طبوغرافية للفوضى

طبوغرافية للفوضى

najiظروف‭ ‬متعددة‭ ‬أتاحت‭ ‬للجماعات‭ ‬الإرهابية‭ ‬استمرارية‭ ‬البقاء‭ ‬والتوسع‭ ‬والتواصل،‭ ‬لعل‭ ‬أبرز‭ ‬تلك‭ ‬العوامل‭ ‬ما‭ ‬ارتبط‭ ‬بكل‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬ونظامها‭ ‬السياسيّ،‭ ‬والطبيعة‭ ‬الجغرافية‭ ‬للأطراف‭ ‬الحدودية،‭ ‬ومتى‭ ‬تَوافَقَا‭ ‬مع‭ ‬أهداف‭ ‬الجماعات‭ ‬الإرهابية؛‭ ‬اتَّسَع‭ ‬نطاق‭ ‬عملياتها،‭ ‬ونمت‭ ‬مواردها،‭ ‬وتصاعدت‭ ‬قوتها‭ ‬البشرية‭.‬

اتَّخذَت‭ ‬حركات‭ ‬التمرُّد‭ ‬والإرهاب‭ ‬من‭ ‬كيانات‭ ‬جغرافية‭ ‬مواقعَ‭ ‬لتأسيس‭ ‬قواعدها،‭ ‬هي‭ ‬أقرب‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬إلى‭ ‬أشباه‭ ‬دول‭ ‬أو‭ ‬دول‭ ‬متمردة‭. ‬تُعرِّف‭ ‬الأدبيات‭ ‬السياسية‭ ‬أشباهَ‭ ‬الدول‭ ‬بالسلطات‭ ‬التي‭ ‬شغَلَت‭ ‬المناصب‭ ‬القيادية‭ ‬في‭ ‬المؤسسات‭ ‬الوطنية‭ ‬والمحلية‭ ‬عقب‭ ‬جلاء‭ ‬الاستعمار،‭ ‬واستخدام‭ ‬أغلبية‭ ‬عائدات‭ ‬السلطة‭ ‬لصالح‭ ‬أفراد‭ ‬مُحدَّدِين،‭ ‬وتسريب‭ ‬الفائض‭ ‬إلى‭ ‬خدمة‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭. ‬بينما‭ ‬نجد‭ ‬الدولة‭ ‬المتمردة‭ ‬دولة‭ ‬مركزية‭ ‬ذات‭ ‬سيادة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬مقدرتها‭ ‬على‭ ‬سيطرة‭ ‬الأطراف،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تنميتها،‭ ‬أم‭ ‬إتاحة‭ ‬فرص‭ ‬للمشاركة،‭ ‬أم‭ ‬صنع‭ ‬القرار‭ ‬وترسيخ‭ ‬الأمن،‭ ‬متأرجحة‭ ‬من‭ ‬وقت‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬ومتى‭ ‬انحسر‭ ‬اهتمامها،‭ ‬وتلاشت‭ ‬سلطتها‭ ‬عن‭ ‬الأطراف،‭ ‬برزت‭ ‬جماعات‭ ‬التطرف‭ ‬والإرهاب؛‭ ‬للقيام‭ ‬بملء‭ ‬الفراغ،‭ ‬وفرض‭ ‬الأمن،‭ ‬وتقديم‭ ‬بعض‭ ‬الخِدمات،‭ ‬وترسيخ‭ ‬ثقافات‭ ‬أيديولوجية‭ ‬محددة‭. ‬في‭ ‬الأغلب‭ ‬الأعمّ‭ ‬تميّزت‭ ‬الأطراف‭ ‬بعوائقها‭ ‬الجغرافية‭ ‬الطبيعية،‭ ‬وصعوبة‭ ‬الوصول‭ ‬إليها،‭ ‬وتباينها‭ ‬العرقيّ‭ ‬والثقافيّ‭ ‬عن‭ ‬المركز‭. ‬

عوامل‭ ‬متعددة‭ ‬أدَّت‭ ‬إلى‭ ‬ظهور‭ ‬الدول‭ ‬المتمردة؛‭ ‬منها‭: ‬عدم‭ ‬الاستقرار‭ ‬السياسيّ،‭ ‬وتنازُع‭ ‬أراضيها‭ ‬سلطة‭ ‬مركزية‭ ‬وفصائل‭ ‬سياسية‭ ‬مناوئة‭ ‬لسلطة‭ ‬الحكم‭ ‬المركزيّ،‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬تُدافع‭ ‬عن‭ ‬سلطتها‭ ‬المركزية‭ ‬قواتٌ‭ ‬مسلحة،‭ ‬تسعى‭ ‬دائمًا‭ ‬للخلط‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬والاختصاص،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الأطراف‭ ‬الجغرافية‭ ‬مثّلت‭ ‬موئلًا‭ ‬مناسبًا‭ ‬لنمو‭ ‬وتطوّر‭ ‬التطرُّف‭ ‬والإرهاب‭ ‬بعيدًا‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬المركزية‭. ‬ولتجاور‭ ‬الأطراف‭ ‬الجغرافية‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬المتمردة؛‭ ‬أصبح‭ ‬لحركات‭ ‬التطرف‭ ‬والإرهاب‭ ‬مجال‭ ‬جغرافيّ‭ ‬أوسع‭ ‬للحركة‭ ‬والنشاط،‭ ‬متجاوزة‭ ‬الحدود،‭ ‬ومُشَكِّلة‭ ‬من‭ ‬الأطراف‭ ‬كياناتٍ‭ ‬متسعةً،‭ ‬ومتجاوزة‭ ‬مساحةَ‭ ‬الدولة‭ ‬المتمردة‭. ‬لعل‭ ‬أوضح‭ ‬مثال‭ ‬هو‭ ‬حجم‭ ‬المجال‭ ‬الجغرافيّ‭ ‬للحركات‭ ‬الإرهابية‭ ‬على‭ ‬أطراف‭ ‬الدولة‭ ‬العراقية‭ ‬والسورية،‭ ‬ومناطق‭ ‬القبائل‭ ‬بين‭ ‬باكستان‭ ‬وأفغانستان،‭ ‬والأطراف‭ ‬الحدودية‭ ‬بين‭ ‬ليبيا‭ ‬وتونس،‭ ‬وأطراف‭ ‬أراضي‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تُمثِّل‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الصحراء‭ ‬الكبرى،‭ ‬وليس‭ ‬كما‭ ‬يعتقد‭ ‬أنها‭ ‬حركات‭ ‬عابرة‭ ‬للحدود،‭ ‬وإلَّا‭ ‬لَتَجاوزَتْ‭ ‬حدودُ‭ ‬حركات‭ ‬التطرف‭ ‬في‭ ‬اليمن‭ ‬حدودَ‭ ‬الدول‭ ‬المجاورة؛‭ ‬لتُشكِّل‭ ‬نطاقًا‭ ‬جغرافيًّا‭ ‬ممتدًا‭ ‬مع‭ ‬أطراف‭ ‬المملكة‭ ‬العربية‭ ‬السعودية،‭ ‬وسلطنة‭ ‬عمان،‭ ‬والأطراف‭ ‬الجغرافية‭ ‬لليمن،‭ ‬أو‭ ‬يتجاوز‭ ‬متمرِّدو‭ ‬منطقة‭ ‬القبائل‭ ‬في‭ ‬الأطراف‭ ‬الأفغانية‭ ‬والباكستانية‭ ‬حدودَهم‭ ‬الجغرافية،‭ ‬باجتيازهم‭ ‬الحدودَ‭ ‬الصينيةَ‭ ‬بُغْية‭ ‬التوسع‭ ‬الجغرافيّ‭. ‬

شروط‭ ‬عدة‭ ‬تتحكّم‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬امتداد‭ ‬المجال‭ ‬الجغرافيّ‭ ‬إلى‭ ‬الجماعات‭ ‬الإرهابية،‭ ‬لكونه‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬توافق‭ ‬المكونات‭ ‬الجغرافية،‭ ‬والشروط‭ ‬المُثْلَى‭ ‬لإقامة‭ ‬الملاذ‭ ‬الآمن،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فهو‭ ‬امتداد‭ ‬هلاميّ‭ ‬غير‭ ‬مستقرّ،‭ ‬وقابل‭ ‬للتعديل‭ ‬والتغيير،‭ ‬ونطاق‭ ‬تنازع‭ ‬بين‭ ‬سلطة‭ ‬الدولة‭ ‬المركزية‭ ‬والجماعات‭ ‬الإرهابية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬كليهما‭ ‬يسعى‭ ‬لعدم‭ ‬التعرُّض‭ ‬للتخوم‭ ‬الحدودية‭ ‬بين‭ ‬المجاليْنِ‭ ‬الجغرافيين؛‭ ‬لما‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬أهمية‭ ‬استخباراتية‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ولعدم‭ ‬تأليب‭ ‬قاطنيه،‭ ‬والخوف‭ ‬من‭ ‬تأييده‭ ‬الخصمَ‭. ‬

تضم‭ ‬الأطرافُ‭ ‬مكوناتٍ‭ ‬معقدةَ‭ ‬التفاعلِ‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭: ‬طبوغرافية‭ ‬أكثر‭ ‬تعقيدًا،‭ ‬وموارد‭ ‬لوجستية،‭ ‬وبِنَى‭ ‬تحتية‭ ‬يمكن‭ ‬بوساطتها‭ ‬خلْق‭ ‬فضاء‭ ‬للتواصل‭ ‬العالميّ،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬مجتمع‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬سماته‭ ‬نتاج‭ ‬لأوضاع‭ ‬اجتماعية‭ ‬واقتصادية،‭ ‬وترسيخ‭ ‬لعدم‭ ‬المساواة،‭ ‬وإن‭ ‬عزلتها‭ ‬عن‭ ‬المركز‭ ‬أفرزتها‭ ‬سوء‭ ‬الإدارة‭ ‬والركود‭ ‬الاقتصاديّ‭ ‬أو‭ ‬التراجع،‭ ‬وإن‭ ‬تراكم‭ ‬الجهل‭ ‬وانتشار‭ ‬الأُمية‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬مجتمع‭ ‬الأطراف؛‭ ‬أدَّى‭ ‬إلى‭ ‬الجهل‭ ‬بطبائع‭ ‬العالَم‭ ‬الحديث،‭ ‬والاتجاه‭ ‬نحو‭ ‬ترسيخ‭ ‬فكرة‭ ‬الاستياء‭ ‬من‭ ‬تعدِّي‭ ‬القيم‭ ‬الغربية‭ ‬على‭ ‬قيم‭ ‬المجتمع‭ ‬الموروثة،‭ ‬وبقليل‭ ‬من‭ ‬الجهد‭ ‬الأيديولوجيّ،‭ ‬يمكن‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬النِّقْمة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬إيجاد‭ ‬مورد‭ ‬بشريّ‭ ‬لرفد‭ ‬احتياجات‭ ‬الجماعات‭ ‬الإرهابية،‭ ‬أو‭ ‬أقلّه،‭ ‬خَلْق‭ ‬نطاق‭ ‬اجتماعيّ‭ ‬من‭ ‬التأييد‭ ‬الشعبيّ‭.‬