قصة تبحث عن مخرج

قصة تبحث عن مخرج

كان من تأليف هذا الرجل الجليل مذكّراته التي كتبها سنة 745هـ/ 1345م وهو يعيش قمة أيامه مع السلطان أبي الحسن. هذه المذكرات النفيسة تحتضنها مكتبة الإسكوريال التي توجد بضاحية مدريد تحت رقم 483 ورقم 1734. وقد حفلت الكتب بأخبار هذا الشيخ: إبراهيم بن الحاج، وقدّمته باسمه وكنيته ولقبه على هذا النحو: أبو إسحاق إبراهيم بن عبدالله بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن إبراهيم بن عبدالعزيز بن إسحاق بن أحمد بن أسد بن قاسم، الكاتب القاضي النّميري، الذي يُعرف بابن الحاج الغرناطي(1). ولم تهتم به فقط المدونات العربية ممن اهتمت بتاريخ بني مرين، لكن الاهتمام به امتد إلى رجال الاستشراق ممن كانوا يتطلعون إلى مزيد من أخبار الأندلس، وتاريخ الغرب الإسلامي عامةً.

ودونما أن نتيه في أسماء كثير من الباحثين، الذين استهواهم نشاط الرجل على مختلف الصُّعُد، نكتفي هنا بذكر اسم زميل لنا تعرّفنا إليه من كثب، وهو الباحث الجاد السيد دوبريمار A. L. Debremare، الذي كان له الفضل في التنقيب عن الشيخ إبراهيم بن الحاج، بل في إعداد رسالة عنه تحت عنوان: (المغرب والأندلس في القرن الرابع عشر) من خلال مذكرات سفير أندلسي في المغرب عام 1344 – 1345م، وكانت مذكرات غير مسبوقة ولا ملحوقة، شائقة حقاً، ومفيدةً، وذات دلالات حضارية.

نحن نسمع عن مدينة (آنفا) في العصر الوسيط، التي آثر بها السلطان أبو عنان الرحّالة ابن بطوطة حاضرةً يقضي فيها بين الناس، والتي أصبحت في عصرنا هذا تحمل اسم (الدار البيضاء). مدينة (آنفا) التي كانت قاعدة إقليم تامسنا قبل أن تدمّرها إمبراطورية البرتغال انتقاماً من المملكة المغربية في أعقاب هجوم الجيش المغربي على مرسى (لاقُش) جنوب البرتغال، وهو ما نصصنا عليه نصاً في التاريخ الدبلوماسي للمغرب(2).

تعدّ المذكرات التي نشرها دوبريمار من المعلومات القيمة التي لا غنى عنها لمن يهتم بتاريخ الغرب الإسلامي. لقد تناول صديقنا 353دوبريمار هذه المذكرات من زوايا كثيرة في عدة فصول، واستوعب ذكر المتحدثين الذين أشاروا إليها في القديم والحديث، ابتداءً ممن أشرنا إليهم إلى زميلنا الدكتور ابن شقرون(3). لقد وصفوا بيته بالبيت (النبيه)، ونعتوه هو خاصةً بأنه كان مليح الدعابة، طيب الفكاهة، كيف وهو صاحب كتاب (المساهلة والمسامحة في تبيين طرق المداعبة والممازحة)، وأنه بعد أن غادر مدينة غرناطة سنة 737هـ تعرّف -بفضل أشعاره- إلى الناس، ودوّن رحلاته، وعاد إلى إفريقية (تونس) حيث خدم بعض ملوكها، واستقرّ ببجاية، قبل أن ينتقل إلى المغرب الأقصى لخدمة مليكه أبي الحسن. ولم يلبث أن عاد إلى المشرق فحجّ، وعاد ثانيةً إلى إفريقية؛ إذ أمسى بها السلطان أبو الحسن الذي عراه هناك ما عراه، وهو ما حمل إبراهيم على الاعتزال بعد أن حدث ما حدث بين الولد والوالد. وقد عاد إلى السلطان أبي عنان بعد أن تجلّت الأحداث، قبل أن يُفلت بجُريعة الذَّقن على حدّ تعبير ابن خلدون في ظروف مصرع أبي عنان، ويلتحق بمسقط رأسه غرناطة سالماً غانماً؛ ليعمل مع ملوك بني نصر. وهنا من غرناطة سافر القاضي النميري إلى تلمسان سنة 768هـ/ 1366 – 1367م، فوقع مركبه في أسر العدو على أن يتم افتداؤه بما ينيف على سبعة آلاف، ويعود إلى وظيفته مع حكام بني نصر. ومما يذكر عنه أنه عُرف بطموحه، وتطلّعه، وعزة نفسه، لكن الزمان كان يُعاكسه على نحو ما. قال المتنبي:

