الكُتاب المنفصمون.. جون شتاينبك آخرهم

الكُتاب المنفصمون.. جون شتاينبك آخرهم

فاضل السلطاني
كاتب عراقي

يبدو أن الانفصام بين المبدع وإبداعه سيبقى سرًّا عصيًّا على الفهم الإنساني، مهما استعنا بالعلم الحديث، ونظريات علم النفس. نقرأ لكتاب نصوصًا لا أعذب ولا أرقّ، ونطلع على تفاصيل حياتهم فلا أبشع ولا أشنع. كأننا أمام عدوين متحاربين، لا تبدأ حياة أحدهما إلا بقتل الآخر. الأمر جارٍ هكذا منذ فجر الأدب. صحيح أنه علينا ألا نخلط بين النص وصاحبه، وإلا لتوقفنا عن القراءة. وصحيح أيضًا أن لحظة الإبداع لها قوانينها الخاصة المستقلة، التي قد تكون مستقلة عن صاحبها، والتي لا يعرف أحد ما هي. لكن هذا يبقى أقرب إلى الفضاء النظري منه إلى المجال الواقعي، وبخاصة في عصرنا الحديث.

بالمقابل، نحن لا نكف عن النبش في حياة الكاتب، ربما لنلتقط شيئًا يساعدنا على فهم الآلية التي صيرته مبدعًا، وربما أيضًا، لرغبة دفينة فينا، لمعرفة مدى الانسجام أو الانفصام بين الفعل والكلمة، والفكر والممارسة. ألهذا السبب نحب كتب السيرة، كما نحب النميمة في حياتنا اليومية؟ في الغرب بالتحديد، هذا «النبش» نوع أدبي كامل، انتعش عندنا في العصر العباسي ثم انقطع مع انقطاعنا الحضاري والثقافي.

هذا النبش لا بد أن يترك تأثيرات بالغة، سلبًا وإيجابًا، على قراءاتنا، وتصوراتنا، وبالتالي عواطفنا كقراء تجاه هذا الكاتب أو ذاك. وللأسف، الجانب السلبي هو الغالب، فقلما نعثر على ذلك الانسجام المطلوب ولو في حده الأدنى، أو الذي نتمناه، عند الكُتاب الذين أحببناهم لدرجة أننا حوّلناهم إلى كائنات أثيرية تطوف في فضاءاتنا، وتسكن خيالاتنا، حتى لم نعد نتصور أنها كانت يومًا كائنات حية تدب على الأرض، والذين ألهمونا المثل العليا، وأعادوا تربيتنا الأخلاقية والجمالية، وخلقوا طبيعتنا الثانية، إذا استعرنا تعبير فريدريك نيتشه، ثم نصحو ذات يوم لنكتشف أنهم كانوا على النقيض من ذلك تمامًا.

التاريخ الأدبي مليء بـ«الكتاب االمنفصمين» منذ عصر الإغريق حتى يومنا هذا، وآخرهم الذي عرفناه مصادفةً هو صاحب «عناقيد الغضب»، و«شتاء السخط» و«شرق عدن»، جون شتاينبك. فقد عثر أخيرًا على مذكرات زوجته الثانية، وأم طفليه، كونجير شتاينبك، التي رحلت عام 1975م. ونشرت المذكرات الضائعة في سبتمبر الماضي، بعد خمسين سنة من رحيل شتاينبك عام 1968م.

شتاينبك الإنسان في هذه المذكرات يناقض شتاينبك الروائي إلى درجة مريعة.. كل الظلم الذي فضحه في «عناقيد الغضب»، كان يمارسه في بيته الصغير. كان يتصرف مثل الأسياد المتجبرين الذين أدانهم في تلك الرواية الخالدة، التي صدرت عام 1939م، كاشفًا فيها آلام عبيد الأرض، فهزت المجتمع الأميركي، والعالم الذي أضفى على مؤلفها إكليل الغار بمنحه جائزة نوبل للآداب عام 1962م، وكان جديرًا بها. تقول لنا كونجير شتاينبك في مذكراتها: «مثل كل الكتاب الكثيرين جدًّا، كان شتاينبك يملك عدة حيوات، وفي كل حياة كان يشعر أنه السيد… كان يعاملني كعبدة من الوقت الذي يصحو فيه حتى ينام». كان لا يريد أن ينافسه أحد في مملكته، حتى إنه تمنى الموت لطفله المولود حديثًا، بينما ذرف دموعًا لم يذرفها على أحد من قبل بعد موت جرذه الذي اعتاد أن يطلقه في البيت، وسط صراخ الجميع وهلعهم. كان يتلذذ بذلك كثيرًا، كما تنقل لنا زوجته من وراء قبرها.

يذكرنا شتاينبك الإنسان، إذا أخذنا مثلًا قريبًا منا، بالشاعر الرقيق، عاشق الطبيعة، وأحد أكبر الشعراء البريطانيين في القرن العشرين، تيد هيوز، الذي دفع زوجتين إلى الانتحار: الأولى، الشاعرة الأميركية الشهيرة سيلفيا بلاث التي انتحرت عام 1963م بفرن غاز، وهي في الحادية والثلاثين فقط، مخلِّفة وراءها طفلين. والثانية، آسيا وفل، التي قتلت نفسها عام 1968م بالطريقة البشعة نفسها: فرن غاز، آخذة معها هذه المرة طفلتهما الوحيدة ذات السنوات العشر.
ماذا عن انفصام كتابنا العرب، على الأقل المحدثين منهم؟ لا نعرف شيئًا غير كلماتهم الجميلة، ولم نقرأ غير سير ذاتية لبعضهم، وبالطبع مشرقة دائمًا. ويبدو أننا سننتظر طويلًا حتى ينتعش عندنا مرة أخرى أدب سيرة «ينبش» في حيوات مبدعينا، كما عند الأمم الحية، أو ربما من الأفضل أن نبقى هكذا جاهلين حتى لا تنفجر رؤوسنا!