بين المؤلف والعمل الروائي

بين المؤلف والعمل الروائي

الرواية هي الإنسان، هي كتاب الحياة الأكثر إضاءةً ووضحاً، إنها السراج إلى الأعماق المظلمة. يقول د. هـ. لورانس عن مهنته الروائية: «لأنني روائي فإنني أعدّ نفسي أسمى درجةً من القديس والعالم والفيلسوف والشاعر؛ فالرواية هي كتاب الحياة المشع». ويقول الناقد لايونل تريلنيج عن الرواية: «الراوية بحث مستمر، وميدان بحثها هو العالم الاجتماعي، ومادة تحليلها هي عادات الناس التي تتخذ دليلاً على الاتجاه الذي تسير فيه نفس الإنسان».

فكرة التأليف الروائي

التأليف -كما أفهمه- هو مقدرة الكاتب على أن يؤلف بين عشرة أشخاص من الواقع في شخصية واحدة يقدمها روائياً؛ لذلك فكلمة (تأليف) هي أقرب إلى الروائي أو الحكّاء من غيره؛ لأن من ضمن مهمته أن يكون بارعاً في مقدرة التأليف بين التشتّت الذي يلتقطه من الواقع، ويوظّفه ضمن نسيج فني ولغوي وتقني كأن هذه الشخصية هي بالفعل شخصية واحدة وليست أجزاء من شخصيات.

الروائي البارع يتمتع، إضافةً إلى هذه المقدرة على التأليف، بقوة الإدراك التي تمكّنه من أن يجعل من شخوصه وأحداثه شخوصاً وأحداثاً كونية، ويخرجها من الإطار المحلي الضيق، وهو يتمتع بموهبة أصيلة في الحكي، وبقوة ملاحظة الأشياء.

عندما يمضي الروائي البارع في طريق ما ينظر إلى كل شيء حوله، ولا شيء البتة لا يلفت نظره، إنه دائم البحث لملاحظة الأشياء التي لا يلاحظها الآخرون. ولا يكتفي بهذا، بل يضيف إلى كل هذه العوامل روح الإبداع، وهو لا يعجبه أن يؤدي مثل هذا الدور فقط من دون أن يكون مبدعاً، وكذلك مفكراً، وشاعراً.

شخصيات مؤلفة

يُظنُّ أحياناً أن كتابة رواية متميزة مقترنة بخصوبة خيال كاتبها الذي عليه أن يكون خيالياً بامتياز حتى ينجح في إبداع شخوصه، حتى إن الفنّ ذاته يكون مقترناً بقوة الخيال؛ فأن يُقال: هذا مؤلف، يعني أنه فنان، وأن يُقال: إنه فنان، يعني أنه يبني عمله بلبنات من خيال.

في الماضي كنا نرى كلمة (تأليف) على أغلفة الأعمال الروائية والقصصية، لكن في وقتنا الحاضر تكاد تختفي تلك الكلمة، ويكتفي المؤلف بأن يضع اسمه من دون أن تسبقه كلمة (تأليف)، بل إن بعض الروائيين يشعر بحرج إذا وضع هذه الكلمة بجوار اسمه، وفي حقيقة الأمر فإن هذه الكلمة هي الأكثر تعبيراً عن مهمة الروائي والقصصي.

لقد اتضحت لي هذه الحقيقة فيما بعد، وتحديداً بعد أن قرأت أول رواية كتبتُها، فتبيّن لي أنني قمتُ بعملية تأليف بين مجموعة من أصدقائي المقربين، وأخرجتهم في شخص واحد، هو بطل الرواية. كنت كلما قرأت ذاك البطل رأيت ملامح أصدقائي هؤلاء، وسماتهم، وخصوصياتهم، حتى عباراتهم، حتى إنني شعرت ببعض الحرج من أن أحد أصدقائي سيرى جزءاً منه في تلك الشخصية.

كنت أرى بوضوح الأحداث التي رووها لي، وعلاقاتهم الأكثر سريةً، وسلوكياتهم، ووجهات نظرهم في أمور بالغة الحساسية والإحراج، ومع كلّ قراءة كان يتأكد لي أن هذا (الزعيم) إنما هو كائن مؤلَّف من مزايا مجموعة أشخاص في الحياة، وهو ليس من كوكب آخر، بل لا يستطيع الكاتب أن يأتي بشيء من كوكب آخر غير الكوكب الذي يعيش فيه مهما رأى الآخرون أنه يستعين بالخيال وفق مفاهيم متعددة.

ثم كنت أنظر في شخصية (زعيمة) الرواية فأراها تحمل مزايا نساء عرفتهن وخصوصياتهن: الأخت، وابنة الخالة، والحبيبة، والصديقة. امرأة مؤلَّفة من كلّ تلك النسوة اللواتي عرفتهن. عند ذاك تأكّدت لي حقيقة واحدة أن الروائي ينجح في مهمته على قدر نجاحه في أن يؤلّف بين عدة أشخاص من الواقع في شخصية روائية، سواء أكانت خيرةً أم شريرةً. كما أنه يمكن أن تأتي شخصية ثرية من الواقع فتتوزّع خصالها ومزاياها على عامة شخوص الرواية، وتبيّن لي في مرحلة لاحقة أن هذا الأمر أعانني كثيراً على اجتناب الوقوع في سِيَرية الرواية التي وقعت ضحيتها أعمال روائية كان يمكن أن تكون فذةً، سواء في بلادنا أم في بلاد أخرى من العالم، فيحسّ القارئ أنه يقرأ سيرة ذاتية، أو يقرأ مذكرات أكثر مما يقرأ روايةً.

إنها رواية الشخصية المنغلقة الواحدة التي تسعى إلى التعريف بهذه الشخصية فحسب، وهذا يناقض روح الرواية التي من أولى وظائفها الانطلاقة المفتوحة، والسباحة في مياه خطيرة، واللعب بالنار، وهو ما لاحظته في حقبة مبكرة من خلال أعمال بعض الكتّاب التي كادت تفتقر إلى التأليف، وتنفرد بامتياز بسرد سيرة ذاتية، ولست أدري لماذا حينذاك ينتابني شعور بأنني أقرأ رواية عرجاء.