 

وأتعبُ خلق الله من زاد همُّهُ

وقصَّر عما تشتهي النفسُ وجْدُهُ!!

 

كما عُرف بـ(سلوكيته)، ومجاراته ما يظهر به الزمان، ومن ذلك قوله وقد توفِّي السلطان أبو يحيى بن أبي بكر صاحب تونس، وتولّى ابنه أبو حفص بعد تصفيته أخويه:

 

وقالوا: أبو حفص حَوَى الملكَ غاصباً

وإخوته أولى وقد جاء بالنُّكْر

فقلتُ لهم: كُفّوا فما رضِي الورى

سوى عُمَرٍ من بعد موت أبي بكر!!

وقد تولّى الحديث عن هذا الرجل، الذي تقلّب في الوظائف، وعرف المحن كذلك -كما قلنا- صديق لنا، هو الأستاذ دوبريمار، وكان ذلك من حسن حظّ الاثنين معاً.

الذي يهمّنا في موضوعنا اليوم هو نصوص مذكرات إبراهيم النميري سنة 745هـ/ 1344 – 1345م، وهو في صحبة العاهل المريني السلطان أبي الحسن داخل المغرب الأقصى(4). في ترجمته المذكرات باللغة الفرنسية، قدّم لنا عدة فوائد عن رجالات الأندلس والمغرب، فقرأنا عن أسرة إبراهيم الحكيم الذي كان وزيراً في رندة، والذي ترجمنا له في بحثنا عن (رندة على عهد بني مرين)(5). وفي هذه المذكرات قرأنا عن سيدة أديبة نبيلة، كانت تقوم بدعوة سيدات فضليات إلى (صالونها) الأدبي بالعاصمة العلمية: فاس. هذا، إلى جانب حديث مفيد عن سيدة عالمة أخرى تحمل اسم (صُبح)، كانت ممّن ترجمنا لها في كتابنا عن تاريخ المرأة في الغرب الإسلامي(6)، وحديث آخر عن صديقه بمدينة آنفا (الدار البيضاء): العلامة أبي العباس الرقاص، وعن مجلس علم بضفة وادي أم الربيع على مقربة من أزمور، وعن أحد المتصوفة التابعين للطريقة الشاذلية في (سايس) ينتظر الاجتماع بالسلطان أبي الحسن.

ويكون المهم عندنا في مقالنا هذا هو ما جاء في الفصل الثالث، الذي تطرب له المثاني والمثالث، حول قصر المجاز الذي -كلّنا يعرف- كان المرسى أو الميناء الأقرب مسافةً من عدوة المغرب إلى عدوة الأندلس، وهو المرفأ الذي ورد ذكره كثيراً في كتب التاريخ المغربي الأندلسي، والذي قد يُسمّى قصر الجواز، أو قصر مصمودة(7). قصر المجاز هذا وردت في شأنه قصة عجيبة مثيرة تبحث عن مُخرج، تتعلق بوجود شاهد قبر كان يُوجد هناك وقتئذٍ يحمل معلومات جدّ مهمة عن سيدة نبيلة كانت في عصمة الخليفة الناصر ابن الخليفة المنصور بن يوسف بن عبدالمومن مؤسس دولة الموحدين(8)، ونفضّل أن نأتي أولاً بالنصّ العربي قبل أن نعلّق عليه.

