الفن الإسلامي ودوره في التواصل الحضاري بين الشعوب

الفن الإسلامي ودوره في التواصل الحضاري بين الشعوب

من المؤكد أن الحضارة الإسلامية كان لها دورها الفعّال في التواصل بين الشعوب، وهذا الدور لم ينقطع على مرّ الزمن، لكنه في العصور الوسطى Medieval كان أكثر وأعرض وأعمق؛ بفضل ما توصّلت إليه الحضارة الإسلامية من أسباب التقدّم والرقيّ، حتى في العصر الحديث ما زالت هناك آثار لتلك الحضارة. ولعل أجلى ما تتّضح عليه صورة ذلك الأثر هو الفن الإسلامي.

 

والفن عامةً يؤدي دوراً مهماً في صياغة عقلية الفرد والمجتمع، وهو مايمكن أن نطلق عليه مقولة: «الفن يهذب ثقافات المجتمع»، وهو الذي يصوغ عالمه وواقعه الحقيقي، والفن «أساس تشكيل الأفكار، ودليل على النشاط الفكري للفرد والمجتمع».
يعدّ الفن عامةً، والمعماري منه خاصةً، من أصدق أنباء التاريخ، وهو واحد من أهم علوم هندسة الروح والجسد، وأكثرها سمواً ورقياً؛ لأنه قادر -بوصفه موسوعةً وقوةً خازنةً لخيال الأمم- على تحقيق التواصل والتفاعل الحضاري. والفن المعماري أقدر من غيره على التواصل مع الآخر، وقد أدى الفن المعماري الإسلامي دوراً كبيراً في خلق حوار فني حضاري متميّز؛ لأنه انطلق من هويته، وحافظ على خصوصيته الثقافية، فاستطاع من خلال جمالية إبداعه الفني تقديم الوجه الحقيقي لحضارته(1).
والعمارة هي وعاء الحضارة، وتمثّل الهويّة الثقافية والمستوى الإبداعي والجمالي للإنسان، وكما قيل منذ القدم: هي أم الفنون؛ لأنها تجمع فنّ البناء إلى جانب النحت والرسم والخط والزخرفة(2). وكما أخذت كلّ الفنون بعضها من بعض فقد أخذ فنّ العمارة الإسلامي أول الأمر من الحضارة الهيلنيستية، التي كانت سائدةً قبل الإسلام في بلدان أوربا الغربية، وفي شرق البحر الأبيض المتوسط، وكلّ الأمكنة التي وقعت تحت نفوذ الإمبراطورية الرومانية، وتواصلت مع مختلف الحضارات في الشام والعراق والهند والصين والأندلس، وأخذت طابعها الخاصّ الذي يعكس جوهر الفكر الإسلامي(3).
وبعد ذلك أتيح للحضارة الإسلامية أن تؤدي ما عليها من دَيْن للحضارات التي سبقتها؛ فأَثْرَت الأساليب المعمارية العربية الإسلامية في العصور الوسطى؛ إذ أعجب الحكام والفنانون الغربيون بالحضارة الإسلامية؛ فتأثروا بالعمارة والزخرفة، وليس مثل هذا التبادل الفني غريباً في شيء؛ فقد اتّصل الشرق الإسلامي بأوربا في العصور الوسطى عن طريق الحضارة الإسلامية التي قامت في الأندلس، وجزيرة صقلية، والتي كان لإشعاعاتها الفضل الكبير على أوربا في مختلف المجالات الفنية وغيرها، وعن طريق التجارة، وبفضل مشاهدات الحجاج المسيحيين الأراضي المقدسة، وما كانوا يحملونه معهم إلى أوربا من التحف الإسلامية، ثم عن طريق الحروب الصليبية التي قامت بين الشرق والغرب؛ إذ نقلوا كثيراً من التصميمات الشرقية إلى الغرب مع تطويرها لتلائم البيئة المحلية(4)، فضلاً عن اتّصال الأوربيين بالدولة العثمانية بعد ذلك(5).

