الكاميرا..  ‭ ‬خادم‭ ‬مخلص‭ ‬للطبيعة  أربك الفنون الجميلة

الكاميرا.. ‭ ‬خادم‭ ‬مخلص‭ ‬للطبيعة أربك الفنون الجميلة

من‭ ‬كتاب‭ (‬المناظر‭) ‬لابن‭ ‬الهيثم‭ ‬إلى‭ ‬الكاميرا‭ ‬البدائية‭ ‬للإيرلندي‭ ‬روبرت‭ ‬بويل‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1660م‭ ‬مسيرة‭ ‬طويلة،‭ ‬امتدت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬حتى‭ ‬كانت‭ ‬أولى‭ ‬الصور‭ ‬الفوتوغرافية‭ ‬للفرنسي‭ ‬جوزيف‭ ‬نيبس‭. ‬وتستمر‭ ‬المسيرة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تلوّنت‭ ‬الصورة،‭ ‬وأصبح‭ ‬الفنان‭ ‬يبدع‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬هذه‭ ‬الآلة‭ ‬العجيبة،‭ ‬التي‭ ‬أصبح‭ ‬يزاحم‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬صنوف‭ ‬الفنون‭ ‬التشكيلية‭.‬

يوماً‭ ‬بعد‭ ‬يوم،‭ ‬وبهمّة‭ ‬المصورين‭ ‬الضوئيين‭ ‬المبدعين‭ ‬والمغامرين‭ ‬الباحثين‭ ‬عن‭ ‬الجديد‭ ‬المتميز‭ ‬والمعبّر،‭ ‬الموهوبين‭ ‬المسكونين‭ ‬بهاجس‭ ‬الكشف،‭ ‬وتصيّد‭ ‬المشهد‭ ‬الجميل‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭: ‬في‭ ‬الشارع،‭ ‬والحيّ،‭ ‬والسوق،‭ ‬والمرافئ،‭ ‬والطبيعة،‭ ‬والبيت،‭ ‬ووسائل‭ ‬السفر،‭ ‬ومكان‭ ‬العمل،‭ ‬وغيرها،‭ ‬تم‭ ‬تجميد‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬اللافت‭ ‬والمعبّر‭ ‬والمستوفي‭ ‬عناصر‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ ‬ومقوماته‭ ‬كافةً‭ ‬في‭ ‬لقطة‭ ‬ضوئية‭ ‬أقلّ‭ ‬ما‭ ‬يُقال‭ ‬عنها‭: ‬إنها‭ (‬لوحة‭ ‬ضوئية‭) ‬يمكن‭ ‬مدرستها‭ ‬بسهولة،‭ ‬فنقول‭: ‬لوحة‭ ‬ضوئية‭ ‬تسجيلية،‭ ‬أو‭ ‬انطباعية،‭ ‬أو‭ ‬سوريالية،‭ ‬أو‭ ‬تكعيبية،‭ ‬أو‭ ‬تعبيرية،‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭. ‬فالفن‭ -‬كما‭ ‬يبدو‭- ‬لم‭ ‬يعُدْ‭ ‬وقفاً‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ ‬البصري‭ ‬التقليدي؛‭ ‬كالرسمة،‭ ‬واللوحة،‭ ‬والمنحوتة،‭ ‬والمحفورة‭ ‬المطبوعة،‭ ‬والملصق،‭ ‬والنصب‭ ‬التذكاري،‭ ‬والزخرفة،‭ ‬والتحفة‭ ‬الفنية،‭ ‬بل‭ ‬تعداه‭ ‬إلى‭ ‬مظاهر‭ ‬جديدة؛‭ ‬إذ‭ ‬أصبح‭ ‬موجوداً‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬شيء‭:‬‭ ‬نراه‭ ‬يطلّ‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬أو‭ ‬تلك،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العناصر،‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬التشكيلات‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬بمحض‭ ‬المصادفة‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬الواقع،‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬الفنان‭ ‬نفسه‭ ‬بترتيبها‭ ‬في‭ ‬محترفه؛‭ ‬توطئةً‭ ‬لتجميدها‭ ‬في‭ ‬لقطة‭ ‬معبّرة‭.‬