 

الباب الثالث: مشاهدات المؤلف أثناء تنقلاته

أسطورة حول شوكة (شاهد) قبر من رخام بقصر المجاز

فصل: كان رحيل مولانا -أيّده الله- من منزل أويات Awiyat(9) في يوم الخميس الثالث عشر لهذا الشهر المحرم 745هـ (27/5/1344م)، وكان نزولنا بمنزل قصر المجاز. وأقام مولانا -أيّده الله- بهذا المنزل يوم الجمعة الرابع عشر لهذا الشهر، وصلّى صلاة الجمعة بجامع القصر (يعني: قصر المجاز).

ولما انصرفنا نبّهني صاحبنا العالم الفاضل أبو العباس بن شعيب إلى (شوكة) رخام بخارج القصر فيها أبيات شعر، فسِرْتُ إليها، وهي في موضع مقابل لباب البلد في ضفة الوادي الغربية، ونظرتُ إلى الشوكة المذكورة التي كانت في غاية الاحتفال، وخطّها من الكوفي المسند مُداخَل بتوريق، وفيها هذه الأبيات الأربعة، اثنان منها مكتوبان في جهة، واثنان في جهة مقابلة، وهي من بحر (الوافر):

تناساني الأحبة إذْ رأوني

رهينَ جنادلٍ تحت التراب!

فمَن را مضجعي فليعتبرني

ولا يغترّ بعدي بالثياب!

ليعتبر الذين رأوا شبابي

كأنّ الموت لم يكُ في حسابي!

يزورني الحبيب ولا يراني

ويدعوني ولا يرجو جوابي!!

وفي رأس (الشوكة) كلمة مريم بنت …، وفي أسفلها محمد الأسدي. قال صاحبنا أبو العباس: سمعتُ بعض العوام بالقصر (قصر المجاز) يحكي أنها -أي: مريم- كانت من أهل قرطبة، وكانت ذات حسن رائع، وأدب رفيع، فسمع الخليفة الناصر بها، فخطبها لوالدها، وانعقد نكاحها، وسيقت إليه، فلما دخلت عليه بمراكش أعجب بحسنها (ليس هذا فقط)، ولكنه خَبَر من محاسن باطنها ما أنساه ظاهرها، فلم يكن إلا أن جعل لها أن تتمنى، فلما وثقت به قالت: أتمنى أن تردّني إلى بلدي!!. قال: فعزّ ذلك عليه، ولم يمكنه إلا أنْ صرفها، فلما بلغت (قصر الجواز) توفيت فيه. قلت (القائل إبراهيم بن الحاج): سألتُ قاضي القصر الذي نذكره بعد عن هذه المرأة بمحضر المعتبرين من أهل القصر، فقال لي: كانت من أهل الأندلس.

ونرجو أن نسجّل هنا، ما دُمنا على مقربةٍ من حديث إبراهيم بن الحاج في مذكراته عن قاضي مدينة القصر الصغير، الذي وعد بأنه سيذكره بعد، أقول: نرجو أن نسجّل هنا أخبار الرحالة المغربي ابن بطوطة الطنجي عن الفقيه أبي زيد عبدالرحمن ابن القاضي أبي العباس أحمد بن خلوف، من أهل قصر المجاز، الذي قام بأداء مناسك الحج سنة 728هـ/ 1328م ضمن مجموعة أتت إلى الحج من أهل طنجة بلدة ابن بطوطة ومن القصر الكبير(10)، فهل للقاضي المذكور عند ابن بطوطة صلة بوالد الفقيه أبي زيد عبدالرحمن؟!.

ثم أذكر أنني على مثل اليقين من أن الذي أبلغ أخبار السيدة مريم إلى الخليفة الناصر هو القاضي ابن حَوْط الله، أستاذ الخليفة الناصر وقاضيه على قرطبة ومرسية وميورقة ومدينة سلا، دفين مالقة، ربيع الأول سنة 612هـ/ يوليو 1215م. وابن حوط الله هذا هو عبدالله بن سليمان بن داود، ابن حوط الله الأنصاري الحارثي الأزدي، الذي كان يدرس كتاب سيبويه، وكان معظّماً عند الملوك، معلوم القدر لديهم، يخطب في مجالس الأمراء والمحافل الجمهورية، ولملوك الموحّدين به اعتناء كبير(11).