 

الأندلس: الفردوس المفقود
كان لفنون العمارة الأندلسية في مختلف عصورها أعمق الأثر داخل شبه الجزيرة الإيبيرية؛ فكانت القصور الملكية في الممالك النصرانية نماذج من القصور الملكية الأندلسية، وكان أثر الفن المعماري الأندلسي قوياً في الكنائس ذاتها؛ ففي كثير من الكنائس الإسبانية والبرتغالية ترى خطة المسجد ظاهرةً في عقودها وأروقتها، وقد أقيمت أبراج كثير من الكنائس الشهيرة على نمط المنارة الإسلامية(6).
وقد لاحظ المستعرب الإسباني خوان برنيط Juan-Vernet في كتابه (المسلمون الإسبان LOS MUSULMANES ESPAÑOLES) أنه من العسير جداً أن نحدّد مدى التأثير الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية؛ لأن الأندلس كانت دائماً هدفاً للهجرات الشرقية، وهو ما يكون له أثره فيما قبل الإسلام بكثير، على أن هناك أشياء ماثلة لا يمكن الشك في أنها إسلامية(7). وقد درس مورينو على نحو مستفيض كنائس المستعربين Mozarabs(8)، التي قامت في قَشْتَالَة(9) وليون وجلِّيقيَّة(10) خلال عصري الإمارة والخلافة الأمويتين في الأندلس، ووجد أنها متأثرة بالفن الإسلامي، وتميّزت باستخدام العقود التي ترتفع فوق أقواس على شكل حدوة حصان. كما عكف إيلي لامبير Elie Lambert في دراسة له على تحديد هذه العلاقات، ووجد نفسه يقرّر الحقيقة الآتية: «إن مهندسي البناء والمزخرفين المسيحيين في إسبانيا وفرنسا على امتداد عصر الفن الروماني اقتبسوا بالتأكيد عدداً وفيراً من خيرة أشكال فن الإسلام الإسباني المغربي»(11).
أما لويس بريهييه Louis Bréhier، فيستنتج تشابهات بين القبب ذات التصميم المثمّن الزوايا، وذات عقود الزوايا في الجناح، والهندسة العربية في إسبانيا. وفي رأيه، إذا لم يكن المهندس مسلماً فهو بالتأكيد أندلسي مسيحي(12). ويقول المستشرق جورج يعقوب: إن كلّ العوامل التي خلقت الفنّ القوطي شرقية، وصلت أوربا عن طريق المسلمين؛ فالعقود المدبّبة، التي استخدمها الفن القوطي في القرن الثاني عشر بدلاً من العقود المستديرة، كانت معروفةً قبل ذلك في الشرق الإسلامي. وظهر العقد المدبّب في مقياس الروضة، ثم في مسجد أخيضر في العراق، الذي يرجع إلى أواخر القرن الثامن، ثم في جامع ابن طولون، الذي شُيِّد في القرن التاسع الميلادي. وكذلك استخدم الطراز القوطي المشربيات والشرفات، وهي التي نجدها في سور جامع ابن طولون الخارجي الذي يمتاز بشرفات زخرفية يمكن عدّها أول نموذج للأسوار ذات النوافذ والشرفات، التي نراها بعد ذلك منتشرةً في الطراز القوطي في أوربا(13).
أما ظاهرة تحلية الأعمدة في المباني القوطية بتيجان على هيئة ناقوس، فقد سبق الشرق الإسلامي الغرب الأوربي أيضاً في ابتكارها؛ إذ نجد أن مسجد سامرّا، الذي يرجع تاريخه إلى أواسط القرن التاسع الميلادي، حُلِّيت أعمدته بتيجان على هيئة ناقوس، وهو ما يرجّح انتقال هذه الظاهرة من المسلمين إلى غرب أوربا(14).
الفن المدجن
هناك الفن المدجّن، أو المعمار الذي قام بتشييده المدجّنون Los Mudegeres، وهم العرب المسلمون الذين بقوا في البلاد التي استعادها الإسبان(15)، وكان منهم بنّاؤون مهرة استعان بهم حكام المقاطعات الإسبانية في تشييد الأبواب الكبرى للمدائن، وتشييد القصور والكنائس والأديرة والقناطر وسائر أنواع المعمار(16). وكان الصنّاع المدجّنون يُستخدمون لزخرفة الكنائس والدور في أنحاء إسبانيا كافةً، ومثال صناعتهم يتجلّى في البهو البديع بقصر الأنفنتادو Infantado في وادي الحجارة Guadalajara(17). وكذلك نرى أثر العمارة الإسلامية واضحاً في كنيسة مدينة سَرَقُسْطة Zaragoza(18) التي بُنيت في عصر (المدجّنين) في القرن السادس عشر الميلادي، وتلك الكنيسة مبنية من الطوب، وفتحاتها كلّها معقودة، أما برج الكنيسة فيشبه تخطيط المآذن minarets في المساجد الأندلسية التي في شمال إفريقية، خصوصاً مئذنة مسجد القيروان، إضافةً إلى استعمال الطوب في عمل الزخرفة التي على برج الكنيسة، كما استعملت المقرنصات stalactite-Muqarnas(19). كما بنى المدجنون القصر المعروف بالكازار Alcazar للملك بدرو القاسي في إشبيلية على طراز إسلامي خالص، وكان يستخدم لمقام الملك، وأصبح منذ إعلان الجمهورية متحفاً(20).
