الثقافة في الخارج.. تصحيح المسار

الثقافة في الخارج.. تصحيح المسار

تعلم وزارة الثقافة أنّ المخزون الثقافي والإرث الإنساني للمملكة ليس منبتًّا ولا وليد عقود معدودة؛ وإنّما هو امتداد لحضارات شبه الجزيرة العربية مكانًا وزمانًا وثقافة، وما نعيشه اليوم هو حدّ فاصل بين تاريخين.. تاريخ بعيد وطويل يسبق النهضة العربية وينتهي إلى حضارات قديمة قامت على هذه الأرض، ثم تاريخ حديث أوله النهضة العربية بتشكل مفهوم الدولة الحديثة، وكان قيام هذه الدولة ضمن سياق تاريخي أخذ من ثقافة المكان وقيمه موجبات التأسيس.. وهذه العصارة التاريخية تُحقق لأيّ مشروع ثقافي الوجود الحقيقي أمام العالم بحِقَب زمنية شاهقة شهدتها أرض المملكة.

ونظرًا لما لشبه الجزيرة العربية من أهمية كبرى جغرافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وقبل ذلك روحيًّا في خارطة العالم، فإنّ صُنّاع القرار في وزارة الثقافة مطالبون بوضع إستراتيجية ترتكز على مقومات المجتمع وثراء مكوناته وتعدد طاقاته وهو ما أشرق به ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عبر مشروع «رؤية 2030» لاستنهاض قدرات الداخل السعودي وتكريس ثقافة إنسان هذه الأرض جوهرًا لهذا المشروع الفاصل في تاريخ المملكة.. وفي قطاع الثقافة لمسنا البدء بتنفيذ عدة مبادرات من شأنها أن تُعزز ازدهار الثقافة والفنون داخليًّا والوعي بأهميتهما وتوسيع بيئتهما الحافزة وإحداث أثرهما في السلوك الإنساني داخل المجتمع السعودي، وبناء المؤسسات الحكومية وغير الحكومية لرعاية المواهب الشابة وتشجيعها والتدريب واستقطاب الخبرات من داخل المملكة وخارجها، واستحداث البرامج التي تجعل من الثقافة والفنون داعمة للاقتصاد الوطني والتنمية. وكل تلك المبادرات قادرة على إحداث الفعل الثقافي الجاد والأثر الممتد لا لإظهار ردّة الفعل القاصرة التي اتسم بها سابقًا عملنا الثقافي وحوارنا في الخارج.

من فعاليات الأيام الثقافية السعودية بباريس

وإذا كان لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان السبق في أن يكون أول «سفير ثقافي» -أمير الرياض ومبعوث إخوته الملوك- عندما قدَّم للعالم أول مرة معرض «الرياض بين الأمس واليوم» عام 1985م؛ فسيكون لوزارة الثقافة ريادة في أن تجعل اسم «السفير الثقافي» أُنموذجًا عند تقديم ثقافتنا بلسانها الأول، لسان الوحي المقدس والخالد عربيًّا، أو بلغات إنسانية للمقاربات والتبادل والمثاقفة، وكذا تقديم أرضها المهد لأمم غابرة، متسيدة المشهد بصوت سعودي – عربي خارجيًّا. وتعي الوزارة ما تضطلع به المملكة في الهم المشترك حيال الهوية العربية والإسلامية بكامل حمولتها، وما تمتثل له من قيم عُليا تدعوها للدفاع عن ثقافة تلك الهوية في ذهنية الآخر المتقدم بتصدير الصورة ونشرها عالميًّا؛ لذا تنعقد مسؤولية إعادة تصويب تلك الذهنية وتلك النظرة على الوزارة والنهوض بالشأن الثقافي خارجيًّا من خلال إعادة النظر في أوجه التمثيل الثقافي الدولي، بدايةً بإنشاء الممثليات المعنية بالثقافة واختيار الشخصيات الفاعلة والمرموقة في الأوساط الثقافية للعمل في تلك الممثليات.

ولا يخفى على أحد أنّ التمثيل ثقافيًّا في السابق كان يقوم على أسماء محددة وغير مجدية عند الآخر، ولا تملك الحضور المؤثر حين مُكنت من المحافل الدولية لتُقدِّم اجتهاد المقلّ، بينما العمل اليوم يتطلب أكثر احترافية مع الآخر ومؤسساته المتطورة والمحركة لأوجه الثقافة والفنون، وهذا ما يجب أن يكون نصب العين والرؤية لدى الوزارة عند تأسيس مراكز ثقافية في مدن عالمية، كباريس ونيويورك ولندن وروما، وكذلك في القاهرة وبيروت والرباط. إذن فبناء المراكز الدولية أساس جوهري لتفعيل دور الوزارة في المحافل العالمية وتنويع الملتقيات مع الآخر، فهذا المحور مهم داخل المجتمعات الأخرى ومحرك فاعل للعملية الدبلوماسية في الأوساط الدولية.. فلنا أن نتصور الأثر البالغ لحركة تلك المراكز عند إنشائها وتحديد آلية عملها وإقرار خططها وميزانيتها السنوية المخصصة فقط لنشر الثقافة والفنون، تلك الخطط والميزانيات التي افتقرت إليها منذ سنوات طويلة ممثليات المملكة في الخارج.

وإذا شرعنا في محاكمة المراحل السابقة -ليس جلدًا للذات بل لتصحيح المسار- لوجدنا الكثير من السلبيات في المشاركات الخارجية التي لم تُقدم كتابًا واحدًا يُضاهي تجربة عالمية أو مبدعًا سعوديًّا يُحتفى به في البلد الذي يستضيف المشاركة السعودية أو يستضيف جهة التمثيل الدبلوماسي التي ارتبطت بها الثقافة اسمًا فقط ولعقود طويلة من الزمن، وهذا يعود في المقام الأول وبشكل مباشر للأشخاص المعنيين حينها بإدارة المشهد الثقافي السعودي وتصديره ونشر نتاجه. وعن هذه الفئة تحديدًا لا ننكر منها أشخاصًا لهم التقدير لما قاموا به كبعض السفراء والملحقين الثقافيين، رغم أنّ الأعمال كانت دون المستوى وباجتهادات شخصية مع انعدام ميزانيات داعمة، في حين العمل الثقافي في الخارج له معاييره الصارمة لتحقيق النجاح والأثر؛ لذلك على وزارة الثقافة أن تنظر لهذه المسألة بعين الاعتبار عند وضع الخطط والبرامج الدولية، إضافة إلى ملاحظة اختلاف الثقافات، فتعاطي الجمهور الآخر مع نتاجنا الإبداعي وتقبُّله يختلف عن قبيله العربي، وهو ما يستدعي معه اختيار المشاركات النوعية والقادرة على محاكاة المتلقي في بلدان أوربية أو غيرها. كما أنّ الوصول للمثقف العربي المُنْجِز والفاعل واستقطابه هو الهدف الأهم من تكرار أسماء فرضتها ظروف معينة لم تعد قائمة لا من حيث إمكانياتنا ولا من حيث التطلعات.

ومن جانب آخر لا بدّ من معالجة نوعية الخطاب ومستواه وتحريره من سلطة الأمس؛ فلا يُمكن أن تُقيم جدلًا مؤثرًا وتفاعلًا حقيقيًّا عند الآخر ما لم يوجد المثقف السعودي القادر على التأثير والتصدي ثقافيًّا لأيّ مساس بقِيَمِهِ خارجيًّا وفي دوائر معروفة وأدبيات مختلفة، فإن كانت بعض النخبة الأجنبية -على سبيل المثال- تُسمعنا أنّها تفهم قيمنا وآداب مكوننا الثقافي وتُخرجها من مغالطات كثيرة؛ إلّا أنّ هذا القول لا يتحرك داخل مجتمعاتها نظرًا لقصورٍ في تبنِّي آراء تلك النخب وعدم نشرها وَفْق مشروع ثقافي جادّ.

ونظرًا لمكانة دول بعينها في المشهد العالمي كفرنسا وما تملكه من فضاءات وتحتضنه من ثقافات عديدة؛ فإنّ حضور وزارة الثقافة عبر مركز ثقافي عالمي في باريس مثلًا لهو تمثيل عالمي المشهد لِمَا ستطلُّ عليه من نوافذ دولية.. وانطلاقًا من كل ذلك وعملًا بمبادرات المنعطف المهمّ في تاريخ المملكة برؤيتها الفتيَّة 2030، علينا الرهان على مقاربة الإنسان العربي بمكوناته الثقافية، ولا يتأتّى ذلك إلّا بمشروع رائد يرى شبه الجزيرة العربية أرضًا بكرًا لا بدّ من حفرها معرفيًّا وثقافيًّا تحت طبقات تاريخها لإنماء الفهم المتبادل، فتطرح الوزارة آلية مثالية لعولمة ثقافة شبه الجزيرة العربية من دولتها العصرية «المملكة العربية السعودية» وإحياء الدراسات الأنثروبولوجية لأرضها، كما يُمكنها نقل العمل الثقافي السعودي للعالمية عبر المراكز الثقافية بإنشاء برامج تَتتبَّعُ رحلة الفكر العربي، وتعقد ملتقيات «مثقفو شرق وغرب»، مع دعم فنون الصورة والحركة، ودفع حركة النشر والإصدارات والترجمة إلى آفاق عالمية تتجاوز كل تجربة قائمة.

إذًا، عملُ وزارة الثقافة اليوم ورسمُ إستراتيجياتها وَفْق رؤية 2030، وهي تملك كل هذا الإرث من أرض الوطن، يعني أنّ الرهان ليس رهانًا على ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي أو رهانًا على التقارب بالحوار والمثاقفة وحسب؛ بل هو ما يزيد على كل ذلك عبر الأثر البالغ في حياة المجتمع بوصف الثقافة هي الموروث الخالد على امتداد تاريخ البشرية.