كيف نوقف تفكيك العالم العربيّ؟

كيف نوقف تفكيك العالم العربيّ؟

1لم‭ ‬يَعُدِ‭ ‬العالم‭ ‬العربيّ‭ ‬على‭ ‬حاله‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قبل‭ ‬عقد‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬فعوامل‭ ‬التعرية‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬رانت‭ ‬على‭ ‬مكوّنات‭ ‬الدول‭ ‬الوطنية‭ ‬التي‭ ‬تشكله‭ ‬من‭ ‬الخليج‭ ‬إلى‭ ‬المحيط،‭ ‬بعضها‭ ‬بفعل‭ ‬خلل‭ ‬بنيويّ‭ ‬داخليّ،‭ ‬وبعضها‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬تدخُّلات‭ ‬دولية‭ ‬وإقليمية،‭ ‬طامعة‭ ‬فيما‭ ‬لدى‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬إمكانيات،‭ ‬وطامحة‭ ‬إلى‭ ‬حماية‭ ‬مصالحها‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭. ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬بوسع‭ ‬الخارج‭ ‬أن‭ ‬يعبث‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬العربيّ‭ ‬لولا‭ ‬أنه‭ ‬وجد‭ ‬قابليةً‭ ‬لهذا،‭ ‬وهشاشةً‭ ‬ظاهرةً،‭ ‬تُغريه‭ ‬بالتدخُّل،‭ ‬وتُصَوِّر‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬مهمته‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬العرب‭ ‬ستكون‭ ‬يسيرةً‭.‬

إن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬سايكس‭ ‬بيكو‮»‬‭ ‬جديدةٍ‭ ‬لم‭ ‬يَعُدْ‭ ‬ترفًا،‭ ‬ولا‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬الشعور‭ ‬المفرط‭ ‬بالمؤامرة،‭ ‬لكنه‭ ‬بات‭ ‬حقيقةً‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬الظروف‭ ‬التي‭ ‬آلَتْ‭ ‬إليها‭ ‬أوضاعُ‭ ‬العالم‭ ‬العربيّ،‭ ‬الذي‭ ‬تآكلت‭ ‬أطرافه‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬بعد‭ ‬احتلال‭ ‬العراق،‭ ‬وتفتّت‭ ‬الصومال،‭ ‬واضطراب‭ ‬الأحوال‭ ‬في‭ ‬موريتانيا،‭ ‬ثم‭ ‬انفجر‭ ‬قلبُه‭ ‬بفعل‭ ‬ثَوْرَات‭ ‬وانتفاضات،‭ ‬جَرَّتْ‭ ‬بعضَ‭ ‬البلدان‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬أهلية؛‭ ‬مثل‭: ‬سوريا‭ ‬وليبيا،‭ ‬واستقطاب‭ ‬سياسيّ‭ ‬حادّ؛‭ ‬مثل‭: ‬مصر‭ ‬وتونس،‭ ‬وجعلت‭ ‬بعضه‭ ‬مطمعًا‭ ‬لإيران‭ ‬وتركيا؛‭ ‬مثل‭: ‬اليمن‭ ‬وسوريا‭ ‬والعراق‭. ‬وتضغط‭ ‬هذه‭ ‬الأوضاع‭ ‬على‭ ‬بقية‭ ‬الدول‭ ‬بدرجات‭ ‬متفاوتة،‭ ‬بما‭ ‬قد‭ ‬يؤدّي‭ ‬إلى‭ ‬انقسامها‭ ‬وتفتُّتها،‭ ‬وبخاصة‭ ‬بعد‭ ‬توحُّش‭ ‬الجماعات‭ ‬المتطرّفة‭ ‬والإرهابية‭ ‬التي‭ ‬توظِّف‭ ‬القراءة‭ ‬المشوَّهة‭ ‬والمُغرضة‭ ‬للإسلام‭ ‬في‭ ‬تفكيك‭ ‬الأوطان‭.‬