وإلى جانب هذا، فإنني أعتقد أن هذا الحدث وقع عندما كان الخليفة الناصر يستجمّ بمراكش في أعقاب قفوله من إفريقية (تونس) إلى المغرب، ودخوله منتصراً مراكش في ربيع سنة أربع وستمئة للهجرة/ أكتوبر 1207م(12)؛ إذ وفدت عليه الوفود، وهنّأته الشعراء بالفتح الذي أحرزه في الشرق، وكان مما أنشده ابن مَرْج الكحل قوله:

 

ولما توالى الفتح من كل وجهةٍ

ولم يبلغ الأوهام في الوصف حدّه

تركنا أمير المؤمنين لشكره

بما أودع السرّ الإلهي عنده

فلا نعمة إلا تؤدي حقوقها

علامته بالحمد لله وحده!

وكان ابن مرج الكحل يشير في آخر شعره إلى (العلامة السلطانية) عند الموحدين؛ فقد كانت أن يكتب الخليفة بيده بخطّ غليظ في رأس المنشور: (الحمد لله وحده).

أما ما يتعلق بالسيدة مريم هذه، فقد قُمتُ بمحاولة -بل محاولات- لأجد لها ذكراً غير القول الذي ورد في مذكرات ابن الحاج، وأن ما استشعرناه من خلال وصف شاهد القبر، وأنه في غاية الاحتفال، وأن خطّه بالحرف الكوفي المسند، وأنه …، وأنه …، أقول: ما شعرنا به من ذلك الاعتناء الكبير بقبر السيدة مريم هو أن الخليفة الناصر لما بلغه خبر مصير زوجته السابقة قام بواجب تسجيتها، ونصْب (الشاهد) على قبرها، «وحسن العهد من الإيمان» كما هو معروف عند أصحاب العاطفة والوجدان.

كنتُ من بين الذين اهتموا بأمر السيدات الأندلسيات ممن ازدانت بذكرهن المحافل والمجالس؛ إذ أتيتُ على ذكر معظمهن في تأليفي عن (تاريخ المرأة في الغرب الإسلامي(13)، وما زلتُ بعد صدور هذا التأليف أتتبّع أصداء (الفرائد) من الأندلسيات والمغاربيات ممن وقفتُ لهن على خصوصية من أمثال السيدة لبنى الغدامسية، التي أثارت وجدان الشيخ محيي الدين بن عربي، فقال فيها قصيدةً شعريةً سينيةً يحفظها الناس في ليبيا الآن، وتبتدئ هكذا:

 

كمْ رأينا برامةٍ

من طلول دوارس

ما رأينا من غادة

في الجواري الأوانس

مثل لبنى إذ أقبلت

نحونا من غُدامس!

خِلْتها إذ أقبلت

قطعةً من حنادس

صورة ما أرى لها

صورةً في الكنائس!!

وقرأنا عن السيدة الصائمة عائشة، التي حيّرت -في الأندلس- رجال الحُكم، وأقطاب الفكر، وعامة الشعب، وبقيت أزيد من عشرين عاماً لا تتناول طعاماً، وكان لها بأعلى الجامع المعلّق بمدينة الجزيرة الخضراء غرفة تسكنها. وقرأنا عن (خيْرونة) تلميذة عثمان السلالجي، وسمعنا عن (نُظار) التي كتب عنها المشارقة والمغاربة، لكن السيدة مريم، التي تحدث إبراهيم بن الحاج الغرناطي عما اكتشفه عنها من أخبار في قصر المجاز، فإننا لم نجد لها ذكراً في غير مذكرات ابن الحاج.