على‭ ‬هذا‭ ‬الأساس،‭ ‬تتأكّد‭ ‬المقولة‭ ‬التي‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬حقيقة‭ ‬وجود‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭: ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اللسان‭ ‬من‭ ‬الأسمنت‭ ‬والفولاذ‭ ‬الممدود‭ ‬إلى‭ ‬السماء،‭ ‬الذي‭ ‬ندعوه‭ (‬ناطحات‭ ‬السحاب‭)‬،‭ ‬في‭ ‬نار‭ ‬المدفأة،‭ ‬وقميص‭ ‬الزنبقة‭ ‬الأبيض‭. ‬موجود‭ ‬فينا‭ ‬وحولنا؛‭ ‬لأنه‭ ‬منّا؛‭ ‬من‭ ‬قلوبنا‭ ‬ينبع،‭ ‬وفي‭ ‬زوايا‭ ‬أركان‭ ‬حياتنا‭ ‬اليومية‭ ‬يقبع‭ ‬منتظراً‭ ‬من‭ ‬يكتشفه،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬العادي‭ ‬جداً‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭. ‬المهم‭ ‬هو‭ ‬وجود‭ ‬العين‭ ‬الموهوبة،‭ ‬النفّاذة،‭ ‬الصيّادة،‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬اكتشاف‭ ‬المكامن‭ ‬التي‭ ‬يختبئ‭ ‬فيها‭ ‬الفن،‭ ‬واستنهاضه،‭ ‬وتحويله‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬ملموس‭ ‬بهذه‭ ‬اللغة‭ ‬التعبيرية‭ ‬أو‭ ‬تلك‭!!. ‬لكن‭ ‬الفن‭ -‬أيّ‭ ‬فن‭- ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬دعامات،‭ ‬أهمها‭: ‬الإدراك،‭ ‬والاختيار،‭ ‬والتجربة‭ ‬التي‭ ‬على‭ ‬الفن‭ ‬أن‭ ‬يخلّدها‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬من‭ ‬صوره؛‭ ‬إذ‭ ‬يبقى‭ ‬الفن‭ ‬مادةً‭ ‬بلا‭ ‬شكل،‭ ‬وحركةً‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬اتجاه،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يحوّلها‭ ‬عقل‭ ‬الفنان‭ ‬وإدراكه‭ ‬وفهمه‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭ ‬مُستظرف‭ ‬جميل‭ ‬ومرغوب‭ ‬يُدعى‭ (‬الفن‭).‬