وقف‭ ‬السيناريو‭ ‬البائس

كي‭ ‬يمكن‭ ‬وقف‭ ‬هذا‭ ‬السيناريو‭ ‬البائس‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الشروع،‭ ‬الآن‭ ‬قبل‭ ‬الغد،‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬تقود‭ ‬إلى‭ ‬إنجاز‭ ‬الانصهار‭ ‬أو‭ ‬الاندماج‭ ‬الوطنيّ،‭ ‬الذي‭ ‬غاب‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬رحيل‭ ‬المستعمر،‭ ‬بعد‭ ‬عملية‭ ‬سياسية،‭ ‬تُوقِف‭ ‬النزاعات‭ ‬والصراعات‭ ‬المُسلّحة‭ ‬والفوضى‭ ‬المجتمعية،‭ ‬والاحتقانات‭ ‬النفسية‭. ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تكتمل‭ ‬عملية‭ ‬الاندماج‭ ‬على‭ ‬خير‭ ‬وجه،‭ ‬وتؤدِّي‭ ‬دورها‭ ‬في‭ ‬رفع‭ ‬الجماعة‭ ‬ودفع‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬الإمام؛‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬توافر‭ ‬عدة‭ ‬شروط‭ ‬يمكن‭ ‬ذكرها‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الآتي‭:‬

أولًا‭- ‬الطواعية‭:‬‭ ‬فالاندماجات‭ ‬التي‭ ‬تجري‭ ‬قسرًا‭ ‬لا‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬طويلًا‭… ‬والمثال‭ ‬الناصع‭ ‬تاريخيًّا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الإمبراطوريات‭ ‬التي‭ ‬تلاحقت‭ ‬على‭ ‬حُكم‭ ‬البشرية‭ ‬طوال‭ ‬القرون‭ ‬التي‭ ‬سبقت‭ ‬قيام‭ ‬‮«‬الدولة‭ ‬القومية‮»‬،‭ ‬ففي‭ ‬توسُّعها‭ ‬ضمَّت‭ ‬أجناسًا‭ ‬وأتباعَ‭ ‬أديانٍ‭ ‬ومذاهبَ‭ ‬ولغات‭ ‬وأعراقًا‭ ‬عديدة،‭ ‬ودمجتهم‭ ‬عَنْوةً،‭ ‬وظل‭ ‬هذا‭ ‬الدَّمْجُ‭ ‬القَسْريُّ‭ ‬قائمًا‭ ‬رَدَحًا‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتحوّل‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان‭ ‬والمناطق‭ ‬إلى‭ ‬انصهار‭ ‬اجتماعيّ‭ ‬كامل؛‭ ‬لهذا‭ ‬ما‭ ‬إنْ‭ ‬فَلَتَتْ‭ ‬قبضةُ‭ ‬السلطة‭ ‬المركزية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الإمبراطوريات‭ ‬حتى‭ ‬تمرَّدَتْ‭ ‬عليها‭ ‬الجماعاتُ‭ ‬المُجبَرة‭ ‬على‭ ‬الانضواء‭ ‬تحت‭ ‬لواء‭ ‬الإمبراطور،‭ ‬وانفصلت‭ ‬تباعًا‭ ‬في‭ ‬كيانات‭ ‬مستقلَّة‭. ‬أما‭ ‬المثال‭ ‬الناصع‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الحديث‭ ‬فهو‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتيّ‭ ‬السابق،‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬على‭ ‬ضمّ‭ ‬قوميات،‭ ‬وعرقيات،‭ ‬وأصحاب‭ ‬ثقافات‭ ‬وديانات‭ ‬بالقوة‭ ‬المسلَّحة‭ ‬ضمن‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭ ‬الإمبراطوريّ‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬إنْ‭ ‬تراخَتْ‭ ‬قوَّتُه،‭ ‬حتى‭ ‬تفكَّك‭ ‬إلى‭ ‬دُوَيْلات‭ ‬عِدَّة‭. ‬وهناك‭ -‬أيضًا‭- ‬الاتحاد‭ ‬اليوغسلافيّ‭ ‬الذي‭ ‬راح‭ ‬يتفكَّك‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تَطْوي‭ ‬الألفيةُ‭ ‬الثانيةُ‭ ‬سنواتِها‭. ‬