ويشعر المرء وهو يقرأ مذكرة ابن الحاج عن (مريم الأسدية) أنه -أي: ابن الحاج- ظلّ يشعر بالرغبة في تتبّع موضوع السيدة مريم، وأنه استغرب سيدةً كانت تعيش في وضع مريح، وقرّرت أن تعود إلى حيث كانت، كأنه كان يتطلّع إلى تحقيق الأسباب التي تظلّ قابلةً لكلّ احتمال.

لقد تذكّرتُ أمر سيدةٍ أخرى يعرفها التاريخ، هذه السيدة كانت قوية الشخصية، معجبةً بنفسها، ترى وجهها في المرآة فتبتهج بما وهبها الله من محاسن، لكنها -بالنسبة إلى مُباعلة الرجل- تبقى رافضةً كارهةً إن لم نقُلْ: ناشزةً. هذه الشاعرة هي أم حكيم، التي خطبها جماعة من أشراف الخوارج، كان فيهم الشاعر المشهور قطري بن الفجاءة، لكنها ردّتهم قائلةً:

 

ألا إن وجهاً حسّن الله خلقه

لأجدرُ أن يُلفى به الحسنُ جامعا

وأُكْرِمُ هذا الجرم عن أن يناله

تورّك فحلٍ همُّه أن يُجامعا(14)!!

وإلى جانب أم حكيم لا أنسى كذلك قصة الشاعرة اليهودية (قزمونة)، التي نظرت وجهها في المرآة، فرأت أنها قد بلغت أوان الزواج ولم تتزوج، فقالت شعرها المعروف:

 

أرى روضةً قد حان منها قطافها

ولستُ أرى جانٍ يمدّ لها يدا

فوا أسفا يمضي الشباب مضيّعاً

ويبقى الذي ما إن أسمّيه مُفْردا

لماذا لم تتجاوب الأميرة؟

وأخيراً، لا بد أن تستوقفنا الحياة الشخصية للخليفة الناصر؛ فإن عدم تجاوب الأميرة مريم مع حبّ الخليفة لا بد أن يستدعي السؤال عن حالته هو. لقد قالوا: إنه -أي: الناصر- ينحدر من أم رومية، وهو ما يعني أن والده الخليفة المنصور الموحدي كان متزوّجاً من سيدة من قارة أخرى غير إفريقية، وأنها -نتيجةً لذلك- تنتمي إلى حضارة أخرى، وهو ما يمكن أن يكون له أثر في سلوك الرجل. كما قالوا: إن المنصور كان ضعيفاً أمام الرومية، التي كانت ذات نفوذ قويّ على زوجها المنصور، وهذا الأمر يفسّره أمر والده الشعب ببيعته ولياً للعهد وسنّه لم يتجاوز عشر سنوات، وأنه لم يزل مرشحاً للخلافة، معروفاً بها، إلى أن مات أبوه، واستقلّ بالأمر وسنّه يوم بُويع البيعة الكبرى العامة لم يتجاوز سبع عشرة سنة، إلى أن أدركه أجله في العاشر من شعبان سنة 610هـ/ 25 ديسمبر 1213م. وأجمع كلّ المؤرخين على أن الخليفة الناصر كان شديد الصمت، وأن سبب هذه الصفة فيه يرجع إلى لُكْنةٍ كانت في لسانه تمنعه من الكلام بطلاقة؛ بمعنى أنه كان يعاني عقدةً تعترضه وهو يحاول الكلام، فهل كان هذا العائق وراء إطراقه الكثير قبل أن يخوض في الحديث، أيّ حديث؟!. لا ندري هل لبعض هذه الصفات أثر في حياته، أو بالأحرى: لها علاقة باختيار مريم العودة إلى بيتها في قرطبة؟!.