مسيرة‭ ‬راسخة

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬الإقصاء‭ ‬والمحاصرة‭ ‬والتقليل‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الصورة‭ ‬الضوئية‭ ‬الفنية‭ ‬تابعت‭ ‬نضالها‭ ‬للانضمام‭ ‬إلى‭ ‬أسرة‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة،‭ ‬لكن‭ ‬مسألة‭ ‬الانضمام‭ ‬هذه‭ ‬لم‭ ‬تُحسم‭ ‬بعدُ؛‭ ‬بسبب‭ ‬وجود‭ ‬عدد‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬مزاولي‭ ‬الفنون‭ ‬الإبداعية‭ ‬التقليدية،‭ ‬الذين‭ ‬ما‭ ‬زالوا‭ ‬يرفضون‭ ‬إلحاقها‭ ‬بجمهوريتهم؛‭ ‬بحجة‭ ‬أنها‭ ‬آلية‭ ‬وخالية‭ ‬من‭ ‬الإبداع،‭ ‬مُشيحين‭ ‬نظرهم‭ ‬عن‭ ‬الإنجازات‭ ‬الهائلة‭ ‬التي‭ ‬حققتها‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬المعاصرة،‭ ‬ولاسيما‭ ‬دورها‭ ‬المحوري‭ ‬والمهم‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬البصرية‭ ‬الحديثة،‭ ‬التي‭ ‬حوّلت‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬كونية‭ ‬صغيرة‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ترامي‭ ‬أطرافه،‭ ‬واتساع‭ ‬المسافات‭ ‬بين‭ ‬أقاليمه‭ ‬وقاراته‭. ‬وثورة‭ ‬الاتصالات‭ ‬البصرية‭ ‬هذه‭ ‬أساسها‭ ‬وقوامها‭ ‬الصورة‭ ‬الضوئية،‭ ‬وقرينة‭ ‬وجودها‭ (‬الكاميرا‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬يرى‭ ‬بعض‭ ‬الباحثين‭ ‬أن‭ ‬مولودها‭ (‬التصوير‭ ‬الضوئي‭) ‬اكتسب‭ ‬وضعاً‭ ‬نهائياً‭ ‬يضعه‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة،‭ ‬لكن‭ ‬ثمة‭ ‬فروقات‭ ‬كثيرة‭ ‬بين‭ (‬الصورة‭ ‬الضوئية‭ ‬الفنية‭) ‬والإنتاج‭ ‬المتسارع‭ ‬للصور‭ ‬الإعلامية‭ ‬اليومية‭ ‬التي‭ ‬تبثّها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬وسيلة‭ ‬إعلام؛‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬الأولى‭ ‬تتميّز‭ ‬بكونها‭ ‬تحمل‭ ‬بعض‭ ‬سمات‭ ‬العمل‭ ‬الإبداعي‭ ‬الحديث،‭ ‬والثانية‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬مقاربات‭ ‬سياسية‭ ‬واجتماعية‭ ‬تُدخلها‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬التوثيق‭. ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬التصوير‭ ‬الضوئي‭ ‬المعاصر‭ ‬أصبح‭ ‬أحد‭ ‬الفضاءات‭ ‬المفضّلة‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬تحقيق‭ ‬قيم‭ ‬جمالية‭ ‬حقيقية‭ ‬فيها،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يسعى‭ ‬إليه‭ ‬اليوم‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬الضوئيين‭ ‬باجتهاد‭ ‬لافت‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يتوّج‭ ‬بنتائج‭ ‬تعزّز‭ ‬من‭ ‬مسيرة‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬يُحيط‭ ‬بنا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جانب،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬له‭ ‬مدارس‭ ‬ومعاهد‭ ‬وأكاديميات‭ ‬تُعنى‭ ‬بتدريس‭ ‬تقاناته‭ ‬وأساليبه،‭ ‬وتعمل‭ ‬على‭ ‬مدرسة‭ ‬إنجازاته‭ ‬الفنية‭ ‬المتميزة‭ ‬أسوةً‭ ‬بالرسمة،‭ ‬أو‭ ‬اللوحة،‭ ‬أو‭ ‬المنحوتة،‭ ‬أو‭ ‬المحفورة‭ ‬المطبوعة،‭ ‬أو‭ ‬النوتة‭ ‬الموسيقية،‭ ‬أو‭ ‬القصيدة؛‭ ‬لأن‭ ‬الصورة‭ ‬الضوئية‭ ‬الفنية‭ ‬لم‭ ‬تكتفِ‭ ‬بدخول‭ ‬متاحف‭ ‬عرض‭ ‬الفنون‭ ‬التشكيلية‭ ‬وصالاته،‭ ‬وفرض‭ ‬وجودها‭ ‬في‭ ‬مجالاتها‭ ‬التخصصية،‭ ‬وأبحاثها‭ ‬النظرية،‭ ‬وإنما‭ ‬أخذت‭ ‬مدارسها‭ ‬واتجاهاتها‭ ‬واشتغلت‭ ‬عليها،‭ ‬والأمثلة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬كثيرة‭ ‬ومتوافرة‭ ‬وتَرِدُ‭ ‬بشكل‭ ‬يومي‭ ‬إلى‭ ‬صالات‭ ‬العرض،‭ ‬والمجلات،‭ ‬والكتب،‭ ‬والتلفاز،‭ ‬والإنترنت،‭ ‬ووسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬والإعلان‭ ‬المختلفة،‭ ‬حتى‭ ‬إلى‭ ‬المتاحف‭. ‬وبعض‭ ‬هذه‭ ‬الصور‭ ‬يُنفّذ‭ ‬مباشرةً‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭ ‬لحظة‭ ‬تجلّي‭ ‬الحالة‭ ‬بشكلها‭ ‬الطبيعي،‭ ‬وعناصرها‭ ‬الواقعية،‭ ‬وبعضها‭ ‬يُركّب‭ ‬في‭ (‬الاستوديو‭) ‬أو‭ ‬المحترف،‭ ‬ثم‭ ‬يقوم‭ ‬الفنان‭ ‬الضوئي‭ ‬بتجميدها‭ ‬في‭ ‬لقطة‭ ‬أو‭ ‬لقطات،‭ ‬وبعضها‭ ‬الثالث‭ ‬يُنجز‭ ‬بتقنية‭ (‬الفوتومونتاج‭)‬؛‭ ‬أي‭: ‬إدخال‭ ‬صورة‭ ‬على‭ ‬أخرى‭. ‬وبعد‭ ‬دراسة‭ ‬مستفيضة‭ ‬لناتج‭ ‬هذا‭ ‬التوليف‭ ‬والتأليف‭ ‬البصري‭ ‬شكلاً‭ ‬ومضموناً،‭ ‬وتكويناً‭ ‬ودلالةً،‭ ‬وعناصر‭ ‬وإيحاءً،‭ ‬مازال‭ ‬الأفق‭ -‬كما‭ ‬يبدو‭- ‬رحباً‭ ‬ومفتوحاً‭ ‬على‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الكشوفات‭ ‬المتتالية‭ ‬المدهشة‭ ‬أمام‭ ‬الصورة‭ ‬الضوئية‭.‬