ghr1ثانيًا‭- ‬الخصائص‭ ‬البنيوية‭ ‬المشتركة‭: ‬وهي‭ ‬تتوزَّع‭ ‬في‭ ‬مسارات‭ ‬متعددة،‭ ‬يؤدِّي‭ ‬جميعُها‭ ‬إلى‭ ‬تماسك‭ ‬‮«‬التيار‭ ‬الاجتماعيّ‭ ‬العريض‮»‬،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بالقيم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬السائدة‭ ‬والمتوارثة‭ ‬التي‭ ‬إنْ‭ ‬تجدَّدتْ‭ ‬لا‭ ‬تُخلّ‭ ‬بهذا‭ ‬التماسك،‭ ‬ولا‭ ‬تهُزّه‭ ‬فجأةً،‭ ‬فتنتج‭ ‬تصدُّعات‭ ‬وتشققات‭ ‬تضرُّ‭ ‬به‭. ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬يرتبط‭ ‬بالثقافة‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬الأذهان‭ ‬والأفهام‭ ‬وتصقلها،‭ ‬وتحدِّد‭ ‬السلوك‭ ‬وتعيِّنه،‭ ‬فهذه‭ ‬الثقافة‭ ‬بما‭ ‬ينضوي‭ ‬تحتها‭ ‬من‭ ‬معارف‭ ‬وقيم‭ ‬وتوجُّهات‭ ‬يُمكنها‭ ‬أن‭ ‬توظف‭ ‬لبناء‭ ‬الوعي‭ ‬الذي‭ ‬يؤسّس‭ ‬للتعايش،‭ ‬وقَبُول‭ ‬الآخَر‭ ‬من‭ ‬حيثُ‭ ‬المنشأُ،‭ ‬ثم‭ ‬يفتح‭ ‬الطريق‭ ‬أمام‭ ‬البحث‭ ‬الدائم‭ ‬والدائب‭ ‬عن‭ ‬الانصهار‭ ‬الوطنيّ‭. ‬ومنها‭ ‬كذلك‭ ‬ما‭ ‬يرتبط‭ ‬بالجوانب‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬ومقتضيات‭ ‬السُّوق‭ ‬التي‭ ‬تبني‭ ‬شبكة‭ ‬من‭ ‬المصالح‭ ‬بين‭ ‬الفئات‭ ‬والشرائح‭ ‬والطوائف؛‭ ‬تجعلها‭ ‬حريصةً‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تُبقِي‭ ‬علاقاتٍ‭ ‬جيدةً‭ ‬مع‭ ‬الكُتَل‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المختلفة‭. ‬

ثالثًا‭- ‬الإطار‭ ‬العادل‭:‬‭ ‬فالدستور‭ ‬الذي‭ ‬يحكم‭ ‬التصوُّرات‭ ‬والممارسات‭ ‬داخل‭ ‬الدولة‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬يُفرّق‭ ‬بين‭ ‬المواطنين‭ ‬وَفْق‭ ‬أيّ‭ ‬من‭ ‬الاختلافات‭ ‬القائمة‭ ‬بينهم،‭ ‬إنما‭ ‬تُسوِّي‭ ‬نصوصُه‭ ‬بين‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬الحقوق‭ ‬والواجبات‭. ‬ولو‭ ‬حمل‭ ‬دستور‭ ‬بلد‭ ‬أو‭ ‬قوانينه‭ ‬ما‭ ‬يميِّز‭ ‬بين‭ ‬مواطنيه‭ ‬على‭ ‬أيّ‭ ‬من‭ ‬أُسُس‭ ‬الاختلاف،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬أمر‭ ‬جدٌّ‭ ‬خطير،‭ ‬ويفتح‭ ‬الباب‭ ‬على‭ ‬مصراعيه‭ ‬أمام‭ ‬ظهور‭ ‬أفعال‭ ‬اضطهاد؛‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الأفراد‭ ‬أم‭ ‬المؤسسات‭. ‬ولا‭ ‬يجب‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بالنصوص‭ ‬التي‭ ‬تقيم‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬المواطنين‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬التساوي‭ ‬والتماثل،‭ ‬إنما‭ ‬من‭ ‬الضروريّ‭ ‬أن‭ ‬تنتقل‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الواقع،‭ ‬فتتحوّل‭ ‬من‭ ‬محض‭ ‬سطور‭ ‬إلى‭ ‬سلوك‭ ‬وتدابير‭. ‬