كنتُ من الذين يحزنون لمثل هذا الفراق الذي لا يُطاق، لكني -مع كلّ ذلك الحُزن- كنتُ أتصوّر مدى المصاعب التي قد تعتري الجانبين أو أحدهما، وكنتُ أستحضر الطرائق السلمية والحضارية التي تفرضها تلك المصاعب التي تنتهي إلى فراق جميل لا يضرّ بكرامة أحد من الطرفين. وأرجو أن أذكّر في هذا الحديث بما وقع بين زوج وزوجة مثقفين عالمين: أبي البركات ابن الحاج البلّفيقي، والسيدة أم العباس عائشة بنت الوزير المغيلي(15). لقد أعجبتُ بصيغة الطلاق الذي حرّره بأسلوبه أبو البركات؛ فقد صاغه بطريقة تكشف -من طرف خفيّ- بعض أسباب سوء التفاهم الذي قد يقع بين زوج وزوجته مما لا يكون في أغلب الأحيان باختيار واحد منهما، ويكون سبباً نشأ عن عدم تنازل أحدهما للآخر، وهنا ينبغي التفكير في الحلّ الذي يرتكز على العقل.

الهوامش والمراجع

(1) ابن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة، تحقيق: محمد عبدالله عنان، القاهرة: مكتبة الخانجي، الطبعة الثانية، ج1، ص342، وأحمد بن محمد المقري التلمساني، نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، دار صادر، تحقيق: إحسان عباس، المجلد 7، ص 108، 109، وما بعدهما.

(2) عبدالهادي التازي، التاريخ الدبلوماسي للمغرب، ج7، ص156، رقم الإيداع القانوني: 25/ 1986م.

(3) ابن الحاج النمري، فيض العباب وإفاضة قداح الآداب في الحركة السعيدة إلى قسطنطينة والزاب، دراسة وإعداد: محمد بن شقرون، بيروت- لبنان: دار الغرب الإسلامي، 1990م، ص35، وما بعدها.

(4) ابن شقرون، فيض العباب، ص42.

(5) مجلة الأكاديمية، العدد 29، 2012م، ص199-324. وقد أهديتُ البحث إلى أستاذي الدكتور أحمد مختار العبادي عميد الدراسات الأندلسية بجامعة الإسكندرية، ونشرته هذه الجامعة، وأعاد نشره معهد الدراسات الإسبانية والبرتغالية بمدينة العرفان بالرباط عام 2012م.

(6) المرأة في تاريخ الغرب الإسلامي، نشر: الفنك، الدار البيضاء، بمساهمة مؤسسة فريدريك إيبرت (ألمانيا)، ص148، 149.

(7) ابن صاحب الصلاة، المنّ بالإمامة على المستضعفين، تقديم وتحقيق: عبدالهادي التازي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1987م ص128، تعليق 1.

(8) دوبريمار، ص123، الترجمة الفرنسية، ص20.

(9) أويات: موقع جغرافي على مرحلة من قصر المجاز، وقد حاولنا أن نصل إلى تحديده مستعينين بقراءة طوبونيمية، ويبدو أن الاسم اختفى من ذاكرة الناس في المنطقة. انظر بحثنا حول قصر المجاز في مجلة الأكاديمية، عدد 23، 2006م.

(10) رحلة ابن بطوطة، تحقيق: عبدالهادي التازي، نشر: أكاديمية المملكة المغربية، 1417هـ/ 1997م، المجلد الثاني، ص151، تعليق 296.

(11) ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، تقديم وتحقيق: محمد عبدالله عنان، ج3، ص416، 417، مكتبة الخانجي، 1395هـ/ 1975م، والناصري السلاوي: الاستقصاء، طبعة البيضاء، دار الكتب، 1954م، ج2، ص194.

(12) المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تقديم: محمد الفاسي، مطبعة سلا، 1357هـ/ 1938م، ص198.

(13) عبدالهادي التازي، المرأة في تاريخ الغرب الإسلامي، نشر: الفنك، الدار البيضاء، بمساهمة مؤسسة فريدريك إيبرت، 1990م.

(14) حفلت كتب التراث بالحديث عن أم حكيم صاحبة قطري بن الفجاءة الخوارجي المذهب. المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، مع الترجمة الفرنسية، طبعة باريس، 1859م، ج5، ص373-389، وعباس الجراري، في الشعر السياسي، الطبعة الثانية، رمضان سنة 1402هـ/ يوليو 1982م.

(15) عبدالهادي التازي، المرأة في تاريخ الغرب الإسلامي، مرجع سابق، ص17-20.