5081488550_31430a58e2_b (1)آراء‭ ‬ومواقف‭*‬

اختلفت‭ ‬الآراء،‭ ‬وتعدّدت‭ ‬المواقف،‭ ‬تجاه‭ ‬الصورة‭ ‬الضوئية؛‭ ‬فهي‭ ‬لدى‭ ‬بارتيه‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬الرسم؛‭ ‬لأنها‭ ‬عمل‭ ‬تسجيلي‭ ‬خالٍ‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬إشارة،‭ ‬وهي‭ ‬خادم‭ ‬مخلص‭ ‬للطبيعة؛‭ ‬لأنها‭ ‬تسجّل‭ ‬المشهد‭ ‬بشكل‭ ‬ميكانيكي،‭ ‬بينما‭ ‬الرسم‭ ‬هو‭ ‬إشارة‭ ‬ورمز‭ ‬غير‭ ‬طبيعي‭ ‬يُلمح‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬الأشياء،‭ ‬والرسام‭ ‬يستطيع‭ ‬التدخل‭ ‬في‭ ‬تركيب‭ ‬المشهد،‭ ‬فيحمّله‭ ‬معاني‭ ‬إضافيةً‭. ‬ويرى‭ ‬أحد‭ ‬الفنانين‭ ‬التشكيليين‭ ‬أن‭ ‬التصوير‭ ‬الضوئي‭ ‬اليوم‭ ‬أصبح‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬إعطاء‭ ‬صورة‭ ‬صادقة‭ ‬عن‭ ‬الواقع،‭ ‬وإلا‭ ‬فإن‭ ‬مبدأ‭ ‬الصورة‭ ‬الشخصية‭ ‬بالتعريف‭ ‬بالأشخاص‭ ‬وإعلانات‭ ‬الصور‭ ‬الانتخابية‭ ‬وصور‭ ‬ممثلات‭ ‬السينما‭ ‬غير‭ ‬صحيح‭. ‬لهذا‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭: ‬إن‭ ‬الصورة‭ ‬هي‭ ‬إشارة‭ ‬طبيعية،‭ ‬وليست‭ ‬إشارةً‭ ‬تعسفيةً‭ ‬خالصةً؛‭ ‬لأنها‭ ‬تستخرج‭ ‬معناها‭ ‬من‭ ‬الشيء‭ ‬المشخص‭.‬