وأخذ الغرب عن العمارة الأندلسية أشكال المآذن المربعة، التي أصبحت أبراجاً للكنائس(21)، والتي تجسّدت -على سبيل المثال- في برج ساحة القديس مرقص (سان ماركو)(22) في البندقية، وقد استخدمت في تلك الكنيسة العقود المدبّبة التي كانت قد أصبحت أهم مميزات العمارة العربية الإسلامية(23)، وكذلك اقتبس الغرب القوس المدبّب(24)؛ إذ حلّوا به مشكلة السقوف المفصّصة والمتقاطعة التي تشكّل إحدى واجهات مسجد قُرْطُبَة cordoba. واستمر تأثير العمارة الأندلسية إلى بعد خروج المسلمين من إسبانيا، وبرز بعد ذلك طراز إسلامي جديد، يسمى طراز المدجّنين، واستمر تأثيره إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بل وصل إلى القرن العشرين، وتمثّل ذلك في كثير من الأعمال العمرانية الإسبانية، منها ساحة مصارعة الثيران في مدريد، التي نرى فيها تجسيداً واضحاً وخالصاً للعمارة الأندلسية(25).
وقد ترك المسلمون طابعاً فنياً ومعمـارياً غـنـيـاً على كامـل التـراب الإسباني، إلا أن أبـرز هذه الآثـار المعمـارية ما هو موجـود في إقليـم الأندلـس الحـالي؛ أي: جنوب إسبانيا، كما هو الحـال بالنسبـة إلى مسجـد قُرْطُبَة الجامع، وقـصـر الحمـراء، والزخـارف الرائـعـة في غَرْناطة(26). وقد انتشرت الأقبية ذوات النواتئ، خصوصاً في قُرْطُبَة، ونجد تأثيرها في الكنائس الرومانية، والكنائس القوطية Gothic في شمال إسبانيا، كما في كنيسة طوريس دل ريو، وكنيسة سان ميان في شقوبية. ومن الآراء التي لها وجاهتها القول بأن القبو ذا النتوء، الذي انتشر في المعمار الأموي في الأندلس، قد ساهم في اختراع متقاطع الأوجيف La Croisee d,ogives الشهير في الفنّ القوطي Gothic art؛ لما هناك من صلة واضحة بين الأقبية ذوات النواتئ ومتقاطع الأوجيف(27). وقد بلغ تأثير جامع قُرْطُبَة أقصاه في كنائس جليقية؛ مثل: سانتا جودي بنيالبا، وسان مارتينو دي باثو؛ إذ نرى العقد المتجاوز الذي يمتد إلى ثلثي نصف القطر، كما أن توزيع سنجاته مركزي، وتلتفّ حوله طرة مربعة، إضافةً إلى وجود نوافذ مزدوجة(28).
وشهد العمران والعمارة في جنوب أوربا، وإسبانيا خاصة، الإبداعات التي تتجلى في بناء العقود، وطريقة عمل الأقبية في كنيسة سان ميجل دي إسكالادا san-miguel-de-escalda(29)، المبنية سنة 301هـ/ 913م، وإبليون، وهي الكنيسة التي بناها القس ألفونسو مع صحبه الذين قدموا من قُرْطُبَة عام ٩١٣م، وكنيسة سان ميلان دي لاكوجويا عام ٩٨٤م، وسان ثبريان دي ماثوتي، التي بناها القس القرطبي خوان عام ٩٢١م(30)، وكنيسة سان باوديل دي برلانجا، وكنيسة المزان في قَشْتَالَة. وجميع عقود هذه الكنائس متجاوزة، ونسبتها في إسكالادا تبلغ ثلاثة أرباع القطر، وفي كنيسة سان سلفادور بقلد ديوس نافذة بها زخرفة هندسية جصّية متشابكة تشبه تشابكات إحدى نوافذ جامع قُرْطُبَة، ويتجلّى في ماثوني عقد قرطبي التخطيط، يتعاقب في سنجاته اللونان الأبيض والأحمر.
يتّضح مما سبق الدور الرائع للحضارة الإسلامية في إيجاد تواصل وحوار بين الثقافات والحضارات عن طريق تأثير الفنون الإسلامية في الفنون الأوربية، وأن الحضارة الأوربية الحديثة استندت إلى أسس الحضارة العربية الإسلامية، وكان هناك تلاقٍ بين الشرق والغرب لا تنكره العين المجردة ووثائق التاريخ والجغرافية.