اللغات العربية الجنوبية الحديثة بين التوثيق والتفريط

اللغات العربية الجنوبية الحديثة بين التوثيق والتفريط

يعتقد بعض الناس أن شبه جزيرة العرب لا تحتضن إلا اللغة العربية التي نعرفها ويتحدث بها ما يقارب 480 مليون شخص؛ فهم قد لا يعلمون أن هناك ستّ لغات تُحتضر وتصارع من أجل البقاء في جنوب هذه الجزيرة العربية، هذه اللغات هي: المهرية، والهبيوت، والشحرية، والحرسوسية، والسوقطرية، والبطحرية. وتتحدث بهذه اللغات جماعات منتشرة في أقاليم متفرقة من اليمن، وعُمان، وأجزاء من المملكة العربية السعودية، وبقية منطقة الخليج.

ليس هناك نظام كتابي لأيّ من هذه اللغات؛ فهي في الأغلب لغات شفهية لها لهجات متعددة تحمل صفاتٍ صوتيةً ونحويةً وصرفيةً ودلاليةً مختلفةً  قليلا بعضها عن بعض. وتختلف هذه اللغات حالياً عن العربية الفصحى في كثير من الجوانب اللغوية، لكنها تشترك معها في الأصل؛ فجميعها لغات سامية تنتمي إلى العائلة الأفروآسيوية. وتحتفظ هذه اللغات بعناصر صوتية وصرفية ملحوظة في اللغات السامية القديمة، التي لا نجدها في اللغات السامية الحديثة؛ فهذه اللغات تتميّز باستخدام الضمائر، وتصريف الأفعال للدلالة على العدد، وهو في هذه اللغات مفرد ومثنى وجمع. كما أن هذه اللغات تتميز بدلالة الفعل على الفعل الماضي واستمراريته إلى الحاضر، وهي صفة لا توجد في غيرها من اللغات السامية، إضافةً الى أن هذه اللغات تضم أصواتاً صفيريةً واحتكاكيةً جانبيةً لا توجد إلا في السامية الأم(1).

 

اختلاف حول أصلها

ذُكرت بعض هذه اللغات في عدة مراجع؛ فنجد بعض الباحثين يذكر أن هذه اللغات تعود إلى لغة عاد، وهم العرب البائدة؛ فهم يرون أنها 353أصل اللغة العربية التي انتشرت في الشمال، وتطورت حتى تكوّنت العربية الفصحى في الحجاز(2). وصنّفها بعض اللغويين من الفرع الجنوبي للسامية الغربية(3)، بينما يراها آخرون من السامية الشرقية المتفرّعة من السامية الجنوبية(4). ولابد أن نذكر هنا أن هناك وجهات نظر متباينةً عن أصل هذه اللغات، كما أن بعض الباحثين وصفها بأنها لهجات وليست لغات، وهذا الأمر لا يمكننا التفصيل فيه الآن؛ فما يهمّنا هنا هو ما حافظت عليه هذه اللغات من صفات لغوية نادرة طوال هذه السنوات، وإن كنّا على قناعة بأن هذه اللغات قد تعرّضت لبعض التغييرات إلى حدٍّ ما.

يعتقد كثير من اللغويين أن سبب بقاء هذه اللغات هو عزلة تلك القبائل بعضها عن بعض، لكني أرى أنها ليست العزلة التي أدت إلى الحفاظ على هذه اللغات فقط، بل إن هناك عوامل اجتماعيةً قد تكون السبب الفعلي لذلك؛ فاللغة هي موروث لكلّ قبيلة، وهي هوية الفرد بين القبائل المختلفة. وكما نعرف، فهذه المنطقة الصغيرة من الجزيرة العربية كانت مهداً لكثير من الحضارات العريقة التي توالت عبر العصور لتحكم هذه المنطقة؛ مثل: السبئية، والمعينية، والحميرية، وغيرها، ولابد أن تترك أثراً في لسان تلك الأقوام. هناك عدة عوامل تؤثر في هذه اللغات في الوقت الحالي؛ فاختلاط هذه القبائل فيما بينها، ومع غيرها، واستخدام اللغة العربية الحديثة، وهي اللغة الأولى والرسمية والغالبة في بلدان جنوب الجزيرة العربية: اليمن، وعمان، وبقية دول الخليج، إضافةً إلى هجرة أهل هذه المناطق إلى المدن ودول الخليج طلباً للعلم والبحث عن فرص للعمل، كلها عوامل أدّت إلى حصر استخدام هذه اللغات في مجالات معينة داخل البيت، أو في المناسبات الخاصة الاجتماعية، وهو ما نتج منه ضعف هذه اللغات، ونشوء أجيال لا تعرف كثيراً من سمات هذه اللغات.