لقد‭ ‬حاولت‭ ‬الصورة‭ ‬الضوئية‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬صورة‭ ‬طبق‭ ‬الأصل،‭ ‬وتطور‭ ‬تكنولوجيا‭ ‬فنّ‭ ‬الحفر‭ ‬والطباعة‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬170‭ ‬عاماً‭ ‬إنما‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬رصد‭ ‬الواقع‭ ‬بدقة،‭ ‬وإعادة‭ ‬تشخيصه‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تحريف‭. ‬إذاً،‭ ‬فنّ‭ ‬الكليشة‭ ‬والتصوير‭ ‬الضوئي‭ ‬يقومان‭ ‬على‭ ‬تكرار‭ ‬إشارات‭ ‬الصورة‭ ‬نفسها‭.‬

أما‭ ‬غوتيه،‭ ‬فيرى‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوقت،‭ ‬الذي‭ ‬يُعجب‭ ‬فيه‭ ‬التصوير‭ ‬الضوئي‭ ‬العامة؛‭ ‬لدقته‭ ‬الآلية‭ ‬في‭ ‬النسخ،‭ ‬يجيب‭ ‬الإعلان‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬عن‭ ‬اتجاه‭ ‬حرّ‭ ‬وجامح‭. ‬لقد‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬التحرك‭ ‬ضد‭ ‬الآلة‭ ‬العمياء؛‭ ‬لهذا‭ ‬قام‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الحفارين‭ ‬بالماء‭ ‬الثقيل‭ ‬بجميع‭ ‬مواهبهم،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أزعجتهم‭ ‬رؤية‭ ‬الجدران‭ ‬مغطاةً‭ ‬بصور‭ ‬ضوئية‭ ‬عادية‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬روح،‭ ‬بتأسيس‭ ‬جمعية‭ ‬الحفر‭ ‬بالماء‭ ‬الثقيل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬محاربة‭ ‬التصوير‭ ‬الضوئي‭ ‬والحفر‭ ‬المنتظم‭ ‬والآلي‭ ‬الخالي‭ ‬من‭ ‬الإلهام،‭ ‬الذي‭ ‬يشوّه‭ ‬فكرة‭ ‬الفنان‭. ‬

