عمر اللغة العربية على ضوء نقوش جلوزل

عمر اللغة العربية على ضوء نقوش جلوزل

وقر في أذهان الدارسين العرب والغربيين أن عمر الأبجدية الكنعانية، التي أطلق عليها خطأً: الفينيقية، لا يتجاوز ألفي عام. وقلة من الدارسين الذين درسوا اللهجات العروبية القديمة -كالأكدية بفرعيها: الآشورية، والبابلية- يرون أن أقدم كتابة مسمارية تعود إلى أربعة آلاف عام.

وفي الأول من مارس/ آذار عام 1924م، اكتشفت في قرية فرنسية صغيرة تدعى جلوزل نقوش كثيرة بالأبجدية العروبية الكنعانية الإيبيرية، ألقت ضوءاً جديداً على العمر الحقيقي للأبجدية الكنعانية. وقصة هذا الاكتشاف أن الفتى إميل فردان، البالغ من العمر ستة عشر عاماً، كان يساعد جده في حراثة حقلهم، وإزالة الأعشاب الضارة، فغاصت قوادم إحدى البقرتين في الأرض، ولما خلّصوها انهارت التربة لتكشف عن حجرة تحت الأرض جدرانها مكسوة بآجر متشابك مزجّج، تشبه مصنعاً عتيق الطراز لصنع الزجاج، أو تشبه أتوناً لشيّ الأواني الفخارية. كانت الغرفة مملوءة برفوف ومشاكٍ تحتوي على لقى قديمة، ورُقم طينية، وعظام عليها نقوش، وعدد من قرون الوعل، وتماثيل لآلهة قديمة تشبه تمثال فينوس الحبلى من العصر الحجري. وأهم هذه اللقى ألواح طينية عليها نقوش بأبجدية كانت مجهولة عند العلماء الغربيين. وقُدِّر عدد اللقى المكتشفة بثلاثة آلاف، وأطلق على الموقع (حقل الموت)؛ لما وجد فيه من قبور.

سمع بهذا الاكتشاف طبيب فرنسي من هواة علم الآثار، يُدعى أنتونين مورلت، فجاء إلى جلوزل في إبريل/ نيسان عام 1925م، وعقد اتفاقاً مع آل فردان على أن تكون ملكية النقوش لآل فردان، وحقّ دراسة النقوش ونشرها له. وثارت ثائرة علماء الآثار الفرنسيين، وقتلتهم الغيرة من مورلت، واتهموه بالجهل، وأنه لا يفقه شيئاً في علم الآثار والنقوش. كما اتهموا الفتى إميل بتزوير هذه النقوش، مع أنه لم يكن متعلّماً، ولا يعرف لغة هذه النقوش التي لا يزال بعضها غير مفسّر. وحُوكم إميل، واستمرت محاكمته سنتين، ثم برِّئ بعدها.

فحص اللقى

بعد ثمانين عاماً من اكتشاف النقوش استعمل العلماء فحص الكربون 14 لمعرفة عمر اللقى، وإنهاء الخلاف. ولم يأتِ الفحص بنتيجة، ولا يزال الأمر غامضاً عندهم، وتباينت آراؤهم واختباراتهم، ولم يتفقوا على عمر ثابت للنقوش؛ إذ رأى بعضهم أنها تعود إلى 300 عام قبل الميلاد، ومنهم من رأى أنها تعود إلى 12 ألف عام قبل الميلاد، ورأى آخرون أنها تعود إلى العصر الكلتي الحديدي، وأرجعها آخرون إلى عشرة آلاف عام قبل الميلاد. أما مورلت فذكر أنها من العصر الحجري (10 آلاف- 7 آلاف قبل الميلاد).

ولما لم يقدّم اختبار الكربون 14 دليلاً واضحاً على عمر النقوش أجري عليها الاختبار الإشعاعي الحراري، ووقع الخلاف مرة أخرى بين العلماء؛ إذ رأى بعضهم أن كثيراً من هذه اللقى يعود إلى عشرة آلاف عام قبل الميلاد، واتضح من الفحص الإشعاعي الحراري أن بعض الرقم يعود تاريخها إلى العصر الحجري كما ذكر مورلت، وبعضها يعود إلى العصر المجدلاني (14 ألفاً- 10 آلاف قبل الميلاد)، ورأى بعضهم أنها تعود إلى زمن أقدم من ذلك بآلاف السنين. ومما حيّر العلماء في تقديرهم عمر النقوش وجود غزال الرنة، وعليه نقوش بالخط الكنعاني الإيبيري؛ لأن هذا الغزال انقرض من فرنسا قبل عشرة آلاف عام قبل الميلاد.