رابعًا‭- ‬الرابطة‭ ‬العاطفية‭:‬‭ ‬من‭ ‬الضروريّ‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬نقطة‭ ‬موحّدة،‭ ‬تنجذب‭ ‬إليها‭ ‬مشاعر‭ ‬الجماهير،‭ ‬وتكون‭ ‬أكثر‭ ‬سطوعًا‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬نقاط‭ ‬أخرى‭ ‬جاذبة،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تُشتّت‭ ‬ولاءهم‭ ‬الجمعيّ‭. ‬وهذه‭ ‬النقطة‭ ‬لا‭ ‬تخلقها‭ ‬الادّعاءات،‭ ‬ولا‭ ‬يصنعها‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بالخطابات‭ ‬والكلمات‭ ‬الرنَّانة‭ ‬الطنانة‭ ‬التي‭ ‬تدغدغ‭ ‬المشاعر،‭ ‬إنما‭ ‬تتطلّب‭ ‬إجراءات‭ ‬ملموسة‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬تغذي‭ ‬الانتماء‭. ‬

خامسًا‭- ‬المشروع‭ ‬السياسيّ‭ ‬والحضاريّ‭ ‬المشترك‭: ‬فغياب‭ ‬المشروع‭ ‬السياسيّ‭ ‬الذي‭ ‬يَتحلَّقُ‭ ‬حوله‭ ‬الجميعُ،‭ ‬ويعملون‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬نجاحه،‭ ‬يؤدّي‭ ‬إلى‭ ‬عودة‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬انتماءاتها‭ ‬الأَوَّلية‭ ‬وبخاصة‭ ‬الدينية‭. ‬أما‭ ‬حضور‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬بشكل‭ ‬طوعيّ،‭ ‬واشتماله‭ ‬على‭ ‬القواسم‭ ‬المشتركة‭ ‬والمصالح‭ ‬المتبادلة‭ ‬بين‭ ‬طوائف‭ ‬المجتمع‭ ‬وطبقاته‭ ‬وشرائحه‭ ‬وفئاته‭ ‬المختلفة؛‭ ‬يؤدّي‭ ‬بهؤلاء‭ ‬جميعًا‭ ‬إلى‭ ‬التوحُّد‭ ‬والانصهار‭.‬

إن‭ ‬تطبيق‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬بات‭ ‬ضرورة‭ ‬الآن؛‭ ‬كي‭ ‬نوقف‭ ‬تفكيك‭ ‬العالم‭ ‬العربيّ،‭ ‬وعلى‭ ‬السلطات‭ ‬الحاكمة‭ ‬والنُّخَب‭ ‬البارزة،‭ ‬والصفوات‭ ‬والطبقات‭ ‬الممكنة،‭ ‬والقوى‭ ‬الفاعلة،‭ ‬وأصحاب‭ ‬الفِكْر،‭ ‬وقادة‭ ‬الرأي؛‭ ‬أن‭ ‬يتكاتفوا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬صناعة‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬قبل‭ ‬فوات‭ ‬الأوان‭.‬