ويأسف‭ ‬بودلر‭ ‬لانحدار‭ ‬الذوق‭ ‬العام‭ ‬عند‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬أحبوا‭ ‬كثيراً‭ ‬التصوير‭ ‬الضوئي،‭ ‬هذه‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬تبهر‭ ‬أعين‭ ‬الجمهور‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يفهم‭ ‬الشيء‭ ‬الكثير‭ ‬عن‭ ‬الفن،‭ ‬هذا‭ ‬الجمهور‭ ‬الذي‭ ‬يحب‭ ‬الآلة‭ ‬التي‭ ‬تعطي‭ ‬صورة‭ ‬طبق‭ ‬الأصل‭ ‬عن‭ ‬الواقع‭. ‬لقد‭ ‬استعاض‭ ‬الجمهور‭ ‬عن‭ ‬اللوحات‭ ‬الأصلية‭ ‬بصورة‭ ‬طبق‭ ‬الأصل‭ ‬عنها،‭ ‬وأصبحت‭ ‬الصورة‭ ‬الضوئية‭ ‬المتحف‭ ‬الجديد‭ ‬للناس،‭ ‬وملجأً‭ ‬للفنانين‭ ‬المخفقين‭ ‬الكسالى‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يملكون‭ ‬أيّ‭ ‬موهبة،‭ ‬والذين‭ ‬يتكاسلون‭ ‬عن‭ ‬إتمام‭ ‬عملهم‭. ‬ويؤكد‭ ‬بودلر‭ ‬أن‭ ‬على‭ ‬التصوير‭ ‬الضوئي‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬بوظيفته‭ ‬الحقيقية،‭ ‬وهي‭ ‬خدمة‭ ‬العلوم‭ ‬والفنون؛‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬يخدم‭ ‬الطباعة‭ ‬والنسخ‭ ‬اللذين‭ ‬لا‭ ‬يتطلبان‭ ‬أيّ‭ ‬إبداع،‭ ‬بل‭ ‬عليهما‭ ‬مرافقة‭ ‬النصوص‭ ‬الأدبية‭. ‬ويذهب‭ ‬شاميغلوري‭ ‬إلى‭ ‬القول‭: ‬إن‭ ‬مكنة‭ ‬التصوير‭ ‬الضوئي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬روح،‭ ‬وإن‭ ‬عمل‭ ‬المصوّر‭ ‬الضوئي‭ ‬هو‭ ‬عمل‭ ‬ميكانيكي‭ ‬بحت‭.‬‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬دفعه‭ ‬إلى‭ ‬التحذير‭ ‬من‭ ‬خلط‭ ‬الصناعة‭ ‬مع‭ ‬الفن‭. ‬ويؤكد‭ ‬ضرورة‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬الصناعة‭ ‬في‭ ‬مكانها،‭ ‬وألا‭ ‬تُقبل‭ ‬في‭ ‬معهد‭ ‬أبولو‭ ‬المخصّص‭ ‬فقط‭ ‬لخدمة‭ ‬الفن‭ ‬الإغريقي‭ ‬والروماني‭.‬

ولأن‭ ‬التصوير‭ ‬الضوئي‭ ‬يتلخّص‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬عمليات‭ ‬تتطلب‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شكّ‭ ‬بعض‭ ‬المهارة‭ ‬اليدوية،‭ ‬لكن‭ ‬الصور‭ ‬الناتجة‭ ‬منها‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬عدّها‭ ‬بأيّ‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭ ‬عملاً‭ ‬فنياً؛‭ ‬لأن‭ ‬الفن‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬ثمار‭ ‬الفكر‭ ‬والدراسات‭ ‬الفنية‭.‬

في‭ ‬الجهة‭ ‬الأخرى

في‭ ‬المقابل،‭ ‬رفض‭ ‬دولاكروا‭ ‬وزيغل‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الآراء‭ ‬السلبية‭ ‬في‭ ‬التصوير‭ ‬الضوئي‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬بفضله‭ ‬اكتشاف‭ ‬أسرار‭ ‬الطبيعة‭. ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬رفض‭ ‬دولاكروا‭ ‬عدّه‭ ‬فناً؛‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يعكس‭ ‬فكر‭ ‬الإنسان،‭ ‬وكان‭ ‬ضد‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الصناعية،‭ ‬والتصوير‭ ‬الضوئي‭ ‬بوصفه‭ ‬تقنيةً‭ ‬ميكانيكيةً‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬روح،‭ ‬وغير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬نقل‭ ‬الإحساس‭ ‬والعاطفة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬لكنه‭ ‬عدل‭ ‬عن‭ ‬رأيه‭ ‬هذا‭ ‬فيما‭ ‬بعد؛‭ ‬إذ‭ ‬ذكر‭ ‬أنه‭ ‬رسم‭ ‬لوحته‭ ‬الشهيرة‭ (‬المرأة‭ ‬الجزائرية‭) ‬نقلاً‭ ‬عن‭ ‬صورة‭ ‬ضوئية‭ ‬عام‭ ‬1850م،‭ ‬وأشار‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬مقالاته‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬التصوير‭ ‬الضوئي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نسخ،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬مرآة‭ ‬الشيء‭. ‬إن‭ ‬التفاصيل‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬نجدها‭ ‬في‭ ‬الرسم‭ ‬العادي،‭ ‬وكانت‭ ‬مهملةً،‭ ‬تظهر‭ ‬بفضل‭ ‬مكنة‭ ‬التصوير،‭ ‬وبفضلها‭ ‬يصل‭ ‬الفنان‭ ‬إلى‭ ‬المعرفة‭ ‬الكاملة‭ ‬ببناء‭ ‬الشيء‭. ‬إن‭ ‬الظلّ‭ ‬والنور‭ ‬يحتفظان‭ ‬بالصورة‭ ‬الضوئية‭ ‬بكامل‭ ‬حقيقتهما؛‭ ‬أي‭: ‬بدرجة‭ ‬قساوتهما‭ ‬أو‭ ‬عذوبتهما‭. ‬كما‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬ننسى‭ ‬أن‭ ‬التصوير‭ ‬الضوئي‭ ‬يعدّ‭ ‬مترجماً‭ ‬يساعدنا‭ ‬على‭ ‬الغوص‭ ‬بعمق‭ ‬في‭ ‬أسرار‭ ‬الطبيعة‭.‬