 

إحصائيات

لا يمكن الجزم بعدد متحدثي كل لغة؛ فليست هناك إحصائيات رسمية بذلك، ويمكننا أن نعثر على صورة وافية عن الخطر المحدق بهذه اللغات في موقع إثنولوغ Ethnologue(5)، وهو موقع معلوماتي تابع لمنظمة إس آي إل الدولية SIL International(6)، ويهتم بإحصاء أعداد متحدثي كلّ اللغات الإنسانية الحية، وإعطاء نبذة موجزة من كلّ منها، ومن لهجاتها المختلفة المحكية منها والمكتوبة كذلك. ونجد أن هذه اللغات تقع في محيط اللونين الأحمر والأصفر بين درجتي 6 و8، وهذا الأمر مؤشر واضح على أن هذه اللغات في مرحلة خطيرة جداً، وأن بعضها قد يموت في غضون سنوات قليلة. نجد البطحرية، التي يتحدثها قلة من سكان عُمان في محافظة ظفار، والهبيوت التي تُستخدم في أقصى شرق اليمن إلى المنطقة الغربية من عمان، هما أكثر اللغات تعرّضاً للانقراض، وهي مُعلّمة بالأحمر، وهو ما يعني أنها في مرحلة خطيرة جداً.

ويتبادر إلى الذهن أحياناً سؤال: لماذا تموت لغات، وتبقى لغات أخرى؟. تباينت هذه اللغات الستّ في مرحلة الخطورة؛ فنرى البطحرية هي الأكثر عرضةً للزوال، تتلوها الهبيوت، ثم بقية اللغات. ويتحكم في هذا الأمر عدة أمور، أهمها عدد المتحدثين، وأعمارهم؛ فالبطحرية لم يعُدْ يتحدث بها الصغار؛ فقد غلبت المهرية والعربية عليها، ومثلها بقية اللغات. وبالنسبة إلى الحرسوسية، وهي لغة قريبة جداً من المهرية، فهي تستخدم في (جدة الحراسيس) في مقاطعة ظفار وسط عُمان، وقد لا يتعدى عدد متحدثيها الألفين تقريباً. ولا بد أن نذكر هنا أن المهرية أثّرت في هذه اللغات الصغيرة، وأصبحت الأجيال الجديدة من هذه القبائل تتحدث المهرية، كما لا نغفل دور العربية واللهجة العمانية السائدة هناك.

 

أوضاع اللغات

سقطرى، تلك الجزيرة التي عُرفت بجمال طبيعتها، وندرة أشجارها، هي أيضاً تضم لغةً تُعرف بالسقطرية، لها صفات5555 تميّزها من بقية اللغات، كما أن لها لهجات مختلفة. وسقطرى التي تم اكتشافها مؤخراً هي جزيرة في بحر العرب ترتبط سياسياً باليمن، ذكرها الإدريسي في كتابه (النزهة)، ووصف جمالها، ومما ذكر أن سكانها يدينون بالنصرانية، وكان مما شرح إعجاب الإسكندر بهذه الجزيرة عندما غزاها، حتى حدا به ذلك إلى أن يرسل إلى معلمه أرسطوطاليس يحدثه عنها، ويطلب مشورته، وما كان من أرسطوطاليس إلا أن وجّهه بإخراج أهلها، وإحضار سكان يونانيين ليعتنوا بهذه الطبيعة، وهو ما فعله الإسكندر حسب قول الإدريسي(7). إن كان هذا الأمر صحيحاً فلابد أن يكون للغة أثر هنا، وتحليل اللغة السقطرية، وقياسها مع عائلات اللغات الأخرى، قد يثبت صحة هذه المقولة من عدمها.

