة معالجة الأسباب التي تعوق نمو الوعي بأهمية الثقافة، وأهمية إصلاح البيئة الثقافية بما يجعلها خصبة صالحة لنمو ثقافي مزدهر، ويأتي في مقدمة ذلك معالجة ثلاث مسائل كبرى:

أولها تدني كفاءة التعليم في جميع المراحل، فالتعليم في البلاد العربية، وليس لدينا فقط، بصرف النظر عن المناهج التي يتبناها أو محتوى الكتب المدرسية التي يعتمدها، ما زال يرتكز بشكل كبير في أسلوبه على التلقين، وهذا الأسلوب التعليمي، من أبرز عيوبه أنه يحرم الطالب من استعمال قدراته الذاتية في التفكير والتعبير فيضعف نموها، وتأتي المخرجات التعليمية بسبب ذلك في صورة ببغاوات تردد ما لُقن لها ودُربت عليه، فلا تفكير مستقل، ولا قدرات إبداعية حرة. وحين يكون هذا هو الأسلوب العام في التعليم، فإنه لا غرابة إن هيمن على الثقافة العربية شحٌّ في أعداد المفكرين والأدباء والفنانين والمخترعين والباحثين! أما ثاني تلك المسائل، فضيق المساحة المتاحة للتعبير. ومن المعروف أن مسألة تقييد التعبير أو إطلاقه، هي من المسائل الجدلية التي يستحيل أن تتفق حولها الآراء، فهناك من يؤيد إطلاق التعبير، وترك الناس يبدون من الآراء والأفكار ما يشاؤون بلا رقابة من أي شكل. وهناك من يرى غير ذلك، بحجة أن إطلاق حرية التعبير قد يسيء إلى الدين أو الأخلاق، كما قد يكون فيه تهديد لأمن المجتمع وإثارة الفتن داخله.

ومن نافلة القول، إن مؤسسات الفكر والفن والأدب والبحث العلمي والإنساني والإبداع الموسيقي والمسرحي وغيرها من أشكال المؤسسات الثقافية، لا يمكن لها أن تزدهر متى كانت مقيدة الحركة تتعثر في العقبات المنثورة في طريقها، كما أن وجود تلك العقبات يصيب المثقف بالإحباط الذي ينعكس أثره على قوى التفكير والإبداع عنده، فيعتريها الفتور والعزوف عن الإتيان بجديد أو شيء مختلف، فلا غرابة إنِ انصرف المبدعون والمفكرون بعيدًا من ساحة الثقافة، وتركوها تنطوي على ذاتها تجترّ القديم والمقبول مما هو مألوف.

ثالث تلك المسائل، يتمثل في الضعف العام في الإعلام بجميع أشكاله. فلغة الإعلام العربي ضعيفة، وبرامجه تغرق في التفاهة والسطحية، وغالبًا تجده يحصر نفسه في موضوعات النفاق، والتحريض على الكراهية، وتعزيز الخلافات الأيديولوجية والسياسية. إن إعلامًا كهذا يتلبسه في داخله الانشطار والصراع والتذبذب، لا يتوقع له أن يكون قادرًا على النهوض بالثقافة. فالثقافة التي يطرحها الإعلام يغلب عليها التناقض والتفكك والزيف، وما زالت تتخبط في تناول مفاهيم التشطير والثنائية، وما فتئت تعمل على التصنيف والتفييء. وحين تكون هذه هي حال الثقافة التي يطرحها الإعلام، فإنه من المتوقع أن يظهر بين أبناء الجيل شباب من المثقفين السطحيين أو (التائهين) الذين «لا يملكون تصورًا واضحًا لما يريدون»، كما وصفتهم الدكتورة لمياء باعشن في مقالها الموجه لوزير الثقافة والإعلام في جريدة المدينة (الخميس 25/ 5/ 2017م).

إن الاهتمام بهذه القضايا الثقافية الجوهرية، لا بد أن يأتي في المقدمة لمن أراد إنعاش الثقافة والارتقاء بها، وبخاصة أن النهوض بالثقافة ودعم تنميتها ليس أمرًا اختياريًّا، وليس شيئًا ثانويًّا، إنما هو يأتي ضمن أولويات كل مجتمع يطمح أن تكون له الصدارة.