لغة‭ ‬إبداعية‭ ‬متطلعة

هذا‭ ‬السجال‭ ‬المفتوح‭ ‬حول‭ ‬أهمية‭ ‬الصورة‭ ‬الضوئية،‭ ‬وطبيعتها،‭ ‬وقربها‭ ‬أو‭ ‬بعدها‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬الحقيقي،‭ ‬ولغة‭ ‬التعبير‭ ‬الراقية،‭ ‬الذي‭ ‬رافق‭ ‬ولادتها‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬قائماً‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬سيبقى‭ ‬مستمراً‭ ‬في‭ ‬الأيام‭ ‬المقبلة،‭ ‬مثله‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مثل‭ ‬عملية‭ ‬تحديد‭ ‬طبيعة‭ ‬الفن‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬الجدل‭ -‬وما‭ ‬زال‭- ‬قائماً‭ ‬حولها،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬تكمن‭ ‬حيوية‭ ‬الفن‭ ‬وغناه‭ ‬وإبداعه‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يركن‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬محدد،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬دائم‭ ‬التطلع‭ ‬إلى‭ ‬آفاق‭ ‬جديدة،‭ ‬يجددها‭ ‬ويتجدد‭ ‬فيها‭.‬

قد‭ ‬لا‭ ‬تصل‭ ‬الصورة‭ ‬الضوئية‭ ‬إلى‭ ‬مصافّ‭ ‬اللغات‭ ‬الإبداعية‭ ‬الراقية؛‭ ‬كالرسم،‭ ‬والشعر،‭ ‬والموسيقا،‭ ‬أو‭ ‬تُقبل‭ ‬عضواً‭ ‬أصيلاً‭ ‬في‭ ‬جمهورية‭ ‬الإبداع،‭ ‬لكنها‭ ‬ستبقى‭ ‬مسكونةً‭ ‬بهذا‭ ‬الهاجس‭ ‬ما‭ ‬دامت‭ ‬تقودها‭ ‬مواهب‭ ‬خبرت‭ ‬جيداً‭ ‬قدراتها،‭ ‬وتمكنت‭ ‬من‭ ‬أسرارها،‭ ‬وقادرة‭ ‬على‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬التطور‭ ‬المذهل‭ ‬والدائم‭ ‬لوسائل‭ ‬إنتاجها‭ ‬وتعميمها،‭ ‬وتوظيف‭ ‬ذلك‭ ‬لمصلحة‭ ‬الارتقاء‭ ‬بقيمها‭ ‬الفنية‭ ‬والتعبيرية‭.‬

‭* ‬عز‭ ‬الدين‭ ‬شموط،‭ ‬تعريف‭ ‬بفنّ‭ ‬الحفر‭ ‬والطباعة،‭ ‬دمشق،‭ ‬1992م،‭ ‬ص143‭-‬148‭.‬