أما الشحرية، وتُعرف أيضاً بالجبالية، فهي لغة أهل جنوب سلطنة عُمان، وظفار تحديداً. وتعدّ الشحرية اللغة الشعبية المستخدمة في التعامل بين أهل الشحر. وجاء تسمية اللغة بهذا الاسم نسبةً إلى قبائل الشحر الذين يسكنون ظفار، وتضم الشحرية عدة لهجات حسب المنطقة، لكن الاختلاف بينها بسيط. ويعدّ بعض الباحثين الحرسوسية والبطحرية والهبيوت لهجات من الشحرية والمهرية، وليست لغات.

وتبقى المهرية هي أكثر هذه اللغات حظاً بالنسبة إلى عدد متحدثيها، وإن ظلّت تُعدّ من اللغات المهددة بالانقراض. المهرية -كما يراها أهلها- لا خوف عليها من الانقراض؛ فهم يعدّون أنفسهم قبائل متعددة ومنتشرة في كثير من المناطق. والمهرية لغة قبيلة المهرة، وهذه القبيلة منتشرة في شرق اليمن، وعُمان، والكويت، والإمارات، والسعودية، وتحديداً في خرخير بالربع الخالي ومناطق متفرقة من شرورة ونجران والمنطقة الشرقية. ويعتقد بعض اللغويين أنها متطورة أو منبثقة من اللغات العربية الجنوبية القديمة أو لغة عاد. وقد ذكر الإدريسي أن لسان أهل مهرة مستعجم جداً لا يكاد يُفهم، وهو اللسان الحميري القديم(8). وقبائل المهرة يصل عددها الآن إلى نحو الثلاثين قبيلةً تقريباً، كلّ قبيلة تحتوي على عدة أفخاذ، ومن قبائل المهرة: بن قمصيت، والزويدي، والحريزي، وبن كده، وبن يسهول. ويحرص الآباء على تعليم أبنائهم هذه اللغة؛ لذلك نجدها أكثر استعمالاً من اللغات الأخرى في المنطقة.

يعدّ صيد الأسماك من أهم المهن التي يزاولها أهل هذه المناطق، إضافةً إلى التجارة، والزراعة، ورعي الأغنام والمواشي، خصوصاً بين أهل المهرة. وتغلب حياة البداوة على الحياة الاجتماعية هناك، وتوجد ألوان شعبية فلكلورية كثيرة بين هذه القبائل؛ إذ تحمل أشعارهم وحكاياتهم قصصاً كثيرة يتداولها أهل هذه المناطق، تدور حول حياة الترحال والهجرة، وتقفّي الأثر، وتفسير حالات النجوم، وغيرها مما تزخر به ثقافة هذه القبائل.

إن توثيق اللغات العربية الجنوبية الحديثة أمر بالغ الأهمية لعلم اللغات السامية، ولتوثيق الثقافة التقليدية والنظام الاجتماعي، اللذين هما في طريقهما إلى التغيّر والزوال، خصوصاً في ظلّ التطور المدني والاقتصادي والاجتماعي التي تمرّ به هذه المناطق.

بقيت هذه اللغات غير معروفة إلى زمن قريب، وتُستخدم في إطار ضيّق بين متحدثيها، علماً أن بعضها ذُكر بشكل عارض في بعض المراجع(9)، إلا أن أوّل من عثر على هذا الفرع من أسرة اللغات السامية من الباحثين الغربيين هو القنصل الفرنسي فولجنس فريسنل Fulgence Fresnel؛ إذ كتب عن اللغة الشحرية عام 1838م. ومنذ ذلك الحين لم تُجرَ أيّ دراسات دقيقة إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حين بدأ عهد الاكتشافات النمساوية والفرنسية والإنجليزية والروسية، فتمّ نشر أكثر من 700 نص من اللغة المهرية؛ مثل: الروايات، والحكايات الشعبية، والتاريخ الشفهي، والشعر، والأناشيد، وغيرها من النصوص الثقافية، إضافةً إلى ذلك فقد تمّ جمع ما يقارب مجموع 1132 قصيدةً شعريةً وأغاني محليةً باللغة السوقطرية، إضافةً إلى مجموعة من النصوص في اللغة الحرسوسية(10).