خلاصة القول أن دراسات كثيرة أجريت على نقوش جلوزل، ولا يزال الجدال محتدماً بين العلماء حتى اليوم.

 

مضمون النقوش ولغتها

تضمّنت نقوش جلوزل موضوعات متنوعة يمكن إجمالها في: أسماء حيوانات، والتضحية بالإنسان والحيوان، والموت والظلام (الشر)، ومصطلحات حربية، ومصطلحات زراعية، وأسماء آلهة وإلهات، والأمور الدينية، وعلم الأخلاق والسلوك الاجتماعي.

واختلف العلماء في معرفة لغة نقوش جلوزل؛ فذهب بعضهم إلى أنها يونانية، أو كلتية، أو لاتينية، أو إتروسكية. وأورد هنا آراء ثلاثة من العلماء الغربيين الذين حاولوا تفسير لغة هذه النقوش:

 

– نظرية بشنان:

نشر بشنان الأمريكي بحثه عن نقوش جلوزل عام 1981م، ثم أعيد نشره عام 2002م، وملخص رأيه أن لغة النقوش سامية (عروبية)، ولها صلة قوية باللهجة الكنعانية البونية الليبية والإيبيري. ويرى أن مفتاح نقوش جلوزل يكمن في الإيبيري، مع أن واقع الحال يقول: إن سكان جلوزل كانوا من الكلتيين. وختم بحثه بذكر ثبت يشتمل على 91 لفظة عربية استخلصها من النقوش.

ولو اطلع بشنان على ما كتبه شارل فلانسي عن لغة إيرلندا الكلتية، وأن كل عشر كلمات فيها منها تسع كلمات عربية، لزال استغرابه. ومما قاله فلانسي: «سأثبت في هذا الكتاب أن لغة إيرلندا القديمة كانت هي البابلية القديمة والعربية»(1).

– نظرية هتز:

نشر العالم السويسري هتز بحثه عن نقوش جلوزل عام 1997م، وملخص نظريته أن اللغة في الألواح الطينية كلتية الأصل، ونفى عنها الأصل الفينيقي (أي: الكنعاني)؛ ظناً منه أن الكلتية لغة أوربية. ويرى أن الكتابة متأثرة باليونانية الإتروسكية؛ ظناً منه أيضاً أن الإتروسكية ليست من اللهجات العروبية؛ إذ أثبتت الدراسات الحديثة أنها مشتقة من الكنعانية(2).

 

– نظرية سورين:

كتب العالم الألماني هربرت سورين مقالةً بالفرنسية يدافع فيها عن الطبيب مورلت، وأنه كان عالماً محققاً، وأنه اتصل بعلماء الآثار وعلماء اللغة، وذكر ثبتاً بأعمالهم المنشورة التي اطّلع عليها. وانتقد سورين العلماء الغربيين الذين يصدرون أحكاماً خاطئة؛ بسبب عدم اطلاعهم على أعمال العلماء الآخرين، واستدلّ بقول عربي من العصر العباسي، مضمونه أن العلماء المحققين هم الذين يعملون على الاتصال بغيرهم من العلماء، ويناقشونهم، ويقابلون نتائج بحوثهم للوصول إلى الحقيقة(3).

وفي مقالة له بالفرنسية بعنوان: Glozel Epigraphie، يتحدث سورين عن أهمية علم قراءة النقوش في قراءة نقوش جلوزل باستعمال ما يعرف عند علماء الغرب بـTransliteration؛ أي: وضع علامات مميزة للحروف إذا نقلت من لغتها إلى لغة غيرها، كما يحدث للعربية إذا كتبت بالحرف اللاتيني. ويفيد ضبط الحروف بعلامات في رؤية الحرف بصورته الحقيقية في لغته، ويؤدي إلى ترجمة الكلمة وتفسيرها ومقابلتها بالمعنى المعجمي والصرفي والنحوي(4). وكثيراً ما وقع العلماء الغربيون في الأغاليط؛ بسبب عدم التمييز بين الألف، والعين، والتاء، والطاء، والسين، والصاد، والشين، والفاء، والقاف، وغيرها من حروف العربية التي تحتاج إلى إعجام. والعلماء الذين قرؤوا نقوش جلوزل من دون أن يتّبعوا هذا المنهج وقعوا في أخطاء كثيرة، منهم البرازيلي باولو ستيكل الذي خلط تخليطاً عجيباً في قراءة النقوش.

ولما نشر سورين مقالته هذه تلقّى نقداً من الإيطالي جيجي سنّا Gigi Sanna، الذي يصرّ على أن نقوش جلوزل كتبت بلغة يونانية، فطلب منه سورين أن يرسل إليه مقالته ليطّلع على رأيه، فلم يفعل، فكتب سورين رداً يقول فيه: «نعم، ثمّة نقوش بحروف يونانية، لكن جرسها سامي (عروبي)؛ فاللغات السامية (العروبية) الشمالية الغربية فيها اثنان وعشرون حرفاً وصوتاً، واللغات (اللهجات) العربية الجنوبية فيها ثلاثون حرفاً، منها ثمانية وعشرون حرفاً -على أقل تقدير- موجودة في كتابة جلوزل كما يتضح من علم قراءة النقوش. ومعروف أن الكتابة العربية القديمة -كالكنعانية وفروعها، والحميرية وفروعها- تخلو من حروف اللين، والقارئ الجيد هو الذي يحسن قراءتها. ولما قرأت ما كتبه سنّا رأيته مملوءاً بأخطاء القراءة، ولا يستحق أن يُنظر فيه». ويرى سورين أن الجرس السامي يستبعد النظرية الكلتية (الهندو- أوربية) أو غيرها. ولملاتي شنجي الهندية رأي يستحق أن يذكر هنا؛ إذ ترى أن مصطلح اللغات الهندو- أوربية زائف لا أصل له، وأن اليونانية واللاتينية والسنسكريتية بنات الأكدية(5).

ويشير سورين إلى وجود الحروف الإيبيرية بكثرة في نقوش جلوزل، ويرى أن الكتابة الإيبيرية لا تدلّ على أنها اخترعت في إيبيريا (إسبانيا)، أو في الغرب، ولا يعني ذلك أن لغة النقوش كانت مجهولة لأهل البلاد الذين عاشوا في الجزيرة الإيبيرية(6)؛ فمواد الكتابة في جلوزل تتضمن عدة لغات (لهجات) سامية من أنحاء مختلفة من الشرق الأدنى القديم، ونتج من هذا التنوع السكاني، وتنوع اللهجات، اختلاف في صورة الحرف. كما يرى أن هذا التنوع لا يسهل قراءة النقوش من دون استعمال علم قراءة النقوش؛ لذا علينا التأكد من كل حرف وجرسه وسياق الكلام (القرينة) قبل إثبات الكلمة حسب المعنى المعجمي والنحوي.

ومن الأمور المهمة التي ذكرها سورين أن كتابة نقوش جلوزل تعدّ أبجدية، وليست مقطعية أو علامات. ومعرفة اسم الحرف، وتاريخ صورته في الأصل الذي وضع له، وقيمته الصوتية، مسألة مهمة في بيان الحرف، ويضرب مثلاً لذلك باسم حرف الألف الموجود في العربية والعبرية واليونانية، وفي البابلية Alpho = bull ,ox، وهي تتضمن حرف (أل) العربي، وصوت العجل (بو). أقول: إن كلمة ألف موجودة في اللهجة العروبية الأكدية القديمة والآشورية وسائر اللهجات العروبية(7).

وذكر سورين، في لقاء أجرته معه مجلة فرنسية عام 2008م، أنه يمكن معرفة اللغة بعلم الصرف، واستعمال نظام ضبط الحروف بالشكل، وقال: إن عدة مواد في جلوزل مكتوبة بالخط الإيبيري واللغة السامية (العربية) بنحوها وصرفها. وكي يثبت سورين نظريته في الأصل السامي العروبي كتب بحثاً مطولاً بالفرنسية بعنوان: مفردات، ضمنه كلمات عربية كثيرة، واعتمد في إثبات ذلك على معجمين مهمين: الأول المعجم العربي الفرنسي، وهو معجم يشتمل على الألفاظ العربية الجنوبية، والثاني معجم النقوش السامية الشمالية الغربية باللغة الإنجليزية، ويشتمل على ألفاظ عروبية من الكنعانية والأجريتية والأرمية وما يسمى بالعبرية والسريانية. وتقوم خطة سورين على ترتيب الألفاظ أبجدياً وهجائياً، ويذكر معنى الكلمة كما جاءت في جلوزل بالفرنسية، ثم يذكر معناها في العربية الجنوبية بالفرنسية، ويثبت رسمها بالحرف العربي. وإن كانت الكلمة من اللهجات العروبية الشمالية الغربية يذكر معناها باللغة الإنجليزية، وجذر الكلمة بالحرف اللاتيني.

يتضح مما تقدم أن العربية ضاربة في أعماق التاريخ، وليست مقصورةً على اللغة التي كان العرب يتكلمون بها في جزيرتهم المترامية الأطراف عندما نزل القرآن الكريم، وأن هذه اللغة متصلة بآدم عليه السلام، الذي علّمه الله الأسماء كلها، ثم هي أزلية؛ لأنها كلام